الإصحاح الأول – سفر الجامعة – القس أنطونيوس فكري

المقدمة

أولا: كاتبه.

ثانيًا: لمن كتب.

ثالثًا: زمن كتابته.

رابعًا: مكان كتابته.

خامسًا: أغراضه.

سادسًا: سماته.

سابعًا: أقسامه.

أولا: كاتبه:

يجمع الآباء على أن كاتبه هو سليمان. وهذا يتضح من الآية الأولى من هذا السفر؛ إذ يقول النص: "كلام الجامعة بن داود" والمقصود بالجامعة سليمان لما يلي:

الجامعة هو الشخص الذي استطاع أن يجمع أقوالًا كثيرة، وأمثالًا مملوءة بالحكمة؛ هي المكتوبة في هذا السفر.

الجامعة يقصد بها اجتماع، أو جماعة، وهي شعب الله المؤمن به، ويمثلهم سليمان، الذي يتكلم بكلام الله.

الجامعة المقصود بها الرجل الممثل للجماعة، الذي يعظ ويخطب ويعلم تعاليم الله للجماعة، أي شعب الله. هكذا يظهر النص العبري واليوناني لكلمة الجامعة.

أخطأ سليمان بعبادة الأوثان إرضاءً لنسائه، ولكنه عاد إلى جماعة الرب، ولإيمانه الأول، وكتب هذا السفر تأكيدًا لرجوعه للإيمان، وهو بهذا يمثل قدوة لكل من يبتعد عن الإيمان، ثم يعود إليه، ويقبله الله ما دام تائبًا، ويعلن إيمانه مرة ثانية.

ثانيًا: لمن كتب:

كتبه سليمان لشعب الله، وإن كانت كلماته تصلح لكل الناس.

كُتب للعالم كله، إذ كان يقرأ في كل الأماكن التي تهتم بالثقافة في العالم كله. ويلاحظ أنه يعبر عن الله ليس بكلمة يهوه التي يعرفها شعب الله، بل بكلمة ألوهيم التي تعنى الله خالق العالم كله.

كتب على وجه الخصوص للشباب، فهو إن كان مرسل لكل العالم، ولكن يركز على الشباب (جا 11: 9، 10؛ 12: 1 - 7).

ثالثًا: زمن كتابته:

كتبه سليمان في أواخر حياته حوالي عام 933 ق. م.

رابعًا: مكان كتابته:

كتبه سليمان في أورشليم، إذ كان يملك وعرشه في أورشليم.

خامسًا: أغراضه:

الله هدفنا: فهو هدفنا الوحيد أثناء حياتنا في العالم، ونستخدم كل ما خلقه الله لنا لنتمتع به، ويساعدنا على رؤية الله، والوصول إليه. وقد ذكر اسم الله في هذا السفر 41 مرة.

الحكمة: يُظهر السفر سمو الحكمة الإلهية، وتدابير الله عن كل حكمة أرضية وبشرية. وسليمان نفسه كان له حكمة إلهية، بالإضافة للحكمة البشرية الموهوبة له من الله. وبالحكمة الإلهية رجع إلى الله بعد ابتعاده عنه فترة أثناء حياته، عندما انشغل بنسائه وعبادة الأوثان، فيذكر السفر الله العالم بالماضى (جا 3: 15)، والمستقبل (جا 6: 12) ومدبر كل الأمور (جا 2: 11، 14).

السعادة: يوضح لنا هذا السفر كيفية الوصول إلى السعادة الحقيقية بالوجود مع الله في الأرض، وفى السماء (جا 5: 19)، وليس في مباهج هذا العالم الزائلة. وكذا لا تستطيع الحكمة البشرية، ولا العمل، ولا النجاح، ولا الغنى أن تعطينا السعادة. وعدم الاعتماد على هذه الأمور يوجه نظر الإنسان إلى أن هذه الأشياء هي عطية من الله (جا 2: 24؛ 5: 19).

بطلان العالم: يكرر كلمة "باطل" 37 مرة في هذا السفر، وكلمة "قبض الريح" 7 مرات؛ ليؤكد أهمية الزهد والنسك عند استخدامنا لهذا العالم الزائل، بالإضافة إلى أن ممتلكات العالم والنجاح قد يكونا سببًا في هلاك الإنسان. وبهذا ينصح السفر كل قارئ أن يبتعد عن الخطية؛ حتى لا يعانى من متاعبها.

التوبة: إن كان الغنى قد أغرى سليمان، فرأينا فيه محبته للقنية، وإشباع شهواته، والزواج بكثرة من النساء، واقتناء خيل كثير للحرب، ولكنه شعر بعد هذا ببطلان العالم، خاصة وأنه سقط في عبادة الأوثان، حيث أرضى نساءه بإقامة تماثيل لآلهتهن الغريبة، ولكنه تاب في آخر حياته، وترك كل هذا الشر، وكتب سفر الجامعة دليلًا على توبته، وليحث كل إنسان على التوبة والرجوع لله مثله؛ لأن الله هو الديان العادل (جا 11: 9).

الخلوة: تكررت كلمة "ناجيت قلبى" 7 مرات في هذا السفر؛ ليؤكد سليمان أهمية الخلوة، والإنفراد مع الله؛ ليكشف له الله الحقيقة، ويتوب عن خطاياه، ويزهد في هذا العالم؛ ليرجع إلى الله، ويحيا معه، ويتمتع بعشرته.

الموت والأبدية: يدعونا السفر لتذكر الموت حتى لا نتعلق بإغراءات هذا العالم الزائل، بل ننظر إلى هدفنا، وهو الله، ونستعد للأبدية السعيدة، التي وضع الله الاشتياق إليها في قلوبنا (جا 3: 11).

جهل الإنسان: يظهر السفر أن الإنسان لا يعرف ما هو لصالحه، واختياراته غالبًا خاطئة، فلا يعمل ما هو الأفضل له (جا 7: 1؛ 11: 10). وذلك بسبب عدم فهمه لغرض حياته، وابتعاده عن الله.

سادسًا: سماته:

1 - يعتبر سفر الجامعة أحد الأسفار التعليمية والحكمية في العهد القديم لأنه مملوء من الحكمة والتعاليم الحياتية الضرورية. والأسفار الحكمية في العهد القديم هي أيوب والمزامير والأمثال والجامعة ونشيد الأنشاد والحكمة وحكمة يشوع بن سيراخ.

2 - علاقة سفر الجامعة بسفرى الأمثال ونشيد الأنشاد:

أ - حالة الكاتب:

+ كان سليمان في عظم حكمته في سفر الأمثال.

+ وكان سليمان في عمق توبته في سفر الجامعة.

+ أما في سفر نشيد الأنشاد فكان في قمة حبه لله.

ب - الهدف:

+ سفر الأمثال دعوة للنسك.

+ وسفر الجامعة دعوة للزهد.

+ أما سفر نشيد الأنشاد فهو دعوة للإتحاد بالله.

جـ– غرض السفر:

+ يميل سفر الأمثال إلى تقديم إرشادات في الأخلاق والسلوك.

+ وسفر الجامعة يقدم خبرات في مفاهيم الحياة ونتائج السلوك.

+ أما سفر نشيد الأنشاد فيعلن علاقة النفس بالله بطريقة رمزية.

د - درجات الحياة الروحية:

+ يقدم سفر الأمثال الخطوة الأولى، وهي اكتساب الفضيلة.

+ وسفر الجامعة يحث على الاهتمام بالعمق وإهمال المظاهر الباطلة في الحياة.

+ أما سفر نشيد الأنشاد فيسمو بنا إلى إدراك ما وراء الحواس، أي جمال الله غير المنظور.

3 - الواقعية: تظهر في هذا السفر سمات اليأس، ويغيب الفرح والتسبيح والشكر، إذ ينظر إلى كل الأمور بواقعية؛ لأنها ستنتهي بالموت. وهذا لكي ما يرفع أنظار الإنسان إلى ما وراء الموت، وهي الحياة الأبدية السعيدة، فيحيا الإنسان هنا على الأرض مع الله، فيبتهج قلبه به، ولا ينزعج من بطلان هذا العالم.

4 - السلبية والإيجابية: يغلب على هذا السفر الجانب السلبى؛ لأن نهاية كل شيء الموت، وبطلان كل أعمال العالم، ومقتنياته، ومباهجه، ولكن في نفس الوقت يظهر الجانب الإيجابى في التطلع إلى الحياة بكل ما فيها بأنها عطية من الله (جا 2: 24). ويظهر أهمية مخافة الله (جا 12: 13).

5 - لغة السفر: يعترض البعض على أن كاتب السفر هو سليمان؛ لوجود كلمات أجنبية عن اللغة العبرية، حتى أن البعض يظن أنه كتب في عصر تالى لسليمان. ولكن الرد على هذا هو أن سليمان تزوج بنساء أجنبيات، فاكتسب كلمات كثيرة غريبة عن اللغة العبرية، ظهرت في هذا السفر.

6 - البشر: تحدث عن صفات البشر والاختلافات بينهم، فيحدثنا عن:

أ - الصديق والشرير (جا 9: 2).

ب - الملوك والعبيد (جا 10: 16).

جـ - الظالم والمظلوم (جا 4: 1؛ 5: 7).

د - الأغنياء والفقراء (جا 5: 11).

هـ - الخاضع والمتمرد (10: 4 - 7).

و - القنوع والمتذمر.

ز - الطموح واليائس (جا 1: 13؛ 2: 1 - 3؛ 3: 11).

7 - تعبيراته: يلاحظ أن تعبيرات السفر له معانى خاصة، ستظهر بالتفصيل أثناء التفسير، ولكن نشير إلى هذه التعبيرات حتى يسهل فهم السفر.

أ - تعبيرات قد تفهم خطأ: من هذه التعبيرات:

+ الحزن: "الذهاب إلى بيت النوح خير من الذهاب إلى بيت الوليمة" (جا 7: 2) والمقصود ليس الحزن والكآبة، بل الحزن المقدس، أى التوبة.

+ اليأس: "فتحولت لكي أجعل قلبى ييئس من كل التعب الذي تعبت فيه تحت الشمس" (جا 2: 20) وليس المقصود عدم الجهاد الروحي، ولكن عدم الاتكال على قوة الإنسان وحده.

+ الحياة الأبدية: "لأن ما يحدث لبنى البشر يحدث للبهيمة" (ص: 19). وليس المقصود عدم وجود حياة أبدية، ولكن هذا تساؤل جال بخاطر سليمان عندما كان منغمسًا في الخطية، مبتعدًا عن الله، لكنه عاد إلى الله بالتوبة، وكتب الحل في نفس الإصحاح في (جا 3: 19 - 22).

ب - تعبيرات شائعة في السفر:

+ باطل: ويقصد العالم بدون الله.

+ تحت الشمس: الإنسان الطبيعي في آلامه وتجاربه.

+ تحت السماء: الحياة المادية فقط دون الارتفاع للسماويات.

+ على الأرض: حالة الانغماس في الشهوات المادية.

+ باطل الأباطيل: قمة الضياع والفساد.

+ قبض الريح: عدم الفائدة.

+ ناجيت قلبى: التأمل الروحي.

الأَصْحَاحُ الأَوَّلُ

بطلان العالم.

1 - كَلاَمُ الْجَامِعَةِ ابْنِ دَاوُدَ الْمَلِكِ فِي أُورُشَلِيمَ: 2 - بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، قَالَ الْجَامِعَةُ: بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ. 3 - مَا الْفَائِدَةُ لِلإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ تَعَبِهِ الَّذِي يَتْعَبُهُ تَحْتَ الشَّمْسِ؟ 4 - دَوْرٌ يَمْضِي وَدَوْرٌ يَجِيءُ، وَالأَرْضُ قَائِمَةٌ إِلَى الأَبَدِ. 5 - وَالشَّمْسُ تُشْرِقُ، وَالشَّمْسُ تَغْرُبُ، وَتُسْرِعُ إِلَى مَوْضِعِهَا حَيْثُ تُشْرِقُ. 6 - اَلرِّيحُ تَذْهَبُ إِلَى الْجَنُوبِ، وَتَدُورُ إِلَى الشَّمَالِ. تَذْهَبُ دَائِرَةً دَوَرَانًا، وَإِلَى مَدَارَاتِهَا تَرْجعُ الرِّيحُ. 7 - كُلُّ الأَنْهَارِ تَجْرِي إِلَى الْبَحْرِ، وَالْبَحْرُ لَيْسَ بِمَلآنَ. إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَرَتْ مِنْهُ الأَنْهَارُ إِلَى هُنَاكَ تَذْهَبُ رَاجِعَةً. 8 - كُلُّ الْكَلاَمِ يَقْصُرُ. لاَ يَسْتَطِيعُ الإِنْسَانُ أَنْ يُخْبِرَ بِالْكُلِّ. الْعَيْنُ لاَ تَشْبَعُ مِنَ النَّظَرِ، وَالأُذُنُ لاَ تَمْتَلِئُ مِنَ السَّمْعِ. 9 - مَا كَانَ فَهُوَ مَا يَكُونُ، وَالَّذِي صُنِعَ فَهُوَ الَّذِي يُصْنَعُ، فَلَيْسَ تَحْتَ الشَّمْسِ جَدِيدٌ. 10 - إِنْ وُجِدَ شَيْءٌ يُقَالُ عَنْهُ: «انْظُرْ. هذَا جَدِيدٌ! » فَهُوَ مُنْذُ زَمَانٍ كَانَ فِي الدُّهُورِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَنَا. 11 - لَيْسَ ذِكْرٌ لِلأَوَّلِينَ. وَالآخِرُونَ أَيْضًا الَّذِينَ سَيَكُونُونَ، لاَ يَكُونُ لَهُمْ ذِكْرٌ عِنْدَ الَّذِينَ يَكُونُونَ بَعْدَهُمْ.

العدد 1

ع1:

الجامعة: هو سليمان؛ لأنه تميز بحكمة عظيمة وهبها الله له، فاستطاع أن يجمع حكم، وأمثال كثيرة مفيدة (جا 12: 9). ولفظ جامعة مفهوم منها أنه جامع لحكم كثيرة، والتاء للمبالغة. ويمكن للقارئ أن يرجع للمقدمة لمعرفة المزيد عن تسمية الجامعة.

أخفى سليمان اسمه، الذي معناه سلام، لأن الخطايا التي سقط فيها دمرت هذا السلام. فعندما عاد بالتوبة إلى الله استخدم اسم الجامعة، معلنًا عن نفسه أنه مجرد جامع للحكم والأقوال، فهذا اتضاع منه. وإعلان أيضًا أنه قد عاد بالتوبة إلى شعب الله، الذي هو جماعة المؤمنين.

لعل سليمان يكون قد جمع الشعب وتلا عليهم هذه الحكم المكتوبة هنا في هذا السفر؛ لأنه شعر أنه بخطيته قد يكون أعثر الكثيرين، فعندما تاب جمع الشعب؛ ليقودهم للتوبة، والحياة مع الله، كما يظهر من هذا السفر.

ابن داود: ينسب سليمان نفسه إلى داود أبيه؛ لأنه قديس عظيم، بالإضافة إلى أن داود أخطأ خطأً كبيرًا، ولكنه تاب توبة عظيمة، فسليمان أيضًا الذي أخطأ خطأً عظيمًا يعود إلى القداسة والحياة مع الله مثل داود أبيه.

ملك أورشليم: يُذكر سليمان نفسه، وشعبه بأنه الملك، أي المسئول عن رعاية شعبه، وقيادته في طريق الله، ولذا يكلمهم بكلام الله الذي في هذا السفر.

وهو أيضًا ملك على أورشليم المدينة المقدسة، التي فيها هيكل الله، فيلزم أن يتميز بالقداسة، التي عاد إليها بالتوبة.

العدد 2

ع2:

كلمة "باطل" معناها لا فائدة منه، وفى الأصل العبري معناها "بخار"، أي يشبه الهواء الخارج من أنف الإنسان، فهو بلا فائدة.

والمقصود "بباطل الأباطيل" أنه باطل جدًا، فهي صيغة مبالغة للدلالة على كمال البطلان.

والمقصود بـ "الكل باطل" كل ما في العالم؛ لأنه زائل، إذ أن الله وحده هو الخالد، وكل من يؤمن به، ويحيا معه. ومن ناحية أخرى كل شيء باطل إذا كان بعيدًا عن الله منفصلًا عنه.

وإن قال إنسان كيف تكون خليقة الله التي خلقها باطلة؟ نقول أن الخليقة كلها صالحة؛ لأنها من يد الله، ولكن الإنشغال بها بعيدًا عن الله هو الذي يعطلنا عنه، ولذا فهي باطلة.

هذا الفكر وهو بطلان العالم عرفه داود والآباء، وأعلنه داود في مزاميره، فهو حقيقة واضحة في الكتاب المقدس كله (مز119: 37).

هذه المشاعر التي أعلنها سليمان ببطلان العالم ليست وليدة حدث، أو موقف معين، بل هي خلاصة خبرته في الحياة، أعلنها في نهاية حياته؛ لأن أي انفعال عاطفى يهدأ مع الوقت، أما الحقيقة الثابتة، فتدوم، وإن كانت من الله، كما في حالة سليمان تدوم إلى الأبد.

العدد 3

ع3:

يوضح هنا سليمان حقيقة، وهي أن كل ما يُعمل تحت الشمس، أي على الأرض لا منفعة منه في السماء، فهو باطل في حد ذاته، ولكن إن كان يمجد الله يكون له منفعة عظيمة.

