الأصحاح الأول – سفر الخروج – القمص تادرس يعقوب ملطي

هذا الفصل هو جزء من كتاب: 02- تفسير سفر الخروج – القمص تادرس يعقوب ملطي.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

مقدمة في سفر الخروج

بدأ الكتاب المقدس أسفاره بالتكوين، حيث أعلن بدء الخليقة وبدء الحياة البشرية في أحضان الله محب البشر، لكن سرعان ما سقط الإنسان تحت العصيان فخرج من الفردوس يحمل في نفسه فراغًا ليس من يملأه، وفي قلبه موتًا أبديًا ليس من يقدر أن يفلت منه.

لم يقف الله مكتوف الأيدي أمام محبوبه الإنسان، فإن كان الإنسان قد خرج معطيًا لله القفا لا الوجه، إلتزم الله في حبه أن يخرج إليه ليخلصه ويرده إلى أحضانه الإلهية مرة أخرى. وهكذا جاء سفر الخروج يعلن بطريقة رمزية عن خلاص الله المجاني، فقدم لنا خروج الشعب القديم من أرض العبودية بيد الله القوية منطلقًا نحو حرية مجد أولاد الله. وكأن هذا السفر وهو يقدم لنا حقائق تاريخية واقعية لم يقصد أن يسجل الأحداث لأجل ذاتها، فهو ليس سجلاً تاريخيًا، وإنما أراد أن ندخل إلى الأعماق لنكتشف خلاصنا الذي نعيشه في حياتنا الآن. في هذا يقول العلامة أوريجينوس: [لم تكتب هذه الأمور بقصد تاريخي، فلا نظن أن الكُتب الإلهية أرادت أن تسجل تاريخ المصريين[1]، إنما كُتبت لأجل تعليمنا (1 كو 10: 1)، كُتبت لإنذارنا (1 كو 10: 11) [2]].

كما قال أيضًا: [نحن نعلم أن الكتب المقدسة لم تكتب لتروي لنا قصصًا قديمة، وإنما لأجل بنيان خلاصنا. لهذا فإننا نعلم أن ما نقرأه عن ملك مصر في (خر 1: 8)، إنما نعيشه اليوم في حياة كل واحد منا[3]].

مصر والعبرانيون:

لما كان محور هذا السفر هو خروج العبرانيين من أرض مصر، لذا فإننا نفهم فرعون يمثل الشيطان الذي يأسر أولاد الله، ومصر تشير إلى العالم، والشهوات المصرية إنما تشير إلى شهوات العالم، والعبرانيين يشيرون إلى المؤمنين الذين يعيشون كغرباء في العالم... فالحديث في هذا الكتاب يأخذ الصورة الرمزية. لكن الآن صارت مصر علامة البركة كوعد الرب "مبارك شعبي مصر" (إش 19: 25)، إذ يُعرف الرب في مصر ويعرف المصريون الرَب في ذلك اليوم ويقدمون ذبيحة وتقدمة وينذرون للرب نذرًا ويوفون به "(إش 19: 21)... وصارت" إسرائيل "تشير إلى" إسرائيل الجديد "أي الذين قبلوا الإيمان بالسيِّد المسيح المخلص، وليس إسرائيل كأمة وجنس معين.

مقدمة السفر.

تسميته:

لم يعط العبرانيون لهذا السفر إسمًا، وإنما اعتبروه جزءًا لا يتجزأ من التوراة ككل، فكانوا يدعونه "هوميس سيني" بمعنى "الثاني من الخمسة"، أي السفر الثاني من أسفار موسى الخمسة، وأيضًا "وإله شيموت" أي "وهذه أسماء"، وهما أول كلمتين وردتا في السفر[4]. أما إسمه في الترجمة السبعينية وفي معظم الترجمات فهو باليونانية Exodus التي تعني "الخروج". يشير هذا الاسم إلى الأحداث الواردة في الأصحاحات (1 - 15)، خاصة (12 - 15)، التي تروي خروج شعب بني إسرائيل من مصر.

كاتب السفر:

كتب موسى النبي هذا السفر بوحي إلهي، يظهر ذلك من الدلائل التالية:

1. يبدأ السفر بحرف العطف "واو"، قائلاً: "وهذه أسماء"، وكأن هذا السفر هو تكملة للسفر السابق "التكوين" الذي كتبه موسى النبي.

2. قدم لنا السفر أحداثًا بدقة بالغة، وفي كثير من التفاصيل مما يدل على أن الكاتب هو شاهد عيان، بل أنه قائد عملية الخروج.

3. سجل حوادث خاصة بموسى النبي نفسه، مثل قتله المصري سرًا، وأنه التفت يمينًا ويسارًا قبل قتله، وروى لنا تفصيل الحديث الذي جرى بينه وبين العبراني الذي كان يظلم أخاه، كما روى لنا أخذ زوجته وابنيه على حمير وختان ابنه... الخ.

4. قبل السامريون هذا السفر كأحد أسفار موسى الخمسة، وهم أعداء اليهود، فلولا تأكدهم من الكاتب لما قبلوه.

تاريخ الخروج:

اختلف العلماء في تحديد تاريخ الخروج، وفيما يلي ملخص لأهم الآراء[5]:

1. تم الخروج في القرن السادس عشر قبل الميلاد. نادى بهذا الرأي مانيثو المصري حوالي عام 250 ق. م. إذ رأى أن العبرانيين قد طُردوا مع الهكسوس. لكن هذا الرأي لا يتفق مع الاكتشافات الحديثة ولا مع النصوص الكتابية الواردة في (خر 1: 11، 12: 40، 1 مل 6: 1).

2. تم الخروج حوالي عالم 1290 ق. م. أثناء حكم رمسيس الثاني. يرى أصحاب هذا الرأي أن الضيق حلّ بالشعب اليهودي أيام سيتي الأول (1309 - 1290 ق. م). واستمر في عهد خلفه رمسيس الثاني (1290 –1224 ق. م) [6]. اعتمدوا على أن بني إسرائيل بنوا مخازن مدينتيّ فيثوم ورعمسيس قائلين: أن اسم "رعمسيس" هو اسم فرعون الذي تم الخروج في عصره. لكن لا يمكن الأخذ بهذا الرأي، لأنه يحتمل أن يكون الاسم قد استخدم في عمر سابق لزمن رمسيس الثاني بزمن طويل.

3. تم الخروج في عصر يَفتاح حوالي عام 1230 ق. م.، وقد اعتمد أصحاب هذا الرأي خطأ على النصب التذكاري الذي أقامه يَفتاح، والذي يذكر فيه الانتصار على إسرائيل وغيره من الأمم التي تقطن في فلسطين في ذلك الوقت. والحقيقة أن وجود مثل هذا النصب إنما يؤكد العكس أن إسرائيل قد خرج منذ زمن واستقر في فلسطين وبعد ذلك تمت الحرب.

4. الرأي الأرجح أنه تم حوالي عام 1447 ق. م. أثناء الأسرة المصرية الثامنة عشر، أيام تحتمس الثالث، أو في زمن أمنوفس الثاني. هذا يتفق مع قضاة (11: 26)، إذ يذكر يَفتاح الذي عاش حوالي عام 1100 ق. م. أن ثلاثمائة سنة قد انقضت على دخول العبرانيين الأرض، أي دخلوها حوالي عام 1400 ق. م. فإذا أُضيفت إليها الأربعون عامًا التي قضوها في البرية لكان تاريخ خروجهم حوالي عام 1440 ق. م.

يتفق هذا الرأي أيضًا مع ما ورد في (1 مل 6: 1) أن بيت الرب قد بُنيَ في السنة الأربعمائة والثمانين لخروج الشعب من مصر. فإن كان قد بدأ سليمان في بناء الهيكل عام 967 أو 966 ق. م. يكون الخروج قد تم حوالي عام 1447 ق. م.

ويتفق هذا التاريخ أيضًا مع الاكتشافات التي ظهرت في أريحا وحاصور، ومع ما ورد في لوحات تلّ العمارنة، التي تتحدث عن شعب قادم إلى أرض فلسطين في هذا التاريخ تقريبًا، أو بعده بزمن قليل.

موضع العبور:

اختلف العلماء في تحديد موضع العبور...

تمت المعجزات على يديّ موسى النبي في صوعن أي تانيس (مز 78: 12) عاصمة الهكسوس. وكانت رعمسيس[7] ضاحية لهذه العاصمة، إذ كان العبرانيون يعملون مخازن مدينتيّ فيثوم ورعمسيس (خر 1: 11) ومن رعمسيس ارتحلوا إلى سكوت[8] (خر 12: 37). لم يتخذوا أقصر الطرق إلى فلسطين بل رحلوا عن طريق البرية بالقرب من البحر الأحمر (خر 13: 17 - 18)، حيث ضربوا خيامهم لأول مرة بعد مغادرة سكوت في إيثام التي تبعد ثمانية أميال غرب سكوت، وتقع على طرف البرية عند حافة الصحراء (خر 13: 20).

"من هناك رجعوا وضربوا خيامهم أمام فم الحيروث بين مجدل البحر أمام بعل صفون" (خر 2: 14)، ليس من السهل تحديد هذا الموقع، لكنه من المعروف أنه غرب البحر الأحمر. من هناك عبروا إلي برية شور (خر 15: 4، 22، عد 13: 10، 15) [9].

ويذهب كثير من العلماء إلى أن الخليج كان ممتدًا في أيام موسى إلى منطقة البحيرات المرَّة على هيئة مستنقع ماء. ويرى البعض أن العبور كان بالقرب من الإسماعيلية، وآخرون أنه بالقرب من السويس.

ويلاحظ أن التعبير العبري لبحر (يم) سوف Yam sûp يعني "بحر الغاب" أو "بحر البوص". وفي رأى البعض أن هذا التعبير إنما يصف المستنقع في منطقة Isthmus والذي يمتد حوالي 72 ميلاً من البحر الأحمر نحو رأس خليج السويس، ذراع البحر الأحمر.

ملامح السفر:

1. يتحدث القديس أغسطينوس عن ارتباط العهد القديم بالعهد الجديد قائلاً: [العهد الجديد مخفي في القديم، والقديم معلن في الجديد. يظهر ذلك بأكثر وضوح في سفر الخروج، فقد رأى الإنجيلي متى في السيِّد المسيح إسرائيل الجديد وموسى الجديد. إستخدم الإنجيلي كلمات هوشع النبي "من مصر دعوت ابني" (11: 1)، كنبوة عن هروب السيِّد المسيح إلى أرض مصر (مت 2: 15). وكما اعتمد إسرائيل القديم في البحر الأحمر (خر 14)، اعتمد السيِّد المسيح الحامل فيه الكنيسة - إسرائيل الجديد - في مياه الأردن (مت 3: 13 - 17). قضى السيِّد المسيح أربعين يومًا في البرية (مت 4: 1 - 11)، وكأنه كان يستعيد الأربعين عامًا التي قضاها إسرائيل الأول في البرية، والأربعين يومًا التي قضاها موسى النبي على جبل سيناء (خر 24: 18). موسى الأول، مستلم الشريعة العظيم ليقدمها لإسرائيل، قدمها بعد أن أعلنت له على جبل سيناء (خر 24: 3 - 8)، والسيِّد المسيح - موسى الجديد - الذي هو بعينه كلمة الله قدم شريعته للشعب على الجبل (مت 5، 6). فكان العهد السينائي رمزًا للعهد الجديد[10]].

يطول الشرح إن تحدثنا عن ارتباط العهدين بوضوح في سفر الخروج، لذا نترك الحديث عن هذا الأمر خلال شرحنا للسفر نفسه. إنما نر يد أن نؤكد أن ما ورد في سفر الخروج كان إعلانًا لمواعيد الله لإقامة "مملكة كهنة وأمة مقدسة" (خر 19: 6)، يتمتع أعضاؤها بطعام سماوي وشراب روحي ويقيمون مقدسًا ليسكن الله في وسطهم (خر 25)... هذا كله مجرد بدء انطلاق. للصداقة الإلهية الإنسانية والتي تتحقق في كمالها في العهد الجديد.

2. شخصية موسى النبي:

لهذا السفر أهمية خاصة، إذ عرض حياة موسى النبي، الذي صار ممثلاً للعهد القديم بكونه مستلم الشريعة والمتكلم مع الله وقائد الشعب في تحريره من العبودية للدخول به إلى أرض الموعد. لذا حين تجلى السيِّد المسيح على جبل طابور ظهر موسى وإيليا معه (مت 17: 1 - 8). وفي سفر الرؤيا نسمع عن تسبحة موسى التي يترنم بها الغالبون في السماء (رؤ 15: 3).

تلقفت الكنيسة حياة موسى لترى فيها جوانبًا حية للحياة الروحية، فأفاض العلامة أوريجينوس في تفسيره الرمزي لسفريّ الخروج والعدد عن موسى النبي وكل تحركاته كرمز للناموس الروحي الحيّ الذي يمس الحياة الداخلية للمؤمن ونموه الروحي. أما معلمه القديس إكليمنضس الإسكندري فقد أعجب جدًا بشخصية موسى النبي وأحبه، وكما سبق أن رأينا في كتابنا "آباء مدرسة الإسكندرية الأولون" أنه رأى أن الفلاسفة اليونانيين إذ جاءوا ببعض الحق، إنما استعاروه عن موسى، ولذا فهم يحسبون أطفالاً إن قورنوا بالعبرانيين[11]. يقتطف كلمات Eupolemus في كتابه "عن ملوك يهوذا" قوله: [كان موسى أول رجل حكيم، أول من قدم النحو ليهود فتسلمه الفينيقيون عنهم، وتسلمه اليونانيون عن الفينيقيين[12]]. كما قال: [اعتمد أفلاطون الفيلسوف على كتب موسى في التشريع[13]]. وقال: [يعلن الفلاسفة أن الرجل الحكيم هو وحده ملك ومشرع وقائد وعادل ومقدس وحبيب الله، فإن اكتشفنا أن هذه الصفات جميعها تنطبق على موسى كما توضح الكتب المقدسة نفسها، بهذا يتبرهن لنا بالتأكيد أن موسى هو الرجل الحكيم الحقيقي[14]]. ويرى أن فلسفة موسى حملت جوانب أربعة: الجانب التاريخي، والجانب التشريعي، والذبيحي، والرؤي[15].

وجاء القديس غريغوريوس أسقف نيصص وتلميذ العلامة أوريجينوس الإسكندري يسجل لنا "حياة موسى" [16] في ثوب رمزي روحي جميل.

لماذا نتحدث عن آباء الكنيسة الذين أطالوا الحديث جدًا عن موسى، فإن السيِّد المسيح نفسه قد أعطى إشارة لبدء انطلاق هذا الفكر بقوله: "وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان" (يو 3: 14). وأوضح الرسل ارتباط خروف الفصح بذبيحة المسيا (1 كو 5: 7)، والصخرة التي تابعتهم كانت السيِّد المسيح... الخ.

3. سفر الفداء أو الخلاص:

بدأ هذا السفر بالذل والاضطهاد وانتهي بظهور مجد الله في خيمة الاجتماع، أي في مسكنه مع شعبه (خر 40)، بدأ بالظلام الذي ساد أرض العبودية وانتهي بالمجد. وقد أكد لنا هذا السفر أن هذا التغير أو هذا الخلاص ليس ثمرة عمل بشري، بل كانت الحاجة ماسة لتدخل الله نفسه الذي وحده يقدر أن يخلِّص ويحرِّر خلال تيار الدم المقدس (ذبيحة الفصح). والسفر في مجمله يقدم لنا صورة حيّة وعملية لملامح طريق خلاصنا.

4. سفر العبور:

قاسى الشعب الأمرّين من العبودية لكنه لم يفكر في الانطلاق من الموقع إلاَّ بعد أن أرسل الله لهم موسى يحدثهم عن الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً، أي أورشليم. هنا لم يعودوا يحتملون العبودية ولا قبلوا الاستسلام لها. ونحن أيضًا باكتشافنا لكنعان السماوية، يجعلنا نشعر بمرارة عبودية الخطية، ونستطيع تحت القيادة الإلهية أن ننطلق إلى البرية القاحلة التي بلا أنهار ولا مزروعات ولا بيوت للإقامة، فتصير موضعًا للتسبيح والتهليل (خر 15)، وطريقًا للعبور، نختبر فيه كل يوم معاملات الله الخلاصية معنا. وكأن سرّ عبورنا المستمر إنما يكمن في اكتشافنا لأورشليم العليا والتأمل فيها بالبصيرة الداخلية.

أما عن إمكانية العبور، فتكمن في قول النبي: "نزل لينقذهم" (خر 3: 8). إنها إمكانيات نزول الله إلينا، الذي وحده في السماء يقدر أن ينزل إلى أرضنا ليحملنا فيه إلى أمجاده العلوية. أراد موسى أن يعبر بشعبه من ذل فرعون مستخدمًا ذراعه البشري ففشل حتى في خلاص نفسه، وعاش هاربًا أربعين عامًا. لهذا نزل الله إليه خلال العليقة الملتهبة نارًا، رمز التجسد الإلهي، ليعبر به مع بقية الشعب. نزل إليه في العليقة ليؤكد سرّ حلوله وسط شعبه، ونزل إلى شعبه كسحابة تظللهم نهارًا كسرّ حمايتهم، وكعمود نار يضيء لهم كسرّ استنارتهم وكقائد لهم. وفي الصخرة ليرويهم، وفي الخيمة ليسكن في وسطهم... كانت هذه جميعها تحمل رموزًا لتجسد كلمة الله ونزوله إلينا لنتحد به فيحملنا معه خلال استحقاقات الدم الكريم.

5. سفر الحرية:

أولاً: استعبد فرعون الشعب لا إراديًا، لكن ما هو أخطر استسلام الإنسان للعبودية الداخلية وخضوعه لنيرها بإرادته، حاسبًا أنها مصدر لذته وسلامه، مع أنها تحمله إلى الذل وتقدم له الموت. لقد حررهم الله بموسى من سلطان فرعون، لكنهم حتى بعد العبور كانوا في عبودية شهوة الجلوس عند قدور اللحم في مصر (خر 16: 3) والتمتع الوقتي بشهوات الجسد، فصاروا يتعبدون لعجل أبيس المصري، إذ حملوه في قلوبهم (خر 32).

ولماذا نتحدث عن الشعب فإن موسى نفسه كان هو أولاً محتاجًا أن يتحرر داخليًا حتى يتسلم عصا الله. كان مستعبدًا للذات "الأنا" فظن في البداية أنه قادر أن يخلص الشعب بذراعه، وبقى أربعين عامًا في البرية يدربه الرب عوض الأربعين عامًا التي عاشها في القصر حاسبًا نفسه شيئًا. كان لزامًا أيضًا أن يتحرر من عبودية الخوف والزمن (الشعور بالشيخوخة)، حتى إذ أدرك مفهوم الحرية كوجود دائم مع الله (أنا أكون معك، وفي فمك) تسلم عصا الله ليرعى الشعب في طريق الحرية.

ثانيًا: إذ بدأ موسى النبي ينطلق بشعبه نحو طريق الحرية انطلق أيضًا الشيطان يحاربه، فيقدم له أنصاف الحلول[17] عوض الحرية لينحرف به عن الهدف، فطريق الحرية ليس مفروشًا بالورود، ولا نسلكه ونحن نائمون في ترف وتدليل بل هو طريق الحرب الروحية المستمرة حتى النهاية.

6. سفر الوصية والعبادة:

بالرغم من وجود سفر متخصص في الوصية الإلهية أو الناموس وفي العبادة الموسوية، لكن موسى أصرّ أن يختم سفر الخلاص بأمرين: إستلام الشريعة، وخيمة الاجتماع. وكأن العبور وهو انطلاق إلى الحرية خلال الاتحاد مع الله والوجود الدائم معه إنما يتحقق خلال كلمة الله أو الوصية والعبادة (الخيمة). فالوصية هي القائد للنفس للدخول إلى السماويات، والعبادة هي عبور للشركة مع السمائيين في ليتورﭽياتهم.

العبادة هي غاية العبور "أطلق شعبي ليعبدونني"، خلالها نتعرف على قانون السماء (الوصية) ونتدرب على السكنى مع الله (الخيمة السماوية)!

عبور البحر الأحمر أو المعمودية هي بداية ضرورية وأساسية خلالها ننعم بالميلاد الجديد ونحمل سلطانًا لاعتزال أعمال الإنسان القديم، لكننا نبقى في عوز إلى تقدم مستمر نحو كنعان يسندنا الروح القدس الذي نلناه في سرّ الميرون وتعيننا الوصية الإلهية والعبادة غير المُنقطعة، بهذا نحافظ على قوة العبور بالدم المقدس فنتمتع بخروج مستمر حتى ندخل الأحضان الإلهية ونلتق مع الله وجهًا لوجه.

7. البرية كمدرسة:

يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن البرية كمدرسة التزم العبرانيون بدخولها، وللأسف كانت تصرفاتهم وسلوكهم كأطفال صغار[18]، وكان الله يحتملهم ويتعامل معهم على هذا الأساس، فمن ذلك:

أ. في خروجهم أعطاهم نعمة في عيون المصريين فأعاروهم أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابًا (12: 25، 26)، وكان ذلك عربونًا لغنى الحياة الأبدية، لكنه في نفس الوقت كان كأب يُعطي أطفاله مالاً في الصباح ليشجعهم على الذهاب إلى المدرسة والإصغاء إلى معلميهم.

ب. إذ كانوا يقضون وقتًا طويلاً في المدرسة كانوا يحنّون إلى الرجوع إلى مصر تاركين دراستهم. كانوا كأطفال يبكون قائلين: "ماذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر؟!" (14: 11)، لماذا أصعدتنا من مصر؟! (17: 3).

ج. أساء الأطفال معاملتهم لله أبيهم وموسى مدرسهم حتى غضب موسى وكسر لوحي الشريعة (32: 19)، وكأنه أراد أن يتوقف عن تعليمهم. ومع ذلك كان حنونًا عليهم، حين غضب الرب عليهم وأراد إبادتهم تشفع فيهم (32: 32).

د. كانوا كأطفال مُترفين، قدم لهم أبوهم المن السماوي طازجًا كل يوم، لكنهم كانوا يتذمرون عليه. إشتهوا الكرات والثوم في مصر، وذلك كالطفل الذي يجلس على مائدة أبيه وقلبه متعلق باللعب في الطين.

هـ. من أجل ضعفهم قدم لهم شريعته "عين بعين وسن بسن"، مانعًا إياهم من الانتقام بأكثر مما أصابهم... حتى متى دخلوا إلى دور النضوج يقدم لهم "لا تقاوم الشر بالشر" و "من لطمك على خدك الأيمن حوّل له الآخر"، بهذا هدأ فيهم رغبة الإنتقام الطفولية ليعبر بهم إلى مرحلة النضوج[19].

و. عندما وقفوا أمام فرعون وأمام عماليق للحرب، قال لهم على لسان موسى النبي: "الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون" (14: 14)، "للرب الحرب مع عماليق" (17: 16)، "أُعادي أعداءك وأضايق مضايقيك" (23: 22). يرى القديس يوحنا الذهبي الفم الشعب كأطفال يقولون لأبيهم: "فلان يضربني في طريق المدرسة" فيُجيبهم: "إنه إنسان شرير، لا تحافوا أنا أضربه لكم.

ز. عندما غاب موسى على الجبل، كأطفال لم يحتملوا غياب مدرسهم فتصرفوا بطيش وطلبوا من هرون أن يصنع لهم العجل الذهبي.

هذه مجرد أمثلة تكشف عن معاملات الله مع الشعب اليهودي الذي كان يتصرف في طفولية روحية ولم يكن بعد قد بلغ النضوج الروحي، لذا دعاهم الرسول بولس أطفالاً وقصّرًا وتحت الوصاية.

طريق الخلاص:

قلنا إن سفر الخروج في مجمله يقدم لنا صورة حيَّة لملامح طريق خلاصنا بطريقة واضحة، لكنها ليست كخطوات متتالية، وإنما كطريق واحد متلاحم معًا... هذه الملامح هي:

1. الشعور بالحاجة إلى مخلص: قد يستسلم المريض لمرضه ويبقى العبد مستكينًا للذل، لكن عمل الروح القدس هو فضح ما وصلت إليه النفس وإذلال الخطية لها لتشعر أنها في حاجة إلى الله المخلص. ليس هذه بداية للطريق وإنما هو عمل الروح القدس المستمر في حياة المؤمن طوال طريق غربته. كلما التقينا بالمخلص، اكتشفنا بروحه القدوس ضعفاتنا أكثر وأحسسنا بالحاجة إليه، نبقى في فرح دائم بلقائه وفي توبة مستمرة على ضعفاتنا محتاجين إليه، حتى يبلغ بنا إلى أمجاده الأبدية.

2. نزول الله إلينا: الشعور بمرارة العبودية، وفضيحة النفس، قد تدفع الإنسان إلى اليأس ما لم يسرع السيِّد المسيح نفسه إليها، ويسندها بدمه لينطلق بها إلى الحرية. فإن كان سفر الخروج قد أعلن شعور الشعب بالحاجة إلى مخلص، فإنه بعد ذلك أوضح خروجين، هما في الواقع عمل واحد متكامل ومتلاحم: خروج الشعب، وخروج الله نفسه لخلاص الشعب. فإنه لا يقدر الإنسان أن يتحرك نحو الحرية بذاته مادام مكبلاً بقيود العبودية، إنما يحتاج إلى خروج ابن الله إليه.

في هذا السفر ترى الله هو الذي بادر بالحب، وهو الذي أعد موسى كقائد للخلاص، وهو الذي كان يعمل به وفيه، وظل يعمل ويعمل... وبقيت هذه الصورة تتأكد عبر الأجيال، وفي كل العصور. لذا يقول الرب نفسه "خرج الزارع ليزرع"، هو الذي بادر بالخروج ليلقي ببذار محبته فينا. وفي دعوة لاوي يؤكد الإنجيل أن السيِّد المسيح خرج إليه إلى موضع الجباية يدعوه: "اتبعني"، فانحلت قيوده ورباطات قلبه بأموال الجباية وانطلق في الحال يتبعه. أخيرًا فإنه ما كان يمكن للعازر أن يخرج من القبر ما لم يخرج الرب نفسه إليه ويهبه نعمة القيامة والتحرر من رباطات الموت.

3. الحاجة إلى الدم: كانت الضربة الأولى هي تحويل الماء دمًا، وفي الأخيرة ذبح خروف الفصح، فلا عبور لنا إلى الحياة الأبدية إلاَّ خلال تيار دم السيِّد المسيح.

4. الميلاد الجديد: بالصليب دُفع ثمن عبورنا، أما بدء العبور فهو دخولنا بالإيمان إلى مياه المعمودية لندفن مع السيِّد المسيح، ونقوم معه في جدة الحياة.

5. الجهاد المستمر: بعبور الشعب البحر الأحمر لم يجد الشعب نفسه داخل أورشليم، بل في بداية طريق البرية التي يسير فيها أربعين عامًا، في القفر يحارب عماليق (شهوات الجسد)، ليكتشف في الطريق وجود الله الدائم معه، سندًا له وشبعًا لكل احتياجاته.

أقسام السفر:

من جهة الموضوعات يمكننا تقسيم السفر إلى قسمين متكاملين:

1. الخلاص [ص 1 - 18].

2. الشريعة والعبادة [ص 19 - 40].

ويمكننا أيضًا تقسيم السفر حسب المواضع التي تمت فيها الأحداث الواردة فيه:

1. في مصر [1: 1 - 12: 36].

2. من مصر إلى سيناء [12: 37 - 19: 2].

3. في سيناء [19: 3 - ص 40].

هذه الأقسام الثلاثة تمثل جوانب ثلاث في حياة المؤمن، ففي مصر يشعر الإنسان بالحاجة إلى الخلاص الإلهي. وفي الطريق من مصر إلى سيناء يتدرب الإنسان على الطاعة الكاملة لله. وفي سيناء يتمتع الإنسان بقبول الوصية وينعم بالعبادة الروحية (الخيمة). وكأن هذا السفر ربط في حياة المؤمن بين "الإيمان والأعمال (الطاعة) والعبادة مع الوصية". هذا الثالوث يمثل وحدة واحدة، يسند كل منها الآخر، ويُكمله حتى يعبر بالمؤمن إلى أورشليم العليا.

الباب الأول.

أحداث الخلاص.

في مصر.

(1: 1 - 12: 36).

الأصحاح الأول

الحاجة إلى مخلص.

يحدثنا هذا الأصحاح عن:

1. نشأة بني إسرائيل في مصر [1 - 7].

2. خضوعهم للعبودية [8 - 14].

3. قتل الذكور [15 - 22].

قصة العبودية.

يروي لنا هذا السفر قصة العبودية في كثير من التفاصيل، أولاً لأنها تمثل قصة عبوديتنا للخطية التي من أجلها جاء السيِّد المسيح لتحريرنا. وثانيًا لأن هذه التفاصيل تمثل جوانب حيَّة تمس حياتنا وعلاقتنا مع الله. أما السبب الثالث فهو أننا كثيرًا ما ننسى أو نتناسى هذه العبودية القاتلة، لذلك عندما أعلن السيِّد المسيح رسالته، قائلاً: "تعرفون الحق والحق يحرركم" (يو 8: 32)، أجابه اليهود: "إننا ذرية إبراهيم ولم نستعبد لأحد قط. كيف تقول أنت أنكم تصيرون أحرارًا؟!" ويعلق القدِّيس أغسطينوس على هذه الإجابة قائلاً:

  • حتى إن نظرنا إلى الحرية التي في العالم (وليس التحرر من الخطية) فأين الحق في قولهم أننا ذرية إبراهيم ولم نستعبد لأحد قط؟ ألم يبع يوسف (تك 37: 28)؟ ألم يؤخذ الأنبياء القدِّيسون إلى السبي (2 مل 24، حزقيال 1: 1)؟ وأيضًا أليسوا هم تلك الأمة التي كانت تخضع لحكام قساة فيصنعون اللَبْن في مصر، يخدمون ليس فقط في الذهب والفضة وإنما في الطين؟ لو أنكم لم تستعبدوا لأحد قط فلماذا يُذكِّركم الله على الدوام أنه هو الذي خلّصكم من بيت العبودية؟! [20]].

والعجيب أنهم ينطقون بهذا في الوقت الذي فيه كانوا مستعبدين للحكم الروماني، فإن هذه هي طبيعة الإنسان، يستسلم للعبودية ويخضع خانعًا لها ويظن أنه في حرية... لذا سجلت عبودية هذا الشعب وتحريرهم، حتى نذكر دومًا حاجتنا إلى السيِّد المسيح كمحرر لنفوسنا من أسر الخطية.

الأعداد 1-7

1. نشأة بني إسرائيل في مصر

إن كان قد دخل يعقوب وبنوه وأحفاده إلى مصر كعائلة واحدة، فقد نشأت الأمة اليهودية في مصر، وصار لها أول قيادة (موسى النبي). لقد ترعرعت بعد موت يوسف [7]، وسقطت تحت ظلم فرعون وعبودية المصريين، لكن الله أعد موسى ودعاه للنضال ضد فرعون ليخرج الشعب خلال ذبيحة الفصح.

نزل يعقوب إلى مصر ومعه من صلبه الاثني عشر أبًا ليتغربوا كقول إشعياء النبي: "هكذا قال السيِّد الرب: إلى مصر نزل شعبي أولاً ليتغرب هناك، ثم ظلمه أشور بلا سبب" (52: 4). تغربوا وسقطوا تحت الذل والعبودية لكننا نجد أسماءهم في سفر الرؤيا قد سُجلت على أبواب أورشليم السماوية (21: 12)، كما أُحصيَ عدد المختومين من كل سبط كأولاد الله ينعمون بالأمجاد السماوية. إذن فليَظلِم أشور بغير سبب، أما الله فحافظ لأولاده، يحصيهم وينقش أسمائهم في سفر الحياة.

يعلق العلامة أوريجينوس على قول الكتاب: "وكان جميع نفوس الخارجين من صلب يعقوب سبعين نفسًا" [5]، قائلاً[21] إن الإنسان لا يلد نفسًا، ولا تخرج النفس من صلبه، ففي بدء الخليقة ماذا يقول آدم عن حواء؟ "هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي" (تك 2: 23)، لكنه لا يقول "هذه نفس من نفسي". أيضًا لابان ليعقوب: "إنما أنت عظمي ولحمي" (تك 29: 14)، ولم يجسر أن يتحدث عن قرابة النفس بل على القرابة الجسدية حسب اللحم والعظم. أما هنا فيقول: "جميع نفوس الخارجين من صلب يعقوب"، وكأنما أراد أن يعلن عن نوع جديد من القرابة فوق مستوى الجسد، أراد أن يحمل إلينا قرابة روحية نهتم بها.

النفس لا تلد إلاَّ إذا بلغت مستوى القائل: "لأنه وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح لكن ليس لكم آباء كثيرون، لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل" (1 كو 4: 15). هؤلاء هم الذين يلدوا نفوسًا لتعيش في العالم بروح الإنجيل، حاملين سمات السيِّد المسيح فيهم، إذ يقول في موضع أخر: "أولادي الذين أتمخض بهم إلى أن يتصوَّر المسيح فيهم" (غل 4: 19).

هذه هي سمة إسرائيل الجديد، أي الكنيسة، إنها أم ولوّد، تنجب نفوسًا مقدسة تحمل سمات السيِّد المسيح.

أما سرّ النمو فيكمن في العبارة التالية:

"ومات يوسف وكل إخوته وجميع ذلك الجيل. وأما بنو إسرائيل فأثمروا وتوالدوا ونموا وكثروا كثيرًا جدًا، وامتلأت الأرض منهم" [6 - 7].

يربط هذا النص بين موت يوسف وإثمار بني إسرائيل وتكاثرهم جدًا وامتلاء الأرض منهم. فإن كان يوسف قد حمل رمزًا للسيِّد المسيح في جوانب كثيرة، فإنه لا نمو للكنيسة - إسرائيل الجديد - إلاَّ خلال موت السيِّد المسيح بالصليب. هذا وأن بني إسرائيل يرمزون أيضًا إلى الفضائل التي تسكن في القلب، فلا نمو في الحياة الفاضلة ولا امتلاء للقلب من الفضائل إلاَّ بإعلان قوة موت المسيح وصلبه في داخله.

يعلق العلامة أوريجينوس على هذا النص، قائلاً: [قبل موت يوسف الذي باعه يهوذا أحد إخوته بثلاثين من الفضة كان عدد بني إسرائيل ضئيلاً للغاية، لكنه إذ ذاق الموت لأجل الجميع إنما "لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس" (عب 2: 14)، تكاثر الشعب المؤمن... فإنه ما كان للكنيسة أن تثمر وتأتي بهذا الحصاد في كل الأرض لو لم تقع حبة الحنطة على الأرض وتموت (يو 12: 24). لقد سقطت في الأرض وماتت، وخلالها جاء كل هذا المحصول من المؤمنين، إذ خرج صوت الرسل يملأ الأرض كلها وبلغ إلى كل المسكونة (مز 19: 4)... وكما هو مكتوب "كانت كلمة الله تنمو، وعدد التلاميذ يتكاثر جدًا" (أع 6: 7)...

هذا هو التفسير الروحي، لكن لا يفوتنا أن نذكر الجانب التعليمي، لأنه يبني نفوس السامعين: "إن مات يوسف فيك، أُريد أن أقول إن حملت في جسدك إماتة الرب يسوع" (2 كو 4: 10)؛ إن ماتت أعضاؤك عن الخصية، يتكاثر داخلك بنو إسرائيل أي الارتباطات الروحية السامية. بإماتة الشهوات الجسدية تنمو رباطات الروح. بالإماتة اليومية عن خطاياك تكثر فضائلك، وتمتلئ الأرض، بالأعمال الصالحة، أي تنمو داخل الجسد.

أتُريد أن أثبت لك هذا من الكتاب المقدس، من الذي أثمرت فيه الأرض؟ [22]. أنظر كلمات الرسول بولس: "ولكن إن كانت الحياة في الجسد هي لي ثمر عملي فماذا أختار لست أدري... فإني محصور من الاثنين: لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا، ولكن أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم" (في 1: 22 - 24). هل عرفت كيف أثمرت فيه الأرض؟ فإنه ما دام في الأرض - أي في الجسد - يحمل ثمار تأسيس الكنائس ويربح شعبًا لله مبشرًا بالإنجيل[23]].

الأعداد 8-14

2. خضوعهم للعبودية

النتيجة الطبيعية للنمو المتزايد خلاص صلب المسيح وموته هو هياج عدو الخير وثورته، إذ يقول الكتاب: "ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف، فقال لشعبه: هوذا بنو إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا. هلم نحتال لهم لئلاَّ ينموا فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا ويصعدون من الأرض. فجعلوا عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم" [8 - 11].

مَن هو هذا الملك الجديد إلاَّ إبليس الذي يرتعب كلما رأى الرب يملك على قلوب أولاده، يبذل كل طاقاته لتكريس جنوده وإمكانياته الشريرة لاستعباد البشر وإذلالهم بالعمل في الطين، أي يجعلهم يرّتبكون في الأعمال الأرضية.

يرى العلامة أوريجينوس، إبليس في حالة رعب من تبعيتنا للمصلوب الذي جرده من كل رئاسة وسلطان وشهَّر به (كو 2: 5)، فيقول: [هذا التفكير يجعله مرتعبًا، فيقول: لئلاَّ يُحاربوننا ويصعدون من الأرض [10]؛ فهو لا يريدنا نصعد عن الأرض، بل يُريدنا أن نظل على صورة الترابي (1 كو 15: 49). إذن، إن كنا قد عبرنا إلى عدوه، هذا الذي يدخلنا ملكوت السموات يلزمنا أن نترك صورة الإنسان الترابي ونأخذ صورة السماوي[24]].

إن كان الشيطان يُقيم رؤساء تسخير لإذلالنا، للعمل في الطين، فقد أقامنا ربنا يسوع رؤساء من نوع آخر لتعليمنا حتى نترك الطين، أي نخلع أعمال الإنسان القديم ونحيا حسب الإنسان الجديد على صورة ملكنا الحقيقي.

بناء مدينتي فيثوم ورعمسيس:

"فبنوا لفرعون مدينتي فيثوم ورعمسيس" [11].

يرى العلامة أوريجينوس أن "رعمسيس" تعني (بلد الفساد). وكأن عدو الخير يُريد إذلالنا بالعمل في الطين لحساب "الفساد" والشر. وهنا يثور أمامنا السؤال التالي:

لماذا يسمح الله لأولاده بالضيق؟!

أ. للاشتياق للحياة الأفضل، فلو بقى الشعب في راحة لما انطلقوا إلى كنعان. هكذا يسمح الله لنا بالضيقات والأتعاب ليعدنا للحياة الفضلى والتمتع بكنعان السماوية. يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [الله صالح ومحب، ليس فقط عندما يعطي عطايا، بل وعندما يؤدبنا أيضًا. فإنه حتى تأديباته وعقوباته هي من قبيل جوده، ومظهر عظيم من مظاهر عونه لنا[25].].

ب. ليلتصقوا بالرب، فالضيق يشعرنا باحتياجنا إلى عمل الله فينا ومعنا.

ج. إن كان الله قد بدا كأنه قد ترك شعبه للمذلة، لكن الكتاب يؤكد "بحسبما أذلوهم هكذا نموا وامتدوا" [12]. إن كانت يد العبودية قد قست لكن الله لم يتركهم، وعمل على خلاصهم بكل الطرق.

الأعداد 15-22

3. قتل الذكور

استدعى فرعون قابلتي العبرانيات شفرة وفوعة، وطلب منهما أن يقتلا كل طفل ذكر عند ولادته ويستبقيا البنات. وكان هذا الأمر سهلاً، فقد كانت العادة المتبعة في مصر في ذلك الحين أن تتم الولادة على كرسي خاص، فتستطيع القابلة أن تقتل الطفل قبل أن يراه أحد، لكن القابلتان خافتا الله واستبقتا الذكور والإناث.

العبرانيين: لقد دُعي الشعب اليهودي بالعبرانيين، نسبة إلى عابر أحد أجداد إبراهيم (تك 10: 12)، لذلك كانت كلمة "عبراني" تشير إلى اليهودي الأصيل وتميزه عن اليهودي الدخيل من الأمم[26]. ويدعى المؤمنون عبرانيين أيضًا، لأن طبيعة حياتهم "العبور" المستمر. يشعر أنه غريب ومنطلق على الدوام من الأرضيات نحو السماويات.

قابلتا العبرانيات: يرى القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص أن "القابلة" التي تولِّد العبرانيات إنما تشير إلى الإرادة الحرة التي تنجب الفضيلة في حياة المؤمنين وسط آلام المخاض المرّة[27]. فإن المؤمن وإن كان يعمل بالله، لكن لا ثمر له بغير إرادته، وكأن فرعون الذي هو إبليس عدونا لا يطيق "إرادتنا الحرة" التي وهبها الله لنا، والعاملة بالمسيح يسوع لنموِّنا.

أما العلامة أوريجينوس[28] فيرى في القابلتين "المعرفة" التي تسند أولاد الله في ولادة الذكور كما الإناث، أي يكون لهم ثمر في التأمل العقلي الإلهي، وفي تقديس العواطف. لأن الذكور يشيرون إلى العقل والإناث إلى العاطفة.

وتشير القابلتان أيضًا إلى الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، خلالهما ينعم أولاد الله بالثمر المتزايد عقليًا وعاطفيًا، أو روحيًا وجسديًا.

اسما القابلتين: شفرة وفوعة، كلمتان عبريتان، ربما تعنيان جمال وفتاة، لكن العلامة أوريجينوس يرى كلمة شفرة "صفُّورة" تعني عصفور أو طائر، وفوعة تعني "عفيفة" أو "حياء"؛ وكأن القابلتين يعملان معًا في الكنيسة لإثمارها، أولاً برفع القلب وتحليقه في السماء كالعصفور الطائر، وثانيًا بروح الحياء والتعفف.

إن كانت القابلتان تشيران إلى العهدين، فإن العهد الأول يجب أن نتقبله كعصفور، أي نتفهم العهد القديم بطريقة روحية وليس خلال الحرف القاتل. أما العهد الجديد فيمثل الحياء (اِحمرار الوجه) علامة الرش بدم السيِّد المسيح الذي خلاله تكون لنا المعرفة المثمرة في العالم [10].

قتل الذكور واستبقاء الإناث: قلنا إن الذكور يشيرون إلى العقل أو الروح بينما الإناث يشرّن إلى الجسد أو العواطف[29]، فقد أراد فرعون أن تُقتل المعرفة الفهم العقلي للكتاب المقدس أو الإدراك الروحي، ونهتم فقط بالجانب المادي... فتصير معرفتنا الإنجيلية جافة وقاتلة.

هذا وأن حرب الشيطان ضد أولاد الله هو أن يفقدهم التفكير العقلي المتزن، ويثير فيهم العاطفة الجسدية، أما المعرفة الأمينة الإنجيلية فتربط الاثنين معًا: الجانب العقلي مع العاطفي، تقديس الروح والجسد معًا، أي نستبقي الذكور والإناث معًا!

مجازاة الله للقابلتين: يقول الكتاب "وكان إذ خافت القابلتان الله أنه صنع الله لهما بيوتًا" [21]، فهل يصنع الله بيوتًا؟! إذ تشير القابلتان إلى الكتاب المقدس، فإنه إذ يُدرس بمخافة إلهية ويعيشهما المؤمنون كما يجب، يقيم الله للكتاب موضعًا في أماكن كثيرة، أي ينفتح مجال الخدمة وتُقام بيوت لله. هكذا يحتاج العالم أن يرى فينا كلمة الله عاملة في قلبنا بخوف إلهي، فيجد الإنجيل له موضع في كل قلب.

وقد أثار هذا النص جدلاً: لماذا يكافئ الله القابلتين وقد كذبتا على فرعون؟... فهل يجوز الكذب كما فعلت أيضًا راحاب الزانية؟... لقد أفرد القدِّيس أغسطينوس مقالين عن "الكذب" أوضح فيهما أنه لا يجوز إستخدام الكذب حتى ولو كان فيه نفع للآخرين، لأن "الفم الكاذب يقتل النفس" (حك 1: 11)، وقد أوصانا السيِّد المسيح نفسه "ليكن كلامكم نعم نعم لا لا، وما زاد على ذلك فهو من الشرير" (مت 5: 37)، كما يحذرنا الرسول بولس قائلاً: "لذلك اطرحوا عنكم الكذب وتكلموا بالصدق كل واحد على قريبه" (أف 4: 25). وقد علل القديس مكافأة الرب للقابلتين أنه عاملهما حسب درجتهما الروحية وقدرتهما على التصرف[30]. ومن ناحية أخرى يقول إنه كافأهما "ليس لأنهما كذبتا، وإنما لأنهما صنعتا رحمة بشعب الله. لم يُكافأ فيهما خداعهما (لفرعون)، بل معروفهما وحنو ذهنها وليس خطأهما بالكذب[31]".

طرح الأطفال في النهر: يقول الكتاب "ثم أمر فرعون جميع شعبه قائلاً: كل ابن يولد تطرحونه في النهر، لكن كل بنت تستحيونها" [22]، ويعلق على ذلك العلامة أوريجينوس قائلاً: [أترون بماذا يأمر رئيس هذا العالم خدامه؟ إنه يأمر بسرقة أولادنا وإلقائهم في النهر، ونصب الشباك على الدوام منذ ولادتهم. يأمر بالهجوم عليهم منذ يبدءون في لمس ثدييى الكنيسة ويطلب نزعهم عنها ومطاردتهم حتى تبتلعهم أمواج العالم...

تأمل الخطر الذي يهددك منذ ولادتك، بل بالحرى منذ ولادتك الجديدة، أي منذ نوالك المعمودية مباشرةً... فقد أُصعد يسوع إلى البرية من الروح ليُجرب من إبليس (مت 4: 1). هذا هو أمر فرعون لشعبه بخصوص العبرانيين، أي الهجوم عليهم واقتناصهم في لحظة ولادتهم وإغراقهم... لكن المسيح إنتصر حتى يفتح لك طريق النصرة، إنتصر وهو صائم حتى تدرك أنت أيضًا كيف تُخرج هذا الجنس بالصوم والصلاة (مر 9: 29) [32].


[1] خروج 1: 8.

[2] Origen: In Exodus, hom 1: 5.

[3] Ibid 2: 1.

[4] Origen: Comm. In Ps. PG 12; 1084. , Ep. 32: 1.

[5] لدراسة هذه الآراء بأكثر توسع راجع:H. H. Rowley: From Joseph to Joshua, 1948.

[6] The Jerome Biblical Commentary, 1970, p. 47.

[7] رعمسيس: بيت رمسيس، وهي المدينة الملكية في الدلتا في ذلك الوقت.

[8] هي تل المسخوطة في وادي طميلات تبعد حوالي 32 ميلاً جنوب شرقي تانيس، 11 ميلاً غرب الإسماعيلية.

[9] The Dictionaryog the Bible, 1969.

[10] J. Danielou: From Shadow to Reality, 1960. p 153 - 226. The Jerome Biblical Commentary, p. 47 - 8.

[11] Strom1: 29.

[12] Strom 1: 23.

[13] Strom 1: 25.

[14] Strom 1: 26.

[15] Strom 1: 28.

[16] J. Danielou: Gregoire de Nysse, la vie de Moise, Source Chret. , bis, 1955.A. J. Malherbe, E. Ferguson: Gregory of Nyssa, the Life of 1978. PG. 44.

[17] بمشيئة الله سنتحدث عن أنصاف الحلول في الأصحاحات 7 - 10.

[18] Chrysostom: in Colos. Hom 4.

[19] راجع الموعظة على الجبل للقديس أوغسطينوس.

[20] On the Gospel of , tractate 41: 2.

[21] Origen: In Exod. Hom 1: 3.

[22] أي الرسول بولس.

[23] Oregen: In Exode, hom 1: 4.

[24] Ibid 1: 5.

[25] القمص تادرس يعقوب: القديس يوحنا ذهبي الفم: هل للشيطان سلطان عليك؟ طبعة 1972م، ص 27.

[26] يبدو أن المصريين كانوا يطلقون كلمة عابر aperu على كل شخص يأتي من دول الشرق الأوسط إلى مصر أسيرًا. Nelson: A New Catholic Comm. On the Holy Scrip. , P. 208.

[27] St. Gregory of Nyssa: The Life of Moses 2: 5.

[28] In Exode, hom 2: 1, 2.

[29] Methodius: Banquet of the ten Virgins 4: 2.

[30] On lying 7.

[31] To Consentus, against lying 32.

[32] In Exod, hom 2: 3.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

الأصحاح الثاني - سفر الخروج - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفاسير سفر الخروج الأصحاح 1
تفاسير سفر الخروج الأصحاح 1