الأصحاح الثاني عشر – تفسير الرسالة إلى رومية – القمص أنطونيوس فكري

هذا الفصل هو جزء من كتاب: رسالة بولس الرسول إلى رومية – القس أنطونيوس فكري.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

الإصحاح الثاني عشر

العدد 1

آية (1): -

"1فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ.".

فَأَطْلُبُ = حرف الفاء يشير أن الحديث القادم إمتداد لما سبق وأن ما سيطلبه الآن في الآيات والإصحاحات القادمة مبني علي ما شرحه فيما سبق. فالرسول سبق وشرح جوانب إيمانية تمس الخلاص وأظهر أن النعمة بالإيمان هي قوة إلهية تكسر حدة الخطية. ونري فيما يلي أننا علينا أن نجاهد، فليس معني النعمة أن يتكاسل المؤمن، وإلا فقد عمل النعمة. لذلك يقول الرسول إمتلأوا بالروح، لأن النعمة هى قوة يعطيها الروح القدس. وتزداد قوة عمل النعمة فينا بالإمتلاء من الروح القدس. والإمتلاء بالروح القدس يكون بالجهاد. ويشرح الرسول طريقة الجهاد الذى به نمتلئ بالروح فى (أف5: 18 - 21). ويقول هنا عن الجهاد "غير متكاسلين فى الإجتهاد، حارين فى الروح، عابدين الرب" (رو12: 11). ويقول لا تطفئوا الروح (بالإستهتار والخطية). وقطعا فإطفاء الروح هو فقدان لعمل النعمة أما الجهاد فيعطينا إمتلاء بنعمة فوق نعمة (يو16: 1) وهذا ما عناه الرسول بقوله "إضرم موهبة الله التي فيك" (2تي1: 6).

ولو كانت الأعمال لا لزوم لها وهكذا الجهاد، وأن النعمة تعمل كل شيء، فما معني أن يطلب الرسول من المؤمنين أن يقوموا بتنفيذ هذه الوصايا، مثل تقديم أجسادنا ذبيحة حية (هذه الآية) فلا إنفصال بين الإيمان والسلوكيات (الأعمال) فمثلاً من يؤمن بأن النعمة تعمل كل شئ فهو سيتكاسل ولن يعمل، ومن يؤمن بأن الخلاص تم في لحظة وأن إسمه كتب في سفر الحياة وأنه لن يهلك مهما حدث فهذا سيدفعه لأن يخطئ طالما ضمن الخلاص، إذاً العقيدة تؤثر تأثيراً واضحاً علي الأعمال والسلوكيات، فلا سلوك عملي دون إيمان، ولا إيمان حي دون أعمال (رسالة يعقوب) فالسلوكيات تتشكل بحسب العقيدة التي شرحها الرسول فى الإصحاحات السابقة. مثال آخر: من يؤمن بالشفاعة تكون له صداقة مع السمائيين وعشرة حلوة معهم وله إنتماء للسماء التي صارت مفتوحة.

وكعادة بولس الرسول يخصص الجزء الأخير فى رسالته للوصايا العملية كثمرة لحياة الإيمان وثمرة لسكني الروح القدس فى المؤمنين. ولكن الروح القدس لا يعطي لمن لا يجاهد. ويقول الأباء عن النعمة أنها عطية مجانية ولكنها لا تعطى إلا لمن يستحقها. ومن الذى يستحقها إلا الذى يعمل ويتاجر بوزناته كما قال رب المجد عن العبد الكسلان الذى لم يعمل "فكان ينبغي ان تضع فضتي عند الصيارفة فعند مجيئي كنت اخذ الذي لي مع ربا. فخذوا منه الوزنة واعطوها للذي له العشر وزنات. لان كل من له يعطى فيزداد ومن ليس له فالذي عنده يؤخذ منه" (مت25: 27 - 29). وماذا عن مصيره؟ يقول رب المجد "والعبد البطال اطرحوه الى الظلمة الخارجية هناك يكون البكاء وصرير الاسنان" (مت25: 30).

بِرَأْفَةِ اللهِ = قد تعنى "من أجل رأفات الله أتوسل إليكم أن تعملوا كذا وكذا. ولكنها هي تعنى أنه إن كنت أطلب إليكم أن تقدموا أجسادكم ذبائح حية وفى هذا بعض الآلام، فقبل أن أطلب هذا أطمئنكم أن الله سيتعامل مع أجسادكم المقدمة برفق وسيعطيكم تعزيات لذيذة تتناسب مع ذبائحكم المقدمة. وتعنى أيضاً أنه في مقابل رحمة الله ورأفته علينا أن نعمل كذا وكذا...

قَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً = الكاهن هو الذي يقدم ذبائح، ومن هنا نفهم قول الكتاب جعلنا ملوكا وكهنة (رؤ6: 1 + 1بط 9: 2). فهناك كهنوت خاص، وهذا هو سر الكهنوت، خادم أسرار الكنيسة. وهناك كهنوت عام لكل المؤمنين فيه يقدم الكل ذبائح: -.

1. تسبيح (عب15: 13).

2. خدمة فقراء (عب16: 13).

3. إنسحاق وتواضع (مز17: 51).

4. صلوات ورفع أيادي (مز2: 141).

5. تقديم الأجساد ذبيحة حية (هذه الآية).

أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً = شرح الرسول فيما سبق ما أعطاه الله لنا من نعمة فماذا نقدم له فى المقابل؟ أجسادنا ذبيحة حية. فالعبادة اليهودية كانت تقدم فيها ذبائح حيوانية (تذبح فعلا) أما العبادة المسيحية فنقدم فيها أجسادنا ذبائح حية، أي لا داعي لأن نموت فعلاً بل أن نميت الإنسان العتيق وذلك بصلب شهواتنا (غل24: 5) وكذلك بالأصوام والمطانيات والصلوات الطويلة. وأن نحسب أنفسنا أمواتاً عن الخطية فنكف عن أستخدام أعضائنا كآلات إثم تتلذذ بشهوات هذا العالم، وحينما نمنع عن الإنسان العتيق الشهوات الحسية فإنه يموت بعمل الروح ومعونته (رو13: 8).

أمثلة لعدم إستخدام أعضائنا كآلات إثم:

  1. ضع عينيك فى التراب.
  2. إقفل أذنيك عن سماع الخطأ وحتى ما هو شبه خطأ.
  3. إمسك لسانك عن التكلم بالشر.
  4. إمتنع عما كنت تتلذذ به من خطايا العالم.
  5. الإكثار من الأصوام والميطانيات.
  6. إجهد نفسك فى عمل الخير وقد يكون جسدك متعبا = هذا يساوي تقديم الجسد كذبيحة حية. ولاحظ أن الأجساد هى الأداة التى تعبر عما فى القلب والفكر.

مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ = التقديس هو الإفراز عن العالم والتخصيص لله بلا دنس.

مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ = الذبائح الدموية لم تكن مرضية عند الله بقدر الذبائح الحية كالإنسحاق، وهذا فهمه الآباء، وداود عَبَّر عن هذا (مز51: 16، 17) "الله لا يسر بالمحرقات، فالذبيحة لله روح منسحق". والله لا يسر بتقديم تيوس كذبائح، بل يسر بشفتين تسبحانه بالرغم من آلام الجسد (هو2: 14). وذبيحتنا تكون مرضية عند الله عندما نقدمها بالحب في مقابل محبته. وما الذى يرضى الله حينما نقدم أجسادنا ذبيحة حية؟ حينما نعمل ذلك فنحن نعطى فرصة للروح القدس أن يجذبنا للسماويات. "لأن الجسد يشتهى ضد الروح والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر" (غل5: 17). ومن يحيا فى السماويات، تاركا شهواته الخاطئة يخلص وهذا ما يرضى الله، خلاص نفوسنا.

عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ = راجع تفسير (رو9: 1). تقديم أجسادنا ذبائح حية هي عبادة يجب أن نقدمها ككهنة باقتناع عقلي، وهذا ما يفعله الروح الذي يقنع المؤمن بهذا. والعبادة العقلية هي تفهم لأسرار محبة الله، فيشتعل القلب حباً لله ويشتهي تقديم جسده ذبيحة حب لله الذي أحبه كل هذا الحب. العبادة العقلية هي إقناع الروح القدس للمؤمن بما يفعله (إر7: 20).

أما العبادة العمياء المنبعثة عن جهل فلا تليق إلاّ بالأصنام، أما الله فيقول هلم نتحاجج (إش18: 1)، فالله لا يفرض علينا شئ غير معقول أو غير مقبول. العبادة العقلية هي إقتناع بأن نسلِّم أعضاءنا كآلات بر لله بدلاً من أن تكون آلات إثم، فالإقتناع مهم قبل أن نقدم أجسادنا ذبائح حية "أقنعتنى يا رب فإقتنعت" (إر7: 20) هي عبادة يشترك فيها كل قوي الإنسان، النفس والعقل والجسد والروح. ولاحظ أن الله يقنع آدم بأن يكون له معيناً نظيره قبل أن يخلق له حواء، وذلك بأن جعله يلاحظ أن كل الخليقة تتكون من ذكر وأنثى، فيكون هذا مطلباً له أولاً ثم يحققه له الله بعد ذلك (تك18: 2 - 21). ولاحظ عمل الروح القدس في الأطفال الذين تجدهم يفرحون بالله ويحبونه دون أن يفهموا شئ، ولكن الروح أعطاهم هذا الإقناع وهذا الحب. والعكس في العبادة الوثنية التي كلها غموض وكلمات مبهمة، أمّا الكهنوت المسيحي فكل كلمة تقال منشورة فى الخولاجي، والكل يفهمها ويدركها والكل مقتنع بها، حتى ما يصعب علي أن يُدرَك بالعقل، فالروح القدس يعطي لنا أن نقبله ونقتنع به.

العدد 2

آية (2): -

"2 وَلاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ.".

هناك صورة لأولاد الله، يكونون فيها شكل المسيح في محبته وقداسته ووداعته... يكونون نوراً للعالم. وهناك صورة لأولاد العالم الذين كل همهم البهرجة والموضة والعنف والشهوة... هم في ظلمة.

لاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ: أكبر عدو للتغيير إلي صورة الله، هو أن نتشبه بالعالم وصورة أولاده، فالعالم زائل زائف، ومن يأخذ شكله يصير فانيا مثله.

تُشَاكِلُوا = تتشبهوا وتقلدوا. من الخطأ أن نقول "كل الناس بتعمل كده" لسبب بسيط أننى لست ناس، بل أنا إبن لله، لقد أصبحنا بعد المعمودية مخلوقات سماوية ومواطنين سماويين ونصلي لأبينا الذي فى السموات، والله يسكن فينا، فإمّا أن نتخلي عن كل هذا الذي حصلنا عليه ونصير شكل العالم، أو نترك شكل العالم ونتغير = بَلْ تَغَيَّرُوا = كلمة تغيروا تشير للخليقة الجديدة والولادة الجديدة بالمعمودية التى لها قوة تعين علي ذلك، هى تعيننا علي أن "نتغير إلي تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح" (2كو 18: 3). وبولس يطلب أن نترك الشكل القديم معتمدين علي ما حصلنا عليه في داخلنا من قوة مؤازرة من الروح القدس. وبقدر ما نتغير عن شكل هذا الدهر نتشكل كأبناء لله، فنحمل شكل المسيح. من له شكل العالم يصير فانيا مثله، ومن يحمل شكل المسيح سيكون في مجد أبدي مثله. وكيف يتم هذا التغيير؟

شكل أولاد

الله

بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ = بالمعمودية صار لنا إدراك روحي، وهذا يتفتح بإستمرار مع الدراسة والتأمل والقراءة، ومع الوقت يحدث تجديد الذهن. ففي كل مرة يحدث حالة إرتقاء ذهني ويتحول الذهن الجسدي إلى ذهن روحي وهذه هى الولادة الثانية التى بها نصير خليقة جديدة (1بط23: 1 + 2كو5: 17). ومع تفتح الذهن يبدأ الإنسان في الإهتمام بأن يوجد مع الله تاركاً أماكن الشر، ويوماً وراء يوم يجد نفسه وقد إنصرف تماما عنها.

في البداية تجده متذبذباً بين هذه وتلك، ربما يضغط علي نفسه ليذهب للكنيسة، ولكنه يسعد بأماكن اللهو، ومع الوقت لا يجد لذته سوي في الكنيسة. ويوماً وراء يوم تتغير مبادئه، في شكله الأول كان يهتم بالنوادي.... والآن صار اهتمامه فقط بتسبيح الله، وهذا يحدث بتأثير الروح القدس الذي يعطيه الإقناع العقلي. ويضاف لهذا الخبرة الشخصية حينما يتذوق لذة الحياة مع الله. كلما قدم جسده ذبيحة حية كلما إستنار أكثر بالروح القدس الذي يعطيه تغييراً وتجديداً لذهنه. بل ما كان يفرح به في الماضي لا يعود يفرحه الآن. زمان كان يفرح بالمال وإقتنائه والآن ما عاد يفرحه سوي عشرة الله. لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ. = كلما إقترب المؤمن من شكل أولاد الله، يمتلئ من الروح القدس، والروح يعطيه إستنارة بأن إرادة الله دائماً صالحة فيرضي عنها إذ هي دائماً كاملة فيسلِّم حياته لله تسليماً كاملا، وتصير نفسه في صفاء كامل لا يزعزعها أو يزعجها شئ، مثل هذا الإنسان سينفذ إرادة الله في حياته إذ هو يستحسنها. ولا يعود هذا الشخص يتساءل أريد أن أعرف إرادة الله في هذا الموضوع أو ذاك الموضوع، فالروح يعطي إستنارة كاملة. فيعرف الشخص طريقه فالروح القدس هو روح النصح (2تى1: 7). وإن كانت الأمور عكس إرادته نجده يقول هي للصالح طالما هي إرادة الله، فالله لا يخطئ أبداً.