والمقصود تحت الشمس، أي على الأرض، وليس في السماء؛ لأن كل ما يُعمل في السماء هو بلذة، وبلا تعب، وله منفعة، أي الصلاة وتسبيح الله. وكذا كل ما عمله الإنسان على الأرض طاعة لوصايا الله، ومحبة فيه؛ كل هذا يتمتع به الإنسان في السماء.

وإن كان سليمان في سفر الأمثال قد قال "فى كل تعب منفعة" (أم14: 23)، فهو بهذا يظهر أهمية العمل لأجل الله، ويقاوم الكسل، وبالتالي فهو لا يعارض نفسه عندما يذكر بطلان كل ما يعمل تحت الشمس.

والمقصود أيضًا بتحت الشمس هو العالم، الذي يحيا فيه كل إنسان يتعرض للتجارب؛ لأن الشمس بحرارتها الشديدة ترمز للتجارب، أي أن الكل يحيا على الأرض، ويتعرض للتجارب، فأعماله التي يعملها لاقتناء المال، أو المركز، أو الشهوات لا فائدة منها إذ قد تأتى بتجربة تحرمه منها، وإن لم يحدث هذا فسيتركها حتمًا بموته، فهي باطلة؛ لأنها لا توصله إلى الملكوت.

وقد تكررت كلمة "تحت الشمس" في هذا السفر 28 مرة، ولم تذكر في أي سفر آخر من أسفار الكتاب المقدس؛ لأن هذا السفر يهتم بإعلان بطلان العالم، والحاجة إلى التوبة والنظر إلى الأبدية.

العدد 4

ع4:

دور: جيل.

تؤكد هذه الآية بطلان كل ما يُعمل على الأرض، فالحياة الزمنية المتمثلة في الأجيال المتعاقبة تنتهي، أي يمضى الجيل تلو الجيل بكل البشر الذين عاصروه، وبأعمالهم الكبيرة والصغيرة، وتظل الأرض التي عاشوا عليها ثابتة، أي أن الحياة الزمنية تزول، ولا يبقى منها إلا محبة الله، والاستعداد للأبدية.

والإنسان الذي يستغل الأرض بكل ما عليها من ماديات، ستنتهي حياته، ولا يستفيد شيئًا منها، أي يترك الأموال، والمقتنيات، أما الأرض فتظل موجودة ليأتى عليها أجيال أخرى. وفى النهاية تزول الأرض نفسها؛ لتظهر الأرض الجديدة، وهي ملكوت السموات، وبهذا يتم القول الموجود في هذه الآية: أن "الأرض قائمة إلى الأبد".

هذا هو الدليل الأول على بطلان العالم، وهو زوال الإنسان، وبقاء الأرض، فالإنسان عمره قصير بالنسبة للأرض التي تدوم سنوات طويلة، وفى يوم الدينونة ستتحول إلى أرض جديدة روحية يحيا فيها أولاد الله.

إن كان الجيل قد مضى وترك كل أملاكه الأرضية، ولم يأخذ منها شيئًا، والجيل الحاضر سيترك أيضًا كل أملاكه الأرضية، فلماذا يتعلق الإنسان بالأرضيات؟ ألا ينظر من الآن إلى الأبدية!

إن تعاقب الأجيال، التي يعمل فيها كل جيل مفاسد كثيرة أمام الله على الأرض، ونتساءل كيف احتمل الله رؤية كل هذه الخطايا؟ إن طول أناته عجيب، لماذا لم يفنِ العالم؟ والجواب بالطبع هو محبته، وإعطاؤه فرصة للبشر ولو القليل منهم، الذين يحيون معه بإيمان، وطاعة لوصاياه؛ حتى يسلكوا بالحق، ويجدوا مكانًا لهم في السماء، أي أنه من أجل البقية القليلة التي تحب الله، يطيل الله أناته على كل البشر لعلهم يتوبون.

الأعداد 5-7

ع5 - 7:

:

والدليل الثاني على بطلان العالم يظهر في هذه الآيات، وهو التغير الدائم للماديات، وعدم ثباتها، كما يظهر فيما يلي:

أ - الشمس:

تشرق كل يوم، ثم تسرع إلى الغرب؛ لتعود إلى حيث كانت عندما أشرقت، وتتوالى الأيام والشمس تتغير، وتتحرك كل يوم من الشرق إلى الغرب تظهر في النهار، وتختفى في الليل، فهي ليست ثابتة في مكانها.

هكذا أيضًا الإنسان مثل الشمس، يولد ويحيا عمره على الأرض، ثم يغرب أي يموت، ولذا ينبغى أن يستغل عمره ليستعد فيه للوجود الدائم مع الله في الأبدية. فالإنسان من الناحية المادية يولد، أي يشرق، ثم يموت ويختفى من الوجود، ولكنه إن كان مؤمنًا بالله، ويحيا معه تمتد حياته إلى الأبد، ولكن في مكان آخر أسمى هو الفردوس والملكوت. هذا ما أنعم به الله علينا من خلال الصليب والفداء.

ب - الريح:

تتحرك نحو الجنوب، ثم تدور إلى الشمال، وبعد هذا تعود إلى الجنوب، وهكذا تتغير بحركتها، ولا تثبت أبدًا. وهذا يدلل على تغير العالم وبطلانه، والثابت الوحيد هو الله.

حـ - الأنهار:

مياه الأنهار تجرى نحو البحار، ثم تتبخر بفعل الشمس وحرارتها، فترتفع إلى السماء وتكون السحب، وتعود هذه السحب تتكثف لتسقط كأمطار، وتملأ الأنهار، ثم تتحرك مياه الأنهار ثانية نحو البحار، ولا تهدأ أبدًا. والبحر ليس بملآن لأن مياهه تتبخر، ثم تتكثف لتسقط في شكل أمطار. هذه هي حركة المياه، وهي متغيرة، فلا نتعلق بها، ولكنها صورة من صور أعمال الله؛ لتُظهر حكمته، وتجعلنا نتعلق به، ونحبه، ونشكره، ولا نتعلق بالماديات في حد ذاتها.

يُفهم من كل ما سبق أن الطبيعة متغيرة، وكل ما في العالم لا يثبت أبدًا، فلذا ينبغى ألا يتعلق قلب الإنسان بشهوات العالم الزائلة، بل يملأ قلبه بمحبة الله، ويشكره كل حين، ويحيا ثابتًا مطمئنًا بين يديه.

العدد 8

ع8:

الدليل الثالث على بطلان العالم هو أن الحواس لا تشبع. فحواس الإنسان الخمسة، أهمها العين والأذن. والعين لا تشبع من المناظر التي تراها، فهي تعجب بما تراه، ولكن سرعان ما تشتهى مناظر جديدة، وكذا الأذن أيضًا تُعجب بما تسمعه، ثم تطلب الجديد، لأن الإنسان وإن كان له حواس محدودة، ولكنها خلقت على صورة الله الغير محدود، فتميل إلى اللا محدود بشهوة الجديد دائمًا.

أما الحواس الداخلية، أي البصيرة، والأذن الداخلية، فهذه لا يشبعها إلا الله. فإذن الماديات لن تشبع الإنسان، الله وحده هو الذي يشبعه، فالعالم باطل وزائل.

أما في السموات فكل شيء جديد، فيسمع الإنسان الجديد في السماء؛ ترنيمة جديدة (رؤ14: 3) ويشترك فيها، ويشعر دائمًا أنها جديدة، أي متجددة، فيفرح ويشبع إلى الأبد.

الأعداد 9-10

ع9 - 10:

الدليل الرابع على بطلان العالم هو عدم وجود جديد، أي أن كل شيء متكرر كان قديمًا، ثم نكتشفه حديثاُ فنظن أنه جديد. وكل ما نعمله اليوم كان يُعمل من قبل، ولو بشكل آخر، وبالتالي فسعى الإنسان نحو الجديد، بكثرة النظر، والسمع، واستخدام الماديات المختلفة، سيمل الإنسان منها سريعًا، فهو وإن فرح بها، ونال لذة مؤقتة، سرعان ما تزول، ويطلب الجديد، ولكن لا يوجد جديد، فيظل في تعاسة دائمة، لأن العالم وكل مادياته عاجز عن أن يسعده سعادة دائمة.

ومن يفتخر أنه قد وجد شيئًا جديدًا، فهو مجرد اكتشاف لشئ كان موجودًا قديمًا، فهو لم يضف شيئًا، وبالتالي يتعرض للملل، مهما كانت اكتشافاته.

ولا يوجد جديد إلا عند الله؛ لأنه هو الكائن الوحيد غير المحدود، فهو يستطيع بروحه القدوس أن يجدد مشاعرنا، ويعطينا أن نتذوق جديدًا من حبه طوال حياتنا، بل وإلى الأبد، كما يقول بولس الرسول "تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم" (رو12: 2) وهذا بالطبع من عمل الروح القدس.

ومهما كان الشئ المادي عظيمًا، لكن يمل منه الإنسان. فالله كان يعطى بني إسرائيل طعاما من السماء جديدًا وطازجًا مع صباح كل يوم، فيكون لكل واحد كما يرغب من الأطعمة المختلفة، وهذا إعجاز يفوق العقل، كما يقول سفر الحكمة بوضوح: "يتضمن كل لذة، ويلائم كل ذوق... فكان يخدم شهوة المتناول، ويتحول إلى ما شاء كل واحد" (حك16: 20، 21)، ومع هذا سئم بنو إسرائيل من المن، ووصفوه بأنه طعام سخيف (عد21: 5).

العدد 11

ع11:

الدليل الخامس على بطلان العالم، هو نسيان لمن قبلهم، مهما كانوا عظماء، وحاولوا تخليد ذكراهم بوسائل مادية كثيرة، فالناس تنسى كل هذا. فمن يقيم مبنى، أو مصنع، أو مدينة، ويدعو إسمه عليها، ينساه الناس مع مرور الزمن، وقد يسرق شخص عمل غيره وينسبه لنفسه.

ويُفهم بالتالى أن من يحاول اليوم أن يقيم عملًا عظيمًا مهما كان قدره، فسينساه الناس مع الوقت، فالاختراعات تتجدد كل يوم، وتمحو ما قبلها. والاكتشافات قد تعلن عكس الحقائق التي استنتجت من قبل، فلا يخلد ذكر أي إنسان، إلا إذا أراد الله تخليده؛ لأنه رجل بار، مثل رجال الله والأنبياء في العهد القديم، وكذا الرسل في العهد الجديد، يضاف إليهم كل الأتقياء والعظماء روحيًا في تاريخ الكنيسة، وكذا كل من عمل عملًا أفاد البشرية على مر التاريخ.

† إن كان العالم باطل، ولا منفعة تحت الشمس، فهيا بنا يا أخى لنحيا مع الله، فنتمتع بالحياة الحقيقية ونحن هنا على الأرض، نتذوق السعادة من خلال عشرة الله، ثم تنتظرنا بعد هذا السعادة الأبدية في الملكوت.

12 - أَنَا الْجَامِعَةُ كُنْتُ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ فِي أُورُشَلِيمَ. 13 - وَوَجَّهْتُ قَلْبِي لِلسُّؤَالِ وَالتَّفْتِيشِ بِالْحِكْمَةِ عَنْ كُلِّ مَا عُمِلَ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ. هُوَ عَنَاءٌ رَدِيءٌ جَعَلَهَا اللهُ لِبَنِي الْبَشَرِ لِيَعْنُوا فِيهِ. 14 - رَأَيْتُ كُلَّ الأَعْمَالِ الَّتِي عُمِلَتْ تَحْتَ الشَّمْسِ فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ. 15 - اَلأَعْوَجُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَوَّمَ، وَالنَّقْصُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْبَرَ. 16 - أَنَا نَاجَيْتُ قَلْبِي قَائِلًا: «هَا أَنَا قَدْ عَظُمْتُ وَازْدَدْتُ حِكْمَةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ مَنْ كَانَ قَبْلِي عَلَى أُورُشَلِيمَ، وَقَدْ رَأَى قَلْبِي كَثِيرًا مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَعْرِفَةِ». 17 - وَوَجَّهْتُ قَلْبِي لِمَعْرِفَةِ الْحِكْمَةِ وَلِمَعْرِفَةِ الْحَمَاقَةِ وَالْجَهْلِ، فَعَرَفْتُ أَنَّ هذَا أَيْضًا قَبْضُ الرِّيحِ. 18 - لأَنَّ فِي كَثْرَةِ الْحِكْمَةِ كَثْرَةُ الْغَمِّ، وَالَّذِي يَزِيدُ عِلْمًا يَزِيدُ حُزْنًا.

الأعداد 12-14

ع12 - 14:

:

ليعنوا: ليتعبوا.

الدليل السادس على بطلان العالم، أن الحكمة البشرية المنفصلة عن الله عاجزة عن إسعاد الناس.

فيعلن سليمان، الذي يدعو نفسه الجامعة؛ لأنه جمع أمثال وحكم كثيرة، ويقول "كنت ملكًا على أورشليم"، وكلمة "كنت" في الأصل العبري تعنى كنت ولازلت. وهو هنا يعاتب نفسه، فكيف يكون ملكًا ممسوحًا من الله، وكذا على مدينة الله المقدسة أورشليم، ومع هذا يخطئ، ويبتعد عن الله؟ إنه في حالة التوبة بعدما عاد إلى الله؛ لذا فهو يعاتب نفسه، ويذكرها بما كان ينبغى أن يكون فيه من الحكمة الحقيقية التي ينالها من خلال علاقته المستمرة بالله.

ويبين سليمان.

أنه وجه قلبه بالحكمة، ويقصد هنا أنه استخدم حكمته البشرية للسؤال والتفتيش عن كل ما في العالم. وكانت النتيجة من أبحاث الحكمة البشرية، وخبرة سليمان أن كل المخلوقات، وما يجرى على الأرض، وما يكتشفه الإنسان، وما يعرفه من معلومات تسبب له عناء وتعبًا كثيرًا، بل شعر أن الله خلق العالم بكل ما فيه ليتعب الإنسان للوصول إلى حقائقه، ولا يجد سعادة في كل هذه الأبحاث والمعرفة، بل يعانى من آلام وأتعاب بلا فائدة. لأن كل شيء في العالم باطل وقبض الريح، فكأن الإنسان يمسك بالهواء فلا يجد شيئًا في يده، فالمقصود أنه لا فائدة من كل هذا التعب.

ما وصل إليه سليمان في هاتين الآيتين هو خبرته من خلال الحكمة البشرية فقط، ولكن بتوبته ورجوعه إلى الله فهم أمورًا أخرى، سيذكرها في نهاية السفر، وهو أن الإنسان الذي يتقى الله، ويحفظ وصاياه سيرى الله في كل شيء في العالم، فيصبح العالم جميلًا، فيجد سعادته في الله خالق هذا العالم، فيشكره، ويسبحه (جا 12: 13).

العدد 15

ع15:

يُقوم: يُصلح.

بعد خبرة سليمان بحكمته البشرية، وإعلانه أن لا فائدة من كل ما يُعمل على الأرض، يقرر أن الأعوج لا يمكن إصلاحه، والناقص لا يمكن أن يجبر أي يظل ناقصًا. هذا هو كل ما يصل إليه العقل البشري بدون الله، فالحكمة البشرية تعلن عجزها، ولا ترى إلا بطلان العالم.

الأعداد 16-18

ع16 - 18:

:

الغم: الحزن الشديد.

الدليل السابع على بطلان العالم هو عجز العلم والمعرفة عن إسعاد الإنسان.

تأمل سليمان في الحكمة، وهذا يبين أن تملكه على أورشليم لم يشغله عن التفكير في الحكمة. فوجد أن الحكمة البشرية لا تعطى السعادة للإنسان، ولا تتميز عن الحماقة في هذا الأمر، فكلاهما يحزن الإنسان. لأن كثرة الحكمة والمعرفة، والعلم تُسبب له الغم، وذلك لما يلى:

كثرة العلم تكشف للإنسان ضعفه ونقائصه، ولا يستطيع بدون الله أن يصلحها، فيزداد حزنه.

يكشف العلم عن أمور ليست متاحة للإنسان، ولا يستطيع أن ينالها، فيحزن. وإن استطاع أن يحصل عليها لا تسعده، فيزداد غمه.

مهما علم الإنسان، وازدادت حكمته البشرية، يجد نفسه لم يصل إلى كل العلم، فيطلب المزيد، ومهما حصل على علم بشرى، لن يصل إلى كمال العلم، فيزداد حزنه.

كل هذا الكلام عن الحكمة البشرية البعيدة عن الله، وليست عن الحكمة التي يهبها الله لأولاده؛ لأن الله عندما يعطى حكمة، يساند الإنسان ويسعده. وسليمان هنا لا يقاوم الحكمة والعلم والمعرفة، ولكنه يظهر ضعفها إن كان بعيدًا عن الله. والأفضل هو أن يكون الإنسان مع الله فتكون له الحكمة التي تسعده، وحينئذ يبحث ويعرف، والله يسانده ويكمل له معرفته، ويعطيه الإحساس بالفرح.

† إن كانت الحكمة البعيدة عن الله والعلم لا تسبب سعادة لك، فلا تتكبر بكثرة معلوماتك، وذكائك، فهذا كله بلا قيمة إن كنت بعيدًا عن الله، والكبرياء تفصلك عن الله، فتصير حزينًا. لذا تُب عن كبريائك، واشكر الله الذي أعطاك المعرفة، فيسامحك، ويسندك، ويفرحك.

No items found

الإصحاح الثاني - سفر الجامعة - القس أنطونيوس فكري

تفاسير سفر الجامعة الأصحاح 1
تفاسير سفر الجامعة الأصحاح 1