تلاميذ الحمل – الباب الثالث – الأرشيدياكون نجيب جرجس

السبعون رسولاً

الحديث الأول: كلمة تمهيدية “وبعد ذلك عين الرب سبعين آخرين” (لو 1:10)

لقد مررنا مروراً سريعاً بتاريخ الاثنى عشر رسولاً, ويلذ لنا أن نمر أيضاً بتاريخ السبعين رسولاً الذين عينهم المخلص لكى يعملوا مع زملائهم فى حصاده الواسع, يهدون العالم إلى الإيمان باسمه, ويؤهلونه لملكوت السموات, وكما لعب العدد (اثنا عشر) أدواره  فى التاريخ فقد لعب العدد (سبعون) أيضاً أدواراً عدة, فالسبعون عدد كامل وهو حاصل ضرب السبعة فى العشرة وكل منهما عدد كامل وقد ذكر أن عدد نفوس بنى إسرائيل التى أتت إلى مصر فى أيام يوسف سبعون نفساً (تك46: 27, خر1: 25). وقد وجد بنو إسرائيل عند إيليم اثنى عشر عين ماء وسبعين نخلة فنزلوا هناك (خر15: 27), وحينما دعا الله موسى إليه أمره بأن يصحب معه هرون وأليهو وناداب ومعهم سبعون من شيوخ إسرائيل لكى يسجد الجميع من بعيد ويكونوا شهوداً عما يرونه (خر24: 1), ولما اتسع العمل على موسى أمره الله أن يأخذ سبعين من شيوخ الشعب ويضع يده عليهم ليأخذوا من الروح القدس الذى عليه ليحملوا معه أعباء العمل (عد11: 16), ولقد تنبأ إرميا بأن مدة سبى شعب أورشليم فى بابل سبعون سنة, وقد قال الله لدانيال حينما توسل من أجل شعبه: “سبعين أسبوعاً قضيت على الشعب لرد سبيهم ومسح قدوس القديسين” (دا 9: 24-27), وحينما أراد الله أن يصور لحزقيال توغل الشعب الإسرائيلى فى عبادة الأوثان وفى المفاسد أراه فى الرؤيا سبعين شيخاً يخرون أمام صور الأصنام والدبابات كأنهم يمثلون الشعب فى معاصيه (حز8: 11), ولقد كان مجلس السنهدريم اليهودى مكوناً من سبعين من الشيوخ.

ألا ترى إذن جلال هذه الصور المتشابهة بين كنيسة العهد القديم وكنيسة العهد الجديد؟! أما كان الاثنا عشر سبطاً يرمزون إلى الاثنى عشر تلميذاً والسبعون شيخاً الذين نابوا عن الشعب يمثلون السبعين رسولاً؟! أفلم تكن الكنيسة القديمة أساساً للكنيسة الجديدة, وهذه بدورها رمزاً للكنيسة المنتصرة فى السماء؟! أو ليست هناك وحدة عجيبة بين أسفار الكتاب, وبين حياة شعب الله فى الماضى وفى الحاضر وفى المستقبل؟! بلى إن هناك هذه الوحدة, وإنها لمعجزة, وأعظم من معجزة, وإن “ابن الإنسان ما جاء لينقض بل ليكمل” (مت5: 17).

الحديث الثانى: إرسال السبعين  (لو10)

أرسل السيد الاثنى عشر رسولاً ليكرزوا فى إقليم الجليل بين شعب اليهود, وهو الآن يرسل السبعين ليكرزوا فى بيرية بين اليهود والأمم. فكرازة الاثنى عشر كانت لتهيئ شعب الله القديم لقبول شريعة العهد الجديد, وكرازة السبعين كانت لتهيئ العالم كله لهذه الشريعة, وبالتالى لتوضح عمومية الدين المسيحى وتعلن أن الخلاص قريب من كل الذين يؤمنون. ولئن بدأ عدد السبعين ضخماً نوعاً ما, ولكن الحقيقة أن الحالة كانت تتطلب هذا العدد لأن بيرية كانت متنائية الأطراف وآهلة بالسكان, زيادة على أن الفترة التى كانت باقية للسيد المسيح على الأرض كانت فترة وجيزة, ويعلل السيد اختياره لهذا العدد الكبير بقوله إن “الحصاد كثير والفعلة قليلون”. وتشمل بيرية الجهات الواقعة شرقى الأردن وهى من اللفظة اليونانية (بيرا) أى عبر, نسبة إلى عبر الأردن وعبر بحيرة طبرية الشرقية, وقد كانت فى التقسيم الذى أجراه موسى من نصيب سبطى رأوبين وجاد ونصف سبط منسى وهى عبارة عن بلاد جلعاد وباشان. وانفرد لوقا بذكر هذه الإرسالية وقد زود المخلص هؤلاء السبعين بنصائح ثمينة تعتبر قانوناً رائداً للعمل الروحى, وتتلخص فى المسائل الآتية:

1 – التعاون المجيد: حيث أرسلهم (اثنين اثنين) لكى يشجعهم على القيام بعملهم الجديد. ولقد قال الحكيم فى ذلك “اثنان خير من واحد لأن لهما أجرة لتعبهما صالحة لأنه إن وقع أحدهما يقيمه رفيقه” (جا4: 8), ولقد كان الرسل بعد حلول الروح القدس يتجولون أحياناً اثنين اثنين كما كان الواحد منهم يعمل أحياناً منفرداً.

2 – غاية الإرسالية: “أرسلهم أمام وجهه إلى كل مدينة وموضع حيث كان هو مزمعاً أن يأتى”, إذن فغاية إرسالهم أن يعدوا له الطريق ويمهدوا له القلوب… ولقد كان المخلص هو العامل فى القلوب, وهو صاحب الكلمة, وصانع الفداء بنفسه, ولكن على عبيده أيضاً أن يعملوا, ولئن كان الغارس ليس شيئاً ولا الساقى لأن الله هو الذى ينمى, ولكن على الغارس أن يغرس وعلى الساقى أن يسقى. ألا يحثنا هذا على أن يؤدى كل منا رسالته, وأن يعمل عملاً لخدمة الكنيسة, وافتقاد النفوس بحسب ما أوتى من مواهب ؟!

3 – مركزهم الدقيق: “ها أنا أرسلكم مثل حملان بين ذئاب”: كحملان من طبعهم الوداعة والنقاوة والسلام, وبين ذئاب من طبعها الخبث والشراسة والوحشية – كحملان بسيطة فى وسط جيل ملتو شرير نجس, هكذا نرى أولاد الله فى كل الأجيال يجابهون وحوشاً, ويناضلون ضد قوات الظلمة, ويحتملون ما يحتملون من الإيذاء والتعيير والاضطهادات والآلام, ولكنهم مع ذلك يحتملون آلامهم صابرين, ويكملون جهادهم راضين مسرورين, حتى إذا ما أتموا رسالتهم الحية خرجوا فائزين منتصرين. “فكونوا حكماء كالحيات” وفى الغالب قد ذكر لهم هذه الفقرة من باب الإيجاز لأنه يعلم أنهم سيتذكرون معها أن يكونوا أيضاً “ودعاء كالحمام” كما سبق فأوصى بذلك الاثنى عشر, لأن وجودهم فى وسط العالم الشرير يتطلب الحكمة المقترنة بالوداعة, والبساطة. الحكمة الإلهية السمائية، لا مكر أهل العالم وخبثهم وتلونهم, وبساطة القلب ووداعة الروح, لا الجبن وادعاء المسكنة والمذلة التى لا تبنى. ومتى اقترنت الحكمة السمائية ببساطة أولاد الله ووداعتهم استطاعوا أن يعيشوا بين الناس وأن يؤدوا رسالتهم بنجاح.

4 – التضحية والاتكال: ولقد أمرهم “لا تحملوا كيساً ولا مزوداً ولا أحذية” ليعطيهم أن يتذرعوا بروح التضحية والبذل وإنكار الذات والمقتنيات, وفى نفس الوقت لكى يلقوا كل همومهم على صاحب الرسالة الذى يرافقهم فى طريقهم ويعتنى بهم.

5 – العزم والجد: ألا إن حياة العمل حياة جادة غير هازلة, حياة عزيمة قوية وإرادة حية، لأن الذين يعملون عمل الله بتهاون وتكاسل وفتور لا يستطيعون أن يضمنوا نجاحاً لعملهم. ولذا يوصى السيد رسله بقوله: “لا تسلموا على أحد فى الطريق”. ولقد كان السلام اليهودى يستغرق وقتاً طويلاً, وتحياتهم تشتمل على أحاديث لا طائل منها, ومعظمها عديم الفائدة. ولقد أمر أليشع تلميذه مرة فى ذهابه ليقيم ابن المرأة الشونمية ألا يسلم على أحد فى الطريق (2مل4: 29). ومن المرجح جداً أن المخلص له المجد قال لمريم المجدلية بعد القيامة “لا تلمسينى لأنى لم أصعد بعد إلى أبى…” (يو20: 17) لأجل هذا السبب أيضاً, حتى لا تتعوق عن حمل بشارة قيامته إلى تلاميذه, لأن الذين يحملون رسالة خطيرة ويؤدون عملاً جليلاً لا يجب أن يسرفوا فى أوقاتهم أو يضيعوا فرصة دون أن ياتوا بأثمار قوية نافعة, والتلكؤ وضياع الوقت ليس من شان العاملين الجادين, بل من شأن المتراخين المتكاسلين.

6 – رسالة السلام: “وأى بيت دخلتموه فقولوا أولاً سلام لهذا البيت”. ذلك لأن صلب الرسالة المسيحية هو السلام. ولقد جال المخلص ورسله والسلام شعارهم. وعلى السلام قامت المسيحية دون أن يعلن أصحابها حرباً أو يشهروا سيفاً وكانت القوة العاملة فيها هى قوة الله لا قوة البشر.

7 – رسالة الدالة والمحبة: “وأقيموا فى ذلك البيت آكلين وشاربين مما عندهم لأن الفاعل مستحق أجرته. لا تنتقلوا من بيت إلى بيت وأية مدينة دخلتموها وقبلوكم فكلوا مما يقدم لكم”. لأنه إن كان الرسل يزرعون بين المؤمنين الروحيات فليس كثيراً أن يحصدوا منهم الجسديات. ولقد قصد الفادى أن يعيش الرعاة والخدام هكذا سواء أكان فى العهد القديم أم في العهد الجديد, لما بينهم وبين الرعية من الصلة والدالة, صلة الأبوة والرعاية, ودالة المحبة وعدم الكلفة لأن المحبة الكاملة تزيل السياجات وتطرح الخوف إلى خارج (1يو4: 18). وقد أوصاهم بعدم الانتقال من بيت إلى بيت حتى لا يتورط المؤمنون فى إقامة الولائم, وحتى تكون إقامتهم شيئاً طبيعياً, فيشعر خدام الكلمة بأنهم ليسوا ضيوفاً ونزلاء, بل أقارب وأحباء.

8 – الخدمة المزدوجة: كانت خدمتهم روحية وجسدية, مباشرة وغير مباشرة. لأنه أوصاهم قائلاً “واشفوا المرضى” وهى الخدمة الاجتماعية الجليلة التى يخففون بها آلام الناس ويسهمون فى مساعدتهم بما أعطوا من مواهب من جهة, ولكى تؤيد الكلمة بالعجائب والمعجزات من الجهة الأخرى. ثم أوصاهم “وقولوا قد اقترب منكم ملكوت الله” وهى الخدمة الروحية التى بعثوا لأجلها. فمن الواجب على الراعى إذن أن يعمل على خدمة الشعب من جميع النواحى بقدر مواهبه وإمكانياته, من النواحى الروحية والجسدية. يتفقد قطيعه ويرشده إلى طريق النور والبر, ثم يقدم له ما يستطيع من الخدمات الاجتماعية التى تساعد على إسعاده وراحته.

9 – مفارقات: ولئن كان للمدن التى تقبلهم الحظ السعيد بإقامة الرسل فيها آكلين وشاربين ومبشرين بالكلمة ومانحين الشفاء للمرضى… فعلى النقيض نرى المدن العاصية التى ترفض الكلمة تهدد بالويل والثبور. لقد أمرهم السيد أن يخرجوا من مثل هذه المدن وينفضوا حتى الغبار العالق بأرجلهم (عد11) حتى لا تكون أية علاقة بينهم وبينها, وحتى يكونوا أبرياء من دمهم بعد أن نادوا فيهم فلم يسمعوا. يا للعجب, إنهم يأكلون ويشربون بدون كلفة على موائد المطيعين الخاضعين, بينما يرفضون حتى الغبار العالق بأحذيتهم من مدن العصاة والمتحجرين, وهكذا الله يرفض معاملة الأشرار وتقدماتهم وعباداتهم المغشوشة لأن “ذبيحة الأشرار مكرهة الرب” (أم15: 8). ثم خصص من هذه المدن العاتية (كورزين وبيت صيدا وكفرناحوم) وتهددها بالدمار والخراب, وتحداها بصور وصيدا اللتين استغرقتا في المآثم والشرور من قديم وأعلن أن صور وصيدا تكون لها حالة أكثر احتمالاً فى يوم الدين مما لكورزين.

10- مكانة الرسالة: “الذى يسمع منكم يسمع منى والذى يرذلكم يرذلنى والذى يرذلنى يرذل الذى أرسلنى”: وهل هناك امتياز أسمى من هذا أن يساوى السيد عبيده بنفسه؟! “الذى يسمع منكم يسمع منى” ما أجدر بالمؤمنين أن يستمعوا إلى صوت الرعاة والخدام, لأنهم إنما يتكلمون بشريعة الرب ويأخذون مما للمسيح ويخبرونهم. “والذى يرذلكم يرذلنى”: وما أجدر بهم أيضاً أن يقبلوا رجال الله, ويكرموهم, ويطيعوهم, لأنهم فى إكرامهم إنما يكرمون سيدهم, وفى احتقارهم إنما يحتقرون شخصه المبارك.

الحديث الثالث: امتيازات وضمانات

تجول السبعون فى جهات بيرية وبشروا بين نواحيها وجرت على أيديهم عجائب وآيات, فرجعوا فرحين وقالوا للسيد: “يارب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك”, ولذا اعتبروا مقدرتهم على عمل العجائب والمعجزات باسمه منتهى الشرف لهم, ولكن المخلص كشف لهم ما هو أوسع نطاقاً من هذا الشرف, وفى حديثه لهم كشف لهم القناع عن عدة أمور منها:

1 – قوة الشيطان إزاء قوته: قال لهم “رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء” لقد سقط الشيطان قديماً حينما لم يستطع أن يحتفظ برئاسته وأخطأ. وقد استطاع بحيلته أن يسقط أبوينا الأولين, ومن ذلك الوقت وهو يظهر تجبره وينشر سلطانه على جنس البشر, ولكن فى التجسد والفداء انحلت قوة الشيطان وأسقط فى يده, واندحر ذلك الخصم القديم وكسرت شوكته. لقد شهد الملائكة يخدمون سر الفداء, فيؤدون البشارة بميلاد الفادى ثم يعلنون خبر هذا الميلاد العجيب للرعاة, وسمع شهادة الآب عند الأردن, ورأى الروح القدس يستقر عليه, ولقد دحره السيد فى كل تجاربه التى أثارها عليه فى البرية حتى قال المخلص “لأن رئيس هذا العالم يأتى وليس له فىَّ شئ” (يو14: 30). من ثم غدا مغلوباً على أمره, مثله كمثل أسد انتزعت مخالبه أو حية كسرت أنيابها. وفى الوقت الذى غُلَّت فيه قوة الشيطان أن السيد تلاميذه بقوة سمائية حيث قال لهم: “ها أنا أعطيكم سلطاناً لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شئ”. ولقد استطاعوا بالفعل أن يتغلبوا على سموم الحياة الطبيعية حتى أن المخلص مرة قال إنهم “يحملون حيات وإن شربوا شيئاً مميتاً لا يضرهم” (مر16: 18) وقد نشبت الحية بيد القديس بولس الرسول ولكنه نفضها دون أن يتضرر بسوء (أع28: 3), كما أنهم استطاعوا أيضاً أن يتغلبوا على الحية القديمة التى هي إبليس مع كل جنودها.

2 – الأجر السمائى: ولئن كانت مقدرتهم على عمل المعجزات نعمة رائعة, وغلبتهم على إبليس وجنوده نعمة أروع, فهناك أجرهم السماوى أروع بما لا قياس له, إذ قال لهم الرب عن هذا الأجر “ولكن لا تفرحوا بهذا أن الشياطين تخضع لكم, بل افرحوا بالحرى أن أسماءكم كتبت فى السموات”. لقد ضحوا بالقليل فكوفئوا بالكثير, تركوا العرض الفانى فكسبوا الملك الباقى, لم تستهوهم الحياة الأرضية. فاستأهلوا للحياة الأبدية!!

3 – مناجاة: لقد كان المجد الذى ناله الرسل عظيم المقدار لدرجة جعلت الفادى المتجسد يناجى الآب ويقول: “أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال”, أى نعم, لقد كشف لهم القناع عن أسرار ملكوت السموات ونالوا نعم العهد الجديد, ونظروا بعيونهم ولمسوا بأيديهم, وسمعوا بآذانهم, ووعت عقولهم ما اشتهى الأنبياء والأبرار أن يروه ولم يروه, وأن يسمعوه ولم يسمعوه، فهنيئاً لكم معشر الرسل, نلتم ما لم ينله الأنبياء قبلكم, وتمتعتم بما خفى عن أبرار وملوك وصديقين كثيرين. لقد رأى هؤلاء الظلال وأما أنتم فقد رأيتم الحقيقة بل عشتم فيها. نظر هؤلاء بعين النبوة والرمز, أما أنتم فقد رأيتم النبوات تكمل والرموز تتم فى شخص الحبيب, فطوبى لكم, و”طوبى للعيون التى تنظر ما تنظرون, وللآذان التى تسمع ما تسمعون!!).

الحديث الرابع

لمحات تاريخية عن حياة بعض الرسل السبعين

لم يذكر الكتاب المقدس أسماء السبعين رسولاً, كما لم يذكر التاريخ القديم أيضاً أسماءهمويقرر يوسابيوس القيصرى فى تاريخه (الكتاب الأول فصل 12) أنه لا يوجد أى بيان عن أسمائهم.

ولعل الرب قد رأى بحكمته ألا يدرج أسماءهم لكى يبين للمؤمنين على مر الأجيال أن عمل الكرازة بالكلمة لم ينته, وإنما الخدمة ممتدة مدى الأجيال, وفى إمكان أولاد الله أن ينضموا لصفوف رسله القديسين ويعملوا على نشر كلمة الله وجذب نفوس كثيرة إلى الرب وإلى التوبة, وقد كتب بعض العلماء قوائم تقريبية للسبعين رسولاً عثرنا على اثنين منها فى كتاب (مصباح الظلمة) للعلامة (ابن كبر), وعلى الثالثة فى خاتمة إحدى طبعات كتاب (اللؤلؤة البهية).

ومن الواضح أن القديسين المذكورين فى القوائم ليسوا جميعاً من السبعين رسولاً الذين عينهم الرب, وإنما بعضهم من السبعين فعلاً, وبعضهم ممن قبلوا الإيمان على أيدى الرسل وكانوا يعاونونهم فى الخدمة وعلى أى حال فإن المجهود الذى بذله هؤلاء العلماء الذين كتبوا القوائم مجهود مشكور مبارك لأنه يعرض على المؤمنين عينات مقدسة لأفراد من رسل المسيح ومن مساعديهم.

وقد رأينا أن ندرج هذه القوائم هنا ليتطلع المؤمنون على أسماء خدام أمناء لربنا فى الكتاب المقدس, وأشار علماؤنا إلى بعض أوجه جهادهم فى عمل الرب, وإلى بعض النواحى الأخرى التى تتعلق بحياة كل واحد منهم.

الفصل الأول

سيرة متياس الرسول

(1) تعرف بالقديس

ولد هذا القديس فى بيت لحم وهو من سبط يهوذا, وقد تتلمذ للسيد المسيح منذ بدء خدمته ضمن السبعين رسولاً, وظل ملازماً له حتى صعوده إلى السماء.

(2) تعيينه ضمن الاثنى عشر (أع1: 8-26)

مر بنا أنه لما كان يهوذا الإسخريوطى قد شنق نفسه, ورأى التلاميذ أن ينتخبوا بدلاً منه, فبينما كان نحو مائة وعشرين من المؤمنين مجتمعين فى علية صهيون وقف بطرس فى وسطهم وقال: “أيها الرجال الإخوة كان ينبغى أن يتم هذا المكتوب الذى سبق الروح المقدس فقاله بفم داود عن يهوذا الذى صار دليلاً للذين قبضوا على يسوع, إذ كان معدوداً بيننا وصار له نصيب فى هذه الخدمة. فإن هذا اقتنى حقلاً من أجرة الظلم وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها. وصار ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم حتى دعى ذلك الحقل فى لغتهم حقل دما أى حقل دم. لأنه مكتوب فى سفر المزامير لتصر داره خراباً ولا يكن فيها ساكن وليأخذ أسقفيته آخر.

فينبغى أن الرجال الذين اجتمعوا معنا كل الزمان الذى فيه دخل إلينا الرب يسوع وخرج. منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذى ارتفع فيه عنا يصير واحد منهم شاهداً معنا بقيامته (أع1: 16, 22).

ثم أقاموا اثنين, وهما متياس أو (متيا) ومعناه (عطية يهوه) ويوسف الذى يدعى بارسابا أو يوستس وبارسابا معناه (ابن سابا) كما أن يستس معناه (البار), وهو غير يهوذا المسمى بارسابا أحد الأتقياء الذى رافق بولس وبرنابا باقى سفرهما من أورشليم إلى أنطاكية (أع15: 22). وصلى المؤمنون قائلين “أيها الرب العارف قلوب الجميع عين أنت من هذين الاثنين أيا اخترته ليأخذ قرعة هذه الخدمة والرسالة التى تعداها يهوذا ليذهب إلى مكانه”، ثم ألقوا القرعة فوقعت القرعة على متياس, ويقرر القديس (ديوناسيوس الأريوباغى) أن ذلك كان بظهور نور سماوى ساطع وقع على القديس ومن ثم حسب مع الأحد عشر رسولاً.

(2) أعماله التبشيرية

أولاً: عمله فى اليهودية: بدأ القديس عمله فى اليهودية, وفى كبادوكية, وآمن الكثيرون على يديه, ويروى عنه أنه كان يعظ كثيراً على حمل الصليب وإنكار الذات وعلى إماتة النفس المقترنة بأعمال المحبة والإيمان والرجاء.

ذهب إلى بلاد آكلى لحوم البشر وكان من عادة أهلها أن يسجنوا فريستهم نحو ثلاثين يوماً يطعمونها خلالها الحشائش ثم يأكلونها بعد ذلك فألقوا القبض على القديس متياس وقلعوا عينيه ووضعوه فى السجن فشفاه الله. وفى أثناء وجوده فى السجن حضر القديس أندراوس وتلميذه لزيارته ورأيا ما عمله المتوحشون فصليا إلى الله ففجر الله عيناً من الماء أغرقت ما حول السجن وطفت المياه على المدينة فتضايق أهلها وذهبوا إلى القديس أندراوس وتلميذه وطلبوا منهما الصلاة من أجلهم, فصليا, ورجعت المياه عن المدينة, وآمنوا بالسيد المسيح.

ثانياً: عمله فى أفريقيا: قيل إنه ذهب إلى بلاد كوش الحبشة وبشر أهلها, ومنها.

وأخرجوا الرسول متياس من السجن, وتهذبت طباع المتوحشين.

ثالثاً: عمله فى سوريا: وقيل إن هذا الرسول ذهب أيضاً إلى دمشق حيث بشر بالمسيح وهناك قبضوا عليه ووضعوه على سرير من حديد وأوقدوا تحته النيران فلم تؤذه, وكان وجهه يضئ كالشمس حتى تعجب الناس وآمنوا بالمسيح.

رابعاً: تبشيره فى آسيا الصغرى ومعجزة العذراء فى حل الحديد: هناك تقليد يقول إن الرسول بشر فى مدينة اسمها برطس بالقرب من غلاطية (بآسيا الصغرى) وآمن على يديه جمهور كبير من أهلها فاغتاظ الوثنيون ووشوا به لدى الوالى الذى قبض على القديس وأودعه السجن وضيق عليه كثيراً, فصلى القديس إلى الله لكى يخلصه, وسمعت السيدة العذراء بحبس القديس فصلت إلى ابنها الحبيب ليعرفها مكانه فأرشدها إلى المدينة التى كان بها القديس, فتوجهت إليها وتقابلت مع امرأة عجوز كانت قد اعتنقت الإيمان على يدى القديس متياس, ولما سألتها العذراء عن مكان اعتقاله أرتها السجن, ولما شاهدته العذراء مغلقاً بالسلاسل الحديدية المحكمة, صلت إلى الله لكى يذوب (يصهر) الحديد, وتنحل السلاسل, فأجرى الله معجزة باهرة بأنه أذاب جميع الحديد فى المدينة وفتحت أبواب السجن وخرج المعتقلون من السجون. ولما سمع الوالى بهت وأمر بقطع رؤوس المسجونين الهاربين, ولكن الجنود أخبروه بأن السيوف قد ذابت كما أنه قد حضر إليه لفيف كثير من الشعب يشكون إليه أن أدوات الزراعة والصناعة وغيرها قد ذابت. ولما استفسر عن السر فى هذا أخبروه بأن سيدة مهوبة قد دخلت المدينة وسألت عن سجن متياس ووقفت أمام السجن وصلت صلاة غير مفهومة لديهم, فذاب جميع الحديد فى المدينة واستدعى الوالى القديسة العذراء وسألها:

– من الذى حل الحديد فى المدينة؟ فأجابته

– إنه الإله الحقيقى الذى يبشر به متياس.

وكان للوالى ابن به شيطان فأحضروه أمام البتول فصرخ الشيطان قائلاً: إن هذه هى أم الله الواحد. فانتهرته العذراء, وأمرته بالخروج منه فخرج, وسر الوالى وآمن بالسيد المسيح كما آمن أهل المدينة وطلبوا منها أن تصلى من أجل الحديد فى المدينة, فصلت وعاد الحديد إلى صلابته كما كان مما زاد إيمان أهل المدينة, ومن ثم عمدهم القديس متياس, وبنيت بالمدينة كنيسة عظيمة على اسم السيدة العذراء.

خامساً: خاتمة جهاده: رجع مرة ثانية إلى اليهودية ليبشر, وقيل إنه تنيح فى بلدة فالاون, غير أن الرأى السائد أنه استشهد بأورشليم وذلك بأن حنانيا رئيس الكهنة اغتاظ منه, وهيج الشعب عليه فحكموا برجمه بالحجارة, ولما وصلوا به إلى مكان تنفيذ الحكم, جثا على ركبتيه وصلى من أجل راجميه, وهكذا مات رجماً بالحجارة ونال إكليل الشهادة فى سنة 68م وهناك رأى بأن نهايته كانت ببلاد الحبشة.

وتعيد الكنيسة القبطية له فى اليوم الثامن من شهر برمهات, كما يعيد له الغربيون فى الرابع والعشرين من شهر شباط (فبراير).

 

الفصل الثانى

سيرة القديس مرقس الرسول

(1) كلمة تمهيدية

يلذ لنا أن نتحدث بفخر عن القديس مرقس الرسول الكريم, كاروز الديار المصرية, ذلك الذى له الفضل فى نشر الدعوة فى بلادنا العزيزة, فحمل رسالة الإنجيل وشعلة الإيمان إلى الديار التى وعدها الله بالبركة, فقبل أهلها الإيمان, ونما فيها هذا الإيمان وازدهر, وقامت أمجد كنيسة, الكنيسة التى حافظت على الإيمان المستقيم, وظهر فيها الشهداء والنساك والعباد والمتوحدون والعلماء. وتم وعد الله الصادق: “فى ذلك اليوم يكون مذبح للرب فى وسط أرض مصر وعمود عند تخمها ليكون علامة وشهادة لرب الجنود فى أرض مصر فيعرف الرب فى مصر ويعرف المصريون الرب فى ذلك اليوم ويقدمون ذبيحة وتقدمة وينذرون للرب نذراً ويوفون به فى ذلك اليوم يكون إسرائيل ثلثاً لمصر ولآشور بركة فى الأرض بها يبارك رب الجنود قائلاً مبارك شعبى مصر وعمل يدى آشور وميراثى إسرائيل” (إش19: 19-25).

(2) تعريف بالقديس

كان لهذا الرسول اسمان: أولهما مرقس وهو علم يونانى ومعناه (مطرقة) والثانى يوحنا وهو علم عبرانى معناه (يهوه يتحنن). وأبوه أرسطوبولوس, وأمه مريم (أع12:12). وكان أبواه يهوديين تقيين. ويذكر المؤرخون أنهما كانا على جانب عظيم من الثراء وكانا يسكنان فى ايرباتولوس إحدى بلاد الخمس مدن الغربية الواقعة شمال أفريقيا “وهى قيروان وبرنيقية وسوزوسا ودرنة وبطولمايس”, والخمس المدن تدعى باليونانية (بنتابوليس) ولقد كان الكثيرون من اليهود متغربين فى هذه الجهات وفى غيرها وقتئذ. ويظهر أن بعض قبائل البدو سطوا على والده وسلبوا أمواله, فأصبح فى فقر مدقع واضطر أن يأخذ زوجته وولده ويعود إلى وطنهما فلسطين, وكان هذا بتدبير إلهى حتى تتهيأ الفرصة للقديس لأن يؤمن بالسيد المسيح ويصبح من رسله الأصفياء.

كان لأرسطوبولوس أخ يدعى برناباس وقد تزوج القديس بطرس بابنته, كما كان برنابا الرسول خاله (كو4: 10), ويقال أيضاً إن أرسطوبولوس كان أخا توما الرسول.

ويقول بعض الآباء إن يوحنا (مرقس) كان من الخدام الذين ملأوا الأجران ماء فى عرس قانا الجليل (يو2).

ويقول الآباء إن مرقس هو ذلك الرجل الذى كان يحمل جرة ماء والذى أكل السيد الفصح فى بيته مع تلاميذه (مر14:14) وإنه أيضاً ذلك الشاب الذى كان معه فى البستان فى ليلة الآلام وحينما ألقى اليهود القبض على المخلص ترك إزاره ومضى عرياناً (مر14: 52), كما كان التلاميذ مجتمعين فى بيته بعد القيامة حينما دخل إليهم السيد والأبواب مغلقة (يو21:21), وفى بيته أيضاً حل الروح القدس على المؤمنين فى يوم الخمسين (أع2).

(3) قبوله الإيمان ودعوته

بالنسبة لالتصاق هذا الرسول بالسيد المسيح وتلاميذه, ولأن بيته كان محط رحالهم. بالنسبة أيضاً لقرابته لبطرس فقد قبل الإيمان بالمسيح متأثراً بتعاليمه المحيية, ومعجزاته الإلهية. وقد عينه الرب ليكون من السبعين رسولاً. ولقد دعاه بطرس ابنه (1بط5: 13) بالنسبة لصلة القرابة الجسدية بينهما حيث كان مرقس ابن عم زوجته كما مر بنا من جهة, ومن جهة أخرى ربما كان تعرفه على المسيح عن طريق بطرس كما تعرف نثنائيل عن طريق فيلبس.

(4) مرقس المبشر

للقديس مواقفه الرائعة, ورحلاته التبشيرية الكثيرة وجهاده العظيم فى سبيل نشر الإيمان وتخليص النفوس. ومما يذكر عنه:

(1) بيت القديس ككنيسة:

( أ ) يذكر سفر الأعمال أن الرسل كانوا مجتمعين فى العلية فى أورشليم فى يوم الخمسين حينما حل عليهم الروح القدس وطفقوا يتكلمون بألسنة ولغات, وكانت النهضة الروحية العظيمة للكنيسة المسيحية, وهذه العلية كانت فى بيت مارمرقس الرسول كما مر بنا.

(ب) ولما أودع هيرودس الملك بطرس الرسول السجن لكى يقدمه لليهود ليقتلوه إرضاء لهم, اجتمعت الكنيسة فى بيت مرقس وطفق المؤمنون يصلون بحرارة من أجل بطرس, فأرسل الله ملاكه ونجاه من السجن وأخرجه الملاك خارج الأبواب, ولما وصل إلى بيت مرقس وقرع الباب وفتحوا له بعد تردد ودهشة فرحوا فرحاً عظيماً ومجدوا الله, وقد مر ذكر هذا الخبر فى سيرة القديس بطرس الرسول وذكرت فى سفر أعمال الرسل (12: 1-17).

(2) إيمان أبيه:

كان أبوه يهودياً ولم يقبل الإيمان بالمسيح بعد. وفى يوم كان يسير مع ابنه بجانب نهر الأردن فخرج عليهما أسد ولبوة وخاف أبوه من الوحشين خوفاً عظيماً وأوعز إلى ولده أن يهرب ويتركه هو للوحشين, ولكن القديس طمأن أباه بأن الله سينجيهما من هذين الوحشين, وصلى القديس إلى الله بقوله “يا ابن الله الحى الذى نؤمن به نجنا من هذه البلية وأنقذنا من شر هذين الوحشين” وللحال سقط الوحشان ميتين فاعترت أباه الدهشة وآمن فى الحال بالسيد المسيح وكان يقول لابنه فى نشوة الفرح الروحى العميق: (أنت ولدى ولكنك صرت أبى بالإيمان).

(3) طرف من معجزات القديس:

يروى القديس أنبا ساويرس بن المقفع أسقف الأشمونيين أن القديس مر ببلدة تدعى (ازوتس) وكان أهلها يتعبدون لشجرة زيتون ضخمة وللقمر. ولما رأى الناس يسجدون أمام الشجرة عنفهم على جهلهم وقال لهم. “أية فائدة تجنون من وراء هذه العبادة الكاذبة لشجرة يمكننى أن آمرها فتسقط بقوة إلهى؟”.

فقال الوثنيون له: (نحن نعلم أنك ساحر وقد أخذت السحر عن معلمك الجليلى ولكن لنا إله عظيم وهو القمر وهو الذى منحنا شجرة الزيتون). فقال لهم القديس: ( إننى سأقذف بشجرة الزيتون على الأرض وإن استطاع القمر إعادتها آمنت به وعبدته). وقبل الوثنيون هذا العرض. فصلى القديس إلى الله أن يجعل القمر ينطق ويبين للناس حمقهم وأن يأمر الشجرة بأن تسقط، وللوقت اظلمت السماء فى وسط النهار وظهر القمر فى السماء وسمع منه صوت يقول: (أيها الناس العديمو العقل إنى لست إلهاً يعبد… وما أنا إلا عبد للإله الحى وأحد مخلوقاته, ولست إلا خادم المسيح ربى الذى ينادى باسمه مرقس تلميذه….), وللوقت سقطت الشجرة العظيمة أيضاً فصر القوم على أسنانهم وهجموا على القديس وأودعوه السجن, ولكن القديس رأى السيد المسيح فى حلم فى الليل وهو يقول: (إنى سأخرج من السجن كل معتقل), ولما استيقظ وجد أبواب السجن مفتوحة, وألقى الله على الحرس سباتاً عميقاً فخرج جميع من بالسجن وسلم الوثنيون للأمر الواقع وقالوا لا فائدة من مقاومة الجليلين لأنهم سحرة يعملون بقوة بعلزبول رئيس الشياطين. ولابد أن جمعاً كبيراً آمن بالمسيح، وليس حدوث مثل هذه المعجزات بعيداً, فالله القادر الذى أنطق حمار بلعام لا يعسر عليه أن يسمعهم صوتاً من القمر، ربما عن طريق ملاك أو عن أى طريق آخر… والرب الذى أيبس التينة بكلمته أمر شجرة الزيتون أن تسقط.

(4) وصوله إلى سلاميس:

كان القديس يعمل فى أورشليم وصحب الرسولين بولس وبرنابا إلى أنطاكية ثم ذهب معهما فى رحلتهما التبشيرية إلى سلوكية ثم إلى قبرص ثم إلى سلاميس وبافوس ولما أقلع بولس وبرنابا إلى برجة بمفيلية فارقهما مرقس وعاد إلى أورشليم (أع13: 4-13).

(5) العمل فى قبرص:

أراد القديسان بولس وبرنابا أن يفتقدا الإخوة المؤمنين فى المدن التى بشرا فيها واقترح برنابا أن يصحبا معهما مرقس وأما الرسول بولس فرأى ألا يصحباه بما أنه قد فارقهما فى برجة وحصلت مشادة بين الرسولين فأخذ برنابا مرقس وتوجها للعمل فى قبرص بينما أخذ بولس تلميذه سيلا وتوجها إلى سوريا وكيليكية وقد كان هذا حوالى سنة 49 للميلاد (أع15: 36-40).

(6) عمله فى أفريقيا:

كان لأقاليم أفريقيا النصيب الأوفر من جهاد هذا القديس. وأهم نشاطه التبشيرى فى هذه الأقاليم:

أولاً: بشر القديس فى الخمس مدن الغربية وهى الجهات التى ولد ونشأ فيها.

ثانياً: ثم بشر فى ليبيا وفى صعيد مصر.

ثالثاً: عمله فى الإسكندرية وباقى الديار المصرية: أرشد الروح القدس مارمرقس ليدخل الإسكندرية, فصلى إلى الله صلاة حارة عميقة ليعطيه القوة ويصحبه فى عمله فى هذه البلاد العريقة فى التاريخ. كانت بلادنا المصرية آنئذ معروفة بقوتها وحضارتها, وقد كانت الإسكندرية العاصمة تعتبر بحق عروس الشرق فقد بلغ سكانها ثلاثة أرباع مليون نسمة كان بينهم فريق كبير من الأجانب من يونانيين ويهود, كما كان سكان الديار المصرية حوالى العشرين مليوناً. وكانت إذ ذاك تحت حكم أوثون قيصر. وقد عرفت الإسكندرية بسعة حضارتها وروعة عمرانها وكانت بها المكتبات الفاخرة التى تضم عشرات الألوف من الكتب القيمة فى مختلف العلوم, كما كانت بها مدرستها الجامعة العالمية التى وفد إليها العلماء والطلاب ينهلون من نبعها ويستقون من علومها. ومن أشهر معالمها معبد السيرابيوم العظيم الذى بُنِىَ للإلهة سيرابيس إحدى معبودات المصريين القدماء.

أما عن تعدد الديانات فى تلك البلاد فحدث ولا حرج, فالمصريون كانوا يتعبدون لآلهتهم المختلفة, ولقد كان لسيرابيس النصيب الوافر من التعبد. واليونانيون والرومانيون من جهتهم كانت لهم عباداتهم المتطرفة المتهورة, واليهود بدورهم كانوا متمسكين بديانة آبائهم فخورين بها وقد ظهرت منهم طائفة الأسينيين الذين زهدوا فى العالم وتعبدوا حول بحيرة مريوط فى صوامعهم.

ومما يروى أن القديس لما أراد التوجه إلى الإسكندرية ركب سفينة تقل عدداً من المسافرين, وبعد أن أقلعوا مسافة هاج البحر واظلم الجو وظل الحال هكذا نحو أربعة أيام حتى مات اثنان من الركاب من الهلع والخوف, وكان كل واحد من المسافرين يصلى إلى إلهه, وصلى القديس إلى الله الذى خلص نوحاً من الطوفان, فحدث فى الحال رعد وكلمه الرب وطمأنه, وأمره أن ينتصب ويأمر الريح أن تهدأ والبحر أن يسكت, ففعل القديس ذلك, فصار هدوء عظيم, فصلى أيضاً وقام الرجلان اللذان ماتا من الموت, وركع القوم أمامه واعترفوا بأنه لا يوجد إله أقوى من إلهه فجعل القديس يبشرهم, فآمنوا جميعاً. وعمدهم وعمل القداس الإلهى وناولهم من الأسرار المقدسة. وكان عدد الذين آمنوا سبعة وثلاثين. ووصلت السفينة فى الحال إلى الإسكندرية.

دخل القديس المدينة العظيمة وجعل يتجول فى أنحائها إلى أن تقطع حذاؤه, ودبرت عناية الله أن يميل إلى رجل إسكافى اسمه (إنيانوس) لكى يصلح له الحذاء, وبينما كان يصلحه وإذ بالمخراز ينفذ فى يده فيدميها وما كان منه إلا أن صرخ عن غير قصد: (إى ثيئوس) ومعناه (يا الله الواحد!) فتعجب القديس مرقس وقال له: (كيف تنادى الله الواحد وأنتم لا تعرفون شيئاً عنه؟), ثم تفل على الأرض وصنع طيناً ووضع منه على اليد المصابة ورشم عليها بعلامة الصليب باسم الثالوث الأقدس وتوسل إلى الله أن يشفيه, وفى الحال شعر الرجل براحة كاملة وشفى جرحه. وأخذ الرسول يبشره. ثم دعاه الرجل إلى منزله, فبشر أهل بيته ثم جيرانه وأصدقاءه بكلمة الحياة. وهكذا من بيت إنيانوس خرجت شعلة المسيحية وامتدت إلى أن نمت وازدهرت.

زاد عدد الذين قبلوا الإيمان. فكتب لهم القديس إنجيله باللغتين المصرية (القبطية) واليونانية وفى هذه الأثناء زار القديس بطرس الرسول رفيقه العظيم مرقس, ولما أطلعه على إنجيله أعجب به إعجاباً عظيماً وسر سروراً كبيراً. يؤيد ذلك أن بطرس الرسول يذكر وجود مرقس معه فى بابل حيث يقول “يسلم عليكم التى فى بابل المختارة ومرقس ابنى” (1بط5: 13). ويرى بعض المفسرين أن المقصود ببابل هذه رومية, ويرى البعض الآخر أن المقصود بها بابل التى بين نهرى دجلة والفرات, على أن الرأى الأصوب أن المقصود بها بابليون مصر. وليس من الصواب أن تكون بابل رومية لأنها لم تعرف بهذا الاسم وقتئذ, وحتى إن كان المقصود ببابل رومية فى سفر الرؤيا فإن هذا السفر لم يكتب إلا بعد استشهاد الرسولين بما يقرب من ربع قرن, كما أنه ليس من الصواب أن يكون المقصود بها بابل دجلة والفرات لأنها كانت صغيرة الشأن وقتئذ, ولم تكن المسيحية قد انتشرت فيها انتشاراً كبيراً. ومما يؤيد أنها بابليون مصر أن الرسول مرقس كان يقوم بعمله التبشيرى فيها, وقد زاره القديس بطرس فيها لصلة القرابة الروحية والجسدية من جهة, ولكى يبشر يهود الشتات الذين كان منهم عدد كبير فى مصر من جهة أخرى.

وقد طاف الرسولان معاً فى الديار المصرية يبشران بالكلمة ويثبتان المؤمنين. وبعد أن رحل القديس بطرس الرسول عاد مرقس إلى الإسكندرية حيث رسم إنيانوس أسقفاً عليها وأقام معه ثلاثة قسوس وسبعة شمامسة.

ولم يكن الرسول لينحصر فى مكان واحد, بل كان عليه أن يتنقل من مكان إلى مكان لكى يؤدى رسالته التى أؤتمن عليها. شأنه فى ذلك شأن جميع رسل الحمل المجاهدين. ولما استتب الأمر فى الإسكندرية قام بعدة رحلات تبشيرية جديدة كما سنرى.

(7) رحلته إلى برقة:

ذهب القديس مرة أخرى إلى الخمس مدن الغربية مسقط رأسه حيث قضى بها سنتين.

(8) العمل فى رومية وكولوسى:

وعاد القديس بولس الرسول ليصحب مرقس معه فى الخدمة, وقد كان هذا بعد أن تركه مع برنابا بثلاث عشرة سنة. وكان القديس بولس فى أسره الأول فى روما حيث يكتب فى رسالته إلى كولوسى “يسلم عليكم أرسترخس المأسور معى ومرقس نسيب برنابا… ويسوع المدعو يسطس… هؤلاء العاملون معى لملكوت الله ” (كو4: 10, 11). ويشهد بولس الرسول أيضاً فى رسالته إلى فليمون بجهاد هذا القديس فى رومية فيقول: “يسلم عليك أبفراس… ومرقس وأرسترخس وديماس ولوقا العاملون معى” (فل24), وقد كان الرسول مرقس عازماً على السفر ليعمل أيضاً فى كولوسى فأوصى به بولس الرسول أهل كولوسى بقوله عنه “… الذى أخذتم لأجله وصايا إن أتى فاقبلوه” (كو4: 10).

جهاده فى أفسس ثم فى رومية من جديد: كان مرقس الرسول قد سافر إلى أفسس حوالى سنة 67 أو سنة 68م ليساعد صديقه تيموثاوس حينما أرسل بولس الرسول رسالته الثانية إلى تيموثاوس وطلب منه فيها أن يأخذ معه مرقس ويحضره معه ليعاونه فى الخدمة حيث قال “خذ مرقس لأنه نافع لى للخدم” (2تى4: 11) وهكذا عاد القديس مارمرقس للمرة الثانية لرومية لرعاية كنيستها. وقد استمر بها إلى أن استشهد الرسولان بطرس وبولس.

(10) فى الإسكندرية من جديد:

وعاد القديس لآخر مرة إلى الإسكندرية لكى يتفقد عمله الروحى فيها فوجد الإيمان نامياً ومزدهراً وبنى أول كنيسة فى الإسكندرية فى المكان المسمى (بوكاليا) أى مرعى البقر كما عمل أول مدرسة لاهوتية برئاسة القديس يسطس.

(5) استشهاد القديس

كان حنق الوثنيين على القديس مرقس الرسول شديداً خصوصاً لما رأوا الإيمان المسيحى يمتد فى أنحاء الديار المصرية. وقد أضمروا له الشر وصمموا على الفتك به. وحدث فى سنة 68م أن المسيحيين كانوا يحتفلون بعيد القيامة المجيد فى اليوم السادس والعشرين من شهر أبريل وكان موافقاً لليوم التاسع والعشرين من شهر برمودة. وقد تصادف أن يكون عيد الإله سيرابيس فى نفس هذا اليوم وطفق القديس يجاهر بالإيمان الحقيقى ويندد بعبادة الأصنام, وكذب ديانة هؤلاء القوم الجهلاء. فزاد غيظهم وصروا على أسنانهم وهجموا عليه فى الكنيسة بينما كان يصلى مرتدياً الملابس الكهنوتية, فشتتوا المسيحيين, وقبضوا على القديس, ووضعوا حبلاً فى عنقه وجعلوا يجرونه فى شوارع الإسكندرية وهم يضربونه ويهزأون به ويقولون: (جروا الثور إلى بوكاليا) أى إلى دار البقر. واستمروا على هذا الحال طول النهار إلى أن تهرأ لحمه وسال دمه وتهشمت عظامه ثم ألقوه فى آخر النهار فى سجن مظلم.

وكم كانت ليلة بهيجة حينما حصل زلزال مخيف وأضاء السجن فى منتصف الليل, واظهر ملاك الرب يقوى القديس على احتمال الآلام فاستيقظ القديس وقدم الشكر لله. ولما نام ثانية ظهر له السيد المسيح بمجده العظيم وطوبه قائلاً: (السلام لك يا مرقس الإنجيلى المختار). فتشجع القديس وعاد وقدم الشكر لفاديه العظيم الذى جعله أهلاً لأن يتألم من أجل اسمه.

أشرقت شمس النهار فى اليوم التالى, وإذ بالوثنيين يهجمون على السجن ويأخذون القديس من جديد ويجرونه ثانية بالحبال ويمثلون به كما فعلوا فى اليوم الأول حتى فاضت روحه ومات شهيد الإيمان المستقيم.

وأراد هؤلاء الأوغاد أن يلاشوا الجسد المقدس حتى لا يكون موضع إكرام المؤمنين فعملوا كومة من الحطب وأشعلوا فيها النار ووضعوا عليها الجسد, ولكن الله سخر الطبيعة فأخجلتهم إذ حدثت رعود وبروق ونزل مطر غزير أطفأ النار, وجعل الوثنيين يهربون خوفاً. وتقدم المؤمنون وأخذوا الجسد ولفوه بالأكفان ووضعوه فى صندوق ودفنوه بكنيسة بوكاليا التى بناها القديس.

(6) جسد القديس

ظل جسد القديس محفوظاً فى كنيسة بوكاليا التى بنيت على شاطئ البحر المتوسط إلى حوالى القرن السابع الميلادى. وحدث فى أيام الفتح العربى أن اشتعلت عدة حرائق بالمدينة دمر بسببها الكثير من المبانى واشتعلت النار فى الكنيسة فخاف المؤمنون على الجسد الطاهر وحاولوا جهد استطاعتهم إنقاذه من النار. وفعلاً اقتحم فريق من الغيورين النار المشتعلة واستطاعوا إخراج الجسد من التابوت والخروج به, وسرق الرأس المقدس نفر من البحارة وأرادوا تهريبها فى إحدى السفن التى كانت تقل أحد وجهاء مصر ويدعى سنتيوس وكان بمثابة وزير المالية لعمرو بن العاص, ولكن السفينة توقفت عن المسير وفتش سانتيوس أمتعة البحارة فوجد فيها الرأس المسروق فعرفوا أن إرادة الله أن يبقى رأس القديس فى مقر كرازته وسلمه إلى البابا بنيامين الذى سر به سروراً عظيماً وجعله فى صندوق من الأبنوس. وبقى الرأس بالكنيسة المرقسية بالإسكندرية إلى القرن الحادى عشر, ثم نقل إلى منزل أولاد السكرى ومنه إلى عدة منازل للأراخنة الأقباط مثل يحيى ابن زكرى, وفهد بن بلوطس, وجبريل بن قزمله, وسرور بن مطروح وغيرهم إلى أن أودع أخيراً فى الكنيسة المذكورة.

أما عن الجسد فإن جماعة من التجار من أهل البندقية فى القرن التاسع (سنة 825م) جاءوا إلى الإسكندرية وكانوا يترددون على بيعة القديس, ولما خافوا من أن يتعدى المعتدون أو اللصوص على رفات القديس فكروا فى نقله إلى البندقية بإيطاليا, وكان يتزعم هذه الجماعة القبطان (روستيكوس دى ترشيلو) و(برمودو) فأغريا حراس قبره فى الإسكندرية ليسلموهم جسده ليحملوه إلى بلادهم حيث يكون هناك فى مأمن من أيدى العابثين, وفعلاً تسلموا الرفات المقدس وحملوها إلى البندقية واستقبلها حاكمها بحفاوة عظيمة وبنوا عليها كنيسة عظيمة باسم القديس العظيم مارمرقس.

وفى عهد المتنيح البابا كيرلس السادس نقلت الرفات من البندقية إلى القاهرة, وكان البابا كيرلس قد طلب إلى البابا بولس السادس بابا الكنيسة الكاثوليك أن يسمح بتسليم رفات القديس للأقباط فى مصر فسمح البابا بولس بذلك, واستلم الرفات المقدسة عدد من الآباء المطارنة والأراخنة من مصر وأثيوبيا, وصحبهم فى رحلتهم إلى القاهرة وفد من الكنيسة الغربية حيث وصلوا بالرفات إلى القاهرة فى اليوم الرابع والعشرين من شهر يونيو 1968م, حيث أودعت فى قبر فخم أعد لها فى الكاتدرائية الكبرى بالعباسية, وبذلك استقر جسد القديس فى البلاد التى قبلت الإيمان على يديه, وفى الكنيسة المباركة التى تفخر وتعتز به ككاروزها العظيم ومؤسسها الكريم.

(7) آثار القديس

أولا: كنيسة الإسكندرية

مر بنا أن القديس إذ رأى تكاثر عدد المسيحيين شيد لهم أول كنيسة بالإسكندرية عند شاطئ البحر وهى المسماة كنيسة بوكاليا أى مغارة البقر. وقد دفن فيها القديس, ودمرها الأعداء مرات كثيرة, وأعيد بناؤها عدة مرات وقد شيدت من جديد فى موضعها فى شكل رائع مجيد.

وقد دعى المكان (بوكاليا) أى دار البقر إما لأن المصريين كانوا يرعون فيه البقر, أو لأنهم كانوا يربون فيه البقر, أو لأنهم أقاموا فيها حظيرة لتربية العجول التى تقدم ذبائح لآلهتهم, ودعى المكان أيضاً (القمحا) أو (القمجا) وهى اسم نبات باللغة المصرية القديمة كان يكثر فى هذه المنطقة, ومن المعروف أن المؤمنين دفنوا القديس فى هذا المكان.

2 – وقد شيدت كنيسة أخرى مكان بيت القديس إنيانوس.

3 – وشيدت كنيسة باسم أليشع النبى والقديس يوحنا المعمدان قرب السجن الذى حبس فيه القديس وكانت آثار هذا السجن باقية إلى القرن الثامن عشر.

4 – وفى المكان الذى أعد الغوغاء فيه الحطب لإحراق جسد القديس بنيت كنيسة اسمها (الإنجيليون) إما نسبة إلى الإنجيليين (البشيرين) (إيف أنجيلستيس) أو إلى الملائكة (أنجيلوس).

5 – كما كانت هناك كنيسة الملاك ميخائيل باسم (القيصريون) نسبة إلى ابن يوليوس قيصر.

ويروى التاريخ أن الاحتفال برسامة البطريرك كان يستغرق ثلاثة أيام فيحتفلون فى اليوم الأول فى كنيسة (الإنجيليون) المذكورة, وفى اليوم الثانى فى كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل وفى اليوم الثالث فى كنيسة مارمرقس حيث يحتضن الأب البطريرك رأس القديس مارمرقس مستمداً البركة من الرسول العظيم, وطالباً من الله أن يعطيه النعمة لاقتفاء آثاره والاقتداء به.

ثانياً: المدرسة اللاهوتية

كانت الإسكندرية تضم أعظم الجامعات فى عهودها الوثنية, ولما انتشرت بها الديانة المسيحية كان بها أعظم جامعة لاهوتية فى العالم. تلك هى الجامعة اللاهوتية التى أسسها القديس مرقس الرسول وأسند إدارتها إلى العلامة يسطس وقد قصدها العلماء من جميع أنحاء العالم المسيحى لكى يستقوا من مناهل العلم الصحيح متتلمذين لآبائنا وعلماء كنيستنا الأفذاذ.

كانت المدرسة تقوم بتدريس العلوم اللاهوتية المختلفة والفلسفة والرياضة والجغرافيا واللغات وغيرها, وقد تسلم إدارتها علماء أفذاذ من بينهم بنتينوس وأثيناغورس وكلمنضس وأوريجانوس وديونوسيوس وأرشيلاوس وسيرابيوس وديديموس الضرير وغيرهم.

ثالثاً: إنجيل مرقس

كتب هذا القديس إنجيله حوالى سنة 61م بينما كان فى مصر وقد مر بنا أنه عرضه على القديس بطرس الرسول فسر به كثيراً. وكتب هذا الإنجيل باللغتين المصرية القديمة واليونانية. ولأنه كتب للأمم كان القديس حريصاً على تفسير الاصطلاحات اليهودية وشرح عادات اليهود وطقوسهم فيه كما أنه لم يهتم كثيراً بذكر النبوات الواردة فى العهد القديم والتى لا تهم المتنصرين من الأمم ويقع الإنجيل فى ستة عشر أصحاحاً تتضمن الموضوعات الآتية:

أولاً: ظهور يوحنا المعمدان وإعداده طريق المخلص وتعميده للناس ثم وضعه فى السجن وموته شهيداً.

ثانياً: ظهور السيد المسيح وعماده من يوحنا ثم صومه وتجربته.

ثالثاً: تعاليم السيد المسيح ومعجزاته.

رابعاً: دخوله الأخير لأورشليم وصلبه وقيامته وصعوده.

ومن المسائل التى تميزت بها هذه البشارة:

1 – عدم ذكر العبارات التى فيها مديح لبطرس, وتفصيل حوادث أخطائه سيما حادث إنكاره لمعلمه ولابد أن بطرس أوعز إليه بذلك تواضعاً وإنكاراً للذات.

2 – ذكر معجزة شفاء الرجل الأصم الأعقد الواردة فى الأصحاح السابع.

3 – خبر شفاء رجل أعمى فى بيت صيدا (مر8: 6).

رابعاً: القداس الإلهى

كتب هذا القديس قداساً رائعاً باللغة اليونانية. وقد عثر المؤرخون على ورقة من البردى بأحد الأديرة القديمة بقرب بليزة بالصعيد ويسمى دير مار أفولون تحوى أجزاء من هذا القداس يرجع تاريخها إلى القرن السابع, كما عثروا على بعض الرقوق بها نصوص منه من القرن الثامن محفوظة الآن فى مكتبة الفاتيكان. ولقد كان هذا القداس أساساً للقداسات الثلاثة: الباسيلى والغريغورى والكيرلسى. وهو تقريباً نفس القداس الكيرلسى الذى رتبه وأضاف إليه بعض الصلوات القديس كيرلس الأول عمود الدين البابا الرابع والعشرون.

(8) القديس مرقس فى مركزه الممتاز

يتبوأ هذا القديس المجاهد مركزاً ممتازاً, ويقدره المؤمنون شرقاً وغرباً لما قام به من جهاد فى سبيل الحق وكفاح فى سبيل الرسالة السامية التى قام بها, من مظاهر هذا الجلال:

أولاً: مرقس القديس (الثيئوفوروس):

لقب هذا القديس (بالثيئوفوروس) وهى كلمة يونانية مركبة من مقطعين (ثيئو) أى الله, و(فوروس) أى حامل ومعناها حامل الله. بالنسبة لأن الله كان يسكن قلبه وكان بأعماله وجهاده وصفاته الجليلة يحمل الرب يسوع.

ثانياً: كما تلقبه الكنيسة أيضاً (بىثيئوريموس) أى ناظر الإله:

بما أنه تمتع بعشرة رب المجد ونظره بعينيه, وتدعوه (الإنجيلى والرسول) لأنه من الرسل الأطهار, وقد كتب إنجيله بوحى الروح القدس لنفع المؤمنين.

ثالثاً: تشبيه القديس بالأسد:

رأى بعض علماء الكتاب أن أحد الحيوانات الأربعة التى رآها يوحنا فى شبه الأسد (رؤ4) كان يشير إلى مرقس البشير العظيم الذى بدأ بشارته بمناداة يوحنا المعمدان فى البرارى معلناً الحق الإلهى وداعياً إلى التوبة, وكان صوته وهو يدوى عالياً بكلمة الحق كمثل الأسد حينما يرن زئيره فى الصحراء, كما أن الإنسان كان يشير إلى متى الإنجيلى لأنه تكلم عن نسب المسيح كإنسان, والثور يشير إلى لوقا لأنه بدأ بشارته بحياة زكريا الكاهن الذى كان من عمله تقديم الذبائح، والنسر يشير إلى يوحنا الذى حلق كثيراً فى عالم الإلهيات.

رابعاً: كلمة فى وصف القديس:

كتب المؤرخ مسيو (برج) فى وصف هذا القديس (إن القديس كان شيخاً مهوباً ربعه فى قوامه، شعر رأسه ناصع البياض ووجهه وسيم الطلعة. عيناه لامعتان وأنفه معتدل لا بالغليظ ولا بالقصير. أما حاجباه فقد كانا مستديرين قليلاً إلى الخارج, وكانت لحيته مستديرة وغزيرة وطويلة مما زاد وجهه هيبة وجمالاً. كما كانت مشيته متزنة فيها معانى الوقار, وكلامه فصيحاً وسليماً سواء أنطق بالعبرية أو باليونانية).

خامساً: من تقاليد الآباء البطاركة:

ولأن هذا القديس هو الذى حمل البشارة لديارنا وهو مؤسس الكنيسة القبطية المجيدة, فإن آباء الكنيسة يحفظون لكاروزها العظيم هذا الجميل. ومن هذا أن الكنيسة قد حفظت وشاح القديس إلى القرن السادس, وكان الآباء البطاركة يلبسونه فى أعناقهم بمجرد جلوسهم على الكرسى المرقسى تبركاً بصاحبه كما أن بعض المؤرخين يقولون إن الآباء البطاركة اعتادوا حينما يجلس الواحد منهم على الكرسى أن يصلى اليوم الأول بكنيسة الرسل وفى اليوم الثانى بكنيسة رئيس الملائكة ميخائيل وفى اليوم الثالث بكنيسة القديس مارمرقس, وبعد انتهاء القداس الإلهى يحمل رأس القديس العظيم تبركاً منه وإقراراً بفضله وتعهداً بحفظ إيمانه وتعاليمه.

سادساً: الكنائس باسم القديس:

بنيت للقديس كنائس على جانب من الروعة فى أنحاء العالم المسيحى. وأقدم هذه الكنائس هى كنيسة (بوكاليا) التى بنيت بالإسكندرية كما مر بنا, ثم هناك الكنيسة المرقسية الكبرى بكلوت بك بالقاهرة والكاتدرائية العظمى بالعباسية, وعدد وافر من الكنائس فى أنحاء الكرازة المرقسية.

أما فى البلاد الأجنبية فللقديس مكانة عظيمة جليلة وتعتبر البندقية القديس حاميا لها وله فيها كنيسة رائعة زينت بعدد وافر من الصور والتماثيل للقديس وبها منبر من الحجر وقد رسمت عليه صورة للقديس متى البشير وهو يجبى العشور ويقول أهل البندقية إن هذا المنبر الحجرى هو نفس الكرسى الذى كان يجلس عليه القديس مارمرقس الرسول.

سابعاً: صور القديس:

وللقديس عدة صور تعتبر آيات فى الفن الرفيع, وقد اعتاد المصورون أن يرسموا القديس وبجانبه أسد إما لأنه كان يملك قوة الأسد فى جرأته فى المناداة بإنجيل الخلاص, وإما لأن الآباء يشبهونه بالأسد أحد الأربعة الحيوانات حول العرش. وإما ليرسموا أمام المؤمنين معجزة موت الأسد واللبؤة بصلاة القديس وقبول والده الإيمان, وإما لأن الأسد ذا الأجنحة كان شعار البنادقة منذ الأجيال القديمة وقد جعلوه بجانب صورة القديس تيمنا به وطلباً لبركته ومعونته وربما لأنه بدأ إنجيله بالإشارة إلى يوحنا المعمدان الذى كان ينادى بجرأة الأسد فكتب عنه “صوت صارخ فى البرية, أعدوا طريق الرب اصنعوا سبله مستقيمة” (مر1: 3).

ونذكر هنا ما ذكر فى كتاب القديس مرقس الرسول مؤسس الكنيسة المصرية عن بعض الصور التى عملت له من بينها صورته فى البندقية وهو يحمل كتاباً مفتوحاً وبجانبه أسد له أجنحة وصورة (بنية) بمتحف اللوفر فى هيئة رجل يطالع كتاباً موضوعاً على منضدة وعليها محبرة وباقة زهور وبيد القديس اليمنى ورقة طويلة متصلة بمنضدة أخرى وضعت عليها جمجمة إنسان وقلم وزوج عوينات, وقد رسم أسد قد ذلل طبعه الوحشى خلف صورته. وصورته فى متحف اللوفر أيضاً تمثله شاخصاً إلى السماء وفى يده كتاب مفتوح وقلم, وصورته بالندقية وبجانبه أسد وهو من عمل (بونيفازيو), وله صورة أخرى للفنان (بوتالجين) وفيها يتلقى الوحى من الله وهو يكتب إنجيله, وصورة أخرى بالبندقية لاستشهاده وتمثل الصورة الناس وهم يعذبونه وهو صابر مطمئن, ومن بينها صورته فى دار الكتب المصرية وهو يعمد إنيانوس, بالإضافة إلى عدة تماثيل بالبندقية نحتها أمهر وأشهر النحاتين.

ثامناً: معجزات تعزى إلى القديس:

قامت المسيحية مؤيدة بالمعجزات والآيات, وقد قام القديس فى تبشيره بعدد كبير من هذه المعجزات كانت تأييداً لرسالته الحية, وبرهاناً ثانياً على صحة الديانة السمائية التى كان يقوم بالتبشير بها وزيادة على ذلك فإن التاريخ ينسب إليه عدة معجزات بعد استشهاده نذكر منها:

1 – معجزة نجاة أحد الأراخنة من السجن:

قبض قائد اسمه معضاد الدولة على أرخن فبطى اسمه أبو الفتوح بن مقرح, وطلب إليه أن يسلمه رأس القديس مارمرقس وعشرة آلاف دينار, فاعتذر الأرخن بأن الرأس ليست عنده فسجنه القائد لمدة سبعة وثلاثين يوماً فى حبس مظلم.

وكان يحرس السجن حارس اسمه بركات, وفى صباح اليوم السابع والثلاثين قص الحارس على الأرخن الرواية التى رآها وقال له:

– يا شيخ أبو الفتوح أبشر لأنى رأيت الساعة إنساناً شاباً بلحية سوداء وعلى جبته حربة, وهو واقف على الباب ويقول لك: (يا أبا الفتوح بن مقرح, أنا مرقس, لا تخف لأنك قد ربحت بصبرك), وقال كلاماً آخر لم أفهمه, (وخذ هذه الحصاة تخلص), وطلب الأرخن من الحارس ضوءاً لأن الحبس كان مظلماً, فلما أحضر الحارس الضوء وجد فعلاً حصاة ذات ثلاثة رؤوس فاحتفظ الأرخن بها كبركة حتى وفاته.

– وفى نفس اليوم تحققت الرؤيا لأن الأرخن أبا الفتوح أعطى القائد ستمائة ديناراً فأطلقه حراً وعاد إلى بيته فى الإسكندرية سالماً.

2 – معجزة العبد المضطهد:

يذكر هذه المعجزة أهل البندقية وملخصها أن عبداً حكم عليه بالإعدام وقد قطعت يده تمهيداً لتنفيذ الحكم, ولما اجتمع الناس حوله ليشهدوا إعدامه إذ بالقديس مارمرقس ينزل من الفردوس ويعيد للرجل يديه صحيحتين ويساعده على الهروب من أعدائه فيهرب الرجل فرحاً ونجا بحياته بين دهشة أعدائه واستغرابهم. وقد صوروا لهذه الحادثة صورة على جانب من الروعة.

3 – معجزة خاتم حاكم البندقية:

وهى متداولة أيضاً بين البنادقة وملخصها أن ثلاثة من الرجال طلبوا يوماً إلى بحار أن يأخذهم فى سفينته إلى (ليدو) وكان أحدهم رجلاً عظيماً تظهر عليه أمارات الهيبة. ورفيقيه كانا جنديين. وفى وسط البحر هاجت الأمواج وظهرت أشباح شيطانية تهاجم السفينة إشارة إلى الشيطان وجنوده الذين يحاربون أهل البندقية, ولكن ذلك الرجل الوقور كان يصلى شاخصاً إلى السماء كما أن الجنديين كانا يشهران أسلحتهما على هذه الأشباح فهدأ البحر حالاً واختفت الأشباح. ولما وصلوا إلى مدينة (بيارتا) خاطب ذلك السيد العظيم البحار قائلاً: (أنا مرقس الرسول وهذا اللذان معى هما القديسان مارجرجس وتاوضرس), ثم سلمه خاتماً وأوصاه أن يسلمه إلى حاكم المدينة فيكافئه مكافأة عظيمة. وقال له إنه إنما جاء لينقذ أهل البندقية من الشياطين التى تسلطت عليهم بسبب شرورهم ومعاصيهم وأنه واثق أنهم سيتوبون ويرجعون إلى الله فتنصرف عنهم الشياطين.

وقد بهت البحار لدرجة أنه ظن أن ما يراه مجرد حلم. ولما توجه إلى الحاكم وسلمه الخاتم تعجب الحاكم أشد العجب لأن الخاتم هو خاتم المدينة وقد كان محفوظاً فى الخزانة لكنه فقد بطريقة غامضة وقد تحقق الحاكم وأهل البلدة أن هذا كان لإنذار البلدة لترجع عن شرورها فتخلص بصلوات شفيعها العظيم مارمرقس, وقد عملوا لوحة رائعة لهذه الحادثة تمثل حرب القديس مع جمهور الشياطين وانتصاره عليها وكان هذا الحادث عاملاً على توبتهم ورجوعهم إلى الله وتجديد حياتهم.

تاسعاً: أعياد القديس:

تعيد الكنيسة القبطية فى اليوم الثلاثين من شهر برمودة تذكاراً لاستشهاده، كما أنها تعيد فى اليوم الثلاثين من شهر بابة تذكاراً لتكريس كنيسته وظهور رأسه بالإسكندرية, والكنيسة الغربية تعيد تذكاراً لاستشهاده فى اليوم الخامس والعشرين من شهر نيسان (أبريل).

عاشراًً: خلفاء القديس مارمرقس:

جلس على الكرسى المرقسى بعده القديس إنيانوس وهو باكورة الذين آمنوا على يديه فى مدينة الإسكندرية, وظلت الخلافة الرسولية بعده عبر الأجيال إلى أن جلس على كرسيه صاحب الغبطة البابا المعظم الأنبا شنوده الثالث البابا المائة والسابع عشر, أطال الله حياته وأيده بنعمته وبقوته.

الفصل الثالث

القديس لوقا البشير

(1) من هو ؟

يرى البعض أن هذا القديس من بين السبعين رسولاً وأنه كان رفيق كليوباس فى سيره إلى عمواس حيث ظهر لهما الفادى بعد قيامته (لو24), ويرى الآخرون أنه كان من الأمم ولم يكن من السبعين وأنه لم يعاين رب المجد وإنما عاشر رسله وأخذ عنهم سيرة السيد المسيح وحقائق الإيمان كما يتضح ذلك من قوله فى مقدمة إنجيله “إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة فى الأمور المتيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداماً للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ قد تتبعت كل شئ من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالى إليك أيها العزيز ثاؤفيلس….” (لو1:1-3).

وسواء أكان هذا القديس من بين السبعين أو لم يكن منهم فإنه يلذ للمؤمنين أن يقفوا على سيرته كرسول عظيم, وبشير مجاهد كبير.

يرى الآباء (الذين يقولون) إنه من السبعين أنه ولد فى بلاد اليهودية وأن الرب قد اختاره من السبعين تلميذاً, وقد كان هذا الرسول الكريم طبيباً (كو4: 14), كما يروى التاريخ أنه كان مصوراً ماهراً أيضاً وهناك صورة للسيدة العذراء محفوظة فى رومية يقول التقليد إنها من تصوير لوقا البشير نفسه.

(2)  أعماله التبشيرية

1 – كان لهذا القديس نصيب وافر للخدمة, ويظهر أنه لازم القديسين بطرس وبولس فى كثير من سياحتهما, وتتبع حوادث الكنيسة الأولى كما يشرح ذلك بالتفصيل فى سفر أعمال الرسل الذى كتبه.

2 – ومن سفر الأعمال ومن رسائل القديس بولس الرسول نرى أنه كان يعمل مع الرسول فى ترواس (أع16: 10) وأنه توجه معه فى رحلاته الكثيرة. وكان رفيقاً له فى مكدونية وفيلبى وقد أرسله الرسول مع تيطس إلى كورنثوس برسالته الثانية حيث عمل هناك مع تيطس ثم وافهما الرسول فى كورنثوس حيث كتب رسالته إلى رومية.

ويغلب أنه رافق الرسول فى بقية رحلاته واحتمل معه أتعاب السفر والتبشير والاضطهاد. وقد كان يخدمه فى سجنه فى قيصرية سنتين كما أنه كان معه فى سجنه الأخير حيث يقول الرسول “لوقا وحده معى” (تى4: 11, أع16: 1-17, 20: 5, 21: 18, أع27, 28: 1-16).

3 – بعد استشهاد الرسولين العظيمين بطرس وبولس بشر القديس لوقا فى بلاد دلماطيا وإيطاليا وفرنسا وكذلك وفد إلى بلاد المغرب وجهات أخرى من أفريقيا وقبل إنه زار مصر أيضاً.

(3) استشهاده

1 – قيل إن استشهاده كان على يد نيرون, وقيل إنه كان على يد تراجان. ويرى البعض أنه صُلب على شجرة زيتون ويرى آخرون أنه قُطعت رأسه.

2 –  كان استشهاده فى أخائية وتفصيل ذلك أنه لما تزايد عدد المؤمنين بسبب تعليمه حنق الوثنيون ووشوا به لدى نيرون الطاغية وادعى الواشون أنه يضل الناس بسحره. ولما استدعاه نيرون أودع الكتب التى عنده رجلاً صياداً وقال له: (احتفظ بهذه فإنها تنفعك وتريك طريق الله). ولما وقف أمام الملك قال له هذا الطاغية إلى متى تضل الناس بسحرك؟ فأجابه القديس:

– إنى لست ساحراً ولكننى رسول يسوع المسيح ابن الله الحى.

واغتاظ الملك من جوابه وأمر بقطع ساعده الأيمن, فقال القديس:

– نحن لا نهاب موت العالم ولكى تعلم قوة سيدى… ومن ثم أخذ الساعد المقطوع ووضعه فى مكانه فالتصق بجسمه وعاد صحيحاً, ثم فصله فانفصل.

رأى الكثيرون من الوثنيين هذه المعجزة فآمنوا بالسيد المسيح, وكان من بينهم الوزير وزوجته ومائتان وستة وسبعون آخرون, فأمر الملك بقطع رؤوسهم جميعاً, وهكذا أتم الرسول جهاده ونال إكليل الشهادة وإكليل البتولية النقية وإكليل الرسولية.

وقد أمر نيرون بوضع جسد القديس فى كيس من الشعر وإلقائه فى البحر, ولكن عناية الله جعلت الجسد يرسو على جزيرة, فرآه أحد المؤمنين وأخذه وكفنه. وقد كان له من العمر أربع وثمانون سنة حينما استشهد. تعيد له الكنيسة فى الثانى والعشرين من شهر بابة, كما تعيد له الكنيسة الغربية فى اليوم الثامن عشر من تشرين الأول (أكتوبر).

(4) آثار القديس

أولاً: إنجيل لوقا

1 – كتابته: كتب هذا الإنجيل حوالى سنة 63م باللغة اليونانية, وقد أهداه القديس لوقا إلى صديقه ثاؤفيلوس أحد أشراف رومية أو الإسكندرية وقد كتب بلغة بليغة وتفصيل ظاهر.

2 – محتوياته: يقع هذا الإنجيل فى أربعة وعشرين أصحاحاً, ويحوى عدة موضوعات من بينها:

( أ ) الحديث عن البشارة بمولد يوحنا المعمدان ومولده ونشأته.

(ب) الحديث عن بشارة السيدة العذراء بمولد السيد المسيح وزيارة العذراء لإليصابات.

(ج) ميلاد السيد المسيح والحوادث العجيبة التى صحبته مثل ظهور الملائكة للرعاة.

7 – الرحلات التبشيرية التى قام بها كل من بطرس وبولس وغيرهما والاضطهادات التى صادفوها والمعجزات التى جرت على أيديهم والتعاليم التى فاهوا بها.

8 – امتداد الإيمان بين الأمم مثل إيمان كرنيليوس وتأسيس كنائس السامرة وفيلبى وأثينا وكورنثوس ورومية وغيرها.

9 – محاكمات بولس الرسول أمام رؤساء كهنة اليهود, ثم أمام حكام الرومان ثم رفعه دعواه إلى قيصر وسفره إلى رومية.

ثالثاً: ترجمته الرسالة إلى العبرانيين

كتب القديس بولس الرسول رسالته إلى العبرانيين باللغة العبرية, وقد قام القديس لوقا صديقه بترجمتها إلى اللغة اليونانية ليعمم نفعها للمؤمنين.

الفصل الرابع

القديس كليوباس

(1) تعريف بالقديس

1 – هناك رأى بأنه هو نفس كلوبا زوج مريم أخت السيدة العذراء (يو19: 25).

وقيل إنه أخو القديس يوسف النجار وكان من سبط يهوذا. وكليوباس معناه (الكثير الشهرة), ويرى آخرون أنه تلميذ آخر غير كلوبا.

2 – كان هذا القديس أحد الاثنين اللذين كانا منطلقين إلى قرية عمواس بعد القيامة وهى قرية تبعد عن أورشليم بنحو ستين غلوة أى حوالى سبعة أميال ونصف. وفى طريقهما ظهر لهما السيد المسيح, وأمسكت أعينهما عن معرفته, فسألهما فيم كانا يتطارحان وهما ماشيان عابسين. فأجابه كليوباس: “هل أنت متغرب وحدك فى أورشليم ولم تعلم الأمور التى حدثت فيها هذه الأيام؟” فقال لهما يسوع: “وما هى؟” فأجابا: “المختصة بيسوع الناصرى الذى كان إنساناً نبياً مقتدراً فى الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب. كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدى إسرائيل ولكن مع هذا كله اليوم له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك. بل بعض النساء منا حيرننا إذ كن باكراً عند القبر ولما لم يجدن جسده أتين قائلات إنهن رأين منظر ملائكة قالوا إنه حى, ومضى قوم من الذين معنا إلى القبر فوجدوا هكذا كما قالت أيضاً النساء وأما هو فلم يروه” فأجابهما يسوع: “أيها الغبيان والبطيئا القلوب فى الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء أما كان ينبغى أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده؟” ثم ابتدأ يفسر لهما الأمور المختصة به فى جميع الكتب. ولما قربوا من القرية تظاهر أنه منطلق إلى مكان آخر أبعد ولكنهما ألزماه أن يمكث معهما. فلما اتكأ معهما أخذ خبزاً وبارك وكسر وناولهما فانفتحت أعينهما وعرفاه ثم اختفى عنهما, فقال بعضهما لبعض “ألم يكن قلبنا ملتهباً فينا إذ كان يكلمنا فى الطريق ويوضح لنا الكتب؟” فقاما فى الحال وأخذا يناديان بقيامة السيد المسيح” (لو24), وقيل إن التلميذ الثانى كان لوقا البشير.

(2) أعماله فى التبشير

كرز هذا الرسول فى نواحى اليهودية ولاسيما في اللد.

(3) استشهاده

نالته عذابات كثيرة من اليهودية, ثم استشهد بأيديهم, قيل إنه صلب وأنه دفن فى نفس البيت الذى أضاف فيه هو ورفيقه السيد المسيح بعد قيامته من الأموات. وتعيد له الكنيسة فى اليوم الأول من شهر هاتور.

الفصل الخامس

القديس سمعان كلوبا

(1) تعريف بالقديس

هو ابن كلوبا أخى البار يوسف النجار, وأمه مريم أخت السيدة العذراء والدة الإله وكانت واقفة عند صليب المخلص مع بعض النساء حيث يقول القديس يوحنا الإنجيلى: “وكانت واقفات عند صليب يسوع أمه وأخت أمه مريم زوجة كلوبا ومريم المجدلية” (يو19: 25).

(2) أعماله فى الخدمة

كرز القديس فى أورشليم وأحبه المؤمنون كثيراً, واستمتعوا بتعاليمه الحية وآياته القوية. وقد كان يعظ كثيراً عن الطهارة والعفة. ولما استشهد القديس يعقوب الصغير سنة 63م بيد هيرودس العاتية (أع12: 2) اختاره المؤمنون لكى يكون خليفة له فى الأسقفية فرسم أسقفاً للمدينة العظيمة ورعى شعبه بأمانة وبر ونشاط.

ولما خربت أورشليم على أيدى الرومان هرب المسيحيون إلى عبر الأردن الشرقى, ثم عادوا وسكنوا أورشليم من جديد وكان القديس لا يألوا جهداً فى تثبيت المؤمنين وحثهم على الثبات على إيمانهم.

(3) استشهاده

جعل تراجان قيصر يجد فى طلب المسيحيين الظاهرين لكى ينكل بهم, ووشى إليه قوم بالقديس سمعان الرسول فأمر بالقبض عليه وقتله. ولما وقف القديس بين يدى أتيكوس حاكم سوريا, احترم الحاكم شيخوخته ورق له, حيث كان يبلغ المائة والعشرين من عمره. ثم أخذ يلاطفه ويدعوه إلى ترك الإيمان والسجود للآلهة الكاذبة ولكن القديس طفق يشهد أمامه بالحق الإلهى ويعلن له أنه لا يوجد إلا إله واحد وأن آلهة الأمم ما هى إلا آلهة كاذبة لا قوة لها ولا حياة. فأذهلت شجاعته وحديثه الكثيرين وآمن بالسيد المسيح عدد كبير. وغضب عليه الحاكم وأمر بتعذيبه, فجلدوه بالسياط ونفذوا فيه أنواعاً أخرى من العذابات. وأخيراً مات مصلوباً وقيل إنه قطعت رأسه وقد كانت شهادته فى سنة 107م بعد أن جلس على كرسى الأسقفية خمساً وأربعين سنة.

وتحتفل الكنيسة بذكرى استشهاده فى اليوم التاسع من شهر أبيب.

الفصل السادس

القديس فيلبس الشماس

كان القديس مبشراً مجاهداً (أع 8) وله نشاط كبير فى نشر الدعوة الإلهية وجذب النفوس إلى الإيمان. ومن نواحى نشاطه فى الخدمة:

عمله فى السامرة

1 – بشر فى السامرة وآمن على يديه عدد كبير وأجرى الله على يديه معجزات باهرة أدهشت الجميع. وفى هذا يقول سفر الأعمال: “فالذين تشتتوا جالوا مبشرين بالكلمة فانحدر فيلبس وكان يكرز لهم بالمسيح وكان الجموع يصغون بنفس واحدة إلى ما يقوله فيلبس عند استماعهم ونظرهم الآيات التى صنعها لأن كثيرين من الذين بهم أرواح نجسة كانت تخرج صارخة بصوت عظيم. وكثيرون من المفلوجين والعرج شفوا فكان فرح عظيم على تلك المدينة, وكان من بين الذين آمنوا سيمون الساحر نفسه الذى كان يدهش أهل السامرة بأعماله ولما آمن كان يلازم القديس فيلبس (أع8: 4-13).

وقد عمدهم القديس فيلبس باسم الرب يسوع, ولما وصل القديسان بطرس ويوحنا وضعا أيديهما على عموم المعمدين بالسامرة لقبول سر التثبيت فقبلوا موهبة الروح القدس. ولم يكن فى سلطان فيلبس أن يعطيهم هذا السر لكونه آنئذ شماساً فقط.

تبشير الخصى الحبشى (أع 26:8-39)

أمر ملاك الرب فيلبس أن يتجه نحو الجنوب على الطريق المنحدرة من أورشليم إلى غزة. وفى الطريق صادف الخصى الحبشى وزير كنداكة ملكة الحبشة, وكان قد جاء إلى أورشليم ليسجد. وبينما كان راجعاً وراكباً فى مركبة وهو يقرأ فى سفر إشعياء قال الروح القدس لفيلبس أن يتقدم ليرافق المركبة, فسأل الخصى: “ألعك تفهم ما أنت تقرأ؟” وأجاب الخصى: “كيف يمكننى إن لم يرشدنى أحد”. وطلب إليه أن يصعد إلى المركبة, فصعد فيلبس. وكان الوزير يقرأ نبوة إشعياء عن السيد المسيح: “مثل شاة سيق إلى الذبح ومثل خروف صامت أمام الذى يجزه هكذا لم يفتح فاه…” (إش53) وسأل الخصى عن من يتكلم النبى, هل عن نفسه أم عن شخص آخر, وأخذ القديس يفسر للخصى الحبشى نبوات إشعياء والأنبياء ويوضح له حقائق الإيمان. فآمن الرجل, ثم لما أقبلا على ماء فى الطريق قال الخصى: “هوذا ماء ماذا يمنع أن أعتمد؟” فقال فيلبس: “إن كنت تؤمن من كل قلبك يجوز”، فأعلن الخصى إيمانه بيسوع المسيح ابن الله. ونزل معه فيلبس وعمده. ولما صعدا من الماء خطف روح الرب فيلبس فلم يبصره الخصى. وقد كان هذا الرجل باكورة المؤمنين فى الحبشة. وقد أخبر هناك بما صنع الرب به.

وفى جهات أخرى

3 – اختطف الروح فيلبس إلى أشدود بفلسطين حيث بشر هناك (أع 40:8). ومنها اجتاز إلى كثير من مدن آسيا. ثم وصل أخيراً إلى قيصرية. وقد أضاف فى بيته القديس بولس الرسول ورفاقه حيث كانوا متوجهين إلى رومية (أع21: 8).

4 – ويذكر سفر أعمال الرسل أن القديس فيلبس كان له أربع بنات كن يتنبأن ويقول بعض الآباء أنهن كن حاضرات مع المؤمنين فى يوم الخمسين حينما حل الروح القدس.

5 – كما يذكر بعض الآباء أنه رسم أسقفاً على نيابوليس.

(3) نياحته

بعد أن أتم القديس جهاده الحسن تنيح بسلام ودفن فى منبج. ودفنت معه بناته الأربع فيما بعد, وتعيد له الكنيسة فى اليوم الرابع عشر من شهر بابة.

الفصل السابع

القديس برنابا الرسول

(1) تعريف بالقديس

اسم هذا القديس أيضاً يوسف, ويرى بعض الباحثين أنه آمن على أيدى الرسل, ويرى البعض الآخر أنه كان أحد السبعين رسولاًَ وأن الذى دعاه برنابا هو رب المجد حينما اختاره, ومعنى برنابا ابن الوعظ أو ابن العزاء. وهو من سبط لاوى ولكن أسرته كانت قد نزحت إلى قبرص ولذلك اعتبر قبرصى الجنس (أع4: 36).

ويذكر سفر الأعمال أنه كان من ضمن الذين باعوا أملاكهم وأتوا بأثمانها إلى الرسل حيث كان يملك حقلاً وقدم ثمنه تحت تصرفهم (أع4: 36-37). ويقول عنه الكتاب إنه كان رجلاً صالحاً وممتلئاً من الروح القدس والإيمان (أع11: 24).

(2) أعماله فى التبشير

1 – بعد أن ظهر الرب للقديس بولس الرسول وهداه إلى الإيمان به, كان برنابا هو الذى قدمه إلى جماعة الرسل فى أورشليم وحدثهم عن كيفية إيمانه وعن خدمته للرب فى دمشق (أع9: 26-28).

ولما آمن عدد كبير من اليونانيين فى أنطاكية على أيدى المؤمنين الذين تشتتوا بسبب الضيق والاضطهاد, أوفدت الكنيسة إليهم برنابا فوعظهم وثبتهم (أع11: 19-24). وآمن على يديه جمهور كبير.

3 – وتوجه القديس إلى طرسوس ليطلب بولس الرسول وأخذه من طرسوس إلى أنطاكية حيث ظل الاثنان يعملان بها مدة سنة ونجح العمل على أيديهما ودعى التلاميذ مسيحيين فى أنطاكية أولاً (أع11: 25-26).

4 – ولما تنبأ أغابوس بأن جوعاً سيحدث أوفدت الكنيسة القديس بولس والقديس برنابا ليحملا تبرعات المؤمنين إلى إخوتهم فى اليهودية.

5 – وبينما كان الإيمان يزدهر فى أنطاكية على أيدى الرسولين وغيرهما من المعلمين والأنبياء قال الروح القدس “افرزوا لى برنابا وشاول للعمل الذى دعوتهما إليه”, فصلوا ووضعوا عليهما الأيادى وأطلقوهما, فتوجه الرسولان إلى سلوكية, ومنها إلى قبرص, حيث بشرا فى سلاميس, ثم فى بافوس حيث قاومهما عليم الساحر, وضربه الله بالعمى مما جعل الوالى يؤمن, وكان القديس مرقس يصحبهما (أع4:13-12). ثم وصلوا إلى برجة بمفيلية حيث بارحهم مرقس إلى أورشليم وواصل الرسولان ورفقاؤهما انتقالهم إلى أنطاكية بيسيدية. وقد جاهر بولس وبرنابا كثيراً بالكلمة ووبخا اليهود المقيمين بسبب عدم إيمانهم ونشر الكلمة بين الأممين الذين آمن منهم عدد كبير. ولاقى الرسولان اضطهادات كثيرة من اليهود هناك ونفضا غبار أرجلهما وتوجها إلى أيقونية (أع13).

6 – وقابل الرسولان الاضطهاد من اليهود فى أيقونية أيضاً, ومنها توجها إلى ليكأونية ولسترة ودربة, وقد شفى الرسولان الرجل المقعد فى لسترة حتى بهت أهلها وقالوا إن الآلهة تشبهت بالناس ودعوا برنابا زفس وبولس هرمس وأرادوا أن يقدموا لهما الذبائح ولكن الرسولين مزقا ثيابهما وأقنعاهم بأنهما ليسا آلهة وإنما هما بشر مثلهم, ولما تألب الجموع عليهما بسبب فتنة اليهود أيضاً توجها إلى دربة ثم واصلا العمل فى لسترة من جديد وفى أيقونية وأنطاكية وبمفيلية. (أع14).

7 – وتوجه الرسولان إلى أورشليم ليحضرا المجمع المقدس, وقد قصا على المؤمنين فى أورشليم عمل الله العجيب فى الأمم. ولما أشار بولس على برنابا أن يذهبا لافتقاد الإخوة فى الجهات التى بشرا فيها رأى برنابا أن يأخذ مرقس معهما. ولكن بولس كان يستحسن أن الذى فارقهما من بمفيلية لا يأخذانه وأخذ بولس سيلا معه وذهبا إلى سورية وكيليكية, بينما أخذ برنابا مرقس وسافر معه إلى قبرص, حيث ظلا معاً إلى أن استشهد القديس برنابا. (أع15: 36-41).

(3) استشهاد القديس

ظل الرسولان برنابا ومرقس يعملان فى قبرص وكان الله يصحب الكلمة بالآيات والمعجزات, وأخيراً اغتاظ اليهود المقيمون بها. وهيجوا الحكام والشعب على الرسول برنابا فقبضوا عليه وضربوه ضرباً مبرحاً ثم رجموه بالحجارة ووضعوا جسده فى النار لكى يحرقوه ولكن الله حفظ الجسد سالماً.

وبعد أن انصرف المقاومون حمل القديس مرقس الجسد ولفه فى أكفان ودفنه فى مغارة خارج قبرص, واستودع عمله بها ليد الرب وسافر إلى الإسكندرية ليعمل فى ديارنا المصرية.

والأرجح أن المكان الذى دفن فيه القديس برنابا هو سلاميس المرفأ الواقع شرقى قبرص, ويوجد بها الآن دير باسم القديس. وهناك تقليد يقول إن جسد القديس ظل مودعاً فى المكان الذى دفنه فيه القديس مرقس حوالى أربعمائة سنة, حتى حاولت كنيسة قبرص الاستقلال عن مجمع أنطاكية بداعى أن مؤسسها رسول, وأعلن رئيس أساقفتها أن القديس برنابا ظهر له فى رؤيا وعرفه بمقر جسده, وأمره أن يقدم احتجاجه إلى الإمبراطور زينون فى القسطنطينية, وتوجه رئيس الأساقفة ومعه الكثيرون إلى المكان فوجدوا بالفعل جسد القديس وعلى صدره نسخه من إنجيل متى, فحملوا الجسد باحتفاء عظيم إلى الإمبراطور, فأمر بعقد مجمع كنسى, وتقرر استقلال كنيسة قبرص, وصرح الإمبراطور لرئيس أساقفتها أن يلبس الملابس القرمزية وأن يمسك بالصولجان, وأن يوقع بالمداد الأحمر الأمر الذى كان لا يسوغ إلا للإمبراطور وحده. وتتمسك كنيسة قبرص بحقوقها هذه لليوم.

وتعيد الكنيسة القبطية للقديس برنابا الرسول فى اليوم الحادى والعشرين من شهر كيهك.

الفصل الثامن

القديس لعازر

(1) تعريف بالقديس

لعازر هو ذلك القديس العظيم أخو مريم ومرثا, من بيت عنيا القريبة من أورشليم. نال الشرف العظيم بأن دعى حبيباً وصديقاً للرب, حيث كان بيته محط رحال المخلص وتلاميذه, ولعازر من (أليعازر). ومعناه (من يعينه الله). قيل إن أباه اسمه سيروس وأمه اسمها أوكاريا.

(2) إقامته من الموت

إن معجزة إقامة لعازر من الموت من المعجزات الباهرة التى عملها السيد المسيح إظهاراً للاهوته وقد شرحها القديس يوحنا فى الأصحاح الحادى عشر من إنجيله, ولقد آمن الكثيرون من اليهود بسبب هذه المعجزة العظيمة. وكان الكثيرون يأتون من جهات مختلفة لكى يروا ذلك الشخص العجيب الذى قام بعد أن مات ودفن فى المقبرة أربعة أيام, ولما كان الكثيرون منهم يؤمنون بالمسيح بسببه تآمر اليهود فيما بينهم أن يقتلوا المسيح ولعازر أيضاً (يو12: 1-7).

(3) كرازته ونياحته

1 – بشر القديس فى بلاد اليهودية أولاً.

2 – ثم رسم أسقفاً على جزيرة قبرص حيث رعى شعبه أحسن رعاية إلى أن تنيح بسلام، ويظهر أنه ذهب إلى قبرص مع جموع المؤمنين الذين تشتتوا بسبب الاضطهاد الذى أثاره اليهود عليهم بعد قتل القديس استفانوس (أع8). وقد كانت نياحته بعد 40 سنة من إقامته من الأموات.

3 – ويقول بعض المؤرخين رأياً آخر مؤداه أن اليهود لغيظهم من لعازر وأختيه فكروا فى قتله ولكنهم لم يجرؤا على ذلك لخوفهم من الشعب فوضعوا الأختين فى قارب بدون دفة لكى تهلكا فى البحر ولكن القارب وصل بعناية الله إلى مدينة مرسيليا بفرنسا. وبعد مدة لحق بهما أخوهما وهناك بشرا أيضاً وآمن على يديه خلق عظيم فاغتاظ الوثنيون وأخذوه إلى الحاكم. وطلب الحاكم منهم أن يسجدوا للأوثان ولكن القديس أجابه: (حاشا لى أن أسجد لصنعة الأيدى وأكفر بمن وهبنى الحياة مرتين). ومن ثم جرعه الوالى أنواعاً من العذاب المر منها أنه أمر بجلده بحبال قد ثبتت بها أشواك, ثم أمر بسحبه فى شوارع المدينة, ثم بوضعه فى سجن مظلم. وقد ظهر له السيد المسيح وقواه وعزاه. وأخيراً قطعوا رأسه.

(4) نقل أعضائه

يقول الآباء الذين اعتبروا أنه أتم جهاده فى قبرص ودفن بها إن ملكاً مسيحياً فكر فى نقل أعضائه إلى القسطنطينية فأرسل لفيفاً من الأساقفة إلى قبرص حيث وجدوا جسده موضوعاً فى تابوت من الرخام وقد نقش عليه: (هذا هو جسد لعازر صديق الرب يسوع الذى أقامه من الموت بعد (أربعة أيام), فحملوه بإكرام عظيم وبنوا عليه كنيسة فى القسطنطينية.

(5) ذكراه

والمسيحيون فى الشرق والغرب يطوبون هذا القديس العظيم صديق الرب, وقد سميت بيت عنيا العازرية وهى قبلة للزائرين. وتذكر الكنيسة القبطية إقامته من الموت فى اليوم السابع من شهر برمهات ونياحته فى السابع والعشرين من بشنس كما تذكر خبر نقل عظامه فى اليوم الحادى والعشرين من شهر بابة.

الفصل التاسع

القديس استفانوس

(1) مقدمة

يحق للكنيسة أن تفتخر بهذا القديس العظيم وأمثاله, ولا غرابة فى أن تدعوه (أول الشهداء), و(رئيس الشمامسة) وأن يعتبره المؤمنون فى مصاف الرسل لما قام به من نضال وجهاد فى سبيل الإيمان, ومعنى استفانوس (إكليل) وهو من سبط بنيامين وقيل إنه كان قريباً لشاول الطرسوسى الذى أصبح بولس الرسول فيما بعد. وقد كان القديس استفانوس متتلمذاً فى مدرسة غمالائيل (إحدى الخمس مدارس الكبرى فى أورشليم).

(2) انتخابه شماساً

يذكر الأصحاح السادس من سفر أعمال الرسل أن المتنصرين من اليونانيين تذمروا لأن أراملهم كن يُغفل عنهن فى الخدمة اليومية فتحدث الرسل إلى المؤمنين بقولهم إنه لا يرضى أن يتركوا خدمة كلمة الله ليخدموا الموائد, واقترحوا عليهم أن ينتخبوا سبعة إخوة يقومون بالخدمات الاجتماعية والمادية لكى يتفرغوا هم للصلاة ونشر كلمة الله, واستحسنت الكنيسة الرأى وانتخبت سبعة شمامسة كان أولهم هذا القديس العظيم ووضعوا عليهم الأيادى ليصيروا شمامسة.

(3) جهاد القديس الروحى

1 – علاوة على قيام القديس بخدمته المادية التى أقامه الرسل عليها, فقد ساهم بقسط وافر فى الجهاد الروحى حيث كان يبشر أيضاً, لأنه كان مملوءاً إيماناً وقوة وكان يصنع عجائب وآيات عظيمة فى الشعب (أع6: 8).

2 – وحاوره قوم من مجمع الليبرتينيين والقيروانيين والإسكندريين والذين من كيليكيا وآسيا, ولم يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح الذى كان يتكلم به (ع9) والليبرتينيون أى الأحرار هم جماعة من اليهود كانوا قد أسروا إلى رومية كعبيد ثم عتقوا وعادوا إلى اليهودية وكان لهم مجمع خاص فى أورشليم وقد دعوا هكذا بسبب تحريرهم. أما القيروانيون فهم من اليهود الذين كانوا فى القيروان عاصمة ليبية وكان لهم مجمع خاص أيضاً, كما أن جماعة الإسكندريين وأهل كيليكية وآسيا كانوا جميعاً من اليهود الذين عاشوا فى الإسكندرية وكيليكية وآسيا ثم استوطنوا أورشليم.

3 – من ثم هيج هؤلاء عليه الفتن, ووشوا لرجال يدعون أنهم سمعوه يتكلم بتجاديف على موسى وعلى الله. وهيجوا عليه الشعب والشيوخ والكتبة فقاموا وخطفوه وأخذوه إلى المجمع (ع10-12).

4 – وأقاموا عليه شهود زور ادعوا أنه لا يفتر عن أن يتكلم بتجديف ضد الموضع المقدس والناموس وأنه يقول إن يسوع الناصرى سينقض الهيكل ويغير العوائد التى سلمهم موسى إياها.

5 – ويذكر القديس لوقا فى سفر الأعمال أن الجالسين فى المجمع رأوا وجهه كأنه وجه ملاك (ع15).

6 – وكما تزعم رؤساء الكهنة حركة الافتراء ضد المخلص له المجد, تزعمها رئيس الكهنة أيضاً ضد استفانوس خادمه. فقال وهو مملوء بالضغينة”أترى هذه الأمور هكذا” (أع7: 1).

7 – من ثم انبرى القديس يلقى خطابه الرائع أمام مجمع الظلم والعدوان!! (أع7).

(4) فحوى خطاب القديس (أع7: 1-53)

1 – يعدد القديس أعمال الله مع شعبه قديماً فيقص كيف دعا الله إبراهيم وأعطاه عهد الختان, وأنبأه بما يصيب نسله, ثم تحدث عن إسحق ويعقوب ويوسف, وتغرب الشعب فى مصر ثم خروجهم على يد موسى النبى بعد أن ذاقوا اضطهادات كثيرة فى أرض غربتهم.

2 – ويتحدث عن خروج الشعب قديماً عن طاعة الله وعبادتهم العجل الذهبى, وتحديهم لموسى النبى مراراً رغم خدماته الوفيرة وغيرته العظيمة عليهم.

3 – ويختم خطابه بتوبيخ السامعين الذين رفضوا المسيح بقوله: “يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان أنتم دائماً تقاومون الروح القدس. كما كان آباؤكم كذلك أنتم. أى الأنبياء لم يضطهده آباؤكم. وقد قتلوا الذين سبقوا فأنبأوا بمجىء البار الذى أنتم الآن صرتم مسلميه وقاتليه الذين أخذتم الناموس بترتيب ملائكة ولم تحفظوه”.

(5) استشهاد القديس

1 – لم يكد استفانوس ينطق بعبارته الأخيرة من خطابه العظيم حتى حنق الجموع بقلوبهم وصروا بأسنانهم. أما هو فشخص إلى السماء وهو ممتلئ من الروح القدس فرأى مجد الله ويسوع قائماً (واقفاً) عن يمين الله. ويعلق بعض المفسرين على هذا فيقولون إن الكتاب يذكر دائماً أن السيد المسيح كان يرى جالساً عن يمين العظمة, ولكنه فى استشهاد استفانوس ذكر أنه نظره قائماً أى واقفاً, كأن رب المجد يتأهب بسرور لاستقبال نفس عبده وشهيده.

2 – من ثم قال القديس: “ها أنا أنظر السموات مفتوحة وابن الإنسان قائماً عن يمين الله”, فصاحوا بصوت عظيم وسدوا آذانهم حتى لا يسمعوا وهجموا عليه بنفس واحدة وأخرجوه خارج المدينة ورجموه بالحجارة.

3 – ويروى سفر الأعمال أن شهود رجمه خلعوا ثيابهم عند رجلى شاب يقال له (شاول), ثم يعلق على ذلك بقوله: “وكان شاول راضياً بقتله”.

4 – وبينما كان هؤلاء يرجمون القديس, كان هو بدوره يدعو قائلاً: “أيها الرب يسوع اقبل روحى”. متشبهاً بقول سيده على الصليب “يا أبتاه فى يديك أستودع روحى”.

5 – وفى احتضاره الرهيب لم يفته أن يتذكر سيده المصلوب وهو يطلب المغفرة لصالبيه (لو23: 34), فصرخ القديس بصوت عظيم: “يارب لا تقم لهم هذه الخطية”.

وإذ قال هذا رقد, وطويت صحيفة من أنقى الصحائف, وختمت سيرة من أطهر السير وأروعها.

6 – وفى يوم استشهاده حدث اضطهاد عظيم على الكنيسة التى فى أورشليم فتشتت المؤمنون ما عدا الرسل فى كور اليهودية والسامرة. وحتى موته واضطهاد المؤمنين وتشتيتهم كانت بركة لأنهم أخذوا ينادون بالكلمة فى الأماكن التى ذهبوا إليها(أع1:8, 4).

7 – بعد رجمه جاء بعض المؤمنين وحملوا جسد القديس استفانوس وعملوا عليه مناحة عظيمة ودفنوه باحتفال يليق ببطل مجاهد عظيم.

(6) العثور على جسده

1 – دفن جسد القديس ببلدة كفر معجلا أو كفر غماليال وهى تبعد عن أورشليم بحوالى سبع ساعات ويقال إن الذى قام بدفنه العلامة غمالائيل الذى كان يؤمن بالمسيح سراً, وظل الجسد مدفوناً مختفياً أكثر من ثلثمائة سنة. وفى عهد الملك قسطنطين وقيل فى عهد الملك ثيؤدوسيوس الصغير حدث أن كاهناً بهذه الجهة اسمه لوكيانوس رأى فى رؤياه أن غمالائيل يطلب منه أن يبحث عن قبر القديس استفانوس فيجد جسده. فصام الرجل وطلب من الله أن تتكرر الرؤيا لكى يتأكد منها فظهرت له فى رؤيا ثانية أربع قفف مملوءة زهوراً الأولى منها من ذهب وبها زهور حمراء واثنتان من مادة أقل قيمة من الذهب وأزهارها بيضاء والرابعة من فضة وبها طيب زكى وكانت القفف ترمز إلى القديس استفانوس ثم إلى غمالائيل وابنه نيقوديموس اللذين كانا مدفونين قريباً منه. ورأى فى رؤيا ثالثة أن غمالائيل يعود فيلح عليه أن ينفذ ما أمر به.

توجه لوكيانوس إلى يوحنا أسقف أورشليم وأخبره بالأمر وكان الأسقف متوجهاً لحضور مجمع فى مدينة ديوسبوليس فكلف أحد القسوس ليستطلع جلية الأمر, فكشف القبر الأول ووجد مكتوباً عليه بالعبرية (إكليل) أى استفانوس باليونانية, فأخبر الأسقف فأتى حالاً ومعه غيره من الأساقفة, ولما فتحوا القبر حدثت زلزلة عظيمة وفاحت روائح زكية وسمعت أصوات الملائكة تردد مهللة “المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة” فسجد الأساقفة وحملوا التابوت باحتفال عظيم إلى أورشليم.

2 – وجاء فى التاريخ أن رجلاً مؤمناً من القسطنطينية اسمه الإسكندروس كان يقطن فى أورشليم فبنى كنيسة بأورشليم ونقل إليها جسد القديس, ولما مات الرجل دفن بجانب جسد القديس وبعد مدة أرادت زوجته أن تعود إلى القسطنطينية وتحمل جسد زوجها معها. وحدث أنها أخطأت فحملت التابوت الذى كان به جسد القديس, ولما كانوا فى وسط البحر سمعت ترتيلاً شجياً من التابوت فتعجبت وعرفت أنه تابوت القديس استفانوس ففرحت فرحاً شديداً, ولما وصلت إلى القسطنطينية أخبرت الملك بذلك, فخرج الملك والبطريرك والكهنة ولفيف كبير من الشعب وحملوا الجسد بالترنيم والتسبيح, ووضعوا التابوت على هودج يحمله بغلان فوصل البغلان إلى موضع يسمى قسطنطينوس ووقفا ولم يتحركا بالرغم من ضربهما كثيراً, بل أنطق الله واحداً من البغلين فقال: “ها هنا يجب أن يوضع جسد القديس”, فمجد الناس الله القادر على كل شئ الذى أنطق حمارة بلعام قديماً (عدد22: 28) والذى عاد وأنطق هذا الحيوان, وبنوا كنيسة على اسم القديس فى هذا الموضع الذى صار مقرا لجسده.

3 – وقد حدثت معجزات عظيمة من جسد القديس بأورشليم وبالقسطنطينية. منها أن امرأة عمياء أخذت من بعض الأزهار التى كان المؤمنون يضعونها على جسده ووضعتها على عينيها فأبصرت. ومنها أن رجلاً وثنياً اسمه مرسيال وكانت ابنته وصهره مسيحيين وحاولا أن يقنعاه باعتناق الدين المسيحى فلم يقبل، وحدث أنه مرض مرضاً شديداً، فأخذت ابنته وصهره بعض هذه الزهور ووضعاها تحت وسادته دون أن يعلم وصليا إلى الله أن يهديه إلى الحق، فما كان منه إلا أن نهض فى الصباح مقراً بالإيمان وطلب العماد فعمد، وظل يتلو قائلاً: [ أيها الرب يسوع اقبل روحى ] إلى أن تنيح بسلام. وهذه هى نفس الصلاة التى كان يصليها القديس استفانوس قبل موته.

ويروى القديس أغسطينوس أنه لما نقل إلى إيبونه مقر أسقفيته شيئاً من أعضاء القديس استفانوس جرت منها آيات عديدة منها أن صبيا كانت قد مرت عليه عربة وقتلته ولكن لما وضع جسده على مذبح القديس قام حياً صحيحاً ومنها أنهم دهنوا ميتاً بزيت القديس استفانوس فقام حياً. ويقول القديس أغسطينوس إن وجود جسد رئيس الشمامسة استفانوس والمعجزات التى تجرى منه مدعاة لإيمان الكثيرين من المهرطقين.

تعيد الكنيسة القبطية فى اليوم الأول من طوبة تذكارا لاستشهاده وفى الخامس عشر من شهر توت تذكارا للعثور على جسده ونقله إلى أورشليم، كما تعيد له الكنيسة الغربية فى اليوم السادس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر).

الفصل العاشر

القديس بروخورس

1 – أعماله فى التبشير

1 – معنى اسم بروخورس رئيس صفوف المرتلين أو قائدهم، وقد نال مواهب الروح القدس فى يوم الخمسين وانتخب من بين السبعة الشمامسة (أع6: 5) ورسم أسقفاً على نيقوميديا إحدى مدى أقليم بيثينية وقيل إنه نسيب استفانوس رئيس الشمامسة.

2 – كان رفيقاً للقديس يوحنا الرسول وساعده كثيراً فى أعماله التبشيرية وجذب الكثيرين من اليونانيين وغيرهم إلى الإيمان، وقد بنى للمؤمنين كنيسة فى مقر كرسيه ورسم عدداً من القسوس والشمامسة. وهو الذى كتب سيرة القديس يوحنا الرسول.

3 – كان يتنقل فى جهات كثيرة للتبشير وكانت كلمة الرب تنمو على يديه.

2 – نيـاحتــه

لاقى القديس شدائد كثيرة فى سبيل الكرازة، وبلغ شيخوخة صالحة ثم تنيح بسلام وعيده فى اليوم العشرين من شهر طوبة.

الفصل الحادى عشر

القديس تيمون

1 – تعريف بالقديس

كان القديس من الذين رأوا الرب وآمنوا به. وبعد صعوده نال نعمة الروح القدس المعزى مع جماعة المؤمنين. وقد اختاره التلاميذ ضمن السبعة شمامسة ليساعدوا فى الخدمة الاجتماعية (أع6: 5). ومعنى (تيمون) المكرم.

(2) أعماله فى التبشير

بشر هذا القديس فى عدة جهات منها قبرص وبيرية وصور وبصرة العربية وقد رسم أسقفاً عليها. وقد أيد الله كلمته بالمعجزات والآيات التى جرت على يدى القديس. وآمن بواسطته جماهير كثيرة من اليهود ومن اليونان.

(3) استشهاده

ثار ضد جماعة الوثنيين فعذبوه بأنواع كثيرة من العذاب. وأخيراً رموه فى أتون متقد ولكنه ظل حياً وسالماً وكان يسبح الله فى الأتون. فأخرجوه منه وصلبوه على خشبة حيث أسلم روحه الطاهرة وكان هذا فى اليوم السادس والعشرين من شهر بابة.

الفصل الثانى عشر

القديس تاديوس (تداوس)

ويسمى أيضاً (تادى) و (أدى) وهو غير القديس تداوس الرسول أحد الاثنى عشر رسولاً.

كان هذا القديس من السبعين رسولاً. وبعد صعود السيد المسيح وحلول الروح القدس ذهب إلى الرها وبشر ملكها أبجر (أبيكاريوس). وتفصيل هذا أن ذلك الملك كان مريضاً بالنقرس وقيل بالبرص. وسمع عن السيد المسيح وعن المعجزات التى كان يعملها وعن اضطهاد اليهود له, فأرسل إليه رسولاً اسمه حنين برسالة رقيقة نصها: (من أبجر ملك الرها إلى يسوع المطبب الظاهر بأورشليم. أما بعد فإنه بلغنى عنك وعن طبك الروحانى وأنك تبرئ الأسقام من غير أدوية فأيقنت أنك إما إله نزلت من السماء أو ابن الإله. فأنا أسألك أن تصير إلىَّ لعلك تشفى ما بى من السقم. وقد بلغنى أن اليهود يرمون قتلك ولى مدينة واحدة نزهة وهى تكفينى وإياك تسكن فيها في هدوء. والسلام).

فأرسل السيد المسيح إليه كتاباً قال فيه: (طوباك أنك آمنت بى ولم ترنى, وأما ما سألتنى من المضى إليك فإنه يجب أن أتمم ما أرسلت له وأصعد إلى أبى ثم أرسل إليك تلميذاً لى يبرئ سقمك ويمنحك ومن معك حياة الأبد).

قيل إن حنين رسول الملك أخذ يتأمل فى وجه السيد المسيح وصور له صورة على منديل لكى يهديها إلى الملك, وقيل إن السيد المسيح مسح وجهه بالمنديل فانطبعت صورته عليه وأرسله إلى الملك مع رسالته.

وبعد حلول الروح القدس كان نصيب هذا القديس فى التبشير فى بلاد الرها حيث شفى الملك من أسقامه وبشر بالخلاص وآمن على يديه الملك وعدد غفير من الناس, وقيل إن توما الرسول صحبه فى هذه الرحلة أو أنه كلفه بإرشاد الروح القدس بالذهاب إلى هناك.

وجاء بكتاب مجانى الأدب (ج1: 203) عن الرها: (الرها من ديار مصر فى الجزيرة (ما بين النهرين) قال فى العزيزى: والرها مدينة رومية عظيمة فيها آثار عجيبة وهى بالقرب من قلعة الروم من الجانب الشرقى الشمالى عن الفرات, وكانت الرها مدينة كبيرة وبها كنيسة عظيمة وفيها أكثر من ثلاثمائة دير للنصارى. وهى اليوم خراب). وعاصمة الرها (إدسه  Edessa القريبة من نهر الفرات).

 

الفصل الثالث عشر

القديس بتروباس

من السبعين رسولاً ومعنى اسمه (حياة أبيه) وقد ولد فى رومية. ونزح إلى فلسطين حيث آمن بالسيد المسيح وأختير بين رسله.

ساهم بقسط وافر فى الخدمة مع القديس بولس الرسول ويهدى إليه الرسول سلامه فى رسالته إلى رومية (16: 14).

رسم أسقفاً على بوطبولى, وبعد أن أكمل جهاده استشهد فى 4 تشرين الثانى (نوفمبر) وله عيد سنوى فى مدينته فى هذا اليوم.

الفصل الرابع عشر

القديس أغابوس

(1) اسم هذا القديس أيضاً مفنيس وقد نال موهبة الروح القدس فى يوم الخمسين مع باقى الرسل. ومعنى أغابوس المحبوب.

(2) أغابوس كنبى

كان هذا القديس نبياً وورد عنه فى سفر أعمال الرسل (11: 28) أنه انحدر إلى أنطاكية مع عدد من الأنبياء وتنبأ بحدوث جوع فى المسكونة, وقد تم هذا بالفعل فى سنة 44م فى عهد كلوديوس قيصر فأرسل تلاميذ الرب مع برنابا وشاول ما تيسر جمعه من المساعدات لخدمة الإخوة الذين فى اليهودية.

وتمت نبوة ثانية للقديس ذكرها السفر فى أصحاح (21: 10) عن الاضطهادات التى سيلاقيها القديس بولس الرسول من اليهود حيث أخذ منطقة بولس وربط يدى نفسه ورجليه وقال: “هذا يقوله الروح القدس: الرجل الذى له هذه المنطقة سيربطه اليهود فى أورشليم ويسلمونه إلى أيدى الأمم”.

(3) كرازته

كرز القديس فى جهات كثيرة سيما فى بلاد اليهودية وقد آمن على يديه الكثيرون من اليهود ومن الأمم.

(4) استشهاده

قبض عليه اليهود وعذبوه عذاباً شديداً وقيل فى موته إنهم ربطوه بحبل وجعلوا يطوفون به حتى أخرجوه خارج أورشليم وهناك قتلوه رجماً بالحجارة, وعندما أسلم روحه رأى الجموع المحيطين به نوراً ساطعاً ينزل من السماء ويستقر فى هيئة عمود ممتد من السماء إلى جسده, وصرخت امرأة يهودية قائلة: (حقاً إن هذا الإنسان بار, أنا مسيحية مؤمنة بإلهه), فقتلوها رجماً بالحجارة, ولما أسلمت روحها دفنوها معه.

وهناك رأى أن قيافا رئيس الكهنة قتله فى الهيكل المقدس, ورأى ثالث أن استشهاده كان فى أنطاكية. وسواء كان هذا الرأى أو ذاك فقد أكمل القديس سعيه الصالح وأسلم نفسه للموت حباً فى مخلصه.

وذكرى استشهاده فى الكنيسة القبطية فى اليوم الرابع من أمشير, وذكرى بناء كنيسته فى الخامس عشر من برمودة.

الفصل الخامس عشر

القديس إيراسطورس (إيراستس)

يقرر معظم الآباء أن هذا القديس من ضمن السبعين رسولاً, ومعنى أرسطوس (محبوب).

أعماله التبشيرية

1 – عمله فى أورشليم: بعد صعود رب المجد إلى السماء وحلول الروح القدس على المؤمنين بدأ القديس عمله فى أورشليم حيث جاهد جهاداً حسناً وأجرى الله على يديه آيات كثيرة.

2 – عمله بين الأمم: صحب هذا القديس بولس الرسول فى كثير من رحلاته واشترك معه فى الجهاد ويذكر سفر أعمال الرسل أن بولس الرسول حينما كان فى أفسس وعازماً على أن يجتاز فى مكدونية وأخائية ثم يذهب إلى أورشليم ومنها إلى رومية أرسل القديسين أرسطوس وتيموثاوس إلى مكدونية (أع 22:19) ويظهر من رسائل الرسول أيضاً أن أرسطوس كان معه فى كورنثوس حيث يقول فى رسالته إلى رومية “يسلم عليكم أرسطوس خازن المدينة” (رو 16: 24) وفى رسالته الثانية إلى تيموثاوس (أرسطوس بقى فى كورنثوس…” (2تى4: 20).

وقد كان القديس خازناً لمدينة كورنثوس, ثم رسم أسقفاً على أورشليم وقيل مدينة باناطس أو على مدينته فيليسيوس.

انتقاله

وقد لاقى هذا القديس عذابات شديدة من أعداء الدين المسيحى, وأخيراً تنيح بسلام, ويقرر بعض الآباء أنه مات شهيداً. والكنيسة القبطية تعيد له فى اليوم التاسع والعشرين من شهر برمودة.

الفصل السادس عشر

القديسان أندرونيقوس ويونياس

1 – عملهما التبشيري

1 – بعد حلول الروح القدس رسم القديس أندرونيقوس أسقفاً على باتونياس وقيل على سوساس.

2 – قام مع رفيقه يونياس بأعمال تبشيرية كثيرة هديا بها الكثير من الوثنيين إلى الإيمان. وقد كانا فى رومية حينما أرسل بولس الرسول سلامه إليهما حيث يقول “سلموا على أندرونيقوس ويونياس نسيبى المأسورين معى اللذين هما مشهوران بين الرسل وكان قبلى” (رو16: 7).

(2) نياحتهما

وبعد أن أتم أندرونيقوس سعيه الصالح مرض مرضاً قصيراً ثم تنيح بسلام ودفنه صديقه يونياس فى مغارة, وصلى إلى الله أن ينقله حيث صديقه فتنيح هو أيضاً بسلام بعد أيام قليلة – والكنيسة القبطية تذكرهما فى الثانى والعشرين من شهر بشنس.

الفصل السابع عشر

القديس أولمباس

(1) جهاده

بعد قبوله مواهب الروح القدس فى يوم الخمسين بدأ عمله الروحى وقد كان يخدم تلاميذ الرب, وهو الذى كان يحمل بعض رسائل بطرس الرسول إلى الأمم وقد بعث بولس الرسول سلامه إليه حينما كان فى رومية (رو16: 15).

(2) استشهاده

حضر القديس أولمباس استشهاد القديس بطرس الرسول فى رومية حينما صلب منكساً. ولما أسلم الرسول روحه أنزل أولمباس جسده عن الصليب وكفنه باحترام عظيم ونقله إلى بيت أحد المسيحيين, فوشى به أحد الأشرار إلى الملك نيرون الطاغية, فاستحضره ولما عرف منه أنه مسيحى وأنه صديق لبطرس سأله عن أية ميتة يريد أن يموتها فأجابه القديس ( إنى أريد أن أموت من أجل المسيح وكفى. ولك أن تميتنى بأى نوع لأبلغ مرادى سريعاً). فتعجب الملك وأمر بتعذيبه وصلبه منكساً مثل معلمه, فضربوه كثيراً ثم صلبوه منكساً, وأسلم روحه الطاهرة على الصليب.

وتذكره الكنيسة القبطية فى اليوم السادس من شهر أبيب من كل عام.

الفصل الثامن عشر

القديس كودراطس

(1) نشأته

ولد فى أثينا عاصمة بلاد اليونان وقد كان على جانب عظيم من الغنى والعلم, ولما وفد إلى بلاد فلسطين ونعم برؤية السيد المسيح له المجد واستمتع بتعاليمه المحيية, أختير من بين السبعين رسولاً ونال نعمة الروح القدس المعزى فى يوم الخمسين.

(2) حياته التبشيرية وشهادته

1 – بشر القديس فى أثينا ثم انتقل إلى بلاد أخرى كثيرة وآمن بواسطة تبشيره جموع كثيرة.

2 –  عاد إلى أثينا وواصل عمله بها.

3 – عذبه أهل أثينا بالرجم وبأنواع كثيرة من التهديدات, وأخيراً ألقوه فى النار حيث أسلم روحه بيد الرب. تعيد له الكنيسة فى اليوم الرابع والعشرين من شهر توت.

الفصل التاسع عشر

القديس فريسكا

(1) من هو

هو يهودى من سبط بنيامين وقد شاهد معجزات السيد المسيح وسمع تعاليمه الإلهية, وقد كان حاضراً إقامة ابن الأرملة فى نايين (لو7). فآمن بالسيد المسيح وتبعه وأختير من السبعين, حيث كان عمره وقتئذ تسعا وعشرين سنة.

(2) كرازته ونياحته

1 – بشر القديس فى جهات كثيرة ورسم أسقفاً على خورانماس. وقد كان حاضراً فى أفسس حينما أرسل القديس بولس رسالته الثانية إلى تلميذه تيموثاوس حيث يهديه سلامه            (2تى4: 19).

2 – بعد أن أتم جهاده تنيح بسلام وهو فى السبعين من عمره.

الفصل العشرون

القديس حنانيا

(1) تعريف بالقديس

هو أحد السبعين رسولاً, ومعناه (من يحبه الرب) وموطنه دمشق, وقد شهد عنه بولس الرسول بأنه كان رجلاً تقياً حسب الناموس ومشهوداً له من جميع اليهود السكان (أع23: 12).

(2) كرازته

كرز القديس حنانيا فى دمشق موطنه وفى بيت جبرائيل وأجرى الله على يديه آيات كثيرة وآمن بكرازته عدد وافر من اليهود ومن الأمم وقد رسم أسقفاً على دمشق.

(3) حنانيا وشاول الطرسوسى

لما ظهر الرب لشاول الطرسوسى فى الطريق بمجد عظيم أمره أن يذهب إلى دمشق وهناك يقال له ماذا ينبغى أن يفعل. وقال الرب لحنانيا فى رؤيا أن يذهب إلى الزقاق المسمى المستقيم ويطلب شاول, فقال حنانيا: “يارب قد سمعت من كثيرين عن هذا الرجل كم من الشرور فعل بقديسيك فى أورشليم وههنا له سلطان من قبل رؤساء الكهنة أن يوثق جميع الذين يدعون باسمك”, فقال له الرب: “اذهب لأن هذا لى إناء مختار…” ومضى حنانيا وقال لشاول: “أيها الأخ شاول قد أرسلنى الرب يسوع الذى ظهر لك فى الطريق الذى جئت فيه لكى تبصر وتمتلئ من الروح القدس”, وللوقت وقع من عينى شاول شئ كأنه قشور وأبصر فى الحال. وقال له حنانيا أيضاً: “إله آبائنا انتخبك لتعلم مشيئته وتبصر البار وتسمع صوتاً من فمه لأنك ستكون له شاهداً لجميع الناس بما رأيت وسمعت والآن لماذا تتوانى. قم واعتمد واغسل خطاياك داعياً باسم الرب” , فاعتمد منه شاول في الحال (أع9: 10-19، 12:22-16).

(4) شهادته

فى سنة 70م حنق عليه غير المؤمنين, وقد قبض عليه الأمير لوكيانوس وجرعه كؤوساً من العذابات المرة, ومنها أنه أمر باحراق جبينه بمشاعل متقدة, وأخيراً أمر برجمه بالحجارة, فأخرج خارج المدينة ورجم.

وتعيد له الكنيسة فى اليوم السابع والعشرين من شهر بؤونة.

الحديث الخامس مدونات الرسل

إن الله تعالى أقام رسله الأطهار لكى يبشروا الأمم ويكرزوا بين الشعوب. وفضلاً عن تبشيرهم بالكلمة شفاهة فقد أرشدهم الروح القدس أن يكتبوا كتبهم ويسلموها للمؤمنين لتكون نوراً وهداية لجميع الأجيال. وتنحصر مدونات الرسل فيما يأتى:

أولا: الأسفار الإلهية

1 – الأناجيل الأربعة

وهى إنجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا وقد مر الحديث عن كل منها فى دراسة تاريخ أصحابها.

2 – سفر أعمال الرسل

وقد كتبه لوقا البشير كما مر بنا.

3 – رسائل بولس الرسول

وعددها أربع عشرة رسالة كما سيأتى ذلك فى حياة بولس الرسول.

4 – الرسائل الجامعة

وهى الرسائل السبع التى كتب منها بطرس الرسول رسالتين ويوحنا الرسول ثلاثاً ويعقوب الرسول واحدة ويهوذا الرسول واحدة، ودعيت الكاثوليكون التى تعنى الجامعة لأنها كتبت للمؤمنين فى جميع العالم.

5 – سفر الرؤيا

وقد أوحى به الله إلى يوحنا الحبيب كما مر بنا.

ثانياً: الكتب الأخرى

وهناك كتب أخرى دونها الرسل تحتوى على قوانين وتعاليم وإرشادات أنزلها المؤمنون المنزلة الثانية بعد الأسفار المقدسة وهى:

1 – كتاب قوانين الرسل

وتشتمل على قوانين وتعاليم وترتيبات كنسية وقد جمعتها كنيستنا الشرقية فى 56 مادة، كما جمعها الروم فى 85 مادة وفى إحدى المجموعات الأخرى 71 مادة.

2 – الدسقولية

ومعنى الدسقولية (تعاليم الرسل) ويتكلم عن واجبات الإكليروس والشعب، وعن الكثير من أنظمة الكنيسة، وقد جاء فى مقدمة الكتاب بلسان الرسل ومعهم القديس بولس الرسول أنهم كتبوا هذه التعاليم فى أورشليم وأرسلوها إلى جميع المؤمنين فى المسكونة على يد القديس كليمندس.

3 – دستور إيمان الرسل

وقد ذكره موسهيم فى تاريخه ونصه:

(أومن بالله الآب ضابط الكل، وبيسوع المسيح ابنه الوحيد ربنا الذى ولد من مريم العذراء بالروح القدس، وصلب فى عهد بيلاطس ودفن وقام من بين الأموات فى اليوم الثالث وصعد إلى السموات وجلس عن يمين الآب. وأيضاً يأتى أخيراً ليدين الأحياء والأموات، وبالروح القدس، وبالكنيسة المقدسة ومغفرة الخطايا وقيامة الجسد).

وما هو معلوم أن المؤمنين كانوا يرددونه كما كانت الكنيسة تلقنه للمؤمنين، وقد استعان به الآباء المجتمعون فى مجمع نيقية المسكونى فى وضع قانون الإيمان الذى يردده المؤمنون لليوم.

4 – كتاب الاثنى عشر رسولاً

وقد ذكره يوسابيوس فى تاريخ الكنيسة وهو من ستة عشر فصلاً.

الفصل الحادى والعشرون

تاريخ بولس الرسول

نراه لائقاً أن ندرس هنا تاريخا مجيداً رائعاً لرسول كريم أعده الله (إناءً مختاراً) وأهله.. أن يتألم من أجل اسمه” (أع9: 16)… ولئن دعا هذا الرسول نفسه تواضعا (أصغر الرسل (1كو15: 9) فإنه فى الحقيقة قد قام بأوفر نصيب فى الخدمة وجاهد جهاداً عظيماً بين أمم كثيرة حتى سمى بحق رسول الأمم (رو15: 16) و(رسول الجهاد)… ذلكم هو بولس الرسول!!

(1) نشأته

ولد هذا القديس فى طرسوس إحدى مدن كيليكية من أعمال الدولة الرومانية، وقيل إنها نفس ترشيش الواردة فى سفر يونان وهو من سبط بنيامين وكان والداه فريسيين، وقد اكتسب الرعوية الرومانية منذ نشأته (أع22: 25) واسمه الذى عرف به بين اليهود شاول، واسمه الذى عرف به بالرومانية (بولس) وشاول معناه (مطلوب) كما أن بولس معناه (صغير).

تعلم شاول دروسه الابتدائية فى طرسوس، ثم أرسله والداه إلى أورشليم ليتم علومه فتأدب على يدى معلم عظيم من عظماء اليهود يسمى غمالائيل (أع15: 3) وقد نبغ بولس فى العلوم وكان مثالا للذكاء حتى دعى معلماً للناموس (أع23: 3) وكان ملماً باللغة اليونانية.

ولما كان من عادة اليهود أن يعلموا أولادهم صناعة من الصناعات زيادة على تعلمهم العلوم المختلفة حتى تكفيهم صناعتهم غائلة الفقر، تعلم شاول فى حداثته حرفة عمل الخيام.

(2) اضطهاده للمسيحية

كان شاول فريسياً متعصباً لديانته اليهودية، ولما ظهرت الديانة المسيحية ابتدأ يضطهدها بعنف لدرجة أنه كان يأخذ رسائل من رؤساء الكهنة تصرح له باضطهادهم وزجهم فى السجون، وعندما رجم اليهود القديس استفانوس، كان شاول راضياً بقتله، وكان يحرس ثياب الراجمين (أع7) ويعبر الكتاب عن حملاته ضد المسيحيين بقوله: “وأما شاول فكان يسطو على الكنيسة وهو يدخل البيوت ويجر رجالاً ونساءً ويسلمهم إلى السجن”(أع8: 1)، وبقوله: “أما شاول فكان لم يزل ينفث تهدداً وقتلاً على تلاميذ الرب (أع9: 1).

(3) هدايته (أع9)

طلب شاول رسائل من رئيس الكهنة يذهب بها إلى دمشق لكى يسوق المسيحيين إلى السجن وبينما هو فى طريقه ومعه اثنان من أصدقائه أبرق عليه نور من السماء فجأة فسقط على الأرض وسمع صوتاً من السماء يناديه: “شاول شاول لماذا تضطهدني، فقال من أنت يا سيد؟ فأجابه : أنا يسوع الذي أنت تضطهده, صعب عليك أن ترفس مناخس فقال وهو مرتعب ومتحير: “يارب ماذا تريد أن أفعل؟ حينئذ أمره الرب أن يذهب إلى دمشق وهناك يقال له ماذا ينبغى أن يفعل. وقام شاول من على الأرض وهو لا يبصر بعينيه, فاقتاده رفيقاه ودخلا به إلى المدينة ومكث ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب.

وكان بالمدينة تلميذ اسمه حنانيا, فأمره الرب فى رؤيا أن يتوجه إلى الزقاق الذى يسمى بالزقاق المستقيم ويطلب شاول ويعلمه طريق المسيح, فتعجب حنانيا لأن كان يعرف أن شاول عدو المسيحية اللدود, ولكن الرب قال له: “اذهب لأن هذا لى إناء مختار ليحمل اسمى أمام أمم وملوك بنى إسرائيل لأنى سأريه كم ينبغى أن يتألم من أجل اسمى”.

مضى حنانيا كما أمره الرب ودخل البيت الذى كان به شاول ووضع يده على عينيه وقال له: “أيها الأخ شاول قد أرسلنى الرب يسوع الذى ظهر لك فى الطريق الذى جئت فيه لكى تبصر وتمتلئ من الروح القدس”, وللوقت وقع من عينيه شئ كالقشور فأبصر واعتمد وتناول طعاماً وأصبح مسيحياً. وقد كانت هدايته حوالى سنه 37م.

(4) فترة إعداد وامتلاء

من ثم ذهب القديس إلى العربية (غل1: 17) وهى البادية الممتدة من جنوب دمشق إلى حوريب لكى يختلى بالله فى الصلوات والتأمل والاستعداد, حيث أعلن الرب له ذاته وسلمه تعاليمه حيث يقول القديس فى هذا: “أعرفكم أيها الإخوة الإنجيل الذى بشرت به أنه ليس من إنسان لأنى لم أقبله من عند إنسان ولا علمته بل  بإعلان يسوع المسيح” (غل1: 11، 12).

(5) وصف للقديس

وقد جاء بأحد الكتب القديمة وصف للقديس بأنه “رجل قليل الجسم, خفيف الشعر, ملتوى القدمين, أقنى الأنف, ممتلئ بالنعمة, أحياناً يبدو فى مظهر عادى, وأحياناً يصبح وجهه كوجه ملاك.

(6) كرازته

أولاً: عمله فى اليهودية (أع9, 11)

1 – بولس فى دمشق: بدأ القديس جهاده فى دمشق وابتدأ يكرز بالمسيح أنه ابن الله فى هذه المدينة التى كان قبلاً يحمل الرسائل إليها, كلى يقبض على المسيحيين ويسلمهم للموت. حتى تعجب جميع الذين كانوا يعرفون أنه مضطهد المسيحية, وصمم اليهود على قتله, وكانوا يتحينون الفرص لنيل مأربهم ولكن التلاميذ دلوه فى سل من سور المدينة فهرب إلى أورشليم (أع9, غل1: 8).

2 – مجاهرته فى أورشليم: شرع القديس يجاهد أيضاً بأورشليم وكان التلاميذ أولاً خائفين منه, ولكن برنابا عرفهم وأوقفهم على الطريقة التى اهتدى بها, واغتاظ اليونانيون وأرادوا قتله, ولكن الإخوة أرسلوه إلى قيصرية, ثم إلى بلده طرسوس.

3 – بولس فى أنطاكية: ظل بولس فى طرسوس إلى أن جاء برنابا وصحبه إلى أنطاكية. وظلا يعلمان فى أنطاكية سنة كاملة ودعى المؤمنون بالمسيح لأول مرة مسيحيين فى أنطاكية ونجح العمل على أيدى الرسولين نجاحاً عظيماً.

4 – بولس يذهب ثانية إلى أورشليم: انحدر بعض الأنبياء من أورشليم إلى أنطاكية وتنبأ واحد منهم اسمه أغابوس بأن جوعاً عظيماً سيصير على المسكونة, فصمم الإخوة فى أنطاكية أن يجمعوا مساعدات ويرسلوها إلى الإخوة المسيحيين فى اليهودية, ففعلوا ذلك, وأرسلوها مع برنابا وشاول وظل بولس يعمل مع برنابا باليهودية إلى أن شرعا فى رحلتهما التبشيرية الأولى بين الأمم.

ثانياً: الرحلة التبشيرية الأولى (أع13: 16)

1 – سافر الرسولان بولس وبرنابا من مدينة أنطاكية إلى سلوكية إحدى المدن الرومانية ثم إلى جزيرة قبرص, وواصلا سفرهما فى البحر المتوسط إلى بلاد اليونان حتى دخلا مدينة سلاميس وكان يوحنا (مرقس) يصحبهما فى هذه الرحلة.

2 – ووصلا إلى مقاطعة بافوس, وهناك وقع حادث هام وهو أنه كان بالمدينة رجل يهودى ساحر كذاب اسمه عليم أو باريشوع أى (ابن يشوع), وكان الوالى على قبرص رومانيا واسمه سرجيوس, ولما دعا الوالى الرسولين ليسمع منهما كلمة الله شرع عليم يقاومهما, فامتلأ بولس من الروح القدس ونظر إليه قائلاً: “أيها الممتلئ كل غش وكل خبث يا ابن إبليس يا عدو كل بر. ألا تزال تفسد سبل الله المستقيمة؟ فالآن هوذا يد الرب عليك فتكون أعمى لا تبصر الشمس إلى حين”, وفى الحال سقط على الرجل ضباب وظلمة, وجعل يدور ملتمساً من يقوده. ولما رأى الوالى هذه المعجزة آمن (أع13).

3 – وخرج الرسولان يصحبهما لوقا الطبيب من بافوس وسافروا إلى برجة بمفيلية وهى عاصمة بمفيلية بآسيا الصغرى, وفارقهما مرقس وعاد إلى أورشليم.

4 – فى أنطاكية بيسيدية: أما هما فقد سافرا من برجة إلى أنطاكية بيسيدية وهناك ألقى بولس خطاباً رائعاً فى يوم السبت بين اليهود المقيمين, فأعجب الأمميون وطلبوا إليهما أن يكلماهم بهذا الكلام فى السبت الذى يليه, وثارت ثائرة اليهود وابتدأوا يضطهدون الرسولين, فتركا المدينة ونفضا غبار أرجلهما (أع13).

5 – فى إيقونية: وصل الرسولان إلى إيقونية وهى عاصمة ليكأونية القديمة بآسيا الصغرى, وآمن عدد من اليهود واليونانيين, ورغم مقاومات اليهود أجرى الله على أيدهما آيات كثيرة. فانقسمت المدينة إلى فريقين: فريق مع الرسولين وفريق مع اليهود, وحاول اليهود رجم الرسولين فهربا إلى ليكأونية لسترة. ثم إلى دربة.

6 – فى لسترة: ومن المعجزات التى أجراها بولس فى لسترة شفاؤه رجلاً عاجز الرجلين ومقعداً منذ ولادته, كان يسمع إلى بولس, ولما رأى بولس أن له إيماناً ليشفى قال بصوت عظيم “قم على رجليك منتصباً”, فقام للوقت, وتعجب أهل المدينة وقالوا إن الآلهة تشبهوا بالناس ودعوا برنابا زفس وبولس هرمس وأتوا بذبائح ليذبحوها للرسولين, فمزق الرسولان ثيابهما, وأخذا يقنعان الناس بأنهما ليسا آلهة, فكف أهل المدينة عن تقديم الذبائح بعد جهد.

وبالرغم من هذه الآية السامية فإن الشيطان حرض اليهود الموجودين فى الجهات القريبة فأتوا وأقنعوا الشعب فقاموا ضد الرسولين فرجموا بولس وجروه خارج المدينة ظانين أنه مات وإذ أحاط به التلاميذ قام ودخل المدينة.

7 – فى دربة: دخل الرسولان إلى دربة إحدى مدن ليكأونية أيضاً, وهناك نجحت الرسالة على أيديهما كثيراً ثم قفلا راجعين إلى لسترة وأيقونية وأنطاكية, ثم اجتازوا فى بيسيدية وبمفيلية وبرجة وأتالية وأنطاكية من جديد.

8 – سفره لثانى مرة إلى أورشليم: شرع قوم من اليهود الذين آمنوا يعلمون بوجوب الختان, وجاهد بولس وبرنابا وغيرهما فى مباحثتهم فى هذه المسألة ثم رأى المؤمنون أن يوفدوا بولس وبرنابا إلى أورشليم ليعرفا الرسل بأمر هذا التعليم الجديد, فاجتازا فى فينيقية والسامرة ومنها إلى أورشليم, وهناك اجتمع المجمع المقدس, وبعد أن ألقى بطرس ويعقوب خطابهما قرر الرسل أن يرسلوا إلى المؤمنين فى كل الجهات على يد بولس وبرنابا لكى يمتنعوا عن الذبح للأصنام والزنا والدم والمخنوق. وأما الختان وباقى فرائض الناموس اليهودى فليس هناك ضرورة لحفظها (أع15), وحمل الرسولان الرسالة إلى أنطاكية مع يهوذا وسيلا ومكثا هناك يبشران ويعلمان.

9- مواصلة العمل فى آسيا: اجتاز بولس وبرنابا فى عدة مدن وفكرا أن يصطحبا معهما مرقس غير أن بولس لم يرد أن يأخذه معهما بعد أن فارقهما فى بمفيلية, ووقع خلاف فى هذا الأمر بين الرسولين أدى إلى انفصالهما إلى حين, فأخذ برنابا مرقس وذهب معه إلى قبرص, وأما بولس فأخذ سيلا وسافر معه إلى سوريا وكيليكية.

ثم توجه الرسول إلى دربة ولسترة وهناك تتلمذ له القديس تيموثاوس, ولما كان أبوه يونانياً وأمه يهودية أخذه بولس وختنه أمام اليهود حتى لا يعثروا. ووصل إلى فريجية وغلاطية وهناك منعهم الروح القدس عن أن يتكلموا فى آسيا (أع16).

ثالثاً: الرحلة التبشيرية فى أوربا

1 – من ميسيا إلى ترواس: دخل الرسول ميسيا وأراد أن يذهب إلى بيثينية ولكن الروح منعه فتوجه إلى ترواس.

2 – سفره إلى مكدونية: ورأى فى الرؤيا كأن رجل يقول له (اعبر إلى مكدونية وأعنا), فمر بساموثراكى ومينابوليس ثم وصل إلى فيلبى وهى أول مدن مكدونية وفى فيلبى جرت بعض حوادث جديرة بالذكر هى:

1 – إيمان ليدية: كانت ليدية بائعة الأرجوان امرأة تقية متعبدة, فآمنت على أيدى الرسول وزملائه واعتمدت هى والذين معها أجمعين وطلبت منهم أن يمكثوا فى بيتها. (أع16).

2 – شفاء العرافة: كان بالمدينة جارية بها روح عرافة تكسب مواليها أموالاً كثيرة, ولما رأت الرسولين صرخت قائلة: هؤلاء الناس هم عبيد الله الحى, وانتهر بولس الروح النجس فخرج منها. ولما رأى مواليها ذلك جروا بولس وسيلا إلى الحكام وقدموا شكواهم ضدهما بأنهما يثيران الفتن. فأمر الحكام بضربهما ثم سجنهما (أع16).

(3) نجاة بولس وسيلا من السجن: وضع الرسولان فى السجن, وأوصى أهل المدينة حارس السجن فحرسهما بضبط ووضع أرجلهما فى المقطرة, وفى منتصف الليل كان الرسولان يصليان والمسجونون يسمعونهما, وإذ بزلزلة عظيمة تحدث وتزعزعت أساسات السجن وانفتحت أبواب السجن وانفكت قيود الجميع, ولما استيقظ حارس السجن ووجد الأبواب مفتوحة خاف واستل سيفه ليقتل نفسه ظاناً أن المسجونين قد هربوا فناداه بولس قائلاً: “لا تفعل بنفسك شيئاً ردياً لأننا جميعنا هنا”, ودخل الرجل وخر أمام بولس وسيلا قائلاً: “ماذا ينبغى يا سيدىَّ أن أفعل؟” فقال له بولس: “آمن بالرب يسوع فتخلص أنت وأهل بيتك, فأخذهما الرجل إلى بيته وغسل جراحاتهما وأكرمهما وآمن واعتمد هو وأهل بيته”.

وفى النهاية أرسل الولاة إلى حارس السجن ليطلق بولس وسيلا, وأعلمهما حارس السجن بذلك فقال بولس “ضربونا جهراً غير مقضى علينا ونحن رجلان رومانيان وألقونا فى السجن. أفالآن يطردوننا سراً؟ لا بل يأتوا هم أنفسهم ويخرجونا”, ولما سمع الولاة أنهما رومانيان خافوا كثيراً وأتوا وتضرعوا إليهما أن ينطلقا بسلام, فخرجا ودخلا إلى بيت ليدية بائعة الأرجوان (اع16).

4 – توجهه إلى تسالونيكى وبيرية: اجتاز بولس بعد ذلك فى أمفيبوليس وأبولونيا ووصلا إلى تسالونيكى, وجعل بولس يبشر اليهود فى المجمع فآمن جماعة من اليونانيين, ولكن اليهود لم يؤمنوا, وحرضوا الشعب عليهما فأحاطوا ببيت ياسون الذى كان الرسولان ينزلان عنده, ولما لم يجدوهما فى بيته جروا ياسون وفريقاً من المؤمنين إلى الحكام, ولكنهم أطلقوهم بكفالة, ثم أرسل الإخوة الرسول مع سيلا إلى بيرية وقبل الكلمة أناس كثيرون (أع18).

5 – بولس فى أثينا: توجه بولس بعد ذلك إلى أثينا عاصمة اليونان وأعظم مدنها وأرسل يستدعى تلميذين, سيلا وتيموثاوس وهناك فى أثينا احتدت روحه إذ وجد المدينة مملوءة أصناماً وصادف أنواعاً متعددة من الناس مثل اليهود المؤمنين, ومثل الفلاسفة الرواقيين والأبيكوريين. ولما أظهر فريق منهم رغبته فى أن يستمع إلى المبادئ التى ينادى بها بولس, ذهب إلى التل الشهير المسمى أريوس باغوس حيث كانت تعقد المحاكم والاجتماعات, وألقى خطابه البليغ عن الإله المجهول ولما تكلم فى خطابه عن قيامة الأموات استهزأ البعض وآمن البعض الآخر منهم الفيلسوف ديونسيوس الأريوباغى وامرأة عظيمة اسمها داميرس (أع18).

6 – بولس فى كورنثوس: بعد ذلك توجه القديس إلى كورنثوس وهناك نزل عند صانعى خيام هما أكيلا وبريسكلا زوجته, ووافاه هناك تيموثاوس وسيلا. وكان يبشر بين اليهود, ولما رأى عدم إيمانهم مزق ثيابه وقال لهم “أنا برئ. من الآن أذهب إلى الأمم”. ونزل فى بيت يوستس وبالرغم من مقاومة اليهود له فقد آمن عدد كبير من أهل كورنثوس من بينهم كريسبس وأهل بيته وظهر له الرب فى رؤياه وخاطبه قائلاً “لا تخف تكلم ولا تسكت لأنى معك ولا يقع بك أحد ليؤذيك لأن لى شعباً كثيراً فى هذه المدينة”. وقضى بها الرسول سنة وستة أشهر (أع18). وقام ضده اليهود وأخذوه إلى الوالى غاليون, ولكن غاليون لم يأبه بشكواهم وصرفهم وأمسك اليونانيون بسوستانيس رئيس المجمع وضربوه أمام غاليون ومع ذلك لم يهمه شئ من ذلك.

7 – العودة إلى آسيا: عاد الرسول آخذاً معه أكيلا وبريسكلا إلى سوريا, بعد أن حلق رأسه فى كنخريا لأنه كان عليه نذر, ودخل أفسس ثم توجه إلى قيصرية وأنطاكية وأخذ يتجول فى كورة غلاطية وفريجية وكان قد ترك أكيلا وزوجته فى أفسس, وقد وقعت فى أفسس عدة أمور منها:

1 – بولس أقبل إلى أفسس: أخ مؤمن اسمه أبولس وكان غيوراً متعبداً. فأخذه أكيلا وبريسكلا وشرحا له طريق المسيح بأكثر تدقيق فأخذ يبشر فى جهات مختلفة بالمخلص (أع18).

2 – عماد الأفسسيين: وحدث أيضاً فى أفسس أن بولس فى اجتيازه بالمدينة صادف فريق المؤمنين فسألهم “هل قبلتم الروح القدس؟” فأجابوه “ولا سمعنا أنه يوجد الروح القدس” فقال لهم “فبماذا اعتمدتم؟” فقالوا “بمعمودية يوحنا”, قال لهم “إن يوحنا عمد بمعمودية التوبة قائلاً للشعب أن يؤمنوا بالذى يأتى بعده أى بالمسيح يسوع, فاعتمدوا منه, وإذ وضع عليهم يديه حل عليهم الروح القدس (أع19).

3 – معجزات الرسول: وظل يعلم فى مدرسة رجل اسمه تيرانس مدة طويلة, وكان يأتى المعجزات الباهرة حتى أنهم كانوا يأخذون عن جسده مناديل أو مآزر إلى المرضى فيشفون فى الحال. كما كانت الأرواح الشريرة تخرج من كثيرين (أع19).

4 – حادث أولاد سكاوا: كان قوم من السحرة المعزمين يطوفون ويأمرون الأرواح النجسة أن تخرج باسم الرب يسوع الذى يكرز به بولس. وكان من هؤلاء سبعة أولاد لرئيس كهنة يسمى سكاوا فغضب الروح النجس وقال لهم: “أما يسوع فأنا أعرفه وبولس أنا أعلمه أما أنتم فمن أنتم؟” ووثب عليهم الروح الشرير وغلبهم حتى خرجوا عراة مجروحين (أع19).

5 – هداية السحرة: وآمن عدد كبير من السحرة وأتوا بكتب السحرة وأحرقوها وكانت تقدر بخمسين ألفاً من الفضة (أع19).

6 – فتنة ديمتريوس: ثارت ثائرة الوثنيين فى أفسس ضد بولس وزملائه وقام ضدهم رجل صائغ اسمه ديمتريوس كان يصنع التماثيل للآلهة هو ورفقاؤه ويبيعونها للناس, وحرض الصناع ضد بولس وأفهمهم أنه لو انتشرت الديانة المسيحية يكون فى ذلك القضاء على مصدر رزقهم, بل يكون فيه القضاء على عظمة أرطاميس إلهتهم العظيمة, فهاجوا جميعاً وعملوا مظاهر صاخبة وكانوا يهتفون قائلين: (عظيمة هى أرطاميس الأفسسيين!) وخطفوا غايس وأرسترخس رفيقى بولس واجتمعوا فى محفل كبير, وبالجهد استطاع كاتب المحفل أن يهدئهم ويصرفهم. ناصحاً إياهم بأن يتقدموا بشكواهم رسمياً ضد من يريدون بدل الشغب الذى عملوه (أع19) .

رابعاً: الرحلة إلى أورشليم

( أ ) فى الطريق إلى أورشليم

1 – أفتيخوس : عزم بولس على أن يرجع إلى مكدونية فمر بمدينة هلاس ثم إلى ترواس وقد صحبه عدد كبير من الإخوة.

وحدث فى ترواس بينما كان الرسول يتحدث إلى الشعب فى يوم الأحد أنه أطال الكلام حتى نصف الليل وكان بالعلية مصابيح كثيرة, وكان يجلس بالطبقة الثالثة شاب اسمه أفتيخوس فغلب عليه النوم وسقط وحمل ميتاً, ولكن بولس نزل وعانقه وقال لهم: لا تضطربوا لأن نفسه فيه. ثم صعد وكسر الخبز وأكل، وفى الفجر أتوا بالفتى حياً وصار فرح عظيم للجميع (أع20).

2 – مع لوقا ورفاقه: وصل لوقا وزملاؤه إلى أسوس ثم لحق بهم بولس, فسافروا معاً إلى ميتيلينى ثم سافرا فى البحر وجاءوا مقابل خيوس, ثم إلى ساموس وتروجليون وميليتس.

3- لست أحتسب لشئ : وهناك فى ميليتس أرسل واستدعى القسوس الذين فى أفسس وأنبأهم بعزمه على صعوده إلى أورشليم وبما سيقابله من شدائد وآلام وقال لهم “ولكنى لست أحتسب لشئ ولا نفسى ثمينة عندى حتى أتمم بفرح سعيى والخدمة التى أخذتها من الرب يسوع…” ثم زودهم بالنصائح الثمينة وجثا معهم وصلى, وبكى الجميع بكاءً عظيماً ولاسيما من قوله لهم إنهم لن يعودوا يرون وجهه ثانية (أع20).

4 – عزم وتصميم: توجهوا بعد ذلك بالسفينة إلى كوس ثم إلى رودس, وإلى باترا وفينيقية ومروا بقبرص وسافروا إلى سوريا, ومكثوا بضعة أيام فى صور, وبالرغم من أن الإخوة هناك طلبوا من بولس ألا يصعد إلى أورشليم ولكنه جثا معهم عند الشاطئ مصلياً وودعهم لكى يكمل رحلته إلى أورشليم.

5 – فى بيت فيلبس: أقلعوا من صور إلى بطولمايس ثم إلى قيصرية وهناك أقاموا فى بيت فيلبس المبشر, وكان له أربع بنات يتنبأن.

6 – استعداد للموت أيضاً: وأتى نبي اسمه أغابوس فأخذ منطقة القديس بولس وربط يدى نفسه ورجليه وتنبأ قائلا: “هذا يقوله الروح القدس, الرجل الذى له هذه المنطقة سيربطه اليهود فى أورشليم ويسلمونه إلى أيدى الأمم وطلب منه الإخوة أيضاً ألا يصعد إلى أورشليم ولكنه قال لهم بحماسه الروحى: “ماذا تفعلون؟ تبكون وتكسرون قلبى لأنى مستعد ليس أن أربط فقط بل أن أموت أيضاً فى أورشليم لأجل اسم الرب يسوع” فسكتوا وقالوا “لتكن مشيئة الرب”.

وأخيراً وصل الرسول ومن معه إلى أورشليم ليواصل جهاده الروحى العظيم (أع21).

(ب) الرسول فى أورشليم

وصل الرسول إلى أورشليم وكانت هذه آخر مرة يزورها ويقيم بها, وقد وقعت الحوادث الآتية أثناء وجوده بمدينة الملك العظيم:

1 – اجتماعه بالإخوة: اجتمع الرسول بيعقوب وبباقى الإخوة فرحبوا به ومجدوا الله على نجاح الكلمة على يديه وأشاروا عليه أن يصحب أربعة رجال كان عليهم نذر فيتطهر معهم أمام اليهود ويجعلهم يحلقون رؤوسهم ثم يدخل معهم الهيكل حتى لا يحسب اليهود أنه يكسر ناموس موسى.

2 – هياج اليهود ضده: ولما رآه اليهود هاجوا عليه وادعوا أنه يعلم ضد الناموس وضد الهيكل ولما رأوا شخصاً يونانياً اسمه تروفيموس داخل الهيكل ظنوا أن بولس الذى أدخله, فقبضوا على الرسول وجروه خارج الهيكل وأغلقوا الأبواب وضربوه ضرباً عنيفاً وكانوا عازمين على قتله لولا أن أمير الكتيبة واسمه كلوديوس ليسياس بلغه الخبر فأتى بسرعة بفرقة من الجند وأنقذه من أيديهم وأخذه إلى المعسكر فاستأذن بولس منه لكى يلقى خطاباً فى الشعب فأذن له.

3 – خطابه الأول: أشار بولس إلى الجموع الهائجة ضده فسكتوا جميعاً, وألقى بينهم خطاباً بيَّن فيه كيف نشأ فى طرسوس وتأدب تحت أقدام غمالائيل وكيف كان يضطهد المسيحية اضطهاداً عنيفاً, وكيف اهتدى إلى الإيمان بمعجزة باهرة عندما ظهر له الرب فى الطريق إلى دمشق. ولما سمع الشعب نادوا وطلبوا أن يموت قائلين للأمير: “خذ هذا لأنه لا يجوز أن يعيش”. ولما رأى الأمير هياجهم أمر بإبعاده وأن يفحص بضربات حتى يعرفوا بماذا يشكون عليه.

4 – بولس يعلن جنسيته الرومانية: ولما شرعوا يضربونه بالسياط قال القديس لقائد المائة: “أيجوز لكم أن تضربوا إنساناً رومانياً غير مقضى عليه؟”. فذهب القائد فى الحال وأخبر الأمير ليسياس بأنه رومانى, فجاء إليه الأمير وسأله “هل أنت رومانى؟” فأجاب (نعم) فقال الأمير “أما أنا فبمبلغ كبير اقتنيت هذه الرعوية” فقال له بولس “أما أنا فقدت ولدت فيها”, وخاف الأمير لأنه قيده وهو رومانى.

5 – بولس أمام مجمع اليهود: وأمر الأمير أن يحضر رؤساء الكهنة ومعهم مجمعهم ليفحصوا أمر بولس, ولما اجتمعوا بدأ بولس كلامه بقوله: “أيها الرجال الإخوة إنى بكل ضمير صالح عشت لله إلى هذا اليوم, فأمر حنانيا رئيس الكهنة بضربه على فمه. فقال بولس: “سيضربك الله أيها الحائط المبيض أفأنت جالس تحكم علىَّ حسب الناموس وأنت تأمر بضربى مخالفاً للناموس؟” ولما قالوا له “أتشتم رئيس الكهنة؟” قال: “لم أكن أعرف أيها الإخوة أنه رئيس كهنة لأنه مكتوب رئيس شعبك لا تقل فيه سوءاً”.

ورأى بولس أن بالمجمع فريسيين وصدوقيين, فصرخ قائلاً: “أنا فريسى ابن فريسى وعلى رجاء قيامة الأموات أنا أحاكم”, ولما سمعوا كلامه انقسموا فريقين: فريقاً كان يطلب إدانته وهم جماعة الصدوقيين الذين لا يعتقدون بقيامة الأموات وفريقاً كان يطلب إطلاقه وهم الفريسيون. وخاف الأمير أن يفتكوا به فأمر بأخذه إلى المعسكر.

رؤياه بأورشليم: وظهر له الرب وقال له: “ثق يا بولس لأنك كما شهدت بما لى فى أورشليم هكذا ينبغى أن تشهد فى رومية أيضاً”.

6 – المؤامرة ضده: تحالف أكثر من أربعين يهودياً ضد القديس وحرموا أنفسهم عن أن يأكلوا أو يشربوا حتى يقتلوه واتفقوا مع رؤساء الكهنة أن يطلبوا من الأمير أن يدع بولس ينزل إليهم بدعوى أنهم يريدون أن يستمعوا إلى كلامه بأكثر تدقيق وكان قصدهم أن يقتلوه, ولكن ابن أخت بولس سمع بهذا التحالف, فذهب وقص ذلك على بولس, وأرسله بولس ليخبر الأمير سراً. ولما وقف الأمير على هذا الأمر, أمر بإعداد عدد كبير من الجنود ليأخذوا بولس سالماً إلى قيصرية إلى الوالى فيلكس (أع22, 23).

(ج) بولس فى قيصرية

1 – بولس وفيلكس: وصل الجنود ومعهم بولس إلى انتيباتريس ثم إلى قيصرية وكانوا يحملون معهم رسالة من الأمير ليسياس إلى الوالى فيلكس يشرح له فيها كيف قبض اليهود على بولس وطلبوا محاكمته مع أنه لا يستحق الدينونة, ولما قرأ الوالى الرسالة أمر بأن ينتظر بولس حتى يحضر المشتكون عليه.

2 – ولما وصل حنانيا رئيس الكهنة والشيوخ وخطيب يهودى اسمه ترتلس أخذوا يقدمون شكواهم ضد بولس, ولكن بولس دافع عن نفسه مثبتاً براءته, فأمهلهم فيلكس حتى يفحص أمره بعد حضور الأمير ليسياس واجتمع مرة فيلكس وزوجته دروسلا ببولس وسمعوا تعاليمه ولما كان يتكلم عن البر والتعفف والدينونة ارتعب فيلكس وقال لبولس “أما الآن فاذهب ومتى حصلت على وقت أستدعيك”.

وكان يأتى به من وقت لآخر ليسمعه منتظراً أن يعطيه دراهم لكى يطلقه. وهكذا ظل بولس أسيراً فى قيصرية سنتين حتى عين فستوس خلفاً للوالى فيلكس وأراد فيلكس أن يودع اليهود منة فترك بولس مأسوراً (أع23, 24),

3 – بولس وفستوس: ولما ولى فستوس زار أورشليم فعرض عليه الكهنة والشيوخ أمر بولس وطلبوا إليه أن يحضره إلى أورشليم ليحاكمه, وكانوا قد وضعوا كميناً فى الطريق لقتله ولكن فستوس أمر بحراسته فى قيصرية وطلب منهم أن يذهبوا إلى قيصرية ليقدموا شكواهم ضده. وعاد فستوس إلى قيصرية وأوقف بولس أمامه وسمع شكوى اليهود ضده ولكن بولس دافع عن نفسه ثم قال: “إلى قيصر أنا رافع شكواى”, فتكلم فستوس وأصحابه إليه قائلين: “إلى قيصر رفعت دعواك إلى قيصر تذهب”.

4 – زيارة الملك أغريباس لقيصرية: حضر الملك أغريباس وبرنيكى زوجته لزيارة فستوس, فقص عليهما فستوس خبر بولس مع اليهود, فطلب الملك أن يراه, وفعلاً أخذ بولس إلى محفل رسمى وقال له أغريباس: “مأذون لك أن تتكلم لأجل نفسك”. فألقى بولس بالروح القدس خطاباً بليغاً جعل فستوس يندهش وينذهل… ويقول: “إنك تهذى يا بولس الكتب الكثيرة تحولك إلى الهذيان”. فأجابه: “لست أهذى أيها العزيز فستوس بل أنطق بكلمات الصدق والصحو”, وواصل حديثه حتى قال أغريباس: “بقليل تقنعنى أن أكون مسيحياً”, فأجابه الرسول: “كنت أصلى إلى الله أنه بقليل وبكثير ليس أنت فقط بل أيضاً جميع الذين يسمعوننى اليوم يصيرون هكذا كما أنا ما خلا هذه القيود”.

وانصرف المحفل, وكان الحكام يكلمون بعضهم بعضاً قائلين: “كان يمكن أن يطلق هذا الإنسان لو لم يكن قد رفع دعواه إلى قيصر” (أع25, 26).

( د) فى الطريق إلى روما

1 – بدء الرحلة: استقر الرأى على أن يرسلوا بولس إلى رومية لكى يقدم شكواه إلى قيصر وجعل بولس وعدة أسرى تحت حراسة قائد مائة اسمه يوليوس. وسافروا فى سفينة أدراميتينية فمروا بمدينة آسيا, وبصيدا وميراليكية ثم انتقلوا إلى سفينة إسكندرية لتحملهم إلى إيطاليا وسافروا قرب كنيدس ومروا بكريت وسلمونى, ثم وصلوا إلى الموانى الحسنة بصعوبة لأن الريح كانت مضادة.

2 – العاصفة: ونصحهم بولس أن يتوقفوا عن السفر حتى تهدأ الريح ولكنهم لم يأبهوا بقوله بل أرادوا أن يتوجهوا إلى ميناء فينكس بجزيرة كريت, ولما أقلعوا هبت عليهم ريح شديدة ونوء جارف وكان الجو ملبداً بالسحب حتى أنهم لم يروا الشمس ولا النجوم حتى فقدوا كل أمل فى النجاة.

رؤيا في وسط العاصفة : ولكن ملاك الله ظهر لبولس فى رؤيا وقال: “لا تخف يا بولس ينبغى لك أن تقف أمام قيصر وهوذا قد وهبك الله جميع المسافرين معك”, فقص على الذين معه الرؤيا وأعلمهم أنهم سيرسون على جزيرة.

3 – وصولهم إلى مليطة: ظلت السفينة معذبة والمسافرون تائهين فى بحر أدريا أربعة عشر يوماً حتى فكر النوتية فى الهروب فى القارب ولكن بولس أنذر قائد المائة إن لم يبق هؤلاء فلن ينجو أحد, فأجبرهم قائد المائة على البقاء فى السفينة وأمر بقطع حبال القارب وتركه ينفصل عن السفينة, ثم نصحهم بولس أن يتناولوا طعاماً لأنهم كانوا صائمين, وبعد قليل ابتدأت السفينة تتحطم وفكر الجنود أن يقتلوا الأسرى ولكن القائد منعهم من ذلك لأنه كان يحب أن ينجى بولس, وسبح البعض فى الماء ومنهم من تعلق بخشب السفينة ووصل الجميع سالمين إلى جزيرة مليطة (مالطة).

ولما صعدوا إلى الجزيرة أكرمهم أهلها كثيراً وأتوا إليهم بنار ليستدفئوا وجرت على يدى الرسول عدة معجزات منها أنه كان يضع قضباناً على النار فنشبت أفعى بيده ولكنه نفضها, وقال أهل الجزيرة فيما بينهم إنه لابد أن يكون هارباً من وجه العدالة حتى أنه بالرغم من نجاته من البحر لدغته الأفعى, وظنوا أنه سينتفخ بعد قليل ويموت, ولما لم يصب بأى ضرر حسبوه إلهاً.

ومنها أن بوبليوس مقدم الجزيرة كان أبوه مريضاً مرضاً شديداً فشفاه الرسول, وكانوا يقدمون إليه جميع المرضى فيشفيهم مما زاد من اعتبار أهل الجزيرة لهم.

وظلوا ثلاثة أشهر على الجزيرة حتى مرت بالجزيرة سفينة إسكندرية فأقلعوا فيها.

4 – الوصول إلى رومية: وصل المسافرون إلى سيراكوسا ثم إلى ريغيون وبوطيولى ووصلوا أخيراً إلى رومية وقد استقبله الإخوة فى فورن أبيوس والثلاثة حوانيت وهما على مسافة قليلة من رومية (أع27, 28).

(ها) بولس فى رومية

سلم القائد الأسرى إلى رئيس المعسكر, وأمر بولس فسمح له أن يسكن فى بيت خاص ومعه جندى, وقد استأجر القديس لنفسه بيتاً وظل برومية سنتين من سنة 61 إلى سنة 63م. وقد استدعى اليهود الموجودين هنالك وبشرهم بالكلمة, فآمن البعض ورفض البعض الآخر وتألم الرسول لعدم إيمانهم وقال لهم: “فليكن معلوماً عندكم أن خلاص الله قد أرسل إلى الأمم وهم سيسمعون”.

ويختم سفر الأعمال بالتعليق على هذه الفترة من حياة الرسول العظيم بقوله: “وكان يقبل جميع الذين يدخلون إليه كارزاً بملكوت الله ومعلماً بأمر الرب يسوع المسيح بكل مجاهرة بلا مانع (أع28: 30, 31).

يقول بعض المؤرخين إن القديس استشهد فى هذه الفترة على يد نيرون الملك, ويقول البعض الآخر ومن بينهم يوسابيوس إنه قد أطلق سراحه بعد السنتين, فذهب وبشر فى المشرق ويقال إنه ذهب إلى بلاد المغرب أيضاً حتى وصل إلى أسبانيا ثم قبض عليه وأرسل ثانية إلى رومية حيث حاكمه نيرون الملك وأمر بقطع رأسه وشهد موته عدد غفير من الشعب, وقد عرفنا أن القديس بطرس الرسول صلب منكساً, أما القديس بولس فقد قطعوا رأسه ولم يصلب لأنه كان متجنساً بالجنسية الرومانية ولم يكن يسوغ صلب شخص رومانى.

ويقول التاريخ إن فتاة عطوفة من أقارب نيرون قد آمنت على يديه, صادفت القديسين بطرس وبولس فى طريق الاستشهاد فصحبت القديس بولس وهى تبكى وأعطته منديلاً لكى يعصب رأسه أثناء قتله فشكرها وأمرها بالرجوع, وبعد أن أعدم القديسان ظهرا لها بهيئة ملوكية وعلى رأسيهما تاجان مرصعان وسلماها منديلها, فلما رأت الجندى الذى قام بقطع رأس القديس سألته عنه فأجابها بأنه قطع رأسه وجسمه ملقى ورأسه ملفوف بقناعها فقالت له الفتاة: كذبت, وقصت عليه رؤيتها للقديسين ورأته القناع بالفعل فتعجب الجندى ومن معه وآمنوا بالمسيح.

يقول القديسان أمبروسيوس ويوحنا فم الذهب إن القديس بولس لما قطعت رأسه خرج منه لبن بدل الدم, وأن الرأس المقطوع ارتفع عن الأرض ثلاث مرات حتى آمن من الحاضرين نحو خمسة وثلاثين شخصاً. وكان استشهاد الرسول عن طريق أوستيان كما يقرر معظم المؤرخين ومن بينهم القديس ديونيسوس أسقف كورنثوس, ويذكر المؤرخون أيضاً أن ثلاثة ينابيع من الماء تفجرت فى المواضع التى ارتطمت فيها رأس القديس بالأرض وهى الينابيع الثلاثة الموجودة للآن وفى نفس المكان بنيت كنيسة الثلاث ينابيع الموجودة للآن أيضاً, ومن الآثار الباقية عمود يقال إنه العمود الذى ربط فيه القديس.

وهكذا طويت هذه الصحيفة المجيدة لهذا الرسول العظيم.

وتعيد الكنسية القبطية فى الخامس من أبيب للقديس بطرس والقديس بولس, كما أن الكنيسة الغربية تعيد لهذا الرسول فى الثلاثين من حزيران (يونيو).

(و) آثاره

كتب القديس أربع عشرة رسالة وهى رسالته إلى رومية ورسالتان إلى كورنثوس ورسالته إلى غلاطية ورسالته إلى أفسس ورسالته إلى فيلبى ورسالته إلى كولوسى ورسالتان إلى تسالونيكى ورسالتان إلى تيموثاوس ثم رسالته إلى تيطس ورسالته إلى فليمون والرسالة إلى العبرانيين.

أولاً: الرسالة إلى رومية

كتبها حوالى 60م وهو فى كورنثوس إلى أهل رومية, وهى تقع فى ستة عشر أصحاحاً وأهم موضاعاتها:

أولاً: وقعت مجادلات ومناظرات طويلة بين المتنصرين من اليهود وإخوتهم المتنصرين من الأمم فكان اليهود يفاخرون بنسبتهم المقدسة وبكونهم الشعب المختار وبشرائعهم وأعمال الناموس ويقولون إنهم أصل الخلاص, وبالعكس كان الأمميون يتفاخرون بأنهم مهد الفلاسفة والحكماء ويعيبون على اليهود إنكارهم للمسيح وجحودهم وصلبهم إياه…

فكتب الرسول رسالته بيَّن فيها خطأ الفريقين فى تفاخرهم لأنه لا فضل لأحدهما فى الخلاص المجانى بنعمة السيد المسيح التى فاضت على كل البشر من اليهود ومن الأمم. ثم تتضمن الرسالة نصائح ثمينة للمؤمنين.

ثانياً: الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس

كتبت فى أفسس حوالى سنة 57م إلى أهل كورنثوس وهى عاصمة أخائية إحدى مقاطعات بلاد اليونان وتقع فى 16 أصحاحاً تشمل عدة أغراض منها:

1 – توبيخ الكورنثيين على انقسامهم على بعض ومشاحناتهم من أجل بعض الأمور وتحيز بعضهم إلى رسول دون آخر وحضهم على الائتلاف والاتحاد.

2 – كانت كورنثوس فى أول أمرها مدينة مستبيحة مستهترة عرفت بميلها إلى الأمور الفاحشة, وقد قبلت الإيمان على يد الرسول. ولما فارقها عاد الكثيرون إلى حياتهم الدنسة. ومن بين هؤلاء رجل أخذ فى خطية الزنى وفى الغالب تزوج امرأة أبيه وقد كتبوا يستشيرون فى أمره, فكتب إليهم موبخاً, وأمر بفرض تأديب كنسى رادع على هذا الشخص المستهتر حتى يتوب.

3 – المقارنة بين ذبائح الأوثان والذبيحة السرية الرهيبة التى للمؤمنين حيث يشتركون فى جسد الرب ودمه والحث على التقدم لتناول الأسرار المقدسة بعد الاستعداد التام, وإنذار كل من يتقدم بدون استحقاق حيث يكون مجرماً فى جسد الرب ودمه.

4 – الكلام عن المواهب الروحية التى يوزعها الله على المؤمنين لبنيان الكنيسة.

5 – الكلام عن الإيمان والرجاء والمحبة كأركان قويمة فى المسيحية ثم ذكر حديثه المستفيض عن المحبة (ص13).

الكلام عن قيامة الأجساد وإثباتها بقيامة السيد المسيح من الأموات (ص15).

ثالثاً: الرسالة الثانية إلى كورنثوس

يغلب أنه كتبها فى فيلبى أو تسالونيكى بعد كتابة الرسالة الأولى وهى تقع فى 13 أصحاحاً ومن مواضيعها:

1 – إبداء سروره بنجاح رسالته الأولى وتقدم أهل كورنثوس فى الروحيات.

2 – أمرهم بأن يقبلوا الشخص الذى سبق فحكم بتأديبه بعد أن تاب عن خطيته.

3 – حث المؤمنين على تقديم صدقات للكنائس التى فى بلاد اليهودية.

4 – إثبات إرساليته وتوبيخ الذين حاولوا الحط من قدره كرسول للسيد المسيح وقد أيد رأيه بالرؤيا العجيبة التى رأى فيها المناظر الإلهية فى السماء الثالثة.

رابعاً : الرسالة إلى غلاطية

كتبها وهو فى كورنثوس حوالى سنة 58م إلى أهل غلاطية وهى ولاية بآسيا الصغرى. وتقع فى ستة إصحاحات ومن موضوعاتها:

أولا: الدفاع عن مركزه كرسول وإثبات صحة التعاليم التى ينادى بها دفعاً لافتراءات المعلمين الكذبة الذين حاولوا الحط من قدره، وكانوا يقولون إنه ليس إلا رسولُُ من رسل تلاميذ المسيح وليس ضمن رسل المسيح نفسه.

ثانيا: إثباته أن الخلاص بنعمة المسيح لا بأعمال الناموس ردا على المبتدعين الذين كانوا ينادون فى غلاطية بأن الإيمان المسيحى والحياة المسيحية ليست كافية للخلاص ما لم تقترن بالتمسك بناموس موسى وإجراء ممارساته كالختان وغيره.

خامساً: الرسالة إلى أفسس

كتبها الرسول وهو سجين للمرة الأولى فى رومية (أف4: 1) إلى أهل أفسس، وكانت هذه من أعظم المدن فى آسيا الصغرى وكان ذلك حوالى سنة 62م، وكان الرسول قد نشر الإيمان بينهم وهى فى ستة أصحاحات ومن بين أغراضها:

أولا: حث المؤمنين على التمسك بالإيمان الذى تسلموه والتخلى عن جميع الأوهام والأركان الضعيفة.

ثانيا: شرح الرسول فى الرسالة بعض المبادئ الإيمانية كموت المسيح لفداء الذين يؤمنون به وتبريرهم

ثالثا: تتضمن الرسالة أيضاً نصائح ذهبية تحض المؤمنين على الصلاة ومقاومة أجناد الشر.

سادسا: الرسالة إلى فيلبى

كتبها أيضاً وهو فى سجنه الأول برومية حوالى سنة 63م وكانت فيلبى أكبر مدن مكدونية. والرسالة فى 4 أصحاحات تتضمن عدة مواضيع منها:

1 ) التحدث عن مساواة ابن الله للآب (ص2: 5-11).

2 ) تشجيع المؤمنين على الثبات فى الاضطهاد لأن أعداء الإيمان كانوا يسيئون إليهم ويؤذونهم.

ثالثا: حثهم على الائتلاف والاتحاد لأن الشقاق كان يقع كثيراً بينهم.

رابعاً: تحذيرهم من المعلمين الكذبة

سابعاً: الرسالة إلى كولوسى

كتبها أيضاً فى سجنه الأول سنة 62 – 63م وكولوسى إحدى المدن العظيمة فى فريجية إحدى مقاطعات آسيا الصغرى. وتقع فى 4 أصحاحات ومن بين مواضيعها:

أولا: الثناء على أبفراس مؤسس كنيستهم

ثانيا: التحدث عن لاهوت السيد المسيح ومساواته للآب واثبات أنه غاية الناموس والأنبياء ومحور جميع الرموز والنبوات فى العهد القديم.

ثالثا: عدة نصائح ذهبية للتمسك بالمبادئ المسيحية السامية.

ثامنا: الرسالة الأولى إلى تسالونيكى

يغلب أنها أول رسالة حررها الرسول وهو فى كورنثوس وكان ذلك سنة 52م وتسالونيكى هى سالونيك الآن ببلاد اليونان. وتقع الرسالة فى خمسة أصحاحات تدور حول:

أولا: مدح شعبها على قوة إيمانهم وتقدمهم فى النعمة

ثانيا: حث المؤمنين من اليهود وغيرهم على الثبات فى الاضطهادات العنيفة التى كان اليهود الذين لم يؤمنوا بالمدينة يثيرونها.

ثالثا: التحدث عن قيامة الأموات والدينونة.

تاسعا: الرسالة الثانية إلى تسالونيكى

كتبت فى كورنثوس بعد الرسالة الأولى بزمن قصير والغرض من كتابتها تصحيح الوهم الذى ساد على عقول أهل تسالونيكى بأن قيامة الأموات ومجئ المسيح على الأبواب حتى أنهم انصرفوا عن جميع أعمالهم المعيشية فشرح لهم الرسول أن مجىء الرب لابد وأن يسبقه ظهور المسيح الدجال، وحثهم على ممارسة أعمالهم كالمعتاد والسلوك حسب الروح المسيحية.

عاشراً: الرسالة الأولى إلى تيموثاوس

كتب الرسول هذه الرسالة حوالى سنة 64م بينما كان مسافراً إلى مكدونية، حررها إلى تلميذه تيموثاوس الذى كان قد رسمه أسقفا على أفسس. والرسالة فى ستة أصحاحات   ومن بين مشتملاتها:-

أولاً: مدح تيموثاوس لتقواه وفضله سيما لحفظه الكتب المقدسة منذ طفوليته وإيمانه الذى تسلمه من جدته لوئيس وأمه أفنيكى.

ثانيا: الحث على الصلاة من أجل جميع الناس.

ثالثا: عدة إرشادات ونصائح لتلميذه تيموثاوس.

رابعاً: الحث على الخضوع للرؤساء والحكام.

خامساً: نصائح للنساء ليتحلين بالحشمة والفضيلة

سادساً: نصائح للأساقفة والقسوس والشمامسة والشماسات.

سابعاً: إرشادات للأرامل وللسادة والعبيد والمسيحيين عموماً.

حادى عشر: الرسالة الثانية إلى تيموثاوس

لعل هذه آخر رسالة كتبها القديس، وقد كان فى سجنه الثانى فى رومية وكان حوالى سنة 67م وقد كتبها متنبئا فيها بقرب خروجه من هذا العالم قائلاً: “فإنى الآن أسكب سكيباً ووقت انحلالى قد حضر. قد جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعى حفظت الإيمان وأخيراً قد وضع لى إكليل البر الذى يهبه لى فى ذلك اليوم الرب الديان العادل وليس لى فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً ” (2تى4: 6-8).

والرسالة فى أربعة أصحاحات من مواضيعها:

أولا: مدح تلميذه وإبداء اشتياقه إلى رؤيته وحثه على الثبات على تقواه والعناية برعيته.

ثانيا: حثه على الثبات ضد مقاومة المعاندين وتحذيره من المعلمين الكذبة.

ثانى عشر: الرسالة إلى تيطس

كتبت حوالى سنة 64م بعد سجن الرسول الأول بروما، وكان تيطس أسقفا على كريت وهى فى ثلاثة أصحاحات ومن بين مواضيعها.

أولا: تشجيع تلميذه وتفويضه لكى يقيم رعاة فى كل مكان.

ثانيا: تزويده بنصائح رعوية ثمينة.

ثالثاً: نصائح متعددة لأفراد الشعب وعلاقتهم بالله وبالحكام وبعضهم .

ثالث عشر: الرسالة إلى فليمون

كتبها الرسول فى أواخر سنى سجنه الأول فى رومة سنة 62 أو 63م والسبب فى كتابتها أن فليمون هذا كان من المؤمنين الأغنياء فى كولوسى، وكان له عبد اسمه أنسيمس اختلس من سيده أموالاً وهرب بها ولكنه صادف القديس بولس الرسول فآمن على يديه وندم على عمله فكتب الرسول هذه الرسالة إلى فليمون يطلب منه أن يقبل عبده الذى أصبح أخاه فى الإيمان وأن يسامحه من كل قلبه والرسالة فى أصحاح واحد ملئ بالعواطف الرقيقة والمبادئ المسيحية العملية.

رابع عشر: الرسالة إلى العبرانيين

كتبها الرسول إلى العبرانيين المتغربين حوالى سنة 62م وتقع فى ثلاثة عشر أصحاحاً ومن مواضيعها:

أولا: المسيح أعظم من موسى بما لا يقاس.

ثانيا: مقارنة بين كهنوت لاوى وكهنوت ملكى صادق والتأكيد على أن الكهنوت الثانى أعظم من الأول وإلى أن السيد المسيح رئيس كهنة على طقس ملكى صادق.

ثالثا: مقارنة بين ذبائح العهد القديم التى كانت نتائجها محدودة وبين ذبيحة المسيح الحية الكفارية التى ذبحت عن حياة العالمين.

رابعا: حث العبرانيين على الإيمان بالمسيح رجاء آبائهم ومحور آمال أنبيائهم والثبات على هذا الإيمان وتحذيرهم من الارتداد.

 

 

No items found