تأملات فى مزمور إليك يارب رفعت نفسى – مزامير – الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري

كارت التعريف بالكتاب

تحميل الكتاب

إنتبه: إضغط على زرار التحميل وانتظر ثوان ليبدأ التحميل.
الملفات الكبيرة تحتاج وقت طويل للتحميل.
رابط التحميل حجم الملف
إضغط هنا لتحميل الكتاب
1MB

مقدمة

نجد فى المزامير تعزية جزيلة لأنها كُتبت بوحى الروح القدس. وحينما يجد الإنسان فيها تعبيراً عن حالته الروحية يشعر أن الله يدرى باحتياجاته، ويعرف طبيعته وتكوينه. كما يدرك أن الله يهيئ له سبل الخلاص والتبرير والحياة الأبدية.

الجميل فى المزامير أنه كما إنها كلام الله، هى فى نفس الوقت كلام الإنسان، وكما يقول معلمنا بولس الرسول “لأننا لسنا نعلم ما نصلى لأجله كما ينبغى ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنَّات لا ينطق بها” (رو8: 26)، فمن الأمور المفرحة للإنسان الذى يصلى أن يشعر أن الروح القدس يقتاده فى الصلاة بصورة يقدر أن يعبّر بها عن احتياجاته، ويطمئنه أن الله سيستجيب بل وسيعطيه أكثر جداً مما يطلب أو يفتكر.

وهذا المزمور الرابع والعشرون –وهو من المزامير الجميلة فى صلاة باكر من صلوات الكنيسة- يعبّر عن حالة إنسان يشعر أنه وحيد وفقير، إنسان يشعر أن أعداءه قد كثروا وأبغضوه ظلماً. كما يعبّر عن إنسان قد كثرت أحزان قلبه، وكثرت شدائده، وقد تعب كثيراً من هذه الأمور. وأيضاً يشعر أن خطاياه هى سبب أحزانه هذه فيقول “من أجل اسمك يا رب اغفر لى خطيئتى لأنها كثيرة” (آية رقم11) ولكنه يشعر بالرجاء، وأن الله لن يتركه بل يعمل معه من أجل بنيان حياته، ومن أجل غفران خطاياه، فيجعل اتكاله على الله ويقول “لا أخزى لأنى عليك توكلت”، كما يقول فى بداية المزمور “إليك يا رب رفعت نفسى يا إلهى عليك توكلت فلا تخزنى إلى الأبد، ولا تشمت بى أعدائى. لأن جميع الذين ينتظرونك لا يخزوْن”.

هذا المزمور هو نوع من صلوات الاتكال على الله وإلقاء النفس بين يديه، أو إلقاء الحمل عليه.. فرغم أنه يعرض حالة من البؤس والشقاء ولكنه مملوء  بمشاعر الرجاء فى الاتكال على الله، ومع هذا الاتكال عليه انتظار ومثابرة وجهاد روحى فى الصلاة المتواصلة والسهر الروحى.

فيه أيضاً يقول المرتل “جميع طرق الرب رحمة وحق لحافظى عهده وشهاداته”، فيه ثقة كبيرة فى الرب مبنية على الالتزام بحفظ وصاياه وشهاداته، فيه تمجيد عظيم لاسم الرب وعمله، وهذا يظهر فى الإيمان بالرب وبخلاصه (رحمته وحقه) الذى هو أعظم تمجيد يقدّمه الإنسان له.

والإنسان لكى ينال التبرير، فهو لا يناله عن استحقاقٍ فيه شخصياً؛ أى باتكاله على بره الذاتى، ولكن بسبب إيمانه بخلاص الله. فالخلاص لا يستطيع أحد أن يصنعه “أما الذى يعمل فلا تُحسَب له الأجرة على سبيل نعمة بل على سبيل دين” (رو4:  4). فمهما عمل الإنسان من أعمال البر الذاتى مثل أعمال الناموس بدون الإيمان بخلاص المسيح؛ سيظل مديوناً أمام الله. إنما إذا وثق فى محبة الله وآمن بخلاص ابنه الوحيد؛ فهو بهذا يقدم لله التمجيد كله، إذ لا يستطيع أى إنسان أن يفتخر أمامه..

ليس معنى هذا أن الإنسان سوف يخلص بدون أعمال صالحة لأن “الإيمان بدون أعمال ميت” (يع2: 20). لكن الدخول إلى حياة التبرير، وإلى حياة النعمة لا يكون إلا عن طريق الإيمان بيسوع المسيح؛ وهو أهم شئ يحيا فيه الإنسان. وبعدما يؤمن بالمسيح ويولد فى المعمودية ويُمسح بالروح القدس؛ ينال القوة التى بها يستطيع أن يعمل المعجزات، وأن يعمل من الفضائل ما يفوق إمكانيات البشر كثمار للروح القدس، لا يخلص بدونها الإنسان المجاهد فى المسيح.

يؤكّد المرتل فى هذا المزمور أن الله صالح ومستقيم وأن “جميع طرق الرب رحمة وحق لحافظى عهده وشهاداته”، وأن الإنسان الخائف الرب “نفسه فى الخيرات تثبت”، وأن “الرب عزٌ لخائفيه”، وأن “اسم الرب لأتقيائه”.. هذا كله إعلان عن عطايا الرب لخائفيه، فكما يعلن المرنّم عن ضعفه؛ يظهر أيضاً إمكانيات عمل الله معه، إحساساً منه بهذا الفرق الشاسع بين ضعف الإنسان وقوة الله، بين سمو مكانة الله وانحطاط قدر الإنسان إذا قيس بقدر الله العظيم.. فمن منطلق هذا الإحساس يقول: إليك يا رب رفعت نفسى.

فصح يونان

16 فبراير 2006م                   مطران دمياط وكفر الشيخ والبرارى

9 أمشير 1722ش                     ورئيس دير الشهيدة العفيفة دميانة

إليك يا رب رفعت نفسى

كما قال فى موضعٍ آخر “من الأعماق صرخت إليك يا رب” (مز129: 1).. أنا يا رب أشعر بالاحتياج الشديد،  فأرفع إليك نفسى لكى تحدر من السماء نعمتك الإلهية، فتملأ هذه النفس قـوة وصلاحاً، كما تملأها من مخافتك.

الصلاة هى رفع العقل والقلب إلى الله، فالذى يصلى هذا المزمور ويقول: إليك يا رب رفعت نفسى؛ إن كان يفكر فى أمورٍ عالمية، فمعنى ذلك أنه يكذب على الله ويخدع نفسه، إنما إن قال: إليك يا رب رفعت نفسى؛ فقوله هذا هو انطلاق من حالة الارتباط بالعالم إلى حالة التحليق فى سماء المجد وسماء الروح..

وفى بداية القداس الإلهى (الأنافورا) ينذر الأب الكاهن الشمامسة والشعب قائلاً: [ارفعوا قلوبكم]، فيرد الجميع قائلين: [هى عند الرب]. فما أجمل أن نرفع قلوبنا ونفوسنا فى الصلاة.

إلهى عليك توكلت، فلا تخزنى إلى الأبد ولا تشمت بى أعدائى. لأن جميع الذين ينتظرونك لا يخزون

أنا أعرف يا رب أننى مراراً كثيرة فشلت، واختبارات فشلى أوصلتنى أنى لا أتكل إلا عليك أنت وحدك. فشلى يسبب لى خزى ومرارة، وقد صرت عاراً، لذلك أطلب وأقول: لا تخزنى إلى الأبد؛ لا تجعلنى فى حالة الخزى هذه إلى الانقضاء، فتكرار فشلى يجعلنى أخجل فى نفسى، كما فى وسط جماعة القديسين لا أستطيع أن أظهر. فإن قارنت نفسى بأولئك الذين أحبوك؛ الذين يخافون اسمك، أشعر بالخزى ويغطينى الخجل. ليس هذا فقط إنما حتى الأعداء قد شمتوا بى، وصرت هزءاً فى أعينهم لذلك أطلب إليك :

لا تشمت بى أعدائى. لأن جميع الذين ينتظرونك لا يخزون .. وهنا يرسم لنا المرتل الطريق فى الحياة الروحية مع الله. فالإنسان الذى ييأس من خلاصه لن يكون له نصيب فى الخيرات المعدّة للأبرار، لكن الإنسان الذى ينتظر الرب، وينتظره فى إلحاح وتضرع وانسحاق ولجاجة، هذا الإنسان لن يخزى إلى الأبد. كما يقول الكتاب “أما منتظرو الرب فيجدِّدون قوة، يرفعون أجنحة كالنسور، يركضون ولا يتعبون، يمشون ولا يعيون”    (أش40: 31).

ليخزَ الذين يصنعون الإثم باطلاً

هناك فرق بين من يحب الله، ويحاول أن يصل إلى عمق الحياة معه، وإن كان من ضعفه أحياناً يفشل، وبين آخر يصنع الإثم باطلاً، إذ صار الإثم صنعته المحبوبة، سواء كان هذا من أجناد إبليس، أو كان إنساناً مخدوعاً من الشياطين.

أولئك الذين يشربون الإثم كالماء، الذين يحبّون الخطية من عمق قلوبهم، هؤلاء لهم خزى وعار.

لكى ينتصر الإنسان على الخطية، يحتاج أن يكشف له الله بشاعة الخطية، كما يكشف له عن روعة حياة البر والقداسة؛ وينبغى أن يقبل هو هذا الكشف الربانى. بل الإنسان نفسه يأتى عليه الوقت الذى فيه يكره الخطية من كل قلبه، ويشتاق إلى البر. بينما فى وقت آخر إن تخلت عنه النعمة الإلهية لسبب كبرياء قلبه؛ تتغير نظرته لأهمية حياة القداسة..

من أجل ذلك يقول المرتل:

اظهر لى يا رب طرقك وعلمنى سبلك

أهم شئ فى حياة الإنسان الروحية أن يطلب من الله دائماً أن يجعل بصيرته الروحية فى حالة شفافية.. فى حالة استنارة.. فى حالة نقاوة، لكى يستطيع أن يتمسك بحياة البر. ربما يسقط الإنسان فى خطيّة الإدانة أو فى خطيّة محبة الكرامة والمديح وحب الذات والتعالى على الآخرين، فيجد أن النعمة الإلهية قد تخلّت عنه لكى يشعر أن محبته لحياة القداسة والبر بدأت تضعف، فيدرك الخطر الذى هو مشرف عليه. لذلك يجب أن يطلب باستمرار ويقول: اظهر لى يا رب طرقك وعلّمنى سبلك.

والرب قد وعد وقال: “أُعلّمك وأُرشِدُك الطريق التى تسلكها. أنصحك؛ عينى عليك” (مز32: 8). الله يعلّمنا سبله ويظهر لنا طرقه فى كل الاتجاهات وفى كل المجالات الروحية، إنما أهم طريق يظهره الله للإنسان هو أن يحب حياة البر والقداسة، ويكره حياة الخطية. فإن أحب البر يكون مولوداً من الله “إن عَلِمتُم أنه بار هو؛ فاعلموا أن كل من يصنع البر مولود منه” (1يو2: 29)، أما بقية الطريق فيتولى الرب أيضاً كشفه للإنسان.

اهدنى إلى عدلك وعلمنى. لأنك أنت هو الله مخلصى

ماذا يعنى المرتل بهذه العبارة؟ ربما كثيراً ما يخاف الإنسان من عدل الله، فكيف يقول اهدنى إلى عدلك؟! لكن فى الحقيقة أنه من الأمور التى تطمئن الإنسان جداً فى حياته الروحية أن الله عادل، إذ أنه فى عدله هذا يعرف الظروف التى يمر بها الإنسان. وفى عدله يعرف ضعف الطبيعة البشرية. فعدل الله بالنسبة لأولاده يطمئنهم، أما بالنسبة للأشرار فيخيفهم ويرعبهم. عدل الله لأولاده يعطيهم اطمئناناً  أنه سوف يدافع عنهم ضد حروب الشيطان.

أحياناً تُترجَم كلمة “عدلك” بمعنى “بِرَّك” وهى باليونانية “ذيكيئوسينى dikaiosu,nh ” فما معناها؟ عندما يقول إن وصاياك عادلة أى بارة وصالحة.. وعندما يقول: اهدنى إلى عدلك وعلّمنى؛ تكون بمعنى اهدنى إلى صلاحك أو اهدنى إلى برّك وعلّمنى لكى أسلك فى هذا البر وهذا الصلاح.

الإنسان العادل البار هو الذى يعرف أن الخطية خاطئة جداً؛ خاصة حينما يتأمل فى آلام السيد المسيح البار من أجل الأثمة. فالذى يقارن بين لذة الخطية الوقتية وسعادة الأبدية، فمن العدل بالنسبة لنفسه ألا يحرمها من السعادة الأبدية فى سبيل اللذة الوقتية. بينما من يضيع سعادته الأبدية من أجل لذة وقتية يكون إنساناً ظالماً للسيد المسيح وظالماً لنفسه، إذ أنه يسعدها وقتياً سعادة مؤقّتة زائلة، لكى يشقيها بما لا يقاس. لذلك يقول المرتل: اهدنى إلى عدلك وعلّمنى لأنك أنت هو الله مخلصى.

لا تظنوا أنه فى إمكان الإنسان أن يعمل أى شئ بدون معونة الله. فكما قلنا سابقاً أنه يمكن إذا تخلّت النعمة الإلهية عن الإنسان البار فى وقتٍ من الأوقات؛ فإنه يجد نفسه لا يساوى شيئاً إنما يكون “كالهباء الذى تذريه الريح عن وجه الأرض” (مز1: 4)، فيعود إلى الله ويقول له: إليك يا رب رفعت نفسى… إلخ

وإيّاك انتظرت النهار كله

ماذا يقصد بالنهار هذا؟ نجد أنه فى مَثل الفعلة وأصحاب الساعة الحادية عشر؛ قال السيد المسيح إنه “وجد آخرين قياماً بطَّالِين. فقال لهم: لماذا وقفتم ههنا كل النهار بطَّالين. قالوا له: لأنه لم يستأجرنا أحد” (مت20: 6، 7) ونحن نصلى فى صلاة الغروب ونقول “احسبنى مع أصحاب الساعة الحادية عشر.. لأنى أفنيت عمرى فى اللذات والشهوات وقد مضى منى النهار وفات”. النهار كله يرمز إلى عمر الإنسان أو حياة الإنسان، لذلك قال الرب: “سيروا مادام لكم النور لئلا يدرككم الظلام” (يو12: 35)، “ينبغى أن أعمل أعمال الذى أرسلنى مادام نهار” (يو9: 4).

ففى قوله: وإياك انتظرت النهار كله؛ أى إياك انتظرت العمر كله. أنا يا رب أنتظرك النهار كله مع أولئك الفعلة الذين لم يستأجرهم أحد؛ مع أصحاب الساعة الحادية عشر، سواء مازلت فى أول النهار أو فى منتصفه أو فى آخره؛ سوف أنتظرك.

لعل هذا يفيد المصلى فى صلاة باكر، أن يتذكر أنه فى هذا النهار ينبغى أن يعمل للرب، هذا وقت يُعمل فيه للرب. يصلى ويقول أريد يا رب أن تعطينى نعمتك قبل أن ينقضى نهار حياتى.

إياك انتظرت النهار كله؛ هذه السنين القليلة التى هى سنى غربة الإنسان التى لا يعرف متى تكون نهايتها، فيقف أمام الله منتظراً مراحمه الإلهية، قارعاً أبواب تعطفه قائلاً: إياك انتظرت النهار كله

يقول له: ليكن نورك مشرقاً فى نهار حياتى {ما تخدنيش يا رب فى ساعة غفلة} صلوة جميلة علّمها لنا قداسة البابا شنودة الثالث –أطال الرب حياته..

إذا راجع الإنسان نفسه؛ يجد أنه فى أوقات كثيرة إن كان الله قد أخذه فيها؛ فماذا كان مصيره؟!… كان يمكن أن يضيع إذ كان فيها غافلاً عن خلاص نفسه وكانت مخافة الله ليست كائنة بكمال فى قلبه.. فالإنسان فى الصلاة يطلب بلجاجة من الرب أن يعطيه يقظة دائمة، ولا يأخذه حيث تشرد النفس فى وادى الظلام.

اذكر يا رب رأفتك ومراحمك لأنها ثابتة منذ الأزل

يقول قداسة البابا شنودة الثالث –أطال الرب حياة قداسته- {أنا لى علاقة مع الله قد بدأت منذ الأزل وستستمر إلى الأبد؛ بدأت منذ الأزل حين كنت فى عقله فكرةً وفى قلبه مسرةً، وستستمر إلى الأبد بنعمته}.

أنت يا رب خلقتنا لك لكى نمجدك ونمجد صلاحك، كانت صورتنا حلوة فى عينيك. فى قلبك يا رب من نحونا حبٌ فى المسيح من قبل أن نوجد “لأننا نحن عمله مخلوقين فى المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدّها لكى نسلك فيها”  (أف2: 10)، “كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه فى المحبة” (أف1: 4) فكما تُعدّ الأم لمولـودها الجديـد وهـو مـازال فى بطنها، ومن كثرة محبتها له تتفنن فى تزيين ملابسه وكل احتياجاته؛ هكذا أعدّ الله لنا كل نعمة فى المسيح. ولكن محبة الله هى بلا شك أعمق بكثير من محبة الأمهات، فالله قد أعد لنا الكثير والكثير قبل أن نوجَد، إذ كنا فى عقله فكرة وفى قلبه مسرة.

لهذا يقول المرنم “اذكر يا رب رأفتك ومراحمك لأنها ثابتة منذ الأزل”

خطايا شبابى وجهالاتى لا تذكر

تاريخك معى يا رب حلو، وأفكارك جميلة. أنت القديم الأيام وحبك القديم المختزن، فإن رجعت إلى الوراء لكى تذكر مراحمك ومحبتك القديمة فلا تذكر معها خطاياى القديمة.

أريدك يا رب أن تتذكر حبك القديم ولا تتذكر خطاياى القديمة. وعندما تنظر فى الماضى انظر إلى محبتك ولا تنظر إلى خطاياى.

أنت قلت “أنا أنا هو الماحى ذنوبك لأجل نفسى وخطاياك لا أذكرها” (أش43: 25).. الله لا ينسى، يمكن أن تكون ذاكرة الإنسان ضعيفة وينسى ولكن الله لا ينسى. أما النسيان بالنسبة لله فله معنى روحى؛ وليس بالمعنى الحرفى، النسيان معناه الغفران. الإنسان يمكن أن ينسى إساءة الآخرين له فى تفاصيلها، إنما قلبه يحمل كراهية من نحوهم، فليس الأمر هو أن ننسى، إنما الأهم هو أن نغفر وأن نحب.

فى المَثل يقال }ما محبة إلا بعد عداوة} الإنسان النقى القلب يستطيع أن يحب حتى ولو كانت إساءة الآخرين لا تزال تعلّق بذاكرته، فهى لا تؤثر على مشاعره من نحوهم.. هذا هو الكمال الحقيقى. إن أتى على فكره ما يذكّره بإساءة الآخرين لا يتحرك قلبه بالغضب من نحوهم. ونحن من أجل ضعفنا لأننا لم نصل بعد إلى هذا الكمال الذى هو كائن فى الله، فالأفضل لنا هو أن ننسى أحداث الخطية أو إساءة الآخرين من ذاكرتنا لكى تنساها أيضاً قلوبنا.

وكما قال أحد القديسين [إن ذكرنا خطايانا ينساها لنا الله].. المرتل يشعر أن ماضى حياته، وسِجِّل وتاريخ هذه الحياة يخجله. ربما هذا (أى السقوط فى الخطايا الشبابية) لا ينطبق على داود النبى نفسه (لأنه كان شاباً طاهراً ولم يسقط فى الزنى إلاّ بعد أن كبُر) إنما يمكن للإنسان وهو يصلى أن ينتفع من هذه الكلمات، إن كان يطبقها على حياته الشخصية.

كرحمتك اذكرنى أنت من أجل صلاحك يا رب لأن الرب صالح ومستقيم

أنت يا رب تحب البر، فعندما تتفكر فى هذا البر اذكرنى فى الصورة التى تتمنى أن تكون لى، أو أن أكون فيها. بدلاً من أن ترانى فى الصورة التى أحيا فيها الآن، ليتك ترانى فى الصورة التى تعدّها أنت لى.

أنت يا رب صالح ومستقيم، ومراحمك كثيرة، فمن أجل هذا الصلاح الذى فيك؛ اذكرنى برحمتك الإلهية، وتغاضى عن خطاياى.. عاملنى برحمتك.

تظل محبة الله ثابتة لا ترجع أبداً، مهما عوّج الإنسان طريقه لكن طريق الله مستقيم. لا يغضب إلى الأبد ولا ينتقم لنفسه.

ربما يتساءل أحد إن كان الله لا ينتقم لنفسه فكيف سيعاقب الأشرار فى الدينونة الأبدية إذن؟! معاقبة الله للأشرار ليست انتقاماً لنفسه، بقدر ما إنها النتيجة الطبيعية لانحدارهم لحياة الظلمة والبعد عن الله “فإن الذى يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً” (غل6: 7).. الله يعمل الكثير من المحاولات مع الإنسان لكى يتوب، فإن لم يتُب ومات سيقول البعض ربما لو كان الله قد تركه مدة أطول فى الحياة؛ لكان من الممكن أن يتوب هذا الإنسان عن خطاياه. إنما الحقيقة هى أنه إن عاش ذاك الإنسان إلى الأبد فلن يتوب أبداً بل تتزايد خطاياه، فهو إذن يدخل إلى حياة الظلمة بقدميه، يدخل بقدميه إلى الهاوية..

فقصد الرب ثابت ومشيئته صالحة. ومن هنا نستطيع أن نفهم الله، وندرك شريعته وأحكامه. كما نستطيع أن نفهم الكتب المقدّسة ونرفض التعاليم الغريبة. يوجد من يعتقدون أن الله خلق البعض ليكونوا أبراراً بينما خلق آخرين ليكونوا أشراراً! ويفسرون ما هو مكتوب فى الأصحاح التاسع من رسالة رومية تفسيراً خاطئاً “ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتنى هكذا”   (رو9: 20). ولكن حقيقة الأمر أن الرب صالح ومستقيم ليس عنده اعوجاجاً ولا ظل دوران.. مقاصده كلها ثابتة لا تتغيّر، وهو الذى قال: “لأن هذه هى إرادة الله قداستكم” (1تس4:  3). وقيل عنه “الذى يريد أن جميع الناس يخلُصون، وإلى معرفة الحق يُقبِلُون” (1تى2: 4)، وأنه لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع وتحيا نفسه “هل مسرّة أُسَرُّ بموت الشرير يقول السيد الرب؛ إلا برجوعه عن طُرقِه فيحيا” (حز18: 23)، وهو “لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يُقبِلَ الجميع إلى التوبة” (2بط3: 9).

لذلك يرشد الذين يخطئون فى الطريق يهدى الودعاء فى الحكم، يعلم الودعاء طرقه

إن كان الله يحب أن ينتقم لنفسه لكان يترصّد لكل إنسانٍ يخطئ لكى يبيده ويهلكه. لكن الله يرشد الذين يخطئون فى الطريق.. استقامته تعطى للخطاة المنسحقين استقامة فى طرقهم.

هذا مدخل آخر للحياة الروحية؛ لماذا نحن نخطئ ونبتعد وتتخلى عنا النعمة الإلهية؟ لماذا نفشل ونسقط؟ هذا لأن الله يعلِّم الودعاء طرقه.. فسِر سقوطنا هو أننا لسنا ودعاء.. ومثال لذلك الإنسان المتشامخ المتكبّر الغضوب، الإنسان المحب لذاته؛ الذى يريد أن يمجّد هذه الذات. لكن ليت هذا الإنسان يدرك أنه مهما عظمت أعماله وازداد، فإن كل هذا سوف ينتهى ويزول سريعاً.. هذا هو مبدأ للحياة الروحية؛ أن الله القدير “يرشد الذين يخطئون فى الطريق. يهدى الودعاء فى الحكم. يعلّم الودعاء طرقه”..

الودعاء هم متواضعو القلوب، كما قال السيد المسيح “تعلّموا منى لأنى وديع ومتواضع القلب” (مت11: 29). الإنسان المتضع يعلِّمه الله طرقه، وتصبح الفضيلة ميسورة بالنسبة له. كل أنواع الجهادات الروحية فى حياته تمر ببساطة، إذ تُعطَى النعمة الإلهية له بدون مكيال.

أفضل شئ هو أن يبحث الإنسان عن اتضاع القلب ككنز عظيم، ولؤلؤة كثيرة الثمن تلك التى وجدها التاجر الذى كان يطلب لآلئ حسنة (انظر مت 13: 45، 46). سبب كل متاعبنا الروحية هو أننا نبتعد عن وداعة الروح واتضاع القلب.. أما الرب فهو يعلّم الودعاء طرقه، وكأنه المعلّم الوديع الذى جمع الودعاء فى حجرة الدرس لكى يلقنهم درساً هو درس الوداعة.

جميع طرق الرب رحمة وحق لحافظى عهده وشهاداته. من أجل اسمك يا رب اغفر لى خطيتى لأنها كثيرة

أحياناً يظن الإنسان أن الله قد تخلى عنه، وربما فى جهالة ينسب لله أى شئ، أو يعاتب الله عتاباً قاسياً عن أمر من الأمور. ويدخل فى خصومة مع الله!! لكن المرتل يقول: “جميع طرق الرب رحمة وحق لحافظى عهده وشهاداته..”.

الله كامل فى قداسته، فلا يمكن أن تُنسَب إلى الله جهالة، فالإنسان الجاهل هو الذى ينسب إلى الله أى نقص فى تدبيره أو أحكامه أو طرقه.

من يحفظ وصايا الرب، ويحافظ على العهد الذى قطعه مع الله أن يسلك فى طرقه ووصاياه بلا لوم، تكون لهذا الإنسان: جميع طرق الرب رحمة وحق.

يعود المرتل ليقارن حالته بتلك التى لحافظى عهده وشهاداته؛ حالة الودعاء فيقول: من أجل اسمك يا رب اغفر لى خطيتى لأنها كثيرة. أنا أعرف يا رب أننى أغضبتك مراراً كثيرة، إنما لنبدأ من جديد، سوف أجتهد أن أكون مع هؤلاء الودعاء وحافظى عهدك وشهاداتك..

وعبارة “من أجل اسمك” تحمل معانٍ كثيرة: فمن أجل اسمه الذى دُعى علينا كأولاد لله يهمه طبعاً أن تمحى خطايانا، ومن أجل اسمه باعتباره هو الله القدير يهمه أن يكون قادراً على هزيمة الشر والخطية والشيطان، ومن أجل اسم الرب يسوع نطلب مغفرة خطايانا لأن الملاك قال عنه “وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم” (مت1: 21). وكلمة “يسوع” هى كلمة عبرية أصلها “يهوشوع” أى “يهوه يخلّص”. و”يهوه” هو الاسم الخصوصى لإله إبراهيم.

من هو الإنسان الخائف الرب يرشده فى الطريق التى ارتضاها نفسه فى الخيرات تثبت ونسله يرث الأرض وكأنه يقول إن الإنسان الخائف الرب؛ هذا هو من يرشده فى الطريق التى ارتضاها..

مشكلتنا فى حياتنا الروحية هى أننا كثيراً ما نأخذ من الله خيراتٍ ونضيّعها، إنما الإنسان الروحى الذى وصل إلى قامة روحية عالية، تجد نفسه ثابتة فى الخيرات. نحن ربما نبنى ثم نعود لنهدم ما قد بنيناه، فلا نتقدم للأمام، لكن الإنسان الخائف الرب؛ نفسه فى الخيرات تثبت.

ربما نحضر القداس ونتعزى ونتناول، ثم نخرج لنضيّع ما قد أخذناه.. نقرأ الإنجيل ونأخذ تعزيات ثم نعود لنتهاون ونضيّع ما تعزينا به.. نصلى ويعطينا الله تعزيات فى الصلاة ثم نترك حرصنا فنفقد التعزية.. أما الإنسان الخائف الرب؛ فنفسه فى الخيرات تثبت. وإذا ثبتت نفسه فى الخيرات، تنمو هذه النفس وتتزايد فى حياة الفضيلة، وتتأصل فيها بل تصير الفضيلة جزءاً لا يتجزأ من طبيعتها، ويصير الإنسان بهذا مؤهلاً لحياة الملكوت. ليس هذا فقط بل تكون النفس مثمرة تستطيع أيضاً أن تؤثر فى الآخرين.

نفسه فى الخيرات تثبت ونسله يرث الأرض.

ما هى مشكلة الخادم الذى يخدم المسيح عندما تصير خدمته غير مثمرة، رغم أنه يتعب فى الخدمة، وبالرغم من أنه تمر عليه مراحل يكون فيها متصلاً بالله اتصالاً قوياً؟! ربما عدم إثمار الخدمة يكون بسبب أن النفس غير ثابتة فى الخيرات. الشجرة إذا تنقلت يوماً بعد يوم من مكانٍ لآخر لن تثمر أبداً، إن لم تُروَ بانتظام لن تأتى بأى ثمر. أما الإنسان الذى نفسه فى الخيرات تثبت نسله يرث الأرض؛ نسله الروحى أيضاً يكون مثمراً، ويستطيع أن يرث الأرض، وقد قال السيد المسيح: “طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض” (مت5: 5)؛ هؤلاء هم الودعاء الذين يهديهم الرب فى الطريق أو يهديهم فى الحكم، ويعلّمهم طرقه؛ هؤلاء يرثون الأرض.

الرب عز لخائفيه، واسم الرب لأتقيائه ولهم يعلن عهده

الإنسان الخائف الرب يحيا فى عزٍ، معزز مكرم، مرفوع الرأس أمام الشياطين فتخافه وتخشاه.. كرامته محفوظة كإنسان.

فالرب عز لخائفيه لأنه يعطيهم كلمته، كما يعطيهم كرامة، مثلما قال السيد المسيح “إن كان أحد يخدمنى يكرمه الآب”   (يو12: 26)، فيصير فى عزٍ..

قديس مثل الأنبا ابرآم أسقف الفيوم كان يعيش فى هذا العز الإلهى وهذا العز الروحى، كما يقول المرتل “عزيزٌ فى عينى الرب موت أتقيائه” (مز116: 15)، إنسان عزيز فى عينى الرب، والله عزٌ بالنسبة له، تصير له خيرات كثيرة؛ خيرات روحية، كما يعطيه الرب مواهب روحية لمجد اسمه.

فكون اسم الإنسان مسيحياً أو رجل الله، كما أن هذا من الناحية الشكلية؛ فله أيضاً قيمته الجوهرية.. فالمسيحى الحقيقى هو الذى تظهر فيه صورة المسيح لذلك يقول:

واسم الرب لأتقيائه ولهم يعلن عهده؛ أى أن صورة الله واضحة فى حياته “حامل فى جسدى سِمات الرب يسوع” (غل6: 17) من يراه يرى فيه صورة الله، يقولون هذا هو رجل الله بالحقيقة.. “اسم الرب برج حصين. يركض إليه الصديق ويتمنع” (أم18: 10)..

اسم الرب لأتقيائه؛ أى يعطى لهم سلطان استخدام اسمه، فعندما يسمون باسم الله، أو يدعون باسمه، حينئذ تظهر قوة الله العاملة معهم.. يقول لك الرب: أنا أعطيك اسمى؛ يُدعى اسمى عليك. أعطيك اسمى كقوة قادرة تستطيع أن تعمل “فإننا نحن عاملان مع الله..” (1كو3: 9).

ولهم يعلن عهده.. فالعهد الأساسى الذى ذُكر فى الكتاب المقدس هو عهدان؛ العهد القديم والعهد الجديد، فقد قال السيد المسيح عن الكأس “هذه الكأس هى العهد الجديد بدمى الذى يسفك عنكم” (لو22: 20)، لكن ما معنى أن الرب يعلن لنا عهده؟ يعلن لنا عهده أى يكشف لنا عن حبه وخلاصه العجيب فى حياتنا، وندرك عظمة هذه الأسرار الإلهية..

فى العهد القديم كان العهد بين الله والإنسان بواسطة دم الثيران، عندما أخذ موسى الدم ورش على كتاب العهد (انظر خر24) فصار عهد بين الله والإنسان. والدم يشير إلى الحياة، لذلك فهو عهد حياة. والعهد الجديد بدمٍ زكى إلهى، يعطى حياة أبدية لمن يتناول منه. لذلك عندما يقول: لهم يعلن عهده؛ أى لهم يعطى حياة “الحياة الأبدية التى كانت عند الآب وأُظهِرَت لنا” (1يو1: 2).

عيناى تنظران إلى الرب فى كل حين لأنه يجتذب من الفخ رجلى

الفخاخ منصوبة باستمرار، ومن يفتكر أنه لا يوجد فخاخ “لأنه حينما يقولون سلام وأمان؛ حينئذٍ يفاجئهم هلاك بغتة كالمخاض للحبلى فلا ينجون” (1تس5: 3). مسكين الإنسان الذى يظن أن الطريق مفروش بالورود، وأن الشياطين لن يحاربوه.. ماذا أفعل يا رب فى هذه الفخاخ؟ يجيب المرتل ويقول: عيناى تنظران إلى الرب فى كل حين.. نحن لا نستطيع أن نمنع الفخاخ، إنما يكفى أن ننظر إلى الرب فى كل حين..

من يرفع عينى قلبه دائماً متأملاً فى جراحات السيد المسيح، هذا هو الذى تنجو رجليه من الفخاخ؛ هذا هو الإنسان الخائف الرب، هذا هو الذى يدرك أن أجرة الخطية موت، وثمرة البر حياة أبدية فى شخص السيد المسيح المعلّق على الصليب “لأن أجرة الخطية هى موت. وأما هبة الله فهى حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا” (رو6: 23).

انظر إلىّ وارحمنى لأنى ابن وحيد وفقير أنا

وحيد ليس لى أحد سواك، “أبى وأمى قد تركانى أما الرب فقبلنى” (مز26: 10). نحن نبحث عن تعزيات البشر، فنعود أخيراً لنقول مع أيوب”معزون متعبون كلكم” (أى16: 2). نبحث عن الراحة مع الناس فلا نجدها، إذ هم أكثر احتياجاً لهذه التعزية.

من يضع رجاءه فى الآخرين، ومن يضع سلامه فى الآخرين سوف يصاب بخيبة أمل كبيرة. أما المرتل فقال: “لأنى ابن وحيد وفقير أنا”؛ ليس لى أحد يستطيع أن يخلصنى وينقذنى من البشر العاديين؛ غريب من إخوتى، نزيل عند بنى أمى “لأنى أنا غريب عندك. نزيل مثل جميع آبائى” (مز39: 12) أنا وحيد ويتيم ومسكين وفقير لا أملك شيئاً.. هكذا يقف الإنسان أمام الله شاعراً بفقره وغربته واحتياجه، هذا الإنسان يستطيع الله أن يعطيه، وأن يشبعه من غنى نعمته.

ليتنا نقف عند هذه الآية كلما صلينا هذا المزمور، ليؤكّد الإنسان  فقره واحتياجه أمام الله. أما ذاك الذى يقول “إنى أنا غنى وقد استغنيت ولا حاجة لى إلى شئ” (رؤ3: 17)، فيجيبه الله قائلاً: “لست تعلم أنك أنت الشقى والبئِسُ وفقير وأعمى وعريان”  (رؤ3: 17). كثيراً ما نقف أمام الله دون أن نشعر باحتياجنا الشديد إليه فلا نأخذ منه شيئاً.

أحزان قلبى قد كثرت

هذا العالم مملوء بالهموم والأحزان، وكل فرح وسعادة فيه هى أمور وقتية زائلة، لهذا قال السيد المسيح “سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم” (يو16: 22).. هذا الفرح الذى وعد الرب به تلاميذه؛ قد أعقب الحزن الذى أصابهم وقت صلب السيد المسيح ودفنه فى القبر ثلاثة أيام.

ولأننا نهرب من الحزن على خطايانا، نميل إلى السعادة والفرح الزائف لذلك لا تعمل النعمة الإلهية فى حياتنا. أما من يحزن على خطاياه هذا هو الذى سوف يتعزى ويفرح “طوبى للحزانى لأنهم يتعزون” (مت5: 4). لم يقصد السيد المسيح فقط الحزانى لأجل ميت، فأى إنسان يستطيع أن يعيش نائحاً.. فلماذا يرتدى الراهب ملابس سوداء مثل أولئك الحزانى لأجل عزيزٍ لديهم؟ يرتدى ملابس سوداء لأنه يحزن على خطاياه.. إنسان راهب بمعنى أنه يرهب جلال اسم الله القدوس، يتعبد له فى رهبة ومخافة وفى خشوع. لذلك يجب أن يرى الناس فيه صورة المخافة الإلهية، كما يشعرون فيه برهبة حياة الخشوع والعبادة، أما إن اتخذ الراهب صورة العلمانيين فى مرحهم وانطلاقهم فى حياة العالم؛ سيعيش فى انحلال ويفقد حياته كراهب.

يقول المرتل فى موضع آخر “عند كثرة همومى فى داخلى تعزياتك تلذذ نفسى” (مز94: 19) فعندما يرى الله أن أحزان قلوبنا قد كثرت، يشعر أننا قد صرنا محتاجين للتعزية، وإلا فمن هم الذين يعزيّهم الله؟

اخرجنى من شدائدى، انظر إلى تواضعى وتعبى، واغفر لى جميع خطاياى

إنسان غارق فى شدائده وأحزانه، يشعر أنه فى شدة وضيق، ولا يستطيع أن يجد مخرجاً. كثيراً ما يتعب الإنسان من حروب الشياطين، وربما يتعب من فشله المتكرر، ويتألم بوجع قلب بسبب خطاياه، فيردد مع المرتل ويقول: أنا يا رب لا أستطيع أن أقدم لك أى شئ أكثر من تذللى أمامك، وانسحاق نفسى.. لا أملك سوى هذا التعب الذى أتعبه فى هذا الحزن على خطاياى، لقد تعبت كثيراً فانظر إلى تواضعى وتعبى..

ها قد تعبت من عثرات الخطية، تعبت من محاربات الشياطين التى أطاحت بى، أقول مع داود النبى “إنى قد أكلت الرماد مثل الخبز ومزجت شرابى بدموعٍ” (مز102: 9)، “ركبتاى ارتعشتا من الصوم ولحمى هزل عن سمنٍ” (مز109: 24).. كثيراً ما يساعد الصوم الإنسان أن يقدم كل هذه المعانى، وهو يشعر بالتعب حقاً.

إن كشف لنا الله عن فظاعة الخطية ومرارتها، وكيف تبعد الإنسان عن الله وعن خلاص نفسه، وكيف وهو مخدوع وبعيد يشعر بالتعب الشديد، يقوم ليصرخ إلى الله ويقول: انظر إلى تواضعى وتعبى، واغفر لى جميع خطاياى..

انظر إلى أعدائى فإنهم قد كثروا وأبغضونى ظلماً

أنت يا رب عادل، وتعرف أننى لم أفعل شيئاً لأولئك الشياطين القائمين علىّ. وقديماً ماذا صنع آدم للشيطان، هل أساء إليه فى شئٍ؟! كلا.

هنا يصرخ المرتل قائلاً: ما هو ذنبى فى هذه المحاربات؟ ذنبى هو موجّه إليك أنت، فقد أخطأت فى حقك، وخطاياى قد كثرت وثقل حملها علىّ.. إنما الشيطان، ماذا فعلت له لكى يأتى ويحاربنى ويتعبنى، ويقوم ليذلنى ويشمت بى. هذا الشيطان سأتركه لك يا رب لكى تنتصر عليه، وتعامله كصلاحك.

حقاً إن الإنسان مظلوم مع الشياطين، ولسبب هذا الظلم صنع الله الخلاص من أجل الإنسان لكى يرفع عنه الظلم، لأن الله عادل وبار ومستقيم، وأعطى إمكانية الخلاص لكل بشر، كما يقول الكتاب “ويبصر كل بشر خلاص الله” (لو3: 6)، وكما أن الإنسان قد أخطأ بإرادته، فلابد أن يخلص أيضاً بإرادته، وأن يهتم بخلاص نفسه كالمكتوب: “كيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصاً هذا مقداره” (عب2: 3). لكن لماذا لا ننجو؟ ذلك لأننا أضعنا الفرصة التى قدّمها لنا الله من أجل خلاصنا.

إن أردت أن تقدّم دعوى على أحد، لا تقدّمها إلا على الشيطان، لا هذا ولا ذاك، إنما هو الشيطان الذى يقوم ضدك… قل للرب: “انظر إلى أعدائى فإنهم قد كثروا وأبغضونى ظلماً”.. إن أردت أن تبغض أحد، لا تبغض سوى الشيطان، لأنه هو عدو الخير، عدو الله، عدو كل بر. ولا تبغض الشيطان مجرداً، إنما ابغض ذاك الذى يؤثر فى حياتك لكى يجتذبك إلى الهاوية والهلاك الأبدى معه. وهذه البغضة تجعلك لا تدخل معه فى صداقات أو عهود، إنما تظل الحرب قائمة، واليقظة مستمرة، والنفور منه دائماً. احترس من أى هدنة فى الحرب مع الشيطان.

احفظ نفسى ونجنى. لا أخزى لأنى عليك توكلت

أريد يا رب أن تحفظ هذه الوديعة كإناءٍ لا ينكسر. احفظ نفسى ونجنى، احفظها لكى تكون لك أنت وحدك، تكون ملكك، احفظ نفسى طاهرة مقدسة. احفظ نفسى آنية مهيأة لسكناك.

“لا أخزى لأنى عليك توكلت” هذا تكرار للمعنى الذى ذكرناه سابقاً فى بداية المزمور، هكذا يختمه أيضا حيث إن الاتكال على الله هو أساس الحياة الروحية كلها. ثم يُظهِر أن الإنسان الذى يجاهد فى حياته الروحية؛ الذى يطلب الله وينتظر عمله المقدس، هذا الإنسان ترافقه الملائكة، كما تؤازره معونة الأبرار والصديقين.

الذين لا شر فيهم والمستقيمون لصقوا بى لأنى انتظرتك يا رب. يا الله انقذ إسرائيل من جميع شدائده. هلليلويا

أنا يا رب أنتظرك؛ من أجل هذا أحبتنى الملائكة، وأتت لمعونتى؛ هؤلاء هم الذين لا شر فيهم. وأتت أيضاً أرواح الصديقين تؤازرنى شفاعتهم وتضرعاتهم، كذلك الأبرار الذين فى العالم.. الذين لا شر فيهم والمستقيمون لصقوا بى؛ قد صرت صديقاً للأبرار والتصقت بهم،  لأنى أنتظرك معهم مردداً مع الكنيسة: {وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتى}.

انقذ إسرائيل شعبك الذى افتديته؛ انقذ الكنيسة. انقذ إسرائيل عبدك حبيبك وقديسك..

إن كان الإنسان فى حياته الروحية يجاهد كفرد، إنما لا يستطيع أن ينكر أن وجوده كعضو فى الجماعة هو أمر ضرورى. فهو لا يجاهد وحيداً، إنما هو يشعر أن مصدر خيره وحياته هو الله، وهو لا يلقى اتكاله على إنسانٍ ما بعيداً عن الله، لكنه أيضاً يشعر بأهمية أب الاعتراف والقيادة الروحية، ويشعر أن جماعة الأبرار والقديسين، وجماعة المجاهدين؛ كل هؤلاء يشكِّلون كياناً واحداً، وكنيسة واحدة، كنيسة مقدسة، فيعود لكى لا يذكر نفسه وحده فقط، إنما يقول للرب: يا الله انقذ إسرائيل، انقذ شعبك كله الذى افتديته.

هذا يوضّح لنا أنه وإن كان الإنسان يجعل أمر خلاص نفسه هدفاً أساسياً، إنما لا يفكر فى نفسه وكأنه بمعزل عن الجماعة، لكنه يهتم بالكل، يهتم بخلاص الكل وحياتهم. وكيف ذلك؟

أقل ما فى الأمر هو أن يطلب من أجلهم جميعاً. وهذا لا يتعارض البتة مع قوله “لأنى ابن وحيد وفقير أنا”. عندما يقول أنا وحيد أى غريب، أى أنا يا رب لا يمكن أن أجد أحد غيرك ينقذنى مما أنا فيه، وكما أننى أدرك هذا أعرف أيضاً أن جميع إخوتى يحتاجون إلى نفس هذا الإله؛ إلى نفس المخلّص، إلى أب الأرواح، إلى أب الجميع الذى يجمع الكل إلى أحضان محبته. من أجل ذلك إن غابت عن الإنسان هذه الحقيقة ربما يتوه فى الطريق.

لا يجب أن تؤخذ الحياة الروحية من جانبٍ واحدٍ، أو من جهةٍ واحدةٍ. بل أغلب الحقائق الروحية لها وجهتان لابد أن نعرفهما لكى نستطيع أن نضبط السلوك الروحى فى حياتنا ونعرف الطريق الملوكى التى نسلكها.

وكمثال لتوضيح هذا؛ الصوم: يمكن أن يكون وسيلة للخشوع والاتضاع والانسحاق أمام الله، أو يكون وسيلة لتمجيد الذات والسبح الباطل والكبرياء. فإن عرف الإنسان هذين الوجهين يستطيع أن يسلك فى الصوم بالأسلوب السليم الذى يستفيد منه روحياً. أيضاً إن نظرنا للصوم كهدف فى ذاته يمكن أن تفسد حياتنا الروحية، لكن إن نظرنا إليه كوسيلة بها نزداد قرباً من الله، وحرارة فى عبادتنا؛ هذا هو الطريق الصحيح. وتكون فترة الصوم هى فرصة للتأمل.

كذلك الصمت يمكن أن يؤدّى إلى الكبرياء كما يمكن أن يؤدّى إلى الانسحاق والاتضاع.. وهكذا جميع الأمور الروحية لابد أن نعرف كل جوانبها، ولا ننظر إليها من جانب واحد.

ليت فترات الصوم تكون فرصة للصلاة بالمزامير بفهم، إذ من خلالها نطلب من الله أن يحقق لنا وعوده المكتوبة فيها.. يمكن لإنسان أن يصلى مزموراً واحداً بعمق وفهم من كل قلبه، فيستفيد روحياً أكثر ممن يصلى مئات المزامير بدون فهم أو تأمل. ولكن هذا لا يمنع من إتمام القوانين لئلا يعتاد الإنسان عدم الصلاة.

ليتنا نحوّل صلوات المزامير إلى تأملات روحية عميقة، ونحاول أن نطبّق كلمات المزمور على حياتنا الشخصية، كما نركّز على المعانى التى تمس خلاص نفوسنا وعلاقتنا مع الله.

ولإلهنا المجد دائماً أبدياً آمين

 

تأملات فى مزمور اعترف لك يا رب - مزامير - الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري

تأملات هادئة فى مزمور إلى متى يارب - مزامير - الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري

سلسلة تفسير المزامير - الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري
سلسلة تفسير المزامير - الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري