الإصحاح الأول – سفر الجامعة – القس أنطونيوس فكري

مقدمة سفر الجامعة

  1. معنى كلمة الجامعة:

الكلمة بالعبرية "كوهيليث Qoheleth" وهي مشتقة من الفعل qahal ومعناها يجتمع. والكلمة تعني إجتماع. وبالإنجليزية نجد إسم السفر Ecclesiastes والكلمة مأخوذة عن الكلمة اليونانية Ecclesia أي مجمع أو إجتماع. وهذه الكلمة اليونانية تعني بالعربية كنيسة.

وفي (1: 1) نجد كاتب السفر يقول "كلام الجامعة ابن داود الملك". ولقد إتفق أباء الكنيسة ومعلمي اليهود أن سليمان الملك هو كاتب السفر، ولكن لماذا أطلق على نفسه اسم الجامعة؟

  1. ربما تعني أنه يجمع في هذا السفر أقوالاً حكيمة (9: 12، 10). فهو جامع أقوال. وتاء التأنيث دلالة على المبالغة كقولنا "الراوية" عن كثير الروايات.
  2. ما يكتبه هنا هو خلاصة حكمته وخبراته العملية التى جمعها خلال حياته.
  3. سليمان هو محبوب الله (2صم24: 12، 25). والله أعطاه حكمة عجيبة، وهو أول من بنى بيتاً لله، لكنه عاد وإنحرف إلى العبادة الوثنية. ويؤخذ هذا السفر دليل على توبة سليمان ورجوعه إلى الكنيسة الجامعة أي إلى شعب الرب أو جماعة الرب.
  4. ربما كتب سليمان هذا السفر لينصح كل من يسمعه ألا يسير في طريق الخطية مثله، ولكي يحث كل خاطئ تائه لكي يعود إلى حياة الكنيسة الجامعة، وهو يكشف لكل من يسمعه بطلان هذه الحياة. وربما كان يجمع الشعب ليعظهم وينذرهم بهذه الأقوال فسمى سليمان الجامعة لأنه كان يجمع الشعب بهدف مخاطبتهم ووعظهم (لو32: 22). وربما بسبب هذا فهم الكثيرين أن سليمان تاب في أواخر أيامه. وكان هذا السفر هو ثمرة عودته وتوبته بعد إنغماسه في الملذات الدنيوية وارتباطه بنساء وثنيات.
  1. هناك من شكك في أن سليمان كاتب هذا السفر ولكنها أراء لا يعتد بها كثيراً والمعترضين أشاروا لوجود كلمات أجنبية في السفر ولكن يرجع هذا لعشرة سليمان مع نساء أجنبيات ولكثرة التجارة مع كل أمم العالم وانفتاح إسرائيل على كل العالم وثقافاته في أيام سليمان.
  2. موضوع سفر الجامعة:

سفر الجامعة هو سفر إنسان فيلسوف حكيم يجول باحثاً عن السعادة، أو كيف يحيا الإنسان سعيداً في هذا العالم، وجال الجامعة ليختبر كل أساليب المتع الحسية والعقلانية، ليحكم بنفسه هل أعطته هذه المتع السعادة الحقيقية. إذاً هو سفر إختبارات يعكس فيه سليمان إختباراته العملية في سنى حياته المختلفة. ولذلك لا تؤخذ كل آية في هذا السفر على أنها آية نطبقها عملياً في حياتنا، فسليمان يحكي خبراته التي سبق وجربها ثم يقول أنه وجد أنها باطل أي لم تعطه السعادة التي كان يتصورها. ولذلك نقول هنا أن من الخطر جداً إستخدام آية واحدة نعتمد عليها من هذا السفر أو من الكتاب المقدس عموماً وبالأخص هذا السفر.

أمثلة لخطورة استخدام الآية الواحدة من هذا السفر:

  1. ليس للإنسان خيرٌ من أن يأكل ويشرب ويُرى نفسه خيراً في تعبه (24: 2). لو طبقنا هذه الآية نجد أنه يجب علينا أن نأكل ونشرب ونتمتع، فيكون هذا طريق مدمر لحياتنا، أي طريق الإنغماس في اللذات.
  2. فتحولت لكي أجعل قلبي ييأس من كل التعب الذي تعبت فيه تحت الشمس (20: 2) وطبقاً لهذه الآية وغيرها كثير) 7: 2 مثلا) فإنه على الإنسان أن يكف عن جهاده فلا فائدة والكل باطل ولا منفعة. هي آيات تدعو لليأس، ولذلك قال بعض المفسرين أنه سفر يدعو لليأس، وهذا غير صحيح إن فهمنا السفر فهماً جيداً.
  3. لأن ما يحدث لبني البشر يحدث للبهيمة (19: 3). من يعلم روح بني البشر هل هي تصعد إلى فوق وروح البهيمة هل هي تنزل إلى أسفل الأرض (21: 3). من يقرأ هذه الآيات لا يدخل في حالة يأس فقط، بل يظن أنه لا حياة للنفس بعد الموت ولكن نفهم أن كل هذه تساؤلات لسليمان يعرضها أمامنا على أنها كانت تجول بفكره لوقت معين. وأنه توصَّل للحلول أخيراً، فالاعتدال في رأيه في استعمال العالم مطلوب، فنأكل ونشرب ونشكر الله بلا انغماس في محبة العالم. بل هو وجد الرد على تساؤلاته التى قالها في (19: 3 - 22) وردده في (7: 12) فقال "فيرجع التراب إلى الأرض.. وترجع الروح إلى الله".
  4. هو إنسان كان حائراً يجول يبحث عن طريق الفرح والسعادة، ولذلك نجد كلامه قد يشوبه في بعض الأحيان نغمة اليأس وفي بعض الأحيان روح الإنغماس في لذة العالم. ولكنه لأنه كان يبحث بجدية توصل أخيراً لطريق الفرح الحقيقي (13: 12) "فلنسمع ختام الأمر كله. إتق الله واحفظ وصاياه لأن هذا هو الإنسان كله" ونجد إيمانه في خلود النفس وأن نفس الإنسان ليست كنفس البهيمة (14: 12) لأن الله يحضر كل عمل إلى الدينونة على كل خفي إن كان خيراً أو شراً ".
  5. إذا فهمنا أن سليمان في هذا السفر يحكي خبراته كخاطئ تائب فهل نأخذ بعض آيات قالها في فترة خطاياه لنجربها على أنفسنا؟! هذا فيه خطورة كبيرة بل خطية.
  1. باطل الأباطيل: هذه عن الدنيا بمعنى أنها فانية وزائلة فلا نتعلق ونتمسك بها. هذه هي النغمة المكررة في سفر الجامعة ويقابلها في العهد الجديد "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم.. والعالم يمضي وشهوته (1يو15: 2 - 17) أي أن الملك الحكيم الغني الذي جرب كل اللذات وتزوج 1000 امرأة، وجرَّب عبادة الأوثان، والتلميذ الطاهر البتول حبيب المسيح، القديس العظيم، إتفقا كلاهما على نفس المبدأ. ولقد توصل سليمان لهذه الحكمة بعد أن سقط وأدبه الله بألام كثيرة (2صم14: 7)" إن تعوج أؤدبه بقضيب الناس وبضربات بنى آدم "وتحقيق هذا في (1مل11: 11، 14، 23، 26). وتوصل لها يوحنا بتأملاته الهادئة دون أن يختبر الخطية بلذتها وألامها وتأديباتها ولم تنغص حياته بكل نتائجها المؤلمة، فالإنسان الروحي يحكم في كل شئ.. (1كو15: 2).
  2. سفر الجامعة هو من الأسفار الشعرية والحكمية، ومن أسفار الزهد والنسك في الكتاب المقدس، يقرأه الإنسان فيشعر ببطلان هذا العالم وما فيه من متع الجسد. عباراته تحث على التوبة والانسحاق وتثبت أن الإنسان لو عاش بعيداً عن الله يتعب.
  3. وسليمان كان له نوعان من الحكمة. الأولى كانت موهوبة له مجاناً من الله، والثانية حصل عليها نتيجة سقوطه وقيامه وتجاربه المؤلمة في حياته ومن الممكن أن يستفيد كل إنسان من سليمان فيمتنع عن اختبار طريق الخطية ويريح نفسه من ألام هذا الطريق. ونلاحظ أن الحكمة الإلهية التي حصل عليها سليمان مجاناً في أول طريقه كانت ترشده لما توصل إليه في نهاية طريقه وهذا ما سجله في (13: 12، 14). ولكنه عاند وجرب بنفسه وتألَّم وتعب وضل الطريق كثيراً ولكن مراحم الله أدركته فتاب، فلماذا يخاطر أي إنسان ليجرب طريق الخطية، نحن لا نضمن أنفسنا فلربما لا تكون لنا فرصة للتوبة مثل سليمان. ولنلاحظ أننا حصلنا على الروح القدس، روح الحكمة مجاناً في سر الميرون وهو يشهد لنا ببطلان طريق الخطية. ويا ليت سليمان كان قد طلب طهارة ونقاوة مع الحكمة، ففي هذه الحالة ما كان سليمان قد سقط ولا إحتاج لتأديب الله، ولا تألَّم بمرارة في حياته، ولعاش سعيداً فرحاً بطهارته عوضاً عن أن يظل تائهاً يبحث عن طريق السعادة، بل أن موضوع توبته هو مجرد تصور شخصي مبنى على قول الله أنه إن تعوج سيؤدبه وأنه لن ينزع رحمته منه (2صم14: 7، 15) ولكن الكتاب المقدس لم يذكر صراحة أن سليمان تاب عن خطاياه وترك أمامه علامة استفهام كبيرة بخصوص أبديته، وذلك ليخاف كل إنسان من أن يسلك في طريق الخطية فلن يكون منا من هو أقوى وأحكم من سليمان، فإن كان أمر خلاص نفسه محل شك فبالأولى أياً منّا سيكون أمر خلاص نفسه مشكوك فيه لو دخل من هذا الباب، أي أن يجرب بنفسه طريق الخطية.
  4. إن كان سفر الجامعة قد ركز على تأكيد بطلان العالم بكل ملذاته، فإنه في نفس الوقت يوضح أن كل ما صنعه الله حسن ورائع. ولكن يجب أن نفهم أنه علينا أن نعيش في العالم نستعمله ولكن لا يسيطر علينا، فالله هو هدفنا وليس خليقته، علينا ألا ننشغل بخليقة الله عن الله نفسه، فمن ينشغل بالعالم فقط سيسمع الصوت المخيف "يا غبي في هذه الليلة تؤخذ نفسك فهذه التي أعددتها لمن تكون". وعوضاً عن أن ننشغل بالعالم يكشف لنا السفر أن الله وحده هو مصدر الشبع والسعادة وليس العالم. لذلك ركز السفر على كلمة "باطل" فوردت 37مرة في السفر ليثبت أنه لا شئ في العالم قادر أن يهب الإنسان شبعاً حقيقياً أو سعادة مطلقة. العالم في حد ذاته جيد وحسن إذ هو خليقة الله. ولكن إذا قورن ضوء مصباح (العالم) بالشمس (الله) فهو لا شئ. وكلمة باطل بالعبرية hebel ومنها اسم هابيل أي مضمحل وزائل كالبخار، وسليمان نفسه فسر كلمة باطل وقال قبض الريح فهل يمكن لانسان أن يقبض علي نسمة هواء أنعشته فترة قليلة من الزمن. فهل نتمسك بما هو زائل ونترك الله الأبدي. العالم كله يعجز عن تقديم أي نوع من الشبع للإنسان الداخلي الذي هو على صورة الله خالقه. فالنفس التي لها صورة الله لن تشبع إلا بالأصل أي الله ذاته. والنفس سماوية فلن تشبع لو أُعطِىَ لها كل الأرضيات ما لم تلتقي بالسماوي ذاته. العالم حسن وجيد ولكننا نسئ استخدامه عندما نجعل منه هدفاً في حد ذاته، أو نظن حياتنا الوقتية كأنها أبدية. إذاً المشكلة ليست في طبيعة العالم بل في مفاهيمنا المنحرفة. ولذلك طلب الله أن نعمل 6 أيام ونستريح في اليوم السابع لنذكر أننا ننتمي إلى السماء وأننا سننطلق للسماء، فيوم السبت عطلة عن العمل ويوم عبادة لنذكر الله.
  5. تركيز السفر على الموت يأتي من المنطلق السابق. فالهدف من أن نضع الموت أمام عيوننا دائما ليس هو أن ننظر إلى الحياة بمنظار مظلم، ولكن لترتفع قلوبنا ومشاعرنا إلى ما وراء الموت، فهناك حياة أخرى وهى أبدية نترجاها بفرح.
  1. لمن يوجه هذا السفر:

يوُجَّه السفر للإنسان الطبيعي (أى من لم تعمل فيه النعمة عمل التجديد)، لكل إنسان تحت الشمس، وذلك حتى يدرك الإنسان الطبيعي الذي يهتم بالعالم، أن العالم الذى هو رجاءه الوحيد هو عالم باطل، فيسعى ليجد طريق الله فيجد أن الله مصدر غناه وشبعه فيحبه، هو عظة عملية للتوبة لكل إنسان، لذلك لم يستخدم السفر تعبير يهوه الخاص بشعب الله وإنما استخدم تعبير ألوهيم الخاص بالله كخالق لكل البشر وإله لكل العالم. وإصطلاح تحت الشمس تكرر 29مرة. وهو يشير لجميع بني البشر. واصطلاح تحت الشمس هو ما عبر عنه العهد الجديد بقوله "العالم". ومن هم تحت الشمس ( والشمس تشير للتجارب والألام)؟ هم كل البشر في العالم. أما شعب الله الذي إتحد بالمسيح شمس البر هم فوق الشمس فلقد أجلسهم المسيح إلههم في السمائيات (أف6: 2). والملائكة مثلاً هم في عالم فوق الشمس يعملون بلذة وبلا تعب، وبالنسبة لشعب الله فهم في عزاء وسلام وفرح كثمر للروح القدس الذي فيهم، وهذا ما يعزيهم وسط الألام. وبنفس المفهوم تتكرر كلمة تحت السماء وكلمة على الأرض إشارة لكل إنسان في العالم ولكن شعب الله يصير هو نفسه سماء حيث يقام ملكوت الله في داخلهم (لو21: 7)، وكل إبن لله لا يخضع لشهوات جسده (الأرض إشارة للجسد) بل يرتفع فوق شهواته الزمنية.

  1. الله خلق العالم فكان حسن جداً. ولكن لعن الله الأرض بسبب الخطية. وهذا السفر الذي نكتشف فيه عدم راحة الإنسان بكل وسيلة عالمية يفسر نتائج هذه اللعنة. وكانت الخطية هي إنفصال عن الله. والسفر يكشف مدى تفاهة الحياة خارج دائرة محبة الله ونعمته. ويتضح أنه لا شبع خارج دائرة محبة الله، كما قال السيد المسيح "من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً" (يو13: 4). ومهما تعب الإنسان في عمله لن يجد شبعاً، وهذا ليس معناه أن الله يريد أن يحطم إمكانياتنا البشرية بل هو يريد أن يقدسها ويكملها بأن يشترك في العمل معنا، كما نصلي في أوشية المسافرين "اشترك يا رب في العمل مع عبيدك في كل عمل صالح" وكما يبارك الكاهن الشعب عند إنصرافهم بقوله "محبة الله الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة وموهبة وعطية الروح القدس تكون معكم" (2كو14: 13). فالله يريد أن يكون شريكا لنا فى كل أعمالنا فيباركها. ولكن مشكلة الإنسان أنه يريد أن يتكل على ذاته في كبرياء ويعجب بذاته ناسباً كل الفضل لذاته وهذا يفصله عن الله فيشعر بعدم راحة ويحطم حياته ويفسد إمكانياته. ولنفهم أن من يعمل وحده منفصلا عن الله فهو محدود الإمكانيات، أما من يشرك الله فى كل أموره روحية كانت أو مادية، فهو ينطلق إلى اللانهاية فى إمكانياته، لذلك يقول بولس الرسول "أستطيع كل شئ فى المسيح الذى يقوينى" (فى4: 13).
  2. سليمان إفتتح السفر باختباره أن الحياة باطلة وما الفائدة من تعب الإنسان. وهو يختتم السفر بدعوته لكل واحد أن يتقي الله ويحفظ وصاياه فهناك دينونة (13: 12، 14). فخلاصة السفر أن الحياة بملذاتها وثرواتها وحكمتها البشرية بمعزل عن الله إنما هي عبث، أي باطلة. ولا نرى أن سليمان يمنع التمتع بملذات الحياة وراجع (22: 3، 15: 8)، بل هو ضد البخل (1: 6، 2). ولكن سليمان يرى أن يكون كل شئ بتعقل وفي مخافة الله، فالعالم وسيلة يظهر الله بها صلاحه ومحبته للإنسان، ولكن حينما يصير العالم هدفاً للإنسان ينشغل به عن الله يصير العالم باطلاً.
  3. علاقة سفر الجامعة بسفري الأمثال ونشيد الأناشيد.

ونرى في تطور الأسفار الثلاثة مراحل مختلفة مر بها سليمان في رحلة عمره وخبراته.

  1. أعطى الله لسليمان حكمة عجيبة فكتب سفر الأمثال، ولكننا نجد سليمان يسقط كما سقط الكاروبيم المملوء حكمة ومعرفة (هو مملوء عيوناً رمزاً لمعرفته). ومن هنا نرى أن الحكمة وحدها ليست كافية. أما السيرافيم الملاك المملوء حباً نارياً فلم يسقط منهم أحد. ولكن بينما أن الملائكة التي سقطت أي الشياطين لا رجاء لهم في توبة، نجد سليمان في سفري الجامعة والنشيد في مراحل توبته. ولاحظ أنه قيل عن المعرفة "العلم ينفخ" (1كو1: 8). لكن عن المحبة قيل "المحبة لا تسقط أبداً" (1كو8: 13).
  2. في سفر الجامعة يكشف سليمان حقيقة هذا العالم بعد أن اختبره خبرة شخصية ووجد أن الخطية لا تنتج غير الشقاء. ودعا كل واحد للتوبة والرجوع إلى الله. لأنه اكتشف بطلان هذه الحياة. وغلب على هذا السفر نغمة اليأس فهو كان في مرحلة الشك في غفران الله، كان لم يكتشف بعد محبة الله الغافرة.
  3. في سفر النشيد نجد مناجاة الحب مع الله بعد أن اكتشف سليمان محبة الله الغافرة لذلك يبدأ سفر النشيد بقول سليمان "ليقبلني بقبلات فمه لأن حبك أطيب من الخمر" وهذا ما صنعه أبو الابن الضال إذ وقع على عنقه وقبله (لو20: 15). ونجد في هذا السفر سليمان متمتعاً ببركات حلاوة هذه المحبة.
  4. سفر الجامعة بدون سفر النشيد قد يدعو لليأس. أما الذي نراه في ورود سفر النشيد وراء سفر الجامعة، نرى تكاملاً حقيقياً، نرى النمو في حياة التائب وكيف تتحول التوبة إلى فرح حقيقي فالذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج (مز5: 126) نرى الطريق الملوكي، طريق الحب الإلهي دون الارتباك بأمور العالم المفرحة أو المحزنة.
  5. لقد كان سليمان في حكمته قادراً أن يختبر أفراح هذا الحب الإلهي دون أن يجتاز مرارة ألام الخطية لو قرر أولاً أن لا يختبر حياة الخطية. وهذا هو ما حدث لآدم، فلو إختار آدم أن يأكل من شجرة الحياة بدلا من شجرة المعرفة لإستمر فى الفرح والحياة الأبدية بلا موت، وهذا ما زال يحدث معنا حتى الآن.
  6. سفر الجامعة هو دعوة للانعزال عن العالم اذ هو باطل (كما كانت الخيمة في حياة ابراهيم). أما سفر النشيد فيناظر المذبح في حياته، أي شركة حب وفرح مع الله. وإنعزال الإنسان عن المجتمع دون أن يكون متمتعاً بحياة شركة وحب مع الله، فهذا يقوده لليأس.
  7. نرى الآن تسلسلا رائعا للاسفار الشعرية.... فأيوب يشير لإنسان لم يفهم أسلوب الله ولا فكره وما زال يظن أن علامة حب الله له، أنها في عطايا الله المادية. بينما الله يطلب كماله حتي يكون له نصيب في الأبدية، لذلك فأيوب تذمر علي الله حين بدأ الله يكمله بصليب الألم (عب 2: 10) هنا النفس تتساءل لماذا يا رب.... والمزامير نري فيها انسان بدأ طريق الكمال وصارت له شركة صلاة مع الله وهنا نسمع النفس تشتكي لله الذي عرفته من الألام التي تعاني منها. والروح القدس لا يترك النفس بلا إجابات بل يعطيها إحساس بأن الله سيستجيب فتشكر لذلك فكثير من المزامير تبدأ بالشكوى وتنتهي بالشكر والتسبيح.... والامثال نري فيها نتيجة الشركة مع الله ونتيجة الصلاة، وهي إكتساب الحكمة. هنا النفس ما عادت تتذمر على الله. ومثل هذه النفس التي تصلي ولا تتذمر علي الله لا بد وستمتلئ من الروح القدس، وهو روح الحكمة..... والجامعة نرى فيها قمة الحكمة، وأن هذا العالم باطل فمع النمو والإمتلاء من الروح القدس تتفتح الحواس الروحية فتنفتح الأعين وتدرك تفاهة هذا العالم وأنه باطل.... ويأتي النشيد متوجا الجميع كعلاقة حب بين النفس العروس وعريسها المسيح. وهنا إنفتحت الأعين على محبة الله، بل سكب الروح القدس محبة الله في القلب (رو 5: 5 + 2كو 5: 14) والنتيجة أن تبادل النفس عريسها حبا بحب فتقول "من سيفصلنا عن محبة المسيح....".

(رو 8: 35 – 39).

ما وصل اليه سليمان في هذا التدرج، خصوصا علاقة الحب في سفر النشيد يعطي شعور قويا باستحالة هلاك هذه النفس أى نفس سليمان. ولكن لم يذكر الكتاب هذا: -.

  1. فسليمان كان له فرصة للتوبة فهل يضمن أى إنسان أن تكون له هذه الفرصة وأنه لن يموت قبل أن يتوب.
  2. حتى يكمل كل إنسان خلاصه بخوف ورعدة، فإن كان سليمان الحكيم قد سقط فماذا عن أىٍ منا ونحن أقل حكمة منه.
  3. لهذا نفهم أنه إذا أغفل الكتاب عن ذكر شئ فهو يريد أن يقول شئ مهم يجب الإنتباه والإلتفات له.

* نلاحظ فى هذا السفر سليمان الفيلسوف الحكيم المتسائل عن كل شئ، والذى يبحث عن سبب لكل شئ يحدث أمامه، ونجده يتوصل لإجابات عن بعض الأسئلة ويفشل كثيرا فى البعض الآخر، ثم يرى بعض الإجابات بإستنارة إلهية. وهذا هو حال كل إنسان يفكر ويحاول أن يجد رد مقنع لكل حدث أمامه. والحقيقة أننا يجب أن نعترف بأن ما يجرى حولنا من أحداث يستحيل على الإنسان فهمها، ولماذا كانت. ويجب أن نعترف بإرتفاع حكمة الله عن أفهامنا البشرية (رو11: 33 – 36). قال أحدهم من يحاول أن يفهم كل شئ يكون كالنملة التى تطلب وضع كل معلومات الإنترنت فى عقلها. وسليمان مثلاً فى هذا السفر شغله موضوع سعادة الإنسان وألامه بينما يراه بريئا لا يستحق هذه الألام، بينما الظالم مستريح، وكان هذا هو تساؤل كل الفلاسفة بل وكل إنسان، وربما علينا أن نقول بتواضع مع دانيال النبى.

ولكن فى حكمنا على الأمور فلنضع أمام عيوننا أمران بديهيان: -.

1) أن الله صانع خيرات محب للبشر، خلق البشر لأنه يحبهم.

2) الله لا يخطئ، لذلك لا يندم على قرار (رو11: 20).

الإصحاح الأول

العدد 1

آية (1): -

"1كَلاَمُ الْجَامِعَةِ ابْنِ دَاوُدَ الْمَلِكِ فِي أُورُشَلِيمَ:".

كلام الجامعة = هو سليمان الملك. ومعنى إسم سليمان هو "سلام". وفهمنا معنى كلمة الجامعة، ولكن هو أخفى إسمه، فالخطية التي عاشها فترة طويلة حطمت سلامه الداخلي فكيف يسمى نفسه سلاماً وهو في حزن وقلق، بل هو جلب المتاعب لنفسه ولمملكته. واستخدم اسم الجامعة لأن الله ضمه بعد توبته لكنيسته الجامعة، وهو يعظ بخبراته كل الكنيسة الجامعة، وما يكتبه هنا هو ملخص حكمته وخبراته التى جمعها فى حياته، حكمته التى وهبها الله له، وخبراته العملية فى حياته.

ابن داود الملك = هو يذكر بنوته لداود لسببين [1] يوبخ نفسه أن إبن ذلك القديس العظيم قد تاه وإنحرف. [2] ليبعث في نفسه الرجاء أنه كما قبل الله توبة داود سيقبل توبته.

في أورشليم = هذه أيضاً توبيخ لنفسه فهو بخطيته أخطأ في حق أورشليم مدينة الله التي أقامه الله فيها ملكاً على شعبه بعد أن أحسن إليه وأحبه، فصار قدوة سيئة لشعبها.

العدد 2

آية (2): -

"2بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، قَالَ الْجَامِعَةُ: بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ.".

باطل الأباطيل = باطل = hebel معناها بخار أو شئ فانٍ، أو نسمة. كأنه يشبه العالم بنسمة تخرج من فم الإنسان أو بخار يظهر قليلاً ثم يضمحل. وقوله باطل الأباطيل هو للتشديد أي أعظم الأباطيل مثل قوله نشيد الأناشيد بمعنى أحلى الأناشيد. وكلمة باطل تشير لأن العالم زمنى عابر وبلا جدوى على المدى الأبدي. والعالم هو باطل إذا كان الإنسان في استخدامه للعالم بعيداً عن الله، ولو لم يكن هناك حياة في العالم الآخر لكانت حياتنا عدم ولا شئ (مز47: 89). على الإنسان منا أن يفهم أننا موجودين فى العالم الآن لعمل محدد، وبعد أن ننتهى منه ننضم لمن سبقونا فى الفردوس إلى أن تتنتهى صورة هذا العالم ويأتى الرب يسوع فى مجده. وبدون هذا الفهم سنرى العالم حقيقة أنه عبث. وما جعل العالم باطل هو إساءة استخدام الإنسان له. والحياة الروحية مع الله لا تتطلب كراهية العالم بل حب السماء والتمتع بالله المشبع للنفس وهذا ما يعزى الإنسان خلال رحلة ألام هذا العالم. وهذا لا يمنع من أن نستخدم العالم ولكن لا يكون هو هدفنا وشهوتنا. بل لا يكون هو محور تفكيرنا، فلو إنشغلنا فيه وبه لن ندرك الله السماوي، ولكي ندرك الله السماوي علينا أن نهرب أولاً من العالم فى خلوة يومية مع الله لتستنير عيوننا ونفهم ونتعزى ولن يتعزى الإنسان الخاطئ لأنه قد فصل نفسه عن الله مصدر التعزية الوحيد.

لماذا صار الإنشغال بالعالم خطأ؟ الله خلق العالم حسن وصالح، ولكن الإنسان وقد فسد ذهنه وطبيعته وبصيرته الداخلية أساء النظر للعالم وأساء استخدامه فصار باطلاً، فلماذا صار العالم باطلا؟

1) الله خلق العالم خادماً للإنسان فصار هدفا للإنسان يسعى للإمتلاء من كل ملذاته، فحول الإنسان نفسه خادماً للعالم، وصار يسعى للمجد الباطل والأفكار المتشامخة.

2) الله خلقنا لعمل محدد (أف2: 10) ننهيه وننطلق إلى الراحة. وصار الإنسان ينسى هذه الحقيقة ظاناً أنه باقٍ فى العالم للأبد ناسيا أن العالم فترة مؤقتة وأنه ذاهب للسماء مكانه الحقيقى وأننا هنا غرباء. فماذا عملنا لحياتنا المستقبلية فى السماء.

3) الله خلق الإنسان لمجده (إش43: 7) = الله خلقنا ليظهر محبته لنا ونظهر نحن جمال خلقته وينعكس علينا مجده فنتمجد. هذا كفنان يعمل صورا جميلة وتماثيل رائعة وينير المكان ويسقط النور على ما أبدعه الفنان فتظهر عظمة هذا الفنان. والله خلق الإنسان ليس فقط لتظهر فينا عظمة الخالق وقدراته، بل لنفرح فى مجده وننعم بهذا المجد، وهذا كأب غنى جدا، هو ينجب أولادا ليسعدوا ويستمتعوا بهذا الغنى (تك15: 2، 3). والرب يسوع يقول "ليرى الناس أعمالكم الصالحة ويمجدوا أباكم الذى فى السموات"، وكيف نمجده؟ هذا بأن نشهد لجمال ومحبة هذا الآب السماوى فينجذب الكثيرين للإيمان فيتمجد الآب بهذا، إذ سيعكس مجد الآب كل هؤلاء الداخلين للمجد. لكن للأسف صار الإنسان لكبريائه يبحث عن مجده هو بالإنفصال عن الله، وهذا يسمى مجد باطل لأننا سنترك هذا العالم الباطل ونمضى، فبماذا ننتفع بما كنا نهتم به على الأرض.

4) المجد الحقيقى هو أن نحيا فى المسيح وينعكس علينا مجده، ولهذا تجسد المسيح ليمجد طبيعتنا البشرية فيه بعد أن كنا قد فقدناها بالسقوط (راجع تفسير يو17: 5، 17). ويظل كل من يبحث عن مجد لنفسه فى هذا العالم بعيدا عن ثباته فى المسيح فهو يسعى وراء الباطل، هذا هو قبض الريح.

فالعالم ليس شراً في نفسه ولكن استخدام الإنسان يحول الشئ إلى خير أو إلى شر.

العدد 3

آية (3): -

"3مَا الْفَائِدَةُ لِلإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ تَعَبِهِ الَّذِي يَتْعَبُهُ تَحْتَ الشَّمْسِ؟".

سبق سليمان وقال في (أم23: 14) "في كل تعب منفعة" فهل هناك تناقض مع هذه الآية، حين يقول ما الفائدة للإنسان من كل تعبه؟! قطعاً لا يوجد تناقض لمن يفهم غرض السفر. ففي سفر الأمثال يكلم الكسلان ليتحرك ويعمل ويجتهد، وهنا يكلم من يعمل ويجتهد وهو يظن أنه سيعيش للأبد، ويقول لمثل هذا، أنت لن تنتفع بكل ما تعمل تحت الشمس أي في هذا العالم بعد موتك، كل مكاسبك المادية (ثروة وعظمة..) لن تنفعك بعد موتك.. إن لم يكن هدفك في كل ما تعمل هو مجد الله. فلنعمل ونكسب وهدفنا مجد الله. فأنا لابد وسأموت وسيأتي الحساب. والمكاسب المادية ليست دائمة ولا تعطينا اللذة الحقيقية. فتعبنا في حياتنا اليومية لن يشبع النفس ما لم تكن لنا جلستنا اليومية مع الله ونطلب أن يعمل روحه القدوس فينا ويشترك معنا في كل عمل. وهذه هي أهمية وصية حفظ السبت، نعمل 6 أيام واليوم السابع هو لله لنذكر أبديتنا ونرتاح في علاقتنا بالله. الإنسان جسد وروح، فإن ظن أنه روح بلا جسد وتكاسل ولم يعمل وجلس منتظرا أن الكنيسة تعوله، يقول له سليمان "في كل تعب منفعة" كما قالها فى سفر الأمثال. وفى هذا يقول بولس الرسول "إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضا" (2تس3: 10). وإذا ظن الإنسان أنه جسد بلا روح يقول له سليمان ما الفائدة للإنسان من كل تعبه، فهناك أبدية تنتظرك، ماذا أعددت لها. وأيضا فالجسد يشبع بالمادة، أما الروح فلن تشبع سوى بعلاقتها بالله الذى خلقها، وكل شهوات الدنيا لن تشبع الروح بدون الله، ويظل الإنسان فى حالة جوع حقيقى مهما إمتلك إن كان بعيدا عن الله.

الأعداد 4-11

الآيات (4 - 11): -

"4دَوْرٌ يَمْضِي وَدَوْرٌ يَجِيءُ، وَالأَرْضُ قَائِمَةٌ إِلَى الأَبَدِ. 5 وَالشَّمْسُ تُشْرِقُ، وَالشَّمْسُ تَغْرُبُ، وَتُسْرِعُ إِلَى مَوْضِعِهَا حَيْثُ تُشْرِقُ. 6اَلرِّيحُ تَذْهَبُ إِلَى الْجَنُوبِ، وَتَدُورُ إِلَى الشَّمَالِ. تَذْهَبُ دَائِرَةً دَوَرَانًا، وَإِلَى مَدَارَاتِهَا تَرْجعُ الرِّيحُ. 7كُلُّ الأَنْهَارِ تَجْرِي إِلَى الْبَحْرِ، وَالْبَحْرُ لَيْسَ بِمَلآنَ. إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَرَتْ مِنْهُ الأَنْهَارُ إِلَى هُنَاكَ تَذْهَبُ رَاجِعَةً. 8كُلُّ الْكَلاَمِ يَقْصُرُ. لاَ يَسْتَطِيعُ الإِنْسَانُ أَنْ يُخْبِرَ بِالْكُلِّ. الْعَيْنُ لاَ تَشْبَعُ مِنَ النَّظَرِ، وَالأُذُنُ لاَ تَمْتَلِئُ مِنَ السَّمْعِ. 9مَا كَانَ فَهُوَ مَا يَكُونُ، وَالَّذِي صُنِعَ فَهُوَ الَّذِي يُصْنَعُ، فَلَيْسَ تَحْتَ الشَّمْسِ جَدِيدٌ. 10إِنْ وُجِدَ شَيْءٌ يُقَالُ عَنْهُ: «انْظُرْ. هذَا جَدِيدٌ! » فَهُوَ مُنْذُ زَمَانٍ كَانَ فِي الدُّهُورِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَنَا. 11لَيْسَ ذِكْرٌ لِلأَوَّلِينَ. وَالآخِرُونَ أَيْضًا الَّذِينَ سَيَكُونُونَ، لاَ يَكُونُ لَهُمْ ذِكْرٌ عِنْدَ الَّذِينَ يَكُونُونَ بَعْدَهُمْ.".

يقدم الجامعة أمثلة واقعية من الطبيعة تؤكد أن الكل باطل والأمثلة: -.

1) قصر الحياة الزمنية فالشمس تشرق ثم تغرب بسرعة. 2) الحياة الزمنية طبيعتها متغيرة فالريح تأتى مرة من الشمال ومرة من الجنوب. 3) هي تعجز عن إشباع القلب كما أن البحر لا يمتلئ بالرغم من كل الأنهار التى تصب فيه. 4) لا جديد بحق في الحياة. 5) كل ما يناله الإنسان حتى من كرامة أو شهرة يمحوه الزمن بالنسيان ومن هو مشهور اليوم سينساه الجميع غدا.

ففي آية (4) نرى أن فترة استمتاعنا بالأمور الأرضية قصيرة للغاية، فجيل يعيش ثم ينتهي ليأتي محله جيل آخر = دَوْرٌ يَمْضِي وَدَوْرٌ يَجِيءُ، نحن "بخار يظهر قليلاً ثم يضمحل". ولاحظ قوله إلى الأبد = أي لمدة طويلة تستمر حتى اليوم الذي ستحترق فيه الأرض، ونلاحظ تفاهة الإنسان، فهو يذهب سريعاً بينما الأرض المادية قائمة لا تذهب. وفي الآيات (5 - 7): نجد هناك دورات للطبيعة فالشمس تشرق وتغرب ثم تعود لتشرق، والريح تأتي ثم تختفي ثم تعود وهكذا، هي تختفي من مكان لتظهر في مكان آخر، تتحرك في مدارات معينة، وأيضاً المياه تتحرك إذ تتبخر فتصير سُحباً ثم مطراً فأنهاراً وتعود للبحار لتتبخر من جديد. فالظروف الطبيعية حولنا تتغير، ولكن بينما الظواهر الطبيعية تختفي لتأتي وتظهر ثانية فالإنسان يختفي بالموت ولا يظهر ثانية. فحالته أسوأ وأضعف من الطبيعة (هذا من ناحية الصورة الراهنة. ولكن ربما تحمل هذه الصورة رجاءً في القيامة، فإذ يختفي الإنسان بالموت فإنه سيظهر ثانية بعد القيامة، ولكن هذا الإيمان لم يكن واضحاً تمام الوضوح في العهد القديم).

ونفهم أيضاً من صورة التغير في العالم حولنا واضطرابه، أنه عالم مضطرب فهل نتمسك به؟ ولأن الإنسان يذهب ولا يعود إحتجنا لمخلص ليعطينا حياة أبدية.

وفي آية (8) كل الكلام يقصر = وفي ترجمة أخرى "جميع الأشياء مرهقة" أي كل شئ متعب ويقصر عن إشباع القلب. فالنفس المخلوقة على صورة الله لن تشبع بأمور زمنية فانية بل مملوءة تعباً. ولأن الإنسان مخلوق على صورة الله اللانهائى فالإنسان لن يشبعه العالم المحدود، هو لن يشبعه سوى الله اللانهائى. واللانهائية تُشَبَّه بالدائرة لأن الدائرة لا بداية لها ولا نهاية لها، ومهما وضعت من أشكال داخل الدائرة فهى لن تمتلئ، لن يملأ الدائرة سوى دائرة. لا يستطيع الإنسان أن يخبر بالكل = في ترجمة أخرى "لا يستطيع إنسان أن يعبر عنها" فما يدركه الإنسان هو بعض القشور السطحية للحقائق. والمفهوم أن سليمان يشعر بكل أحاسيس الناس وتعبهم وألامهم وعدم شبعهم ومعاناتهم، فالعالم حولهم يتغير ويعود، لكن الانسان يموت ولا يعود، وهذا شئ مؤلم، بل هم في تعب لا يمكن التعبير عنه. العين لا تشبع من النظر = فكل ما في العالم لا يعطي شبعاً، الحواس لا تشبع، فإذا كانت الحواس لا تشبع من العالم، فكيف يشبع العالم الحواس الداخلية والحياة الداخلية هذه التى لا يشبعها سوى الله لأنها مخلوقة على صورة الله. بل الحواس تمل بعد وقت مما تراه، النفس تطلب الآن شيئاً جديداً وتشتهيه وبعد أن تحصل عليه تمل منه ثم تطلب الجديد ثم تمل. والعكس في السماء، فسيكون شعورنا بأن كل شئ جديد، أي نفرح به ولا نمل منه، وهذا معنى أنه سيكون لنا ترنيمة جديدة (رؤ3: 14)، أي هي دائماً جديدة ودائماً مشبعة (راجع 2كو17: 5 + مز3: 40 + رؤ5: 21 + إش19: 43). الإنسان يسعى وراء الشبع من الأمور المادية ولكن الشبع لن نجده في هذا العالم. وفي الآيات (9، 10) نرى أن ظروف الإنسان الخارجية وإمكانياته تتغير ولكن طبيعته وأحاسيسه ودوافعه وغرائزه تبقي كما هي لا تتغير، كل ما هو تحت الشمس لا يشبعه ولا يجد فيه جديداً، يسمع عن شئ جديد فيشتهيه ويفرح به ثم يمل منه، كالطفل يشتهي لعبة جديدة يفرح بها لدقائق ثم يلقيها ويمل منها. وكثيراً ما يشعر الإنسان بالحاجة إلى التجديد، فيطلب ما هو جديد لمجرد أنه جديد ويرفض ما هو قديم لمجرد قدمه، فيجري وراء الجديد كالموديلات الجديدة والتعبيرات الجديدة ولكنه لا يحس بالإكتفاء وسريعاً ما يعود للملل. أما النفس التي ترتبط بالسيد المسيح عريساً لها [1] تشبع به وتجده دائما جديدا ولا يمل الإنسان من عشرته. وهذا أحد معانى أن المسيح سيكون له "إسم جديد" (رؤ3: 12). [2] يقودها الروح القدس إلى التجديد المستمر في الفكر الداخلي، فلا تشعر بملل أو بضجر بل تكتشف التعزيات الإلهية المشبعة للنفس وتدرك أن ما كان يشغلها سابقا من ملذات هذا العالم إنما هو باطل وقبض الريح.

لذلك يطلب بولس الرسول "تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم"... (رو2: 12). ومثل هذا يحيا متهللاً بالروح كما في السماء. ومثل هذه النفس لا تمسها الشيخوخة.

وفي (11) نرى كيف ينسى العالم الأولين ونحن سوف تنسانا الأجيال القادمة، فماذا ينتفع الإنسان لو ركز اهتمامه على جذب أنظار الناس.

عموما فإن فكرة سليمان انه لاشئ جديد هي حقيقة فإن الانسان لايخلق شيئا جديدا بل يكتشف ما سبق الله وخلقه، الإنسان يكتشف القوي التي خلقها الله فى الطبيعة.

الأعداد 12-18

الآيات (12 - 18): -

"12أَنَا الْجَامِعَةُ كُنْتُ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ فِي أُورُشَلِيمَ. 13 وَوَجَّهْتُ قَلْبِي لِلسُّؤَالِ وَالتَّفْتِيشِ بِالْحِكْمَةِ عَنْ كُلِّ مَا عُمِلَ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ. هُوَ عَنَاءٌ رَدِيءٌ جَعَلَهَا اللهُ لِبَنِي الْبَشَرِ لِيَعْنُوا فِيهِ. 14رَأَيْتُ كُلَّ الأَعْمَالِ الَّتِي عُمِلَتْ تَحْتَ الشَّمْسِ فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ. 15اَلأَعْوَجُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَوَّمَ، وَالنَّقْصُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْبَرَ. 16أَنَا نَاجَيْتُ قَلْبِي قَائِلاً: «هَا أَنَا قَدْ عَظُمْتُ وَازْدَدْتُ حِكْمَةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ مَنْ كَانَ قَبْلِي عَلَى أُورُشَلِيمَ، وَقَدْ رَأَى قَلْبِي كَثِيرًا مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَعْرِفَةِ». 17 وَوَجَّهْتُ قَلْبِي لِمَعْرِفَةِ الْحِكْمَةِ وَلِمَعْرِفَةِ الْحَمَاقَةِ وَالْجَهْلِ، فَعَرَفْتُ أَنَّ هذَا أَيْضًا قَبْضُ الرِّيحِ. 18لأَنَّ فِي كَثْرَةِ الْحِكْمَةِ كَثْرَةُ الْغَمِّ، وَالَّذِي يَزِيدُ عِلْمًا يَزِيدُ حُزْنًا.".

هناك طريقتين للتفكير [1] أن يفكر الإنسان بعقله معتمدا على حكمته، وهذه الطريقة لها عيوبها، فمهما كانت حكمة الإنسان فهى محدودة، لذلك هذه الطريقة تقود لإستنتاجات خاطئة بل تقود لليأس. [2] أن يفكر الإنسان وهو يصلى فيشرك الله معه فى التفكير، والله غير محدود وقادر أن يرشد الإنسان لأشياء لا يمكن له أن يدركها وحده، بل هو يعطى الإنسان عزاء وراحة حتى لو تحل المشكلة التى يصلى من أجلها، لكن اله سيعطيه مشاعر سلام وتسليم أنه سوف يحل له المشكلة.

هنا نجد سليمان يقدم برهانين آخرين لإثبات أن الكل باطل.

[1] إختباره الشخصي. [2] أشياء يتوهم الناس أنها فيها سعادة للبشر والعكس صحيح مثل المعرفة. وفي (12) كنت ملكاً = الفعل في العبرية يعني كنت ولا أزال ملكاً، وهو إستخدم هذا الأسلوب للتواضع بمعنى أنا غير مستحق لهذا المركز فبعد سقوطي أنا الآن لست سوى واعظ يحذركم من سلوك نفس الطريق الذي سلكته. فمع كوني جامعة أي جامع كل الحكمة وكوني ملكاً على أورشليم فأنا سقطت وتعذَّبت. وما زاد حزني أنني في وقت سقوطي كنت ملكاً على شعب الله في مدينة الله.

وفي (13) وجهت قلبي للسؤال = هذا سبب حيرة سليمان في هذا السفر، فالله أعطاه حكمة، هذا حقيقي، ولكنه عوضاً عن أن يرفع قلبه لله ويطلب أن يكشف له الله عن إجابات أسئلته "ومن يعوزه حكمة فليسأل.." (يع1: 5)، أجهد نفسه وأجهد عقله بالإنفصال عن الله، هو حاول بأمانة أن يعرف ويدرس وهو مشهوداً له في الكتاب بنجاحه في علوم الدنيا، ولكنه عوضاً عن الدخول في حوار مع الله واهب الحكمة السماوية استغل حكمته الدنيوية وعلمه في حل مشكلات لا يقوى عقل الإنسان مهما إزدادت معرفته على الغوص فيها، بل كلما تعمق فيها اكتشف ضعفه وعجزه وإزداد غمه، أما حكمة الله فهي تكشف عن ضعفاتنا، لكنها تهبنا رجاءً فلا نيأس ولا نغتم. ولكن سليمان ضل سبيله بسبب خطيته، فالخطية تمنع عني حكمة الله فلا شركة للنور مع الظلمة. (وهو في تعبه قال هو عناء ردئ جعلها الله لبني البشر ليعنوا فيها = هو رأى ألام الإنسان ولحكمته البشرية العجيبة رأي ما لا يراه الإنسان العادي فإكتأب وظن أن الله خلق الإنسان ليتألم عقلياً وجسدياً ونفسياً. والواقع أن الله لم يخلقنا لنعيش في عالم الشقاء والعناء، والألم كان نتيجة لخطية آدم، ويضاف لذلك إساءة إستخدام العالم وهذا أفسد حياتنا، ولكن من يحيا لمجد الله ناظراً للسماء حتى وإن وقعت عليه نفس الآلام فالله يعطيه سلاماً يفوق العقل (فى4: 7)، وتعزية وفرح لا ينزعه أحد، ولكن كيف يتعزى سليمان وهو يخطئ ويبخر لأوثان. وخطأ سليمان أنه جرَّب أن يحصل على التعزية من العالم (نساء وفراديس...) لذلك لم يتعزى. (ونسمع في القداس حولت لي العقوبة خلاصاً). ونحن نحيا الآن: - 1) لنتمم عملا خلقنا الله لنعمله (أف2: 10). 2) خلال فترة حياتنا علي الارض يتمم الله تنقيتنا ويعطينا عزاء لنحتمل ألام هذا العالم. 3) لنا رجاء في ختام هذه الحياة ان نذهب للراحة ثم المجد.

وفي (14) رأي سليمان عجز كل الأنشطة البشرية على الأرض وعقمها عن تقديم شبع حقيقي للنفس أو إصلاح وعلاج النفس داخلياً. ولكن الحزن داخله ليس راجعا فقط لألام هذا العالم بل لأن الخطية منعت عنه تعزيات الله.

وفي (15) الأعوج لا يمكن أن يقوَّم = هذا شعور مُرْ بالعجز عن الإصلاح، وهذا حقيقي، لكن المسيح جاء ليصلح ما عجزت البشرية عن حله وعن إصلاحه. لقد إكتشف سليمان هنا أن الإنسان أعوج وناقص بسبب خطيته، لن تكمله حكمة بشرية مهما سمت ولا معرفة مهما إزدادت. وفي (16، 17) نرى سليمان في حكمته البشرية التي إزدادت عن كل إنسان وأنه إنكب بجدية على الدراسة والقراءة لزيادة معرفته وحكمته وعلمه. ولكنه سعى إلى هذا بعيداً عن الله فتعب.

وفي (18) وجد أنه في زيادة معرفته وحكمته إزداد غماً. ومن المؤكد أن هذه الآية ليست دعوة للجهل. ولكن سليمان هنا يعلن أن الإنسان الذي يعلم أكثر يتألم أكثر... فلماذا؟ * فكلما عرفنا عن الناس أكثر وعن آلامهم سنتألم + * وكلما عرفنا عن شرورهم سنتألم + * كلما عرفنا عن خداعاتهم سنتألم + * وكلما عرفنا حقيقة قلوبنا سنحتقر أنفسنا + * وكلما عرف الإنسان جهله السابق وخطاياه السابقة سيخجل من نفسه + * وكلما إزداد علمه إكتشف جهله السابق وأخطاء شبابه فيخجل من نفسه + * وكلما إزداد علمه إزداد احتياجه للمعرفة وتعطشه بالأكثر للمعرفة، وبعجزه عن المعرفة، وبأن كل ما يعرفه ما هو إلا قشور وهذا يعطيه شعورا بالنقص + * وكلما إزداد الإنسان علماً إزداد إحساساً بالعجز وقلة الحيلة أمام هذا الكم الهائل من المشكلات والألام التي يعجز عن حلها بإمكانياته مهما إزدادت حكمته + * وكلما إزدادت حكمته سيقارن بينه وبين الجهلاء وسيجد أن الموت سيأتي ويسوى بينهما ويقول.... ما الفائدة من كل معرفتى + * بل كلما زادت معرفتنا الروحية إزداد حزننا لعجزنا عن تحقيق المثاليات التي عرفناها + * بل حتي المعلومات الروحية لا تعطي فرحا إن لم يصاحبها عشرة حب مع الله ولكن إن إقتصرت علي الجدال، يدخل الكبرياء وتضيع التعزيات ويزداد الغم + * كلما إزدادت المعرفة يجد الإنسان أن حجم المتغيرات فى حياته ضخم جدا، فكيف يتسنى له إتخاذ قرار سليم وسط هذه المتغيرات، بل يقف عاجزا أمام المستقبل فهذا ليس بيد إنسان، وهذا مما يزيد الغم ألا وهو عجز الإنسان عن إتخاذ قرار سليم.

عموماً هو لا يهاجم الحكمة والعلم والمعرفة بل يعلن عن عجزهم عن تحقيق السعادة والفرح للبشر. والكتاب المقدس عموماً لا يحرمنا من العلم، على ألا يحرمنا العلم من الإتكال على الله وعشرة الله التي تعطي سلاماً للنفس. والكتاب يقول "هلك شعبي من عدم المعرفة" (هو4: 6). فالعالم العظيم أو الفيلسوف لن يكون سعيداً إن لم يكن قديساً. فمن له عِشْرَةْ وحياة مع الله، يعطيه الله سلاماً يفوق عقله المرهق المكدود من البحث والكد. وسيعطيه صبراً على ما سيعرفه ويكتشفه من أحزان وسيعطيه رجاءً في أن الله ضابط الكل هو المسيطر على الأحداث المضطربة التي لا يستطيع هو أن يضبطها. فهناك فرق بين من يبحث ويعمل مستقلاً عن الله وبين من يعمل ويبحث في شركة مع الله. من يعمل بالانفصال عن الله مهما زادت حكمته فهو محدود، ولكن من يعمل في شركة مع الله ينطلق إلى اللا محدودية لذلك تصلي الكنيسة (إشترك يا رب مع عبيدك في كل عمل صالح) "أوشية المسافرين". ولأن سليمان إعتمد على حكمته، تألم وتعب وظل يجول باحثاً إلى أن إهتدى في نهاية السفر.

No items found

الإصحاح الثاني - سفر الجامعة - القس أنطونيوس فكري

تفاسير سفر الجامعة الأصحاح 1
تفاسير سفر الجامعة الأصحاح 1