لاحظ أن كلمة المرضية فى هذه الآية تختلف عن كلمة مرضية فى (الآية1): -.

ففى هذه الآية هنا النفس تجد أنها فى سلام راضية بكل ما يحكم به الله، فالروح القدس فى داخلها يعلن لها أبوة الله ومحبته (رو8: 15، 16). وأيضا تجد داخلها فى سلام لو سلكت بحسب إرادة الله ولاَ تُشَاكِلُ هذَا الدَّهْرَ بل تحفظ وصايا الله، أما لو سلكت فى طريق الخطية فإنها تفقد سلامها، إذاً فى هذه الآية الكلمة خاصة بالنفس.

أما فى (الآية1) كلمة مرضية تشير لقبول الله ورضاه عن ذبيحتنا حينما نقدم أجسادنا ذبيحة حية. إذاً هنا الكلمة خاصة بالله.

العدد 3

آية (3): -

"3فَإِنِّي أَقُولُ بِالنِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لِي، لِكُلِّ مَنْ هُوَ بَيْنَكُمْ: أَنْ لاَ يَرْتَئِيَ فَوْقَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَئِيَ، بَلْ يَرْتَئِيَ إِلَى التَّعَقُّلِ، كَمَا قَسَمَ اللهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِقْدَارًا مِنَ الإِيمَانِ.".

علاقة هذه الآية بالآيات السابقة والآيات الآتية:

آية1: تقديم الأجساد ذبيحة حية في مقابل كل ما عمله المسيح لأجلنا.

آية2: تغيير شكلنا إلي صورة أولاد الله.

آية3: الحرب المتوقعة لمن يفعل ما سبق، الكبرياء، وأن الشخص قادر أن يكون كل شئ في الكنيسة، فهو وحده الصالح المؤمن الذي إختبر طريق الله. وتعني أنه في طريقنا الروحي لتغيير أذهاننا أو تقديم أجسادنا ذبيحة حية لا نطبق قوانين فوق مستوياتنا سمعنا عنها عن آباء كبار. لكن يجب أن نكون تحت إرشاد. فما يصلح لشخص لا يصلح لآخر.

آيات 4 - 6: الكنيسة كلها جسد واحد وكل له موهبته وله دوره. هذا علاج من يظن نفسه كل شئ في الكنيسة. أي لا تحتقر الآخر فله دور كدورك.

باقي الإصحاح: كيف أسلك كعضو صالح في الكنيسة.

يَرْتَئِيَ = يري في نفسه. إذاً نصيحة الرسول لمن تغير شكله أن لا يكون له إهتمام وتقدير لنفسه أكبر مما يجب أن يكون له. بل يكن له إتضاع الفكر. "فالذبيحة لله روح منسحق" فطوبي للمساكين بالروح. بَلْ يَرْتَئِيَ إِلَى التَّعَقُّلِ = فلا يتسرع ولا يتحمس بسرعة ولا يقرر أموره بسرعة، فمثلا يسمع عن طول صلاة الأنبا أنطونيوس فيقرر أن يفعل مثله، أو عن صيام أحد القديسين فيقلده، أو مطانيات أحد الآباء فيعمل مثله. هنا تأتي أهمية أب الإعتراف. ومن عدم التعقل أن يظن أحد في نفسه أنه أهم شخص في الخدمة، وبدونه تنهار الكنيسة.

فالله قسم لكل واحد وزنات (مواهب) ليؤدي دوره، فمن كانت موهبته أقل فلا يصاب بصغر نفس، ومن كانت مواهبه كبيرة فلا يصاب بالكبرياء. فصغر النفس والكبرياء ليسا من التعقل. فمن له عشر وزنات مطلوب منه عشر أخري، ومن له خمس لن يطلب منه عشر بل فقط خمس وزنات. (راجع آية16). لذلك نسمع فيما يأتي أن الكنيسة كلها جسد واحد وكلنا أعضاء. وهذا لا يمنع أن نطلب لننمو أكثر، والله يعطي بحسب الاحتياج علي أن لا يشعر من يأخذ ويزداد بالكبرياء، بل ليقل المؤمن "يا رب لم يرتفع قلبي ولم تستعل عيناي ولم أسلك في العظائم" (مز1: 131) ويقول القديس أغسطينوس أن الكتاب حينما قال "ليس بكيل يعطي الله الروح" كان يتكلم عن المسيح وليس الإنسان، لأن الروح يسكنه في كمال اللاهوت. لكن بالنسبة للإنسان فيعطي كل واحد حتى يفيض (يو38: 7). ولكن كل واحد يصل فقط لكمال ملئه، وكل واحد حسب موهبته المعطاة له، وعندما يمتلئ يشتاق أن يأخذ أكثر وهكذا ينمو.

مِقْدَارًا مِنَ الإِيمَانِ = العطية هي حسب الإيمان، والإيمان عطية من الله فهو الذي قسمه. والإيمان لا يسلم للجميع بمقياس واحد أو برؤية واحدة أو بإتساع واحد أو بقوة واحدة، فالله بحسب سبق معرفته بالإنسان ماذا هو وماذا سيكون، يمنحه قسطاً من الإيمان يتوافق مع جميع إمكانياته وضعفاته وطموحاته ومسئولياته، فأصبح الإيمان لدي كل واحد خاصاً به وحده فلا يعرضه للتباهي، أو ينتفخ به فالله هو الذي أعطاه هذا الإيمان، ولا يفرضه علي الناس متجاهلاً إمكانياتهم. فكل عمل نعمله مرتبط بمقدار إيماننا. ولنأخذ مثالا... الأباء المتوحدين يعيشون فى مغارات خارج الأديرة ويرجعون للدير مرة فى الأسبوع لحضور القداس والتناول. وبعد التناول يأخذون معهم ما يحتاجونه من ماء وبعض الطعام وينطلقوا إلى مغاراتهم. أما الأباء السواح فهم ينطلقون إلى الصحراء دون أى زاد معهم، لا ماء ولا طعام ولا أى شئ... لهم إيمان قوى أن الله قادر أن يعولهم فلا يحتاجون إلى العودة للدير. فهل هذا المستوى الإيمانى يصلح لكل واحد، أن يدخل الصحراء بدون طعام أو ماء واثقا أن الله يعوله. ولكن من يجاهد ويضرم موهبة الله التي فيه يزيده الله إيماناً فوق إيمان ويزداد إيمانه، لذلك يقول بولس الرسول لأهل تسالونيكي أن إيمانكم ينمو (2تس3: 1). والتلاميذ طلبوا من السيد قائلين زد إيماننا (لو5: 17). (راجع تفسير رو1: 17) والإيمان يزداد مع الشكر وسط الضيقات التي يستعملها الله لنري يده وسط الضيقة فيزداد إيماننا، لكن من يتذمر لا يري يد الله، بل يضعف إيمانه. كذلك كلما أعرف المسيح وقدرته ومحبته يزداد إيماني، وهذا يأتي بالعشرة الطويلة مع الله (صلاة ودراسة كتاب...).

إذا نفهم أن الإيمان وزنة، والله يقسم لكل واحد وزنة تختلف عن الآخر، ومن يتاجر بها حسنا ينمو إيمانه.

الأعداد 4-6

الآيات (4 - 6): -

"4فَإِنَّهُ كَمَا فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ لَنَا أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ، وَلكِنْ لَيْسَ جَمِيعُ الأَعْضَاءِ لَهَا عَمَلٌ وَاحِدٌ، 5هكَذَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ: جَسَدٌ وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاءٌ بَعْضًا لِبَعْضٍ، كُلُّ وَاحِدٍ لِلآخَرِ. 6 وَلكِنْ لَنَا مَوَاهِبُ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ النِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لَنَا: أَنُبُوَّةٌ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الإِيمَانِ،".

الآيات 4، 5: - كلنا أعضاء في جسد المسيح الواحد، كل عضو يتكامل مع الآخر والجسد في إحتياج لكل أعضاءه، الكل يخدم الكل. "ليكن كل واحد بحسب ما اخذ موهبة يخدم بها بعضكم بعضا كوكلاء صالحين على نعمة الله المتنوعة" (1بط4: 10). فالله يعطى الموهبة لنخدم بها الآخرين، إذاً هى ليست للمجد الذاتى بل لمجد الله وبناء الكنيسة. فالله خلقنا لأعمال صالحة لنؤديها فى حياتنا (أف2: 10)، والمواهب تُعطى لنا لنتمم هذه الخدمة بنجاح. لذلك علينا كلنا أن نخدم في تواضع، فإذا كانت كل عطية هي من الله فلماذا الكبرياء. وهنا نري أن القدم تحتاج لكمية دم أكبر من الإصبع، من هنا نفهم أن الله قسم لكل واحد علي قدر عمله. ولا يجب أن يقول أحد أنا لست شيئاً فلأجلس وأسكت، بل أنا فعلاً لست شيئاً، إنما المسيح عامل فيَّ فلأجتهد بقدر ما في وسعي ونعمته تساندني.

آية6: إن لنا إمكانيات مختلفة وفقاً لنعمة الروح القدس التي أعطيت لنا. وعلينا أن نشعر بالقناعة تجاه هذه المواهب، وألا نبحث في أنانية ومحبة للذات عن تلك المواهب التي لم تعط لنا من الروح القدس. فالله الذى يعطى الموهبة، يعطيها لنا ليس بحسب إشتياقنا لها بل لنؤدى بها العمل المطلوب، لأن الله هو الذى قسم لكل منا عملا ليؤديه. هذا ما قال عنه الرسول "ولكن لكل واحد منا أعطيت النعمة (الموهبة) حسب قياس هبة المسيح" (أف4: 7). ولكن نلاحظ أن الرسول لم يميز بين مواهب عظيمة ومواهب قليلة فالكل من الله.

أَنُبُوَّةٌ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الإِيمَانِ = النبوة هي الوعظ والكرازة بكلمة الله (1كو1: 14 - 3). وهي إعلان أسرار الله نحو الإنسان لبنيان الكنيسة وتمتع البشرية بالأمجاد المقبلة. أي الكشف لا عن أحداث زمنية بل مجد أبدي. في العهد القديم كانت النبوة إشارة للمسيح والآن هي الدخول بالنفوس إلي إنتظار مجيئه الأخير لتنعم بشركة الميراث معه.

وهذا العمل ليس بشرياً بل هو عطية الله للمتكلم والسامع، لذا تحتاج للإيمان لينعما كليهما بهذه البركة الإلهية التي تنسكب متي وجدت أواني للإيمان. فلا نبوة إلا للمؤمن. آمنت لذلك تكلمت (مز10: 116). فالوعظ يحتاج لإيمان من المتكلم وإيمان من السامع. فإذا لم يكن للإنسان إيمان بالحياة الأبدية فما الذي سيرغمه أن يحيد عن الشر ويسلك فى طريق التوبة التي يتكلم عنها الواعظ. ولاحظ أنه حتى أنبياء العهد القديم لم يكن هدفهم هو التنبؤ فقط بالمستقبل بل حث الشعب علي التوبة.

ونلاحظ أن أول موهبة هنا يذكرها الرسول هي التنبؤ ولم يذكر هنا موهبة الرسولية كما فعل في رسالتيه إلي كورنثوس وأفسس حين تكلم في نفس الموضوع (أف1: 4 + 1كو28: 12) وأيضاً. هنا لم يذكر أي درجات كهنوتية من أساقفة أو كهنة، ولا مواهب شفاء ولا ألسنة، وذلك لأن كنيسة روما لم يذهب لها أي رسول. ولا تأسست فيها كنيسة بالمعني المعروف قبل أن يذهب لها الرسولان بطرس وبولس سنة 62 تقريباً.

العدد 7

آية (7): -

"7أَمْ خِدْمَةٌ فَفِي الْخِدْمَةِ، أَمِ الْمُعَلِّمُ فَفِي التَّعْلِيمِ،".

أَمْ خِدْمَةٌ = المقصود بها الخدمات الإدارية ومساعدة الفقراء وخدمة الموائد. بل شملت التعميد وتأسيس الكنائس في الكنيسة الأولي بل الكرازة أيضاً. فحتى الرسولية تدعي خدمة. وكل عمل روحي هو خدمة. والمقصود من له خدمة فليكن أميناً في خدمته ولا ينشغل بالآخرين.

أَمِ الْمُعَلِّمُ = أي تعليم الحقائق الإلهية والعقائد، والمعلم يهتم بالفكر الدراسي. وهؤلاء المعلمين يساعدون الشعب في تصحيح مساراتهم.

العدد 8

آية (8): -

"8أَمِ الْوَاعِظُ فَفِي الْوَعْظِ، الْمُعْطِي فَبِسَخَاءٍ، الْمُدَبِّرُ فَبِاجْتِهَادٍ، الرَّاحِمُ فَبِسُرُورٍ.

الْوَاعِظُ = يشمل الحث علي التوبة والتأملات ونصح الآخرين وإرشادهم للفضيلة. الْمُعْطِي فَبِسَخَاءٍ = لأن الرسول كان يتكلم عن الخدمات في الكنيسة فيمكن فهم أن المعطي هو الخادم المسئول عن التوزيع علي الفقراء، وهذا عليه أن يعطي بسخاء دون تفكير في الماديات والله سيرسل بركات كثيرة، قال أحد الخدام الأمناء "فليكن صندوقك فارغا" (أي أعط كثيراً) فالله سيملأ الصندوق الفارغ، أمّا لو وجده ممتلئاً فسيتركه. وهذه الآية تطبق علي العطاء علي المستوي الشخصي. الْمُدَبِّرُ = هو الشخص المسئول عن تدبير إحتياجات الكنيسة، هو يد ورِجل الكاهن. الرَّاحِمُ = من يقدم أعمال رحمة كخدمة الأرامل والمرضي. فَبِسُرُورٍ = فكيف يكون حزين الملامح وهو يقدم خدمة للمسيح في شخص إخوته "كنت مريضاً فزرتموني" (مت36: 25). هناك خدام يقبلون يد المريض إذ يؤمنون بأنهم يزورون المسيح.

العدد 9

آية (9): -

"9اَلْمَحَبَّةُ فَلْتَكُنْ بِلاَ رِيَاءٍ. كُونُوا كَارِهِينَ الشَّرَّ، مُلْتَصِقِينَ بِالْخَيْرِ.".

ينتقل الرسول إلي الأعمال السلوكية، ويبدأ بالحب الأخوي، فالحب هو الفكر السائد الذي يربط الكنيسة معاً كأعضاء حية متكاملة (1يو14: 3) والمحبة هي الأساس. ولو كانت المحبة فيها رياء فلا يمكن بناء شئ صالح فوقها. اَلْمَحَبَّةُ فَلْتَكُنْ بِلاَ رِيَاءٍ = هي التي لا تطلب شئ في مقابلها. هي التي بدافع إرضاء الله وخدمة الناس بالإخلاص، وهذه لا يقدر عليها إلا من سكن الله في قلبه. مُلْتَصِقِينَ = كما يلتصق الرجل بامرأته. عموماً من له محبة بلا رياء يكون كارهاً للشر.

العدد 10

آية (10): -

"10 وَادِّينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِالْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ، مُقَدِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْكَرَامَةِ.".

وَادِّينَ = إظهار المحبة بحرارة. والطريق الذي ينشئ هذه المودة سريعاً ويخلق أصدقاء هو أن يسعي كل إنسان لتكريم قريبه فلا نتسابق في طلب الكرامة بل في إعطاء الكرامة. الود هو إظهار المحبة التي في القلب. وإظهار هذه المحبة سيزيد المحبة المتبادلة.

العدد 11

آية (11): -

"11غَيْرَ مُتَكَاسِلِينَ فِي الاجْتِهَادِ، حَارِّينَ فِي الرُّوحِ، عَابِدِينَ الرَّبَّ،".

حَارِّينَ فِي الرُّوحِ = الروح هنا هو روح الإنسان وليس الروح القدس. ولكن من يعبد بحرارة سيمتلئ بالروح "إضرم موهبة الله التي فيك" (2تي6: 1). وكلما إمتلأنا بالروح سنعبد بحرارة، وكلما عبدنا نمتلئ من الروح وهكذا، والبداية أن نقرر أن لا تكون عبادتنا فاترة بلا طعم. وسر الحياة المسيحية كلها يكمن في إقتناء الروح القدس فهو النار التي تحرك الإنسان وتجعله غير متكاسل في الإجتهاد، وذلك بصلوات طويلة قوية وإنسحاق مع مطانيات وأصوام وتسابيح، بلا تكاسل في الخدمة. وحتى نقبل الروح القدس ونمتلئ به علينا بالصلاة بلجاجة (لو13: 11).

عَابِدِينَ الرَّبَّ = الله الذى خلقنا وفدانا وأنعم علينا بالحياة يستحق منا أن نقدم له عبادة شكر وتسبيح. والله الذى أخطأنا فى حقه مرارا يستحق منا أن نقدم له عبادة الإنسحاق والسجود وطلب الرحمة.

العدد 12

آية (12): -

"12فَرِحِينَ فِي الرَّجَاءِ، صَابِرِينَ فِي الضَّيْقِ، مُواظِبِينَ عَلَى الصَّلاَةِ،".

إذ نمتلئ بالروح القدس سنعبد بحرارة ويزداد رجاؤنا فيما أعده المسيح لنا في السماء، وهذا يعطينا فرحاً، فمن عنده رجاء يفرح = فَرِحِينَ فِي الرَّجَاءِ أيضا من له رجاء في السماء سيحتمل ضعفات الآخرين فعينه أصبحت مثبتة علي السماء التي هو ذاهب إليها. صَابِرِينَ فِي الضَّيْقِ = ومهما زادت الضيقات، فما يراه بعيني الرجاء من الأشياء غير المنظورة في السماويات يعطيه إحتمالاً للضيق. وما يراه بعينى الإيمان أن كل الأشياء تعمل معا للخير (رو8: 28) يعطيه أيضا مع الرجاء إحتمالا للضيق.

وكيف نثبت في هذه الحالة = مُواظِبِينَ عَلَى الصَّلاَةِ.

الرب له المجد لم يعدنا بسلام وفرح بطريقة العالم بل قال "فى العالم سيكون لكم ضيق" ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم "(يو16: 33) ولكنه يضيف فى نفس الآية" قد كلمتكم بهذا ليكون لكم فىَّ سلام ". وقال أيضا" سلاما أترك لكم، سلامى أعطيكم، ليس كما يعطى العالم أعطيكم أنا، لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب "(يو14: 27). فالعالم يعطى مال ومراكز وملذات عالمية... إلخ. إذاً نفهم أن هناك مفهومين للسلام: -.

  1. سلام وفرح بطريقة العالم والمقصود بها المراكز العالمية ووفرة المال والصحة وكل ملذات الحياة... إلخ.
  2. سلام المسيح وهو سلام يملأ القلب وسط الضيقات وإضطهاد العالم، وهو أقوى من ضيقات العالم. ولكن هذا السلام شرطه أن نكون ثابتين فى المسيح "ليكون لكم فىَّ سلام". فالسيد المسيح يقول عن الفرح الذى يعطيه لنا فى وسط أحزان العالم أنه "لا ينزعه أحد منكم" (يو16: 22). وهذا ما نسميه النصرة فى المسيحية. وهذا تفسير قول الرب "أنا قد غلبت العالم". النصرة فى المسيحية ليست فى إنتصارنا على العدو الذى يضطهدنا، بل السلام والفرح الذى يعطيه المسيح لنا وسط الضيقات، فلا تقدر أن تقهرنا. والمثال الواضح لهذا نجده فى قصة الثلاثة فتية فى أتون النار، فنجد أن النيران المحيطة بهم لم تؤذهم لأن إبن الله كان معهم. بل فقط أحرقت النيران رباطاتهم (إشارة لأن الضيقات تحرق رباطات الخطايا بالنسبة لنا فنكمل. والتعزية والإحتمال تأتى من أن المسيح يكون معنا فى التجربة كما كان مع الثلاثة فتية.

والسؤال الآن كيف الطريق إلى هذه النصرة؟ نجد الإجابة فى هذه الآية: -.

  1. فَرِحِينَ فِي الرَّجَاءِ = الرجاء فى أفراح الملكوت وأمجاد السماء تجعلنا نشعر بتفاهة كل ما فى هذا العالم. بل ونفرح بهذا المجد والفرح المُعَّد لنا. ولنلاحظ أن الفرح ليس هو مجرد الإقتناع العقلى، بل أن هذا الرجاء والإيمان والثقة بالله تجعل الروح القدس يسكب فينا هذا الفرح. قصة: - توفى رجل تاركا ثروته لثلاثة أبناء. فذهبوا للكاهن الذى طلب قسمة الميراث بالتساوى بين الثلاثة، على أن لا يتم التقسيم الآن بل ينفقوا المال على مشروع يأتى لهم بالربح. وطلب منهم توقيع وثيقة بهذا على أن يوقع معهم كشاهد. فرفض الإبن الصغير فكرة الوثيقة وقال المحبة أقوى من الأوراق. وكان الإبن الصغير ما زال فى دراسته. ونما مشروع الأخوين الكبيرين وإزدادت ثروتهم فطمعوا. فلما تخرج الأخ الصغير طالبهم بحقوقه فرفضوا وقالوا له ليس لديك شيئا عندنا "وأعلى ما خيلك إركبه". فذهب للكاهن الذى شهد على الإتفاق. وجاء الكاهن فلم يستمعوا له. ولكن فوجئ الجميع بالأخ الصغير يبكى بفرح محتضنا إخوته قائلا "أنا لا أريد شيئا، المهم المحبة بيننا. فالمحبة طريق السماء، أما المال فلا يعنى شيئا... أنا إشتريت السماء بنصيبى". وإنطلق بفرح. وفى اليوم التالى فوجئ الكاهن فى القداس بالأخ الصغير يأتى له طالبا التناول، ويقول أن العذراء ظهرت له وقالت حينما قلت "أنا إشتريت السماء بنصيبى" إستجابت السماء لصلاتك. إذهب غدا للتناول وبعدها ستنتظرك السماء بفرح. وقد كان. فبعد القداس ذهب الشاب إلى منزله وأغلق عينى جسده، ليفتح عينيه على المكان الذى إشتراه فى السماء. وهناك سؤال ما الذى جعل هذا الشاب يفرح وسط ضيقته لخسارة أمواله؟! الإجابة... أن عينه كانت مثبتة على السماء فى رجاء أن يكون له نصيب فى هذا المجد. فهو لم يكن له رجاء فى أمجاد العالم، إذ بإيمانه أدرك زوال هذا العالم. فكيف يضع رجاءه فى الشئ الزائل. هو وضع رجاءه فى الشئ الثابت كما قال الرسول "ونحن غير ناظرين الى الاشياء التي ترى بل الى التي لا ترى. لان التي ترى وقتية واما التي لا ترى فابدية" (2كو4: 18).
  2. صَابِرِينَ فِي الضَّيْقِ = هذا الرجاء الذى يعطينا أن نرفع عيوننا للسماء موطننا الأبدى يعطينا أن نشعر بخفة ضيقتنا الوقتية بالمقارنة مع ثقل المجد الأبدى الذى ينتظرنا (رو8: 18 + 2كو4: 16 - 18). ويضيف القديس يعقوب على هذا أننا نكمل بهذه الضيقات، لذلك علينا أن نفرح بها (يع1: 2 - 5). ولماذا نفرح؟ لأن الضيقة علامة محبة من الله الذى يسمح بها لينمو إيماننا. والله يسمح بالتجارب لينمو إيماننا فالتجارب المتلاحقة مع رؤية يد الله القدير تجعل الإيمان يزداد. وهذا ما حدث مع داود، فلقد كانت له خبرات سابقة مع أسد ودب قتلهم، وهذا أعطاه إيمان قوى وقف به أمام جلياط. لذلك فالتجارب المتلاحقة مع الشكر وعدم التذمر تزيد الإيمان. والإيمان يولد صغيراً وينمو، لذلك قال التلاميذ للسيد "زد إيماننا" (لو17: 5) وإيمان أهل تسالونيكى كان ينمو (2تس1: 3). وبولس الرسول يقول أن الإيمان ينمو بالشكر وعدم التذمر (كو2: 7) ومع التجارب تزداد التعزيات التى يعطيها الله كمسكن للألام حتى نحتمل التجربة ومع زيادة الإيمان ومع التعزيات ينشأ الصبر. فالصبر ليس صبر الخضوع والإستسلام وليس هو شجاعة بشرية ولكنه توقع بثقة فى تدخل الله، كما عمل معنا مرات كثيرة سابقاً، الصبر هو عطية إلهية نتيجة إيمان ينميه الله وتعزيات يعطيها الله (2كو1: 5). ولذلك تعلمنا الكنيسة الشكر فى كل حين وعلى كل حال. ولكن الصبر حقاً هو عطية من الله، ولكن الجهاد البشرى المطلوب هو الشكر مع عدم التذمر حتى نحصل على هذه العطية. ومن يصبر ويشكر ينمو إيمانه إذ يرى يد الله. بل أن من يحتمل الألم والضيقة بصبر واثقا أن الله صانع خيرات، يكون له نصيب فى مجد المسيح. فمن يشترك مع المسيح فى ألمه سيشترك معه فى مجده (رو8: 17). والثقة فى محبة الله الذى يقودنا كأب محب لأبنائه، من خلال التجارب والضيقات لميراث المجد هو سبب الفرح.
  3. مُواظِبِينَ عَلَى الصَّلاَةِ = وما الذى يعطينا أن نرفع أعيننا إلى السماء فنرى المجد المعَّد لنا فنصبر ونفرح؟ هو الروح القدس... "ما لم تر عين... هذا أعلنه الله لنا بروحه... فنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله" (1كو2: 9 - 11). ولكن هذا يستلزم الإمتلاء من الروح القدس. وكيف نمتلئ بالروح؟ بالصلاة... الله يعطى الروح لمن يسألونه "(لو11: 13).

العدد 13

آية (13): -

"13مُشْتَرِكِينَ فِي احْتِيَاجَاتِ الْقِدِّيسِينَ، عَاكِفِينَ عَلَى إِضَافَةِ الْغُرَبَاءِ.".

مُشْتَرِكِينَ = لم يقل معطين لأن المعطى ينال بركات من الله أكثر مما أعطى، فالحقيقة أن الله يعطى الجميع، وكلنا نشترك فى عطايا الله. وهم حين يعطوا المحتاجين فهذا لأن الله أعطاهم ليعطوا هم المحتاجين. هم كانوا وكلاء على عطية أعطاهم إياها الله (راجع مثل وكيل الظلم). وهم أيضا سيكونوا مشتركين فى عطايا الله الروحية التى يعطيها للمحتاجين. هم يعطون ماديات مما أعطاها لهم الله فيعوضهم الله بركات مادية وروحية أكثر. ولاحظ أنه سمَّي الفقراء قديسين = والمسيح أسماهم إخوته. عَاكِفِينَ = أي لا ننتظر حتى يسألوننا بل نسعي نحن لذلك كما فعل إبراهيم ولوط فإستضافوا غرباء. ولنلاحظ أن الغرباء في هذه الآية مقصود بهم المسيحيين الذين كانوا يلجأون لهم في وسط إضطهاداتهم. وأيضا الإخوة الذين كانوا يجولون يكرزون ويعلمون.

العدد 14

آية (14): -

"14بَارِكُوا عَلَى الَّذِينَ يَضْطَهِدُونَكُمْ. بَارِكُوا وَلاَ تَلْعَنُوا.".

بَارِكُوا = أي الدعاء بالبركة. وذكر محاسنهم، ولا نجازي عن شتيمة بشتيمة، ونصلي ونطلب لهم الخيرات ولا نفكر في الانتقام. بَارِكُوا وَلاَ تَلْعَنُوا المسيح حمل اللعنة التي نستحقها ليهبنا بركته عاملة فينا، فكيف نستطيع نحن أن نلعن من رفع المسيح عنهم اللعنة، علينا أن نبارك كما باركنا المسيح. ومن يبارك مضطهديه يُظِهرْ أنه يُسَّرْ بإحتمال الآلام من أجل المسيح، أما من يلعن مضطهديه سيبدأ بعد ذلك يلعن من حوله وقد يلعن الله نفسه (رؤ16: 10، 11). فلنمتنع عن عادة اللعن ولندرب ألسنتنا علي أن نبارك. ونلاحظ أن كلمة بركة هى كلمة عبرية وتعنى أن نتكلم كلاما طيبا عن الآخرين. فإذا ما قلنا أننا نبارك الله فهذا يعنى تسبيح الله وشكره وحمده على كل إحساناته علينا.

العدد 15

آية (15): -

"15فَرَحًا مَعَ الْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ الْبَاكِينَ.".

هذه ليست مجاملات اجتماعية بل شركة الأعضاء متشبهين بالمسيح الذي بكي علي قبر لعازر، وتهلل فرحاً بالروح للبركات التي حصل عليها تلاميذه (لو21: 10). ولا يستطيع أحد أن يفرح مع الآخرين إلاّ من سكن يسوع فيه وأعطاه حياته فالفرح مع الفرحين أصعب بكثير من البكاء مع الباكين. لأن الإنسان الطبيعي يحسد الناجح، ولكن من هو خليقة جديدة سيتشبه بالمسيح. وهذا ما سيحدث في السماء، فسنفرح مع من هم في مجد أكثر منا. ولنلاحظ أن إشتراكنا بمشاعرنا مع إخوتنا يزيد المحبة بيننا.

العدد 16

آية (16): -

"16مُهْتَمِّينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ اهْتِمَامًا وَاحِدًا، غَيْرَ مُهْتَمِّينَ بِالأُمُورِ الْعَالِيَةِ بَلْ مُنْقَادِينَ إِلَى الْمُتَّضِعِينَ. لاَ تَكُونُوا حُكَمَاءَ عِنْدَ أَنْفُسِكُمْ.".

مُهْتَمِّينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ اهْتِمَامًا وَاحِدًا = بحسب الترجمات المختلفة هذه تعني: فليكن كلكم لكم الفكر الواحد والهدف الواحد الذى هو مجد المسيح والمحبة التى تربط بينكم. وإذا كانت هناك محبة تكون هناك أفكار مختلفة عند كل واحد ولكن سيكون هناك إنسجام في الفكر = هارمونى كما تعزف فرقة موسيقية وتجد كل عازف له آلته التى تختلف عن الآخر، ولكن تخرج قطعة موسيقية جميلة. وأيضا تتكامل الأفكار لمجد المسيح. وواضح أن بولس الرسول كان يهتم بهذه النقطة فتكررت فى رسائله "تقولوا جميعكم قولاً واحداً، ولا يكون بينكم إنشقاقات" (1كو10: 1) + وأيضا "تمموا فرحي حتى تفتكروا فكرا واحدا ولكم محبة واحدة بنفس واحدة مفتكرين شيئا واحدا. لا شيئا بتحزب او بعجب بل بتواضع حاسبين بعضكم البعض افضل من انفسهم" (فى2: 2، 3). فالرسول مهتم إذا بأن نتحاشى الشقاقات لتبنى الكنيسة ولا تنشق. لتكن مشاكل وألام الآخرين، هي آلامكم حتي تحاولوا حلها كأنها آلامكم. تبحثوا كيف تكونوا سبب فرح للآخرين. وكتطبيق عملى فليبحث كل واحد كيف يجعل الآخرين فى راحة وسلام وفرح.

وهذا لا يمكن أن يحدث إلاّ لو إمتلأ الجميع من الروح القدس. فسنهتم بما يهتم به الآخرين، ونفكر فيما يفكرون فيه، نفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم.

غَيْرَ مُهْتَمِّينَ بِالأُمُورِ الْعَالِيَةِ = هم كانوا في روما العاصمة فخاف عليهم من الإنتفاخ من إحتكاكهم بعظماء روما، فيطلبون المجد الذاتي وغني هذا العالم وأمجاده وكرامتة، طالبين أن يعاشروا الأغنياء والعظماء ليستفيدوا منهم كما يحدث الآن فيمن يلتصق بأصحاب النفوذ لينتفع منهم.

بَلْ مُنْقَادِينَ إِلَى الْمُتَّضِعِينَ = أي يعيشوا مع البسطاء في جو الكنيسة المقدس يخدمون المريض والفقير والمحتاج (يع7: 2 + في5: 2 - 7) يشاركونهم ألامهم، مهتمين بأمور الكنيسة والخدمة. هذا الطريق ينمي الإيمان ويملأنا بالروح، ومن خلاله نستعد للسماء.

لاَ تَكُونُوا حُكَمَاءَ عِنْدَ أَنْفُسِكُمْ = جيد أن نكون حكماء ولكن شر أن نفكر في أنفسنا أننا حكماء (أم12: 26). فلا يجب أن نرفض المشورة فنخرب أنفسنا (أم15: 12) ولا يجب أن نظن في أنفسنا فوق ما ينبغي ونعتقد أن لدينا العلم والمعرفة والحكمة وأننا لسنا في إحتياج لمساعدة الآخرين. ولنلاحظ أن موسى حين لمع وجهه لم يعلم أن وجهه يلمع (خر29: 34). والحكيم في عيني نفسه يعيش متصلفاً لا يقبل مشورة أحد. وهذه النصيحة حين تأتي وراء قوله بَلْ مُنْقَادِينَ إِلَى الْمُتَّضِعِينَ فهي تعني، أن هناك من يظن أنه من الحكمة أن نلتصق بالأقوياء والعظماء وذوي النفوذ والأغنياء لننتفع بهم لكن ملعون من يتكل علي بشر.

العدد 17

آية (17): -

"17لاَ تُجَازُوا أَحَدًا عَنْ شَرّ بِشَرّ. مُعْتَنِينَ بِأُمُورٍ حَسَنَةٍ قُدَّامَ جَمِيعِ النَّاسِ.".

لاَ تُجَازُوا أَحَدًا عَنْ شَرّ بِشَرّ = قوانين العالم لا تسمح بأن أنتقم بنفسى ممن أساء إلىَّ، بل لو فعلت وإنتقمت لنفسى أحاسب وأعاقب بحسب القانون. وبحسب القوانين العالمية إن أخطأ أحد فىَّ، علىَّ أن أذهب للدولة وهى تقتص ممن أخطأ. أما بالنسبة لله فهو يرى ويعلم كل شئ. وهو ملك الملوك، وهو الديان وهو فوق الجميع وهو عادل. فكيف أنتقم أنا لنفسى.

مُعْتَنِينَ بِأُمُورٍ حَسَنَةٍ = هذه مثل "لكي يري الناس أعمالكم الصالحة فيمجدوا أبيكم الذي في السموات" إذاً لنهتم أن نشهد لله أمام الناس لنمجده.

العدد 18

آية (18):

"18إِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ.".

حاول بقدر ما لك من طاقة أن تسالم جميع الناس. ولكن إذا رفض الناس كما حدث مع إرمياء فكان إنسان خصام، فهذا أمر لا حيلة لنا فيه. وهناك أناس يستحيل معهم السلام كالهراطقة مثلاً.

العدد 19

آية (19): -

"19لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، بَلْ أَعْطُوا مَكَانًا لِلْغَضَبِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ.".

لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ = المسيحي لا ينتقم لنفسه، فمن يتصور أن له القوة أن ينتقم لنفسه يتركه الله لنفسه، والمسيحي الحقيقي عاد طفلا في تصرفاتة، والطفل حين يؤذيه أحد يذهب لأبيه شاكياً، وهذا ما يجب أن أفعله أن أذهب لله شاكياً، هذا إن كنت أشعر أن الله هو المسئول عني.

بَلْ أَعْطُوا مَكَانًا لِلْغَضَبِ = إعطوا مكانا لغضب الله لكي يقوم هو بالانتقام من الأشرار بحسب رحمته وتقديره (تث35: 32) والله في حكمته يحل مشاكلنا بطرق لا نتصورها، ولننظر كيف تعامل الله مع الدولة الرومانية التي إضطهدت المسيحيين، إذ حولها للمسيحية، وكذلك شاول الطرسوسي. وقد تعني الآية لا تكن سريعاً في رد الإساءة فربما يهدأ الذي أخطأ إليك حينما يراك وديعاً مسالماً. والله لا ينتقم كما ينتقم الإنسان، فهو قد يحول عدوي إلي إنسان محب لي ويأتي آسفاً علي ما إرتكبه نحوي من خطأ.

العدد 20

آية (20): -

"20فَإِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ. لأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ هذَا تَجْمَعْ جَمْرَ نَارٍ عَلَى رَأْسِهِ».".

إِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ = ولا تقل إن الله قد إنتقم لي بل ساعده في محنته وهكذا طلب منا السيد المسيح "أحسنوا إلي مبغضيكم". والآية كلها مأخوذة من (أم25: 21، 22).

تَجْمَعْ جَمْرَ نَارٍ عَلَى رَأْسِهِ = هذه قد تعني: -.

  1. إن فعلت هذا فإنك تجعله يخجل من تصرفاته ويتعرض لتأنيب الضمير الحاد والندم، الذي لا يقل في قوته وفي ألمه عن الألم الذي يسببه وضع نار علي رأسه.
  2. وقد تعني إشعال نار المحبة في قلبه من نحوك.
  3. العادة في الصعيد أن الثأر من القاتل يمكن العفو عنه، لو حمل الإنسان (المطلوب قتله) كفنه وذهب إلي الأسرة صاحبة الدم، فإنه بهذا يحقن الدم ويوجد السلام. والعادة الرومانية بالنسبة لمن يريد أن يحقن الدماء في موضوع الثأر أن يحمل علي رأسه ناراً ويتقدم بها إلي غريمه علامة أنه يقدم نفسه ذبيحة ويريد حقن الدم. وكان الغريم يقبل النار ويضعها علي رأسه علامة الصلح.

العدد 21

آية (21): -

"21لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ.".

هذا لا يستطيعه إلاّ كل من تمسك بالمسيح، ويستطيع أن يقول لي الحياة هي المسيح. اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ = بالصبر والإحتمال والإحسان للمسيء. عموما كل ما يطالب به الرسول في هذا الإصحاح يسهل على من له الطبيعة الجديدة فصارت أعضاؤه آلات بر.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

الأصحاح الثالث عشر - تفسير الرسالة إلى رومية - القمص أنطونيوس فكري

الأصحاح الحادي عشر - تفسير الرسالة إلى رومية - القمص أنطونيوس فكري

تفاسير الرسالة إلى رومية الأصحاح 12
تفاسير الرسالة إلى رومية الأصحاح 12