ماذا قدمت لنا النعمة بعد سقوط الإنسان؟

كارت التعريف بالسؤال

البيانات التفاصيل
مقدم الإجابة القمص تادرس يعقوب ملطي
التصنيفات أسئلة وأجوبة, الجهاد والنعمة
آخر تحديث 8 أكتوبر 2021
تقييم السؤال من 5 بواسطة إدارة الكنوز القبطية

 من كتاب كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ2 – العقائد المسيحية – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

ماذا قدمت لنا النعمة بعد سقوطه الإنسان؟

أولاً: النعمة الإلهية تهبنا فهم كلمة الله

خلق الله الإنسان ليتحدث الكلمة الإلهى معه وجهاً لوجه. وكان أبوانا الأولان يتمتعان بصوت الله ماشياً فى الجنة (تك3: 8). أما وقد أعطى الإنسان ظهره لمصدر النعم، لم يتركه الله بل وهبه الناموس ليرتفع به إلى غنى نعمته. وجاء الكتاب المقدس ليس للقراءة، بل للقاء الحيّ مع الكلمة الإلهى وراء الحروف. من ينال نعمة إدراك أسرار الكتاب المقدس يتمتع بالشركة مع الكلمة الإلهى، وتدخل نفسه الفردوس الروحى المُشبع.

يقول العلامة أوريجينوس: [لا يمكن نوال أمرٍ صالحٍ بعيداً عن الله، وأما فوق كل شيءٍ فهو فهم الأسفار المقدسة المُوحى بها[16].] كما يقول: [كثيرون يسعون لتفسير الكتب المقدسة... لكن ليس الكل ينجحون. فإنه نادراً ما يوجد من له هذه النعمة من الله[17].] [المعنى الروحى الذى يهبه الناموس لا يدركه الكل، وإنما الذين يُمنحون نعمة الروح القدس فى كلمة الحكمة والمعرفة[18].].

ثانياً: نعمة القيامة والغلبة على الموت

قد أنتن الإنسان تماماً بسبب الموت بالخطية، فجاء كلمة الله المتجسد، القائل: "أنا هو القيامة" (يو11: 25) يهبنا ذاته، فنتمتع بالشركة معه، ويحررنا من سلطان الموت، ولا يقدر الفساد ان يحلّ بنا. بروح القوة والنصرة ننشد مع الرسول بولس: "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتكِ يا هاوية؟ أما شوكة الموت فهى الخطية... ولكن شكراً لله الذى يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" (1كو15: 55 - 57). هذه هى نعمة القيامة.

يقول القديس أثناسيوس الرسولى [لكى يستعيد اللوغوس المتأنس عدم الفساد إلى البشر الذين انحدروا إلى الفساد، فيحيهم من حالة الموت، أخذ جسدهم لنفسه، حتى يبيد الموت ويلاشيه بواسطة نعمة القيامة كما تلتهم النار الهشيم[19].] كما يقول: [لقد مات الموت حقاً... فلم يعد مُزعجاً بعد، بل بالأحرى فإن المؤمنين بالمسيح يطأون الموت كأنه عدم، بل يفضلون الموت عن إنكار إيمانهم بالمسيح. كل هذا لأنهم يعلمون أنهم لا يفنون بالموت، بل يحيون بالقيامة ويصيرون عديمى الفساد[20].].

ثالثا: نعمة التبنى لله الآب

الكلمة الإلهى هو الابن بالطبيعة، مولود من الآب، نور من نور، فيه ننال التبنى لله الآب بالنعمة الإلهية. يقول القديس كيرلس الأورشليمى: [تعالوا لتنالوا الختم السري حتى يعرفكم السيد بسهولة، وتكونون محصيين بين قطيع المسيح المقدس الروحانى، ويكون مكانكم عن يمينه، فترثوا الحياة المعدة لكم، أما هؤلاء اللابسون ثوب خطاياهم الدنس فيبقون عن يساره، إذ لم يأتوا بالمسيح إلى نعمة الله فى الميلاد الجديد بالمعمودية[21]].

ويقول القديس أثناسيوس الرسولى: [أمرنا الله أن نعتمد ليس باسم "الخالق والمخلوق"، بل باسم الآب والابن والروح القدس "(مت28: 19)، لأننا إذ نحن من بين المخلوقات، نصير هكذا (بالمعمودية) مكتملين، وبهذا نصير أبناء[22].].

رابعاً: نعمة شركة الطبيعة الإلهية (2بط1: 4)

إخلاء كلمة الله ذاته ليحمل هيئتنا (في 2: 8) وهبنا إمكانية المجد الداخلى الفائق، هذا موضوع سرور الله، إذ يرى ملكوته قائماً فينا، وموضوع سرور السمائيين، إذ يمجدون الله على غنى هذه النعمة الفائقة. يتجلى هذا المجد فى أروع صورة يوم لقائنا مع العريس السماوى على السحاب، فنحمل صورته، ونُزف كعروس سماوية، ملكة تجلس عن يمين الملوك. هذه هى نعمة شركة الطبيعة الإلهية العاملة فى أعماقنا.

يقول القديس إكليمنضس السكندرى: [يا للسر العجيب! الرب تنازل، والإنسان ارتفع. يقول الرسول: "إلا تعلمون أنكم هيكل الله" (1كو3: 16). فالغنوصى (المؤمن صاحب المعرفة الروحية الحقيقية) بالتبعية إلهي، وقد صار بالفعل مقدساً، حاملاً الله، ومحمولا بالله[23].].

ويقول القديس أمبروسيوس: [من يتغير من الظلمة، ظلمة الخطية، إلى نور الفضيلة وإلى النعمة، إنما قد تجدد فعلاً. لهذا فإن من تلطخ قبلاً بالدنس الأحمق، يشرق الآن بسطوعه أكثر بياضاً من الثلج[24].].

كما يقول القديس غريغوريوس النيسي: [للطبيعة الإلهية أجنحة، لذلك الإنسان الأول الذى خُلق على صورة الله، شبيهاً له فى كل شيءٍ (تك1: 26) خُلق بأجنحة حتى يكون شبيهاً بالطبيعة الإلهية. ويتضح أن كلمة "أجنحة" يمكن ان ترمز إلى الله. فهى قوة الله ونعمته وعدم فساده وكل شيءٍ آخر. نال الإنسان جميع هذه الصفات طالما كان على شبه الله فى كل شيءٍ، ولكن ميلنا إلى الشر سلب منا الأجنحة. (فحرمنا من حماية أجنحة الله، بل نُزعت منا أجنحتنا الخاصة). لذلك ظهرت لنا نعمة وبركة الله، وأنارت عقولنا حتى تنمو لنا أجنحة من خلال الطهارة والبرّ بعد أن ننبذ الشهوات الدنيوية ونتجه إلى الله بكل قلوبنا[25].].

خامساً: نعمة اقتناء حياة المسيح ورائحته الذكية وسماته

أثمن ما يقدمه الرب لنا كنعمةٍ إلهية أنه قَدَمَ لن حياته. يقول القديس إكليمنضس السكندرى: [يا لسخاء ذاك الذى يعطينا أعظم كل العطايا، حياته ذاتها[26].] ويقول القديس غريغوريوس النيسي: [تشبَّه بولس العروس بالعريس فى فضائله، وصوِّر بعطره الجمال الذى لا يُدنى منه. من ثمار الروح: الحب، الفرح، السلام وما شابه ذلك. صنع عطره، واستحق أن يصير "رائحة المسيح الذكية" (2كو2: 15). لقد استنشق القديس بولس هذه النعمة الغير مدركة التى تجاوزت كل نعمةٍ، وأعطى نفسه لآخرين كرائحة ذكية ليأخذوا منها على قدر طاقتهم، حسب تدبير كل إنسانٍ. صار بولس الرسول عطراً، إما لحياةٍ أو لموتٍ، فإننا إذا ما وضعنا العطر ذاته أمام (حشرة وطائر) خنفس وحمامة، فلن يكون له تأثير مماثل على الاثنين. فبينما تصير الحمامة أكثر قوة حين تستنشقه إذا بالخنفس يموت حينذاك. هكذا الحال بالنسبة للرائحة المقدسة، مع بولس الرسول العظيم الذى شابه الحمامة[27].].

يقول الأب دورثيؤس من غزة: [ليعطنا الرب الإله نعمة التواضع التى تقتلع الإنسان من أمراض كثيرة وتحفظه من تجارب كثيرة[28].] ويقول الأب بامبو: [بنعمة الله، منذ تركت العالم لم أنطق بكلمة واحدة ندمت عليها فيما بعد[29].] كما يقول العلامة أوريجينوس: [ليس شيء من هبات الله للبشرية قُدم على سبيل إيفاء دين بل الكل هو من خلال النعمة[30].].

يقول القديس إكليمنضس السكندرى عن النعمة: [أنظروا قدرة التسبحة الجديدة! لقد خلقت من الحجارة أناساً، ومن الوحوش بشراً! الذين كانوا أمواتاً، ليس لهم شركة فى الحياة الحقيقية قد عادوا إلى الحياة مرة أخرى ببساطةٍ إنصاتهم إلى هذه التسبحة! [31]].

سادساً: نعمة ميراث ملكوت السماوات

غاية خلقتنا هى تمتعنا بالخلود مع الله أبينا، فيكون لنا نصيب فى أحضانه الإلهية. هذا ما يشغل ربنا يسوع المسيح، محتملاً عار الصليب عوضاً عنا لننعم بنعمة الملكوت أبدياً. ولا يزال مسيحنا فى السماء مشغول بميراثنا الأبدى.

يقول القديس أثناسيوس الرسولى: [فى الدينونة، عندما ينال كل واحدٍ بحسب عمله، يقول: "تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملكوت المُعد لكم منذ تأسيس العالم" (مت25: 34). كيف إذاً، أو بواسطة من أعد الملكوت قبل أن يخلقنا؟ إن لم يكن بواسطة الرب الذى به تأسيس قبل الدهور[32].].

ويقول القديس مرقس الناسك: [إذ أراد (الرب) أن يُظهر أنه بالرغم من التزامنا بكل وصيةٍ، لكنه يهب البنوة للبشر باستحقاق دمه، لذلك قال: "متى فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون، لأننا إنما نعمل ما كان يجب علينا" (لو17: 10). هكذا فإن ملكوت السماوات هو هبة يعطيها الرب للعبيد المؤمنين، وليس جزاءً لأعمالنا.] كما يقول: [كل عملٍ صالحٍ نصنعه حسب قوتنا الطبيعية ينزعنا بالأحرى من (الأعمال الشريرة) المضادة، لكنه يعجز عن أن يجعلنا قديسين بدون النعمة.].

يرى القديس مار أفرآم أن النعمة تهب المجاهدين فرحاً وهم منطلقون إلى الفردوس. فإن كانت الحياة الفردوسية تظهر كجبلٍ شامخ أعلى من كل قمم الجبال، مع هذا فإن التعب خلال الصعود إلى الفردوس مُبهج، يسكب بهاءً، ويهب للمؤمن رائحة المسيح الذكية (2كو2: 15). هذا الصعود فى حقيقته هو تحرك مستمر للنفس نهاراً وليلاً بالنعمة الإلهية. يبدو للبعض أن صعوده شاق، لأن وصاياه تبدو كأنها مستحيلة، لكنها تسمع صوته: "نيري هين (حلو)، وحملي خفيف" (مت11: 30)، فتنطلق النفس محمولة على الأذرع الأبدية. يسكب مسيحنا بهاءه عليها، ويعطّر عروسه برائحته الذكية، ويتهلل السمائيون بها، لأنها أيقونة المسيح القدوس. يقول القديس مارأفرآم: [الصعود إلى الفردوس ليس شاقاً بالرغم من ارتفاعه، لأن الذين يرثونه لا يعانون من تعبٍ فيه. جماله مُبهج يغرى الصاعدين. إنه فاتن وسط الأشعة، ومتألق. كله طيب الرائحة، عليه سحب مجيدة، ومظالة منصوبة لمن يستحقونه[33].].

يقول القدّيس كيرلس الكبير: لا تقلق وتيأس إذا أحسست بثقل وطأة خطاياك السابقة، فإن رحمة المسيح واسعة المدى. لتكن خطيتك عظيمة إلاَّ أن رحمة المسيح أعظم، فبنعمته يتبرَّر الخاطئ، ويُطلق سراح الأسير. ولكن إعلم أن الإيمان بالمسيح هو الذى يؤهِّلنا لهذه البركات الخلاصية، لأن الإيمان هو طريق الحياة والنعمة. وفيه نسير إلى المخادع السماوية، حيث نرث ملكوت القدّيسين الأبرار، ونصبح أعضاء فى مملكة المسيح[34].].

جاء حديث القديس يوحنا الذهبى الفم عن الموعظة على الجبل يكشف عن غاية الوصية الإلهية. فالسيد المسيح يفتتح موعظته بالتطويبات (مت5) ليتمتع المؤمنون بملكوت السماوات، ويبرز أبوته للبشرية، ويعلن عن ملكوته المُعد للمؤمنين، بينما عندما أشار إلى جهنم، قال عنها: "المعدة لإبليس وملائكته" (مت25: 41). فالوصية بالنسبة للمؤمن تغرس بالنعمة الإلهية الفردوس فى أعماق قلب الإنسان.

سابعاً: نعمة التمتع بمعرفة الحق الإلهى

خلق الله فى الإنسان حنيناً نحو التعرف على الحق غير المتغير، فقدم السيد المسيح نفسه بكونه "الحق". من يقتنيه يتمتع بمعرفة الحق كنعمةٍ إلهيةٍ مجانية.

يقول القديس أثناسيوس الرسولى: [صرنا أبناء فى الابن بالتبنى والنعمة، لأننا نشارك فى روحه، إذ أن "كل الذين قبلوه أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أى المؤمنون باسمه" (يو1: 12). ولهذا أيضاً فالابن هو الحق، إذ يقول: "أنا هو الحق" (يو14: 6). وفى حديثه إلى الآب يقول: "قدسهم فى حقك، كلامك هو حق" (يو17: 17)، ونحن بالمحاكاة نصير خيرين وأبناء[35].] كما يقول: [حينما صار إنساناً لم يكف عن أن يكون هو الله، ولم يستنكف من أمور الإنسان بكونه هو الله، بئس هذا الفكر... لأنه كما سأل أسئلة هكذا أيضاً أقام الميت، وأظهر للكل أن الذى يحيى الميت ويستدعي روحه، يعرف بالأكثر أسرار الجميع. إنه يعرف حقاً أين يرقد لعازر، ومع هذا يسأل (أين يرقد؟ يو11: 34)، لأن لوغوس الله الكُلى القداسة، الذى احتمل كل شيءٍ لأجلنا، إنما قد فعل ذلك، حتى بأخذه جهلنا، يهبنا نعمة المعرفة، معرفة أبيه الحقيقى وحده، ومعرفته أنه هو الابن المُرسل لأجل خلاصنا جميعاً. فأية نعمةٍ أعظم من هذه النعمة؟ [36]].

ثامناً: نعمة الثبوت فى الآب والابن

يقول القديس أثناسيوس الرسولى: [ "بهذا نعرف أننا نثبت فى الله وهو فينا أنه قد أعطانا من ورحه" (1يو4: 13)، بنعمة الروح القدس التى أعطيت لنا، نصبح نحن فى الله وهو فينا، حيث أن المقصود هنا هو روح الله الذى من خلال مجيئه ليصير فينا، نُعتبر نحن أيضاً فى الله والله فينا إذ لنا الروح... الابن كائن فى الآب بصفته كلمته الذاتى وإشعاعه، بينما نحن بدون الروح القدس غرباء عن الله، بعيدون عنه. وبشركتنا فى الروح نتحد بالله. لهذا نصير فى الآب ليس من أنفسنا، بل من الروح القدس الذى فينا، والذى نحفظه ثابتاً فينا من خلال الاعتراف، كما يقول يوحنا أيضاً: "من اعترف أن يسوع هو ابن الله، فالله يثبت فيه وهو فى الله" (1يو4: 15) [37].].

تاسعاً: نعمة الشبع والفرح

يقول القديس أمبروسيوس: [توجد دموع بمثابة خبز، تقَّوى وتسند قلب الإنسان (راجع مز104: 15)، ومقولة الجامعة المأثورة تناسب المقامَ هنا أيضاً "القِ خبزك على وجه المياه" (جا11: 1)، لأن خبزَ السماء هناك، حيث مياه النعمة. حقاً أن أولئك الذين تتدفق من بطونهم أنهار ماء حىَّ (راجع يو 7: 28)، سوف ينالون عون الكلمة (الإلهي) وتعضيده، وقوتاً من نوعٍ سّري (باطنى) [38].].

عاشراً: نعمة النور

يقول القديس غريغوريوس النيسى: [تعبر النفس من الخطأ إلى الحق، وتتبدل صورة حياتها المظلمة إلى نعمة فائقة[39].] كما يقول: [عندما أضاءت نعمة الله وحكمته، وأرسل النور الحقيقى أشعته إلى من كانوا فى الظلمة وظلال الموت، أغمضت إسرائيل عيونها للنور، ورفضت أية المشاركة فى الخير. لكن الأثيوبيين (ملكة سبا) أسرعوا إلى الإيمان من بين الأمم (1مل10: 1 - 3)، الذين كانوا بعيدين اقتربوا بعدما غسلوا أنفسهم من الظلمة بالمياه المقدسة. لقد اقتادهم الروح القدس إلى الله وقدموا هدايا للملك: بخور النسك والعبادة وذهب معرفة الله الملك وأحجاراً كريمة للوصايا وعمل الفضيلة[40].].

ويقول القديس مار يعقوب السروجى: [لتكن نعمتك يارب الروح الحي، وضارب القيثارة الذى يلعب بأوتارى لتُخرج لحناً لأجل تعليمك[41].].

الحادى عشر: النعمة والتمتع بغنى الفضائل

يقول القديس مار يعقوب السروجى: [أمسى عمانوئيل معنا بتنازله. أتى إلهنا وصار منا جسدياً، وجعلنا منه روحيين بالنعمة، وأعطانا حياته، لأنه أتى وصار منا[42].].

ويقول القدّيس أمبروسيوس: [شتَان بين روح العالم وروح النعمة، فالأولى تبدأ بالميلاد وتنتهى بالموت، أما الثانية فلا يحدّها الزمن ولا السنين، ولا يطفئ الموت شعلتها... إن من يقتني روح النعمة لا يعود يفتقر إلى شيءٍ، ومن نال الروح القدس بلغ قمة الفضائل.] كما يقول: [أعطاهم كل شيءٍ، لكن لا نلمس فى هذه العطايا قوة إنسان بل نعمة الله هى العاملة[43].].

كما يقول القديس يوحنا كاسيان: [فى كل فيضلة إذ نشعر بتقدم فيها ننطق بكلمات الرسول: "ولكن بنعمة الله أنا ما انا" (1كو15: 10)، "الله هو العامل فينا (فيكم) أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته" (فى2: 13). إذ يقول مقدم خلاصنا نفسه: "الذى يثبت فىّ وأنا فيه هذا يأتى بثمر كثير، لأنكم بدونى لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً" (يو15: 5). كما قيل: "إن لم يبن الرب البيت فباطلاً يتعب البناؤون، وإن لم يحرس الرب المدينة فباطلاً يتعب الحراس" (مز126: 1 - 2) [44].].

يقول الأب موسى: [لا توجد فضيلة واحدة يمكننا أن نحصل عليها بمجهودنا البشرى ما لم تعيننا النعمة الإلهية. ونحن نرى فى الكتاب المقدس أن التمييز حُسب ضمن مواهب الروح، إذ يقول الرسول: "فإنه لواحد يُعطى بالروح كلام حكمة ولآخر كلام بحسب الروح الواحد، ولآخر إيمان بالروح الواحد، ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد... ولآخر تمييز الأرواح" (1كو12: 8 - 10)... لقد رأيتم إذن كيف أن موهبة التمييز ليست موهبة أرضية، ولا هى بالأمر الهيّن، إنما هى عطية عُظمى تهبها النعمة الإلهية. إن لم يسعَ الإنسان[45] بكل حماس نحو التمييز... حتماً يخطئ ويصير كمن هو فى ظلمة الليل وحلكة الظلام، ولا يسقط فقط فى الأشراك والأهواء، بل ويخطئ حتى فى الأمور السهلة... يُعلم التمييز أن يسير الإنسان فى الطريق الملوكى، من غير أن يسمح له بالتطرف اليمينى فى الفضيلة، أى المغالاة وتجاوز حدود الاعتدال فى جسارةٍ ووقاحةٍ، كما لا يسمح له بالكسل... فلا يستطيع أحد أن يشك فى أنه متى كان "الحكم فى الأمور" فى القلب خاطئاً، أى كان القلب مملوء جهلاً، تكون أفكارنا وأعمالنا، التى هى ثمرة التمييز والتأمل، فى ظلام الخطية العظمى[46].].

ويقول القديس يوحنا كاسيان: [هكذا إذ يعلم الرسول بولس أن كل كنوز غنى السماء توجد فى المسيح بحقٍ يكتب إلى الكنائس: "نعمة ربنا يسوع المسيح تكون معكم" [47].].

ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [يرى البعض أن منازلهم التى يقيمون فيها هى مملكتهم، وبالرغم من علمهم أن الموت محتم، وأنه يوماً ما سيجبرهم على تركها، ففى قلوبهم يشعرون أنهم يمكثون إلى الأبد... أما نحن فعلى النقيض، نعلم أننا ضيوف نعيش مؤقتاً على الأرض. ندرك أن المنازل التى نقطنها هى بمثابة فنادق على الطريق إلى الأبدية. لا ننشد سلاماً أو أمناً من الحوائط المادية من حولنا أو الأسقف فوق رؤوسنا. بل بالحري نريد أن نحيط بأنفسنا بحوائط النعمة الإلهية. ونتطلع إلى السماء عالياً كسقفٍ لنا. أما الأثاث فى حياتنا فيجب أن تكون أعمالاً صالحة، نعملها بروح الحب.].

الثانى عشر: التمتع بأمومة النعمة

يقول القديس مار يعقوب السروجى: [النعمة التى تبني العالم هى أم رحوم، تهتم به، كالوالدة بطفلها، ولا تقدر أن تتركه. المرأة لا تترك جنينها، والطفل بدروه يظن أنه لا توجد امرأة أخرى فى العالم إلا تلك التى تُرضعه[48].] كما يقول: [أصبحت النعمة أما للأرض... فتضرعت إلى الرب قائلة: كفى الأرض هذا الجنون! انزل ونجها من الضلال. دخل طلب النعمة أمام العزة الإلهية التى أرسلت الطبيب الرحيم إلى المرضى[49].] وأيضاً: [شيدت النعمة – أم المراحم – العالم، وهى تحمله، لو تركته سيسقط. تبسط الدجاجة جناحيها على صغارها لتجمعهم وتحميهم وتحافظ عليهم. إنها ترسم مثالاً للاهوت الذى بسط مراحمه على الخلائق مثل جناحيها[50].].

الثالث عشر: النعمة دواء الخطاة

يقول القديس مار يعقوب السروجى: [اختار الله سليمان الملك واعطاه التاج والمجد ووهبه الحكمة... ولأنه بإرادته سقط على أيدى الناس وحاد قلبه. لم يمنعه الرب من ان يحيد. ابتعدت عنه النعمة التى كانت ساكنة فيه عندما سقط. لكن حفظت النعمة تاجه عندما حاد فسقط هو، أما تاجه فقد حُفظ من السقوط. قدم الذبائح إلى الآلهة (الوثنية) كما أراد، ولم يمنعه الرب من تقديمها، لأنه حرّ. لو منعه لكانت حريته تُقهر. ولو أجبره قسراً لكان بلا استحقاق. إن الله يحفظ المجد للبشر ويهتم بهم كثيراً بدافع مراحمه، لكى يتمكنوا من وجود ذواتهم. لو حفظ سليمان الملك من السقوط، ماذا كان يستفيد لأنه جَّنبه من أن يسقط قسراً؟ وعندما سقط لم يأخذ منه المُلك ولا العظمة ولا الغنى ولا الرئاسة. هكذا تصرف (الله) من جانبه، أما أن يحيدَ أو لا يحيد فهذا كان من شأن (سليمان)... بشخص سليمان أرهب الحكماء، وبيهوذا افزع التلاميذ... وبسقوط شمشون النذير أفزع الجبابرة... هذه هى الأسباب التى جعلت المختارين يستطيعون. ومن يخف من السقوط، يلزمه أن يبغض هذه الأسباب[51].].

ويقول القديس أمبروسيوس: [يا لى من إنسان شقى ما لم أطلب الدواء... لنا طبيب، فلنطلب الدواء. دواؤنا هو نعمة الله، وجسد الموت هو جسدنا... فإننا حتى وإن كنا فى الجسد لكننا ليتنا لا نتبع أمور الجسد... إنما نطلب عطايا النعمة: "أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جداً، ولكن أن أبقى فى الجسد ألزم من أجلكم". (فى1: 23 - 24) [52]].

يقول القدّيس البابا أثناسيوس الرسولى: [هذه هى نعمة الله، وهذه هى طرق الله فى إصلاح بني البشر، فإنه تألم ليحرّر الذين يتألمون فيه، نزل لكى يرفعنا، قَبِلَ أن يُولد حتى نحب ذلك الذى هو ليس (بإنسان مولود عادى)، نزل إلى حيث (الموت) ليهبنا عدم الموت، صار ضعيفاً لأجلنا حتى ننال قوة... أخيراً صار إنساناً حتى نقوم مرة أخرى نحن الذين نموت كبشر، ولا يعود يملك الموت علينا، إذ تعلن الكلمات الرسولية قائلة: "لا يسود علينا الموت بعد" (رو6: 9، 14) [53].].

الرابع عشر: بالنعمة نتحدى الملائكة الأشرار

يقول القديس أغسطينوس: [ليس شئ ينقذ الإنسان من قوة الملائكة الأشرار هذه سوى نعمة الله التى يتحدث عنها الرسول: "الذى أنقذنا من سلطان الظلمة، ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته". قصة إسرائيل توضح هذه الصورة، عندما أُنقذوا من قوة المصريين ونقلوا إلى ملكوت أرض الموعد التى تفيض لبنا وعسلاً إشارة إلى عذوبة النعمة[54].].

الخامس عشر: النعمة والتمتع بعطية الروح القدس

كثيراً ما شغل منظر عماد السيد المسيح قلب القديس كيرلس الكبير، فرأى الكنيسة فى المسيح الرأس بكونها جسده، فمع أن الروح القدس هو روحه الذى لا ينفصل عنه، لأنه واحد معه فى الجوهر، لكنه حلّ عليه فى العماد، من أجل تمتع الكنيسة به. قدم لنا نعمة الروح القدس الذى يبكتنا على الخطية، ويدين عدو الخير الذى يود هلاكنا، ويهبنا برّ المسيح. يقدم لنا الحق، أى السيد المسيح، ويجدد طبيعتنا، ويقودنا فى الطريق، الذى هو المسيح (يو14: 6)، ويوَّحدنا فى استحقاقات دم المسيح مع الآب، ويهبنا شركة مع السيد المسيح ومع السمائيين ومع بعضنا البعض.

يقول القديس أثناسيوس الرسولى: [هكذا أيضاً توضح عبارة داود فى مز44: 7 - 8 أنه ما كان لنا أن نصير شركاء الروح القدس ولا أن نتقدس لو لم يكن اللوغوس المتجسد واهب الروح قد مسح نفسه بالروح لأجلنا... وإذ قيل عنه كإنسان، إن جسده قد نال هذا (الروح)، فلأجل هذا ننال نحن نعمة الروح آخذين إياها "من ملئه" [55].].

كما يقول القديس أمبروسيوس: [يسكب (الروح) حسبما يكفينا، وما يسكبه لا ينفصل ولا ينقسم، اما ما هو له فهو وحده الكمال الذى به ينير بصيرة قلوبنا حسب قدرتنا على الاحتمال. أخيراً نحن نتقبل حسب ما يطلبه ذهننا. من أجل كمال نعمة الروح غير المنظور، ولكنه يساهم فينا حسب إمكانية طبيعتنا[56].].

يقول القديس أغسطينوس: [عندما تسمع القول "فإن الخطية لن تسودكم" (رو6: 14) لا تثق فى نفسك أنها لا تسود عليك، بل ثق فى الله الذى يتوسل إليه قديس قائلاً: "ثبت خطواتى فى كلمتك ولا يتسلط عليّ إثم". (مز119: 133)، ولئلا عند سماعنا: "الخطية لا تسودكم" ننتفخ، وننسب ذلك إلى قوتنا الذاتية، أردف الرسول، قائلاً: "لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة" (رو6: 14). فالنعمة هى التى تنزع تسلط الخطية عنا. فلا تثق فى ذاتك لئلا تتسلط عليك بصورة أشد. وعندما نسمع القول: "إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون" (رو8: 13) لا ننسب هذا العمل إلى أرواحنا نحن كأنها قادرة على ذلك. ولكيلا نقبل هذا الإحساس الجسدى فتميت الروح عوض أن تميت هى أعمال الجسد، أضاف للحال: "لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله" (رو8: 14). فلكى نميت أعمال الجسد بروحنا، يلزمنا أن ننقاد بروح الله واهب العفة، التى بها نقمع الشهوة ونغلبها ونروضها[57].].

يقول القديس غريغوريوس النزينزى: [مبارك هو من يزرع بجانب المياه، فإن هذه النفس تُحرث وتٌسقى ويطأها الثور والحمار وبعدما كانت جافة بلا مطر (إش32: 20)، وذليلة بلا سبب. مبارك هو ذلك الذى كان "وادى السنط" (يوئيل 3: 18). يٌسقى من بيت الرب فيصير بكراً وينتج طعاماً للإنسان عوض الجفاف وعدم الإثمار... لهذا يليق بنا أن نحرص ألا نفقد النعمة[58].].

السادس عشر: النعمة والتمتع بالسلام

يقول القديس جيروم: [ما دمنا فى حالة نعمة تكون نفوسنا فى سلام، لكن ما أن نبدأ نلهو مع الخطية حتى تسقط نفوسنا فى ارتباك، لتصير كقارب تخبطه الأمواج[59].] كما يقول القديس مرقس الناسك: [عندما يصنع إنسان خيراً لآخر، بكلمة أو عمل، فليعلم أن ذلك يتم بنعمة الله.].

السابع عشر: الفردوس ومياه النعمة

يتطلع مار أفرآم إلى مياه النعمة الإلهية التى تُعلن بالأكثر فى الفردوس، حيث نتمتع بالفكر السماوى. إنه القدير المحب الذى بإرادته حصر المياه على الأرض كبحارٍ وأنهارٍ وقنوات، كما حصرها فى السحب بقدرته. كم بالأكثر يهبنا حياة النعمة بفيضٍ، غير إننا بانحصارها فى الأرضيات نحصر عمل النعمة العجيب. إنه يقول: [بالحقيقة إرادة ذاك الذى لا يستحيل عليه شئ، ألجمت ينابيع الفردوس الغزيرة، حصرتها فى الأرض كقنوات المياه. أمرها أن تفيض تجاهنا... (أم30: 4). فى حضن سُحُبه حُصرت المياه، وانتشرت فى الفضاء بقدرة مشيئته[60].].

لماذا لم يستبعد.


[16] Sel Ps. 2: 1.

[17] Sel. Ps 85: 119.

[18] De Principiis, Perf. 8.

[19] تجسد الكلمة 8: 4.

[20] تجسد الكلمة 27: 2.

[21] مقال 2: 1.

[22] الرسالة ضد الآريوسيين 1: 42: 1.

[23] Protr. 3: 11, Stromata 13: 7, Protr. 11.

[24] Prayer of David, Book 9: 4: 35.

[25] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، عظة 15.

[26] Paedageogus 9: 1.

[27] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، عظة 2.

[28] تعريب الأرشيمندريت افرام كرياكوس: القديس دوروثاؤس: التعاليم الروحية، مقال 2.

[29] Bendicta Ward, p. 197.

[30] Comm. Rom. 22 on 4: 4 f.

[31] St. Clement of Alexandria: Exhortation to the Heathen, 1.

[32] الرسالة ضد الآريوسيين 2: 67: 1.

[33] للمؤلف: اقتباسات من مقال الفردوس للقديس مار أفرآم السريانى، 2017، أنشودة 1: 5.

[34] عظة 40.

[35] الرسالة ضد الآريوسيين 3: 19: 1.

[36] الرسالة ضد الآريوسيين 3: 38: 1.

[37] الرسالة ضد الآريوسيين 3: 24: 1.

[38] Prayer of David, Book 2: 4: 7.

[39] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصصن تعريب الدكتور جورج نوّار، عظة 2.

[40] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، عظة 7.

[41] راجع الدكتور الأب بهنام سُونى: الإنسان فى تعليم مار يعقوب السروجى الملفان، 1995، ص116.

[42] راجع الدكتور الأب بهنام سُونى: الإنسان فى تعليم مار يعقوب السروجى الملفان، 1995، ص116.

[43] Conc. Repent. 8: 1.

[44] Instit 9: 12.

[45] الحديث فى المناظرات عن الرهبان وقد استبدلت كلمة "راهب" ب "إنسان".

[46] Cassian: Conferences, 1: 1 - 2.

[47] The Seven Books of John Cassian, 5: 2.

[48] راجع الرسالة الأربعين.

[49] راجع الدكتور الأب بهنام سُونى: الإنسان فى تعليم مار يعقوب السورجى الملفان، 1995، ص119 - 120.

[50] راجع الدكتور الأب بهنام سُونى: الإنسان فى تعليم مار يعقوب السروجى الملفان، 1995، ص120.

[51] راجع الدكتور بهنام سُونى: الإنسان فى تعليم مار يعقوب السروجى الملفان، 1995، ص135 - 137.

[52] On Belief in Resurrection, 41.

[53] Paschal Ep, 8: 10.

[54] On the Psalms, 30: 77.

[55] الرسالة ضد الآريوسيين 1: 50: 1.

[56] Of the Holy Spirit 8: 1: 93.

[57] العفة للقديس أغسطينوس، 12.

[58] On the Holy Baptism, 27.

[59] On Ps. Hom 20.

[60] للمؤلف اقتباسات من مقال الفردوس للقديس مار أفرآم السريانى، 2017، أنشودة 2: 9.

لماذا لم يستبعد الله الشيطان؟

ما هو دور الناموس؟ وما هو دور النعمة؟