تأملات فى المزمور الحادى عشر خلصنى يا رب فإن البار قد فنى – الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري

كارت التعريف بالكتاب

تحميل الكتاب

إنتبه: إضغط على زرار التحميل وانتظر ثوان ليبدأ التحميل.
الملفات الكبيرة تحتاج وقت طويل للتحميل.
رابط التحميل حجم الملف
إضغط هنا لتحميل الكتاب
1MB

المزامير مفاتيح قلب ربنا

المزامير موحى بها من الله، وهى مفاتيح قلب ربنا، حيث أعطى لنا الرب صلاة نصلى إليه بها. وهو الذى أوحى بالكلمات، حتى ولو بها عتاب؛ فهو يوافق على العتاب، مثل “إلى متى يا رب تنسانى إلى الإنقضاء” (مز12: 1) يقول أنا موافق على عتابك، قل لى هذا: {إلى متى تنسانى؟}.

المزامير متنوعة التعبيرات

المزامير فيها أنواع كثيرة من التعبيرات؛ بعضها عن شكر، وبعضها طِلبة أو تسبيح أو صراخ، أو تذكِرة لربنا بمواعيده مثلما يقول له: “تاقت نفسى إلى خلاصك، وعلى كلامك توكلت، كلّت عيناى من انتظار أقوالك قائلتين: متى تعزينى” (مز118: 81، 82)، على كلامك توكلت يا رب وأُعييت عينى وأنا أتطلع إلى الأفق البعيد لانتظار أقوالك، وقد أعطيتنى مواعيد يا رب، فمتى تعزينى؟ “كم هى أيام عبدك متى تجرى لى حكمًا على الذين يضطهدوننى” (مز118: 84)، هل بعد أن اتكلت على كلامك يا رب؛ لا تعطينى شيئًا؟! كم بقى لى من العمر؟ متى تُجرى لى حكمًا يا رب؟

المزامير هى لغة التسبيح والألحان

فعندما يقول معلمنا بولس الرسول: “مُكَلِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، مُتَرَنِّمِينَ وَمُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ” (أف5: 19) نرى فى هذا تعليمًا، فبما إننا نكلّم بعضنا بعضًا بهذه الأشياء؛ فلابد أن تكون هذه المزامير والتسابيح هى موحى بها من الله. فعندما نستعملها فى اجتماعاتنا؛ نصلى بتسابيح فى التسبحة، ونردد بمزامير من سفر المزامير، ونسبّح بأغانى روحية من تلحين المزامير أو التسابيح مثلما  نلحّن الهوسات فى التسبحة، أو نلحّن مثلاً عبارة `ariou`o  sacf  ]a  ni`ene “آرى هوؤ تشاسف شا نى إينيه” (فى نهاية الهوس الثالث) هذا اللحن رائع جدًا، وهو فى عبارة “سبحوه وزيدوه علوًا إلى الأبد”. وأيضًا لحن المزمور “كُرْسِيُّكَ يَا اللهُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ” (مز45: 6) Pek`qronoc  V;  ]a  `ene  `nte  pi`ene “بيك إثرونوس إفنوتى شا إينيه إنتىَ بي إينيه”.. هذه العبارات موجودة فى الكتاب المقدس، وبذلك يتحول الكتاب المقدس إلى ألحان وأغانى روحية.

المزامير تعلمنا الطِلبات الخاصة

بعد أن تنتهى من صلاتك بالمزامير تأتى طلباتك الخاصة. لو هناك مشكلة محددة معروفة بالنسبة لك تحتاج لتدخل ربنا فيها؛ طِلبة من أجل فضيلة معينة تريد اقتناءها، وهكذا.. والشخص الروحى يستطيع أن يطلب هذه الطِلبات من داخل صلوات المزامير التى يُصلّيها، وعندما ينتهى من المزامير؛ يجد أنه قد صلى وطلب طِلباته الخاصة من داخل المزامير.

روح المزامير

المزامير لها بُعدان؛ بُعد نبوى عن السيد المسيح، وبُعد خاص بالإنسان عمومًا. وقد يناسب الإنسان بالمفهوم الخاص بالعهد القديم أو بالمفهوم الخاص بالعهد الجديد. ويتضح هذا من صيغة المزمور وأسلوب تفسيره أو التأمل فيه.

توجد مزامير كثيرة مقصود بها السيد المسيح؛ إمَّا كلام عنه، أو عن أمور حدثت معه، أو كلام يقوله هو نفسه أو قاله فعلاً مثل عبارة “إلهى إلهى لماذا تركتنى” المذكورة فى المزمور 22 التى قالها وهو معلّق على الصليب؛ وما تحمله هذه العبارة من أبعاد قد تخصّه هو شخصيًا أو كنائب عن البشرية، كما قد تناسب الإنسان العادى فى صلاته وتضرعاته إلى الله.

المزامير مدرسة للصلاة

إذا صلّى إنسان بطريقته الخاصة؛ مَن يضمن أنه سيصلى حسنًا بدقة. لكن عندما يتدرب على صلاة المزامير سيأتى وقت تكون صلاته تشبه المزامير. لو صلى صلاة ارتجالية يجد النغمات والنبرات والإرهاصات الخاصة بالمزامير تعمل فيه. فالذى يصلى المزامير كثيرًا، عندما يصلى يجد عباراته ممزوجة بعبارات المزامير.

ممكن أن يتأمل الإنسان فى المزامير كثيرًا قبل الصلاة بها؛ حتى إذا وقف ليصلى؛ يفهم ما يصلى به. ومن الممكن أن يقف عند مزمور معيّن أثناء الصلاة ويتأمل فى عبارة معينة منه ويتعمّق فيها. مثل القديس الأنبا آبرام أسقف الفيوم عندما كان يأتى إلى عبارة “قَلْبًا نَقِيّاً اخْلُقْ فِيَّ يَا اللهُ وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي دَاخِلِي” (مز51: 10) يهذِ فى هذه العبارة ولا يعرف أن يخرج منها، فيقولها مرة أخرى. ففى إحدى المرات كان تلميذه فى الحجرة المجاروة له فسمعه يكرر هذه العبارة طوال الليل؛ لماذا؟ لأن هذه العبارة شدّت انتباهه، وربما يأخذ فيها أيام وليالى لكى يصل لهذه الدرجة الروحية.. فابحث فى المزامير عن عبارات تمس قلبك، تمس عواطفك، تمس الحالة التى أنت عليها.

ترجمات متنوعة

الترجمة السبعينية مأخوذ منها الترجمة القبطية ومنها مزامير الأجبية العربى التى نقرأها. وإن كان هناك أيضًا بعض ترجمات متنوعة لمزامير الأجبية فى الطبعات العربية مثل طبعة مكتبة المحبة ومثل جمعية العذراء بشارع المحمودى.

ومن يحفظ المزامير بطبعة معينة لا يستطيع أن يتلوها بسهولة فى الصلاة من طبعة أخرى مختلفة. ونفس المزمور يُقرأ من الترجمة البيروتية المأخوذة من النص العبرى المتوارث عند اليهود. واليهود أيضًا قد قاموا بالترجمة السبعينية؛ التى قام بترجمتها إلى اليونانية سبعين من شيوخ اليهود الخبراء فى اللغتين العبرية واليونانية فى الإسكندرية ومنها أخذت الكنيسة مزاميرها.

يقول فى الترجمة البيروتية: “خَلِّصْ يَا رَبُّ لأَنَّهُ قَدِ انْقَرَضَ التَّقِيُّ لأَنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ الأُمَنَاءُ مِنْ بَنِي الْبَشَرِ. يَتَكَلَّمُونَ بِالْكَذِبِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ صَاحِبِهِ بِشِفَاهٍ مَلِقَةٍ بِقَلْبٍ فَقَلْبٍ يَتَكَلَّمُونَ. يَقْطَعُ الرَّبُّ جَمِيعَ الشِّفَاهِ الْمَلِقَةِ وَاللِّسَانَ الْمُتَكَلِّمَ بِالْعَظَائِمِ. الَّذِينَ قَالُوا: بِأَلْسِنَتِنَا نَتَجَبَّرُ. شِفَاهُنَا مَعَنَا. مَنْ هُوَ سَيِّدٌ عَلَيْنَا؟. مِنِ اغْتِصَابِ الْمَسَاكِينِ مِنْ صَرْخَةِ الْبَائِسِينَ الآنَ أَقُومُ يَقُولُ الرَّبُّ. أَجْعَلُ فِي وُسْعٍ الَّذِي يُنْفُثُ فِيهِ. كَلاَمُ الرَّبِّ كَلاَمٌ نَقِيٌّ كَفِضَّةٍ مُصَفَّاةٍ فِي بُوطَةٍ فِي الأَرْضِ مَمْحُوصَةٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ. أَنْتَ يَا رَبُّ تَحْفَظُهُمْ. تَحْرُسُهُمْ مِنْ هَذَا الْجِيلِ إِلَى الدَّهْرِ. الأَشْرَارُ يَتَمَشُّونَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الأَرْذَالِ بَيْنَ النَّاسِ. هللويا”.

أغلب المعانى متشابهة جدًا أو متطابقة لكن أحيانًا تحتاج الترجمة إلى مقارنة.

نميل إلى لغة الترجمة السبعينية أكثر من ترجمة فانديك العربية البيروتية لأن المترجمين فى الترجمة السبعينية كانوا من شيوخ إسرائيل ويفهمون العبرى جيدًا وهم يترجمون؛ وكانوا يفهمون النص عندما يتعاملون معه، بالإضافة إلى مؤازرة الروح القدس لهم مثل سمعان الشيخ الذى قيل عنه فى التقليد عندما كان يترجم الكلمة العبرية “هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا” (إش7: 14) لم يكن متفهمًا لترجمة العبارة فى هذا الوضع، فأعلن له الروح القدس أن هذا سيحدث، وإنه لن يرى الموت حتى يرى المسيح الرب المولود من العذراء. فوضعها بدلاً من “ها الفتاة تحبل”. ترجمها بالمفهوم الذى أراده الرب.

بالإضافة إلى ذلك فإن كُتّاب العهد الجديد الذين كتبوا أصلاً باللغة اليونانية قد اقبسوا أغلب اقتباساتهم من العهد القديم من الترجمة السبعينية؛ مما يؤكّد أن الروح القدس قد رافق هذه الترجمة.

خلصنى يا رب فإن البار قد فنىَ

ممكن أن تُفهم هذه العبارة عن السيد المسيح، وأن اليهود تآمروا على البار الذى هو السيد المسيح وأحاطوا به و”قُطع من أرض الأحياء” (إش53: 8). والفناء هنا ليس الفناء الكلى ولكن بمعنى قُطعت حياته من الأرض.. أفنوا حياته مؤقتًا بموته على الصليب.. “وَإِلَى تُرَابِ الْمَوْتِ تَضَعُنِي” (مز22: 15)، “لأَنَّ حَيَاتِي قَدْ فَنِيَتْ بِالْحُزْنِ وَسِنِينِي بِالتَّنَهُّدِ” (مز31: 10)، “قَدْ فَنِيَ لَحْمِي وَقَلْبِي. صَخْرَةُ قَلْبِي وَنَصِيبِي اللهُ إِلَى الدَّهْرِ” (مز73: 26)، “لأَنَّ أَيَّامِي قَدْ فَنِيَتْ فِي دُخَانٍ وَعِظَامِي مِثْلُ وَقِيدٍ قَدْ يَبِسَتْ” (مز102: 3)، “أَسْرِعْ أَجِبْنِي يَا رَبُّ. فَنِيَتْ رُوحِي. لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي فَأُشْبِهَ الْهَابِطِينَ فِي الْجُبِّ” (مز143: 7). وكل هذه الآيات من المزامير تحمل نبوات واضحة عن السيد المسيح.

وقد تُؤخذ هذه العبارة بمعنى آخر وهو: لم نعد نرى أحدًا بارًا بين عامة الشعب. البار قد فنىَ مثلما نقول القمح نفذ من السوق؛ لم نجد قمحًا. و”فنىَ” تعنى “انتهى”. إذًا “فنيت أيامى” أى “ضاعت أو انتهت”. فعبارة “البار قد فنىَ” أى لم نجد أحدًا بارًا فى العالم. ويؤكّد هذا المعنى العبارة التى تليها “وقد قلّت الأمانة من بنى البشر” أصبح البار عُملةً صعبةً، صعب الحصول عليه. أصبح البار نادر الوجود.

فى الترجمة البيروتية يقول: “خَلِّصْ يَا رَبُّ لأَنَّهُ قَدِ انْقَرَضَ التَّقِيُّ لأَنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ الأُمَنَاءُ مِنْ بَنِي الْبَشَرِ” (مز12: 1) يؤكِّد هنا فى هذه الترجمة المعنى الثانى؛ أى إنه يبحث عن أى شخص تقى ولا يجد..

البِرْ المطلق والبِرْ النسبى

إن كان المعنى فى الترجمة البيروتية يُرجِّح التفسير الثانى الذى قلناه؛ ليس بار ليس ولا واحد “الْكُلُّ قَدْ زَاغُوا مَعًا فَسَدُوا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ” (مز14: 3، انظر رو3: 11، 12)، إذًا فمن الذى يتكلم فى هذه الحالة؟ الذى يتكلم هنا هو السيد المسيح؛ يقول: خلِّصنى يا رب لأنه لا يوجد أحد بار، فالذى يقول “خلّصنى” ليس ممن ينطبق عليهم الكلام، بمعنى أنه هو الوحيد البار والقدوس، وهذا ما قاله القديس بطرس الرسول فى عظة يوم الخمسين فى سفر الأعمال: “وَلَكِنْ أَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُ الْقُدُّوسَ الْبَارَّ وَطَلَبْتُمْ أَنْ يُوهَبَ لَكُمْ رَجُلٌ قَاتِلٌ. وَرَئِيسُ الْحَيَاةِ قَتَلْتُمُوهُ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَنَحْنُ شُهُودٌ لِذَلِكَ” (أع3: 14، 15). فلو ذُكرت كلمة “البار” بالمعنى المطلق، يكون المقصود هو السيد المسيح “أنتم أنكرتم القدوس البار”.

لكنها ذُكرت أحيانًا بمعنى نسبى مثلما وردت فى إنجيل معلمنا لوقا البشير عن زكريا وأليصابات “وَكَانَا كِلاَهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ اللهِ سَالِكَيْنِ فِي جَمِيعِ وَصَايَا الرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ بِلاَ لَوْمٍ” (لو1: 6)، ومع ذلك فإن البار زكريا لم يقبل أن يصدّق كلام ربنا الذى قاله الملاك جبرائيل عندما ظهر له عن يمين مذبح البخور، ولذلك فقد عاقبه بأن أسكت لسانه موبخًا له قائلاً: “وَهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتًا وَلاَ تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ هَذَا لأَنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ كَلاَمِي الَّذِي سَيَتِمُّ فِي وَقْتِهِ” (لو1: 20). إذًا زكريا كان بارًا؛ ولكنه أخذ عقوبة لأنه أخطأ إذ لم يصدِّق كلام ربنا الذى بشَّره به الملاك..

وأيضًا هناك أقوال لأيوب الصديق من خبراته مع الله توضح بأن “البر المطلق” للرب وحده؛ إذ قال: “هُوَذَا عَبِيدُهُ لاَ يَأْتَمِنُهُمْ وَإِلَى مَلاَئِكَتِهِ يَنْسِبُ حَمَاقَةً” (أي4: 18)، “هُوَذَا قِدِّيسُوهُ لاَ يَأْتَمِنُهُمْ وَالسَّمَاوَاتُ غَيْرُ طَاهِرَةٍ بِعَيْنَيْهِ” (أي15: 15). فكلمة “بار” لها معنى مطلق ومعنى نسبى. فعندما قال معلمنا بطرس الرسول فى سفر أعمال الرسل: ” الْقُدُّوسَ الْبَارَّ” كان يقصد لا يوجد بار غير السيد المسيح.

فلا عجب أن أحيانًا تأتى عبارات توضّح أنه لا يوجد أحد من البشر بار غير السيد المسيح حتى القديسين، وأحيانًا يُقال عنهم أنهم أبرار؛ مثلما قال الرب لنوح: “ادْخُلْ أَنْتَ وَجَمِيعُ بَيْتِكَ إِلَى الْفُلْكِ لأَنِّي إِيَّاكَ رَأَيْتُ بَارّاً لَدَيَّ فِي هَذَا الْجِيلِ” (تك7: 1). هذا البر هو بر نسبى إذا قيس بالشر الموجود فى العالم، لأن نوح كان يسلك فى وصايا الرب وأحكامه بلا لوم. حتى عندما قال الرب إنه حزن أن عمل الإنسان “حَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ. فَقَالَ الرَّبُّ: “أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ: الإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ. لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ. وَأَمَّا نُوحٌ فَوَجَدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ” (تك6: 6-8).

يسأل البعض ويقولون مادام الرب حزن ونَدم أنه عمل الإنسان وتأسف فى قلبه؛ فلماذا خلق البشر؟

للإجابة على هؤلاء؛ لابد من استكمال المعنى بالآية التى تليها “وَأَمَّا نُوحٌ فَوَجَدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ” إذًا لولا نوح لم يكن الله قد خلق البشرية؛ لأن نوح كان يحمل فى صلبه السيد المسيح حسب الجسد. لذلك نوح الحقيقى هو السيد المسيح “إِيَّاكَ رَأَيْتُ بَارّاً لَدَيَّ فِي هَذَا الْجِيلِ” (تك7: 1).

يوم ولادة نوح قيل عن والده: “وَدَعَا اسْمَهُ نُوحًا قَائِلاً: هَذَا يُعَزِّينَا عَنْ عَمَلِنَا وَتَعَبِ أَيْدِينَا بِسَبَبِ الأَرْضِ الَّتِي لَعَنَهَا الرَّبُّ” (تك5: 29) فكلمة “نوح” تعنى “عزاء” مثلما نقول فلان تنيّح. فمن هو نوح الحقيقى ومن هو الفُلك الحقيقى الذى نجَّى العالم من الطوفان الأبدى إلاَّ السيد المسيح؟!.

الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا !!

تكلّم القديس بولس الرسول فى رسالته لأهل رومية عن حالة البشرية وقال: “كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ. لَيْسَ مَنْ يَفْهَمُ. لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ اللهَ. الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ” (رو3: 10-12). هذا ليس تناقض مع العبارة التى قالها الرب لنوح: “إِيَّاكَ رَأَيْتُ بَارّا ًلَدَيَّ فِي هَذَا الْجِيلِ” (تك7: 1) كما سبق وأوضحنا.

ثم يقول فى آخر الأصحاح “وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ اللهِ بِدُونِ النَّامُوسِ مَشْهُودًا لَهُ مِنَ النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءِ. بِرُّ اللهِ بِالإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ. مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ. الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ لإِظْهَارِ بِرِّهِ مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ” (رو3: 21-26).

فى وسط العالم الممتلئ بالشر كان يوجد أناس قديسون، لكن حتى هؤلاء القديسين مثل أبينا يعقوب -كقديس فى العهد القديم- قال قبل انتقاله “لِخَلاَصِكَ انْتَظَرْتُ يَا رَبُّ” (تك49: 18) وأيضًا قال: “إِنِّي أَنْزِلُ إِلَى ابْنِي نَائِحًا إِلَى الْهَاوِيَةِ..” (تك 37: 35).

مفهوم الخلاص

السيدة العذراء التى فاقت كل القديسين كانت تشعر أن البشرية بدون خلاص مازالت تحت الغضب الإلهى من أجل خطية أبوينا آدم وحواء بسبب ميراث الخطية الأصلية؛ وقالت: “تَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي” (لو1: 47)، شعرت أنها محتاجة للخلاص بالرغم من أن الملاك قال لها: “سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُمتلئة نعمة، اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ.. وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ” (لو1: 28، 30)، مثلما وجد نوح نعمة فى عينى الله “وَأَمَّا نُوحٌ فَوَجَدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ” (تك6: 8)، هكذا نقول عنها فى التسبحة: {الآب اطلع من السماء، فلم يجد من يشبهك، أرسل وحيده، أتى وتجسّد منك} (ثيئوطوكية الأربعاء)..

معنى كلمة “خلّصنى”

“خلّصنى يا رب فإن البار قد فنى” هنا قد تعنى الخلاص بمفهومه الشامل. أو قد تعنى الخلاص من ورطة معينة من جو متأزِّم، بمعنى خلصنى من تجربة أو من مؤامرة، خلصنى من مشكلة، من أكاذيب، من افتراءات.. أو تعنى الخلاص من مؤامرات الشياطين ومن الهلاك الأبدى.

كلمة “خلّصنى” فى الصلاة وفى الكتاب المقدس بالدرجة الأولى تعنى “الخلاص الأبدى”. لكن هذا لا يمنع من أن تعبِّر عن موقف يتكرر فى حياة الإنسان فى علاقته مع الآخرين، فى خدمته لربنا، كما حدث فى الاضطهادات التى وقعت على الآباء الرسل وهم يكرزون بالإنجيل، وليس فقط الخلاص من الهلاك الأبدى فقط.

وقد قلَّت الأمانة من بنى البشر

هنا فى هذا المزمور شعر داود النبى أن الجو العام ملوَّث بالخطية، يقول “قد قلّت الأمانة من بنى البشر”. ولو أخذنا المزمور على السيد المسيح يقول “خلّصنى يا رب فإن البار قد فنىَ”، والأبرار قليلون “قلّت الأمانة من بنى البشر” فالسيد المسيح البار عندما جاء إلى العالم، صوّب البشر إليه سهام القتل والتعذيب وتآمر الرؤساء معًا؛ اليهود والرومان. وحدثت مأساة رفض السيد المسيح وصلبه و”البار قد فنىَ” أى قتلوا البار، ولكن ليس فناءً مطلقًا وإنما مؤقتًا.

وتكلَّم كل واحد مع قريبه بالأباطيل

عندما يجد الإنسان نفسه يعيش أو يحيا وسط أكاذيب كثيرة، والناس تصدق الأكاذيب أكثر من تصديقها للحقائق؛ ويأتيه شعور شديد بالضغط والتآمر. فهذا المزمور يعزيه لأنه يقول: “تكلّم كل واحد مع قريبه بالأباطيل”.

وفى نص الترجمة العربية البيروتية يقول: “يَتَكَلَّمُونَ بِالْكَذِبِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ صَاحِبِهِ بِشِفَاهٍ مَلِقَةٍ بِقَلْبٍ فَقَلْبٍ يَتَكَلَّمُونَ” هو نفس المعنى قريبه أو صاحبه، والأباطيل أو الكذب..

بكلامك تتبرر وبكلامك تدان

“تكلّم كل واحد مع قريبه بالأباطيل” هل الإنسان فى كلامه يتكلم كلام الحق؟ هل ينقل الحقيقة بالتمام؟ هل أحكامه على الآخرين أحكامًا صادقةً؟ وفى أحاديثنا ماذا نقول؟ هل نتكلم كلامًا حقيقيًا عن ربنا نفسه؟ أم نقول عنه كلامًا لا يتناسب مع جلاله وعظمته وحبه وإخلاصه وعطاياه وطول أناته، ونشوِّه صورة ربنا فى نظر الناس، أو صورة خدامه والعاملين فى كرمه.

الإنسان وهو يصلى هذا المزمور لابد أن يراجع أحد أمرين: إذا كان هو الذى يتعرّض للمؤامرة، أو إذا كان هو طرف فى المؤامرة. وإذا كان هو من الفئة الثانية، فلابد أن يراجع نفسه؛ لماذا يتكلم مع قريبه بالأباطيل؟ لأنه إذا تكلّم بالأباطيل فهذه الصلاة ستأتى عليه أيضًا، وهذا تحذير لمن يتكلم بالأباطيل.

شفاه غاشّة فى قلوبهم، وبقلوبهم تخاطبوا

فى النص البيروتى “بِشِفَاهٍ مَلِقَةٍ بِقَلْبٍ فَقَلْبٍ يَتَكَلَّمُونَ”، شفاه ملقة تعنى غاشة أيضًا. “بِقَلْبٍ فَقَلْبٍ يَتَكَلَّمُونَ” أو “بقلوبهم تخاطبوا” تعنى أن قلوبهم تُكلِّم بعضها، لأن أهواءهم وميول قلوبهم متفقة مع بعضها مثلما يقول المَثَل العام: {الطيور على أشكالها تقع}. وتجد أن التآمر يجعل الناس يتحالفون مع بعضهم البعض. وأصعب ما فى الأمر أن يتكتّلوا أو يتحالفوا ضد البار الذى هو ربنا أو ضد أى شخصيةٍ أخرى قد يظلمونها، وتدفعهم شهوات قلوبهم إلى التحيّز والتآمر وليس لإعلان الحق. وهذا للأسف حدث للكنيسة منذ العصر الرسولى حينما بدأ اضطهاد اليهود للآباء الرسل واستمر الوضع عبر العصور.

تحذير من التحزب والغيرة

يعقوب الرسول نفسه حذّر من أشياء مثل هذه، وقال: “مَنْ هُوَ حَكِيمٌ وَعَالِمٌ بَيْنَكُمْ فَلْيُرِ أَعْمَالَهُ بِالتَّصَرُّفِ الْحَسَنِ فِي وَدَاعَةِ الْحِكْمَةِ. وَلَكِنْ إِنْ كَانَ لَكُمْ غَيْرَةٌ مُرَّةٌ وَتَحَّزُبٌ فِي قُلُوبِكُمْ، فَلاَ تَفْتَخِرُوا وَتَكْذِبُوا عَلَى الْحَقِّ” (يع3: 13، 14) من الممكن أيضًا أن يحدث مثل هذا بين الرهبان أو المكرسين؛ أن تكون هناك غيرة أو تحزب أو افتخار أو كذب على الحق، وينقسمون إلى مجموعات وأحزاب يقوم فيها البعض ضد الآخر “لَيْسَتْ هَذِهِ الْحِكْمَةُ نَازِلَةً مِنْ فَوْقُ، بَلْ هِيَ أَرْضِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ. لأَنَّهُ حَيْثُ الْغَيْرَةُ وَالتَّحَّزُبُ هُنَاكَ التَّشْوِيشُ وَكُلُّ أَمْرٍ رَدِيءٍ. وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ فَهِيَ أَوَّلاً طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَارًا صَالِحَةً، عَدِيمَةُ الرَّيْبِ وَالرِّيَاءِ. وَثَمَرُ الْبِرِّ يُزْرَعُ فِي السَّلاَمِ مِنَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ السَّلاَمَ ” (يع3: 15-18).

“من أين الحروب والخصومات بينكم أليست من هنا من لذاتكم المحاربة فِي أَعْضَائِكُمْ؟ تَشْتَهُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ. تَقْتُلُونَ وَتَحْسِدُونَ وَلَسْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنَالُوا. تُخَاصِمُونَ وَتُحَارِبُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ، لأَنَّكُمْ لاَ تَطْلُبُونَ. تَطْلُبُونَ وَلَسْتُمْ تَأْخُذُونَ، لأَنَّكُمْ تَطْلُبُونَ رَدِيّاً لِكَيْ تُنْفِقُوا فِي لَذَّاتِكُمْ” (يع4: 1-3). فالرب لا يستجيب لأية طِلبةٍ خاطئةٍ أو رديئةٍ، لهذا يقول: “تَطْلُبُونَ وَلَسْتُمْ تَأْخُذُونَ، لأَنَّكُمْ تَطْلُبُونَ رَدِيّاً” (يع4: 3). لا أحد يستطيع أن يضر غيره عن طريق الصلاة أبدًا، أما إذا كان هذا الآخر هو نفسه يسلك بطريقة خاطئة؛ فإن الشيطان سوف يجد له مكانًا فيه. يقول القديس يوحنا ذهبى الفم: [لا يستطيع أحد أن يؤذيك ما لم تؤذى أنت نفسك]. أنت الذى تؤذى نفسك، لكن لا أحد يستطيع أن يؤذيك.

وأيضًا حذّر القديس بولس الرسول من مثل هذه الأمور ووبّخ أهل كورنثوس على الحروب والصراعات التى بينهم وقال لهم: “لأَنِّي أَخَافُ إِذَا جِئْتُ أَنْ لاَ أَجِدَكُمْ كَمَا أُرِيدُ، وَأُوجَدَ مِنْكُمْ كَمَا لاَ تُرِيدُونَ. أَنْ تُوجَدَ خُصُومَاتٌ وَمُحَاسَدَاتٌ وَسَخَطَاتٌ وَتَحَزُبَاتٌ وَمَذَمَّاتٌ وَنَمِيمَاتٌ وَتَكَبُّرَاتٌ وَتَشْوِيشَاتٌ. أَنْ يُذِلَّنِي إِلَهِي عِنْدَكُمْ، إِذَا جِئْتُ أَيْضًا وَأَنُوحُ عَلَى كَثِيرِينَ” (2كو12 :20، 21) وبّخهم بأنهم لا يتصرفون كروحيين عندما تحدث بينهم هذه الانقسامات، طبعًا ليست انقسامات لسبب الدفاع عن الإيمان ولكن انقسامات بسبب الذات؛ بسبب أمور شخصية ليست من أجل الله ولكن لتحقيق الهوى الشخصى.

هكذا نجد باستمرار فى التعليم الرسولى تحذيرًا من هذا الأمر الذى هو الغيرة والتحزب، ويقول القديس بولس الرسول لهم إن الذين يفعلون هذا؛ يسلكون كجسديين وليس كروحيين “وَأَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُكَلِّمَكُمْ كَرُوحِيِّينَ بَلْ كَجَسَدِيِّينَ كَأَطْفَالٍ فِي الْمَسِيحِ. سَقَيْتُكُمْ لَبَنًا لاَ طَعَامًا لأَنَّكُمْ لَمْ تَكُونُوا بَعْدُ تَسْتَطِيعُونَ بَلِ الآنَ أَيْضًا لاَ تَسْتَطِيعُونَ. لأَنَّكُمْ بَعْدُ جَسَدِيُّونَ. فَإِنَّهُ إِذْ فِيكُمْ حَسَدٌ وَخِصَامٌ وَانْشِقَاقٌ أَلَسْتُمْ جَسَدِيِّينَ وَتَسْلُكُونَ بِحَسَبِ الْبَشَرِ؟” (1كو3: 1-3).

حياة التدقيق والاستقامة

عبارة “وقد قَلّت الأمانة من بنى البشر، وتكلّم كل واحد مع قريبه بالأباطيل” تنبهنا أن نكون مدققين فى كلامنا ولا نتكلم بالأكاذيب ونُغيِّر الحقائق.

وأيضًا عبارة “بقلوبهم تخاطبوا” تحذرنا من التحزب والغيرة لأنها تعنى أن هناك ارتباطًا عاطفيًا يحركهم، فلا يبحثون عن الحق كما يقول المَثَل الدارج {حبيبك يبلع لك الزلط وعدوك يتمنى لك الغلط}، فمن الممكن أن يحدث شيئًا ما، فنجد أن أحدًا يعمل من الحبة قبة، وآخر يمرره وكأنه لم يحدث شيء، فلماذا اختلفت هنا المقاييس؟ هذا بسبب التحزب والارتباط العاطفى.

لهذا قال المزمور لا يأتى الكلام من الشفاه “تكلم كل واحد مع قريبه بالأباطيل. شفاه غاشة فى قلوبهم وبقلوبهم تخاطبوا” لأن الإنسان “مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ فَمُهُ” (لو6: 45). لماذا صارت الشفاه غاشة؟ لأن القلب نفسه لم يعد يسير بميزان الحق بالكامل. يصير البار فى تعب شديد جدًا فى وسط هذا الجو عندما لا يوجد أحد يلتزم بالحق فى أى مشكلة، ولكن يتحيّز بدون تفكير. فإذا قال البار كلمة حق يجد من الناس الكثير يقف ضده لسبب التحيّز.

يستأصل الرب جميع الشفاه الغاشة

واللسان الناطق بالعظائم

كان قصر شاول ممتلئًا بالدسائس والمؤامرات وكانوا يهيّجونه على داود النبى لكى يقتله، ولكن داود الأمين لم يفكر أبدًا أن يؤذى شاول بل صرخ إلى الرب وقال له خلصنى من هذا الجو أنا لا أعرف ماذا أصنع “يستأصل الرب جميع الشفاه الغاشة” لم يقل يستأصل الرب الشفاه الغاشة وإنما قال “جميع الشفاه الغاشة” مثلما قال الرب عن الكنيسة “كُلُّ آلَةٍ صُوِّرَتْ ضِدَّكِ لاَ تَنْجَحُ وَكُلُّ لِسَانٍ يَقُومُ عَلَيْكِ فِي الْقَضَاءِ تَحْكُمِينَ عَلَيْهِ” (إش54: 17) كل لسان هنا بمعنى جميع.

“يستأصل الرب جميع الشفاه الغاشة” تنطبق هذه الآية على قيامة السيد المسيح عندما أتى الحراس وقالوا لرؤساء اليهود إن المسيح قام من الأموات، وقع اليهود فى حيرة ماذا يعملون؟! يستأصل الرب جميع الشفاه الغاشة، أليس هذا هو المصلوب الذى قالوا عنه: “اتَّكَلَ عَلَى الرَّبِّ فَلْيُنَجِّهِ. لِيُنْقِذْهُ لأَنَّهُ سُرَّ بِهِ” (مز22: 8).

وقف معلمنا بطرس الرسول يوم الخمسين فى منتهى القوة مع أبائنا الرسل وقال: “اَلَّذِي أَقَامَهُ اللهُ نَاقِضًا أَوْجَاعَ الْمَوْتِ إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا أَنْ يُمْسَكَ مِنْهُ” (أع2: 24) فكانوا يقبضون على الرسل ويقولون لهم أنتم تريدون أن تجلبوا علينا دم هذا الإنسان “أَمَا أَوْصَيْنَاكُمْ وَصِيَّةً أَنْ لاَ تُعَلِّمُوا بِهَذَا الاِسْمِ؟ وَهَا أَنْتُمْ قَدْ مَلأَتُمْ أُورُشَلِيمَ بِتَعْلِيمِكُمْ وَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْلِبُوا عَلَيْنَا دَمَ هَذَا الإِنْسَانِ” (أع5: 28)، فيرد عليهم الرسل: إن كان لا ينبغى أن يُطاع الله أكثر منكم فاحكموا أنتم “يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اللهُ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ” (أع5: 29)، “لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ” (أع4: 12)، وكانت الإشارة فى ذلك إلى اسم يسوع الناصرى.

تدخُّل الرب

“يستأصل الرب جميع الشفاه الغاشة” لا تُحل المشكلة إلا بتدخل من ربنا؛ كلام كلام وشتائم وافتراءات؛ من الصعب جدًا إغلاق فم الآخرين وتوقّف الألسنة. كيف تُحل هذه المشكلة وهى مثل النار التى تسرى فى الهشيم وتبدو وكأنه لا يستطيع أحد أن يطفئها؟ فيأتى كلام ربنا فى المزمور ويقول: “يستأصل الرب جميع الشفاه الغاشة”، فى الترجمة البيروتية يقول “يَقْطَعُ الرَّبُّ جَمِيعَ الشِّفَاهِ الْمَلِقَةِ وَاللِّسَانَ الْمُتَكَلِّمَ بِالْعَظَائِمِ” (مز12: 3).

“يستأصل الرب جميع الشفاه الغاشة” بل هذا أيضًا تحذير لكل أصحاب الشفاه الغاشة أن الله سيقطع ألسنتهم. وتحذير لكل من يستخدمون قدراتهم العقلية فى حبك المؤامرات؛ إنه بنفخه واحدة من فم القدير سوف تتبدد كل أبراج تآمرهم، والأبرار يترنمون بالحمد والتسبيح مثلما سنرى فى تكملة المزمور.

خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا

كل الذين كانوا يلّفون حول الصليب ويقولون: “خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا. إِنْ كَانَ هُوَ مَلِكَ إِسْرَائِيلَ فَلْيَنْزِلِ الآنَ عَنِ الصَّلِيبِ فَنُؤْمِنَ بِهِ! قَدِ اتَّكَلَ عَلَى اللهِ فَلْيُنْقِذْهُ الآنَ إِنْ أَرَادَهُ! لأَنَّهُ قَالَ: أَنَا ابْنُ اللهِ!” (مت27: 42، 43) هو فعلاً خلّص آخرين، أمّا نفسه فلم يقدر أن يخلّصها. لم يقدر ليس لأن هذا كان فوق قدرته؛ إذ هو قادر على كل شيء. وهو الذى قال عن نفسه: “لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا” (يو10: 18) ولكنه لا يقدر لأنه:

      لا يقدر أن ينسى الحب -وهذا الحب برغبته طبعًا- فلا يقدر ليس لضعف فيه؛ ولكن لا يقدر لأن حبه كان أقوى من تعيير اليهود وافترائهم.

      لا يقدر لأنه أحبنا إلى المنتهى فلم يرضَ أن يخلّص نفسه من آلام الصليب وعاره لأنه حمل اللعنة فى جسده ووفّى الدين.

      لا يقدر لأن محبته منعته من أن يبحث عن راحة نفسه وينسى خرافه المحبوبة ويتركها للعذاب الأبدى.

هذه العبارة وإن كانوا قد قالوها بتجديف وسخرية؛ لكننا نشعر بعمق ما تحمله من معنى، إنها أغنية نتغنى بها “خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا”.

إذا قلنا إن ربنا لا يقدر أن لا يحب؛ هذا ليس دليلاً على عدم قدرته ولكن دليلاً على كمال صفاته، لأنه لا يقدر أن لا يحب. فالتعبير الصحيح لها أن الله قادر أن يحب إلى ما لا نهاية لأن نفى النفى إثبات، أى أن الله قادر أن يحب “إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى” (يو13: 1).

اللسان الناطق بالعظائم

“يستأصل الرب جميع الشفاه الغاشة واللسان الناطق بالعظائم” أهم لسان ناطق بالعظائم وسيُقطع هو لسان إبليس. وكلمة “إبليس” هى “dia,boloj ذيافولوس باليونانى” تعنى “المشتكى زورًا أو المفترى”، يشتكى على أولاد ربنا مثلما افترى أولاً على السيد المسيح، وهذا يعزينا ويطمئننا أنه افترى على المسيح من قبلنا.

فسيقطع الرب لسانه ويبيده “الرَّبُّ يُبِيدُهُ بِنَفْخَةِ فَمِهِ، وَيُبْطِلُهُ بِظُهُورِ مَجِيئِهِ” (2تس2: 8) هو وكل أجناده الشريرة، هو وكل لسان غاش، سيُقطع اللسان الناطق بالعظائم، والتجاديف التى ينطق بها بنى البشر.

دان براون الذى أصدر شفرة دافنشى وقال إن المسيح تزوّج من مريم المجدلية؛ سيُقطع له لسانه المجدّف. وقال إن يهوه إله إبراهيم وموسى تزوّج من إلهة أنثى اسمها شكيناه. ويقول إن الإلهة الحقيقية هى فينوس أى افروديت إلهة الجمال الوثنية عند الإغريق والرومان، وإن يهوه إله إبراهيم إله مزيف غير حقيقى.. دان براون هذا سيُقطع لسانه، ولكننا لا ننتظر حتى يوم الدينونة ليقطع لسانه هناك، بل نرد عليه نحن أيضًا لأن الرب عاتب بشدة ملاك الكنيسة الذى كان يُسيّب من يغوى عبيده ولا يرد عليه. ولكن ليس بقوتنا نحن يُقطع لسان الشر لكن بقوة الرب ونعمته.

وحينما ينحل الشيطان من سجنه فى آخر الأيام سيقول تجاديف كثيرة على ربنا. لكن يقول الكتاب “الرَّبُّ يُبِيدُهُ بِنَفْخَةِ فَمِهِ، وَيُبْطِلُهُ بِظُهُورِ مَجِيئِهِ” (2تس2: 8).

الذين قالوا نعظم ألسنتنا شفاهنا منا

فمن هو ربنا؟

“شفاهنا منا” بمعنى “شفاهنا معنا”. “من هو ربنا” أى من هو سيد علينا؟ مثل شخص يقول: طالما لى لسان لا يستطيع أحد أن يقف أمامى. من يقدر أن يوقفنا؟ من يستطيع أن يسيطر على لساننا؟ من يقدر أن يربط هذا اللسان؟ سيأتى الوحش ويتكلم بعظائم وتجاديف، وماذا سيكون مصيره؟.. سيكون فى البحيرة المتقدة بالنار والكبريت.

“فمن هو ربنا؟” بمعنى “من هو سيد علينا؟” لأن “الرب والسيد” كلمتان بنفس المعنى التى هى كلمة yn’doa] “أدوناى” العبرية -وهناك كلمة أخرى بالعبرية تُترجم “الرب” وهى hw”hy> “يهوه”- لكن هنا فى المزمور بمعنى “أدوناى” أى السيد أو الرب. فمن هو السيد أو الرب الذى يسيطر علينا؟ من يعطينا أوامر؟ نحن لنا لسان نتكلم به، شفاهنا معنا، فمن هو سيد علينا؟!

وإذا طبّقنا هذا النص على الذين لا يؤمنون بالله ويؤلهون ذواتهم، فيكون بمعنى أنهم يتكلمون بعظائم ضد سلطان الله، أى أنهم لا يخافون الرب.

من أجل شقاء المساكين، وتنهد البائسين

هل هناك مَن يتنهد أم الأمر لا يهم أحدًا؟!.. هل هناك من يشعر بالشقاء، أم لا أحد يهتم عندما يُجدف على الاسم الحسن؟

وكل الناس المظلومين وكل الناس الذين تحيط بهم المؤامرات الظالمة، عندما تزداد ظلمة الليل عليهم يكون الفجر قريب، ويقول الرب لهم فى هذا الوقت: “من أجل شقاء المساكين وتنهد البائسين الآن أقوم”.

شقاء المساكين؛ هذا هو حالهم، أما التنهد فهى الصلاة التى يرفعونها، فلا ينفع الشقاء بدون تنهد، مثلما يقول بولس الرسول إن الروح القدس يشفع فينا بتنهدات لا يعبّر عنها: “لأَنَّنَا لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نُصَلِّي لأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِي، وَلَكِنَّ الرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا بِأَنَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا” (رو8: 26).. يقول المرنم فى المزمور: “حَيَاتِي قَدْ فَنِيَتْ بِالْحُزْنِ وَسِنِينِي بِالتَّنَهُّدِ” (مز31: 10)؛ هذه التنهدات لا تضيع عند ربنا.

الآن أقوم يقول الرب

صِدق الوعد

قال داود النبى هذا المزمور قبل تجسد السيد المسيح بألف سنة، وقام السيد المسيح فعلاً بعد ألف سنة لكن كيف يقول “الآن أقوم”؟ هل الألف سنة هذه هى الآن؟ طبعًا “يَوْمًا وَاحِدًا عِنْدَ الرَّبِّ كَأَلْفِ سَنَةٍ، وَأَلْفَ سَنَةٍ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ” (2بط3: 8)، لكن ما دام هناك وعد وهذا الوعد مُصدّق، فسيكون بمشيئة الله المحتومة وعلمه السابق، لذلك فكلمة “الآن” تعنى “صدق الوعد”.. لا تُحسب لدينا من الناحية الزمنية ولكن تُحسب من حيث تصديق وعد الله، فعندما قال سمعان الشيخ: “الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ. لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ” (لو2: 29، 30)، فأين هو الخلاص وقتما قال هذه العبارة؟! كان لايزال باقٍ من الوقت 33 سنة وشهرين تقريبًا.

إذًا “الآن” هى حضور الوعد الإلهى فى قلبك عندما تؤمن أن ربنا سيتمم وعده. “الآن أقوم يقول الرب” الآن لما صليت خرجت مملوءًا بالتعزية، وهذه هى فائدة الصلاة بالمزامير. فمثلاً مزمور (12) “إلى متى يا رب تنسانى إلى الانقضاء” يقول المرنم فى آخره “أسبّح الرب المحسن إلىّ”، ونسأله كيف تقول أن الرب قد أحسن إليك، وقد تكلّمت فى بداية المزمور عن نسيان الرب لك؟ فيرد ويقول: لأن ربنا أعطانى تعزية وراحة داخلية أنه لم ينسانى.

الآن يقوم الرب فى داخلنا، وتقوم كلمته، مثلما قال “سَأَرْجِعُ بَعْدَ هَذَا وَأَبْنِي أَيْضًا خَيْمَةَ دَاوُدَ السَّاقِطَةَ وَأَبْنِي أَيْضًا رَدْمَهَا وَأُقِيمُهَا ثَانِيَةً” (أع15: 16)، أُقيم خيمة داود الساقطة. “الآن أقوم يقول الرب، أصنع الخلاص علانية”..

أصنع الخلاص علانية

طبعًا السيد المسيح صنع الخلاص علانيةً على الصليب، لهذا نقول فى قطع صلاة الساعة السادسة: “صنعت خلاصًا فى وسط الأرض كلها أيها المسيح إلهنا عندما بسطت يديك الطاهرتين على عود الصليب”. ولكن كيف كان فى وسط الأرض؟ فى أورشليم. وهل أورشليم فى وسط الأرض؟ نعم فإن أى نقطة على سطح كرة، نجدها فى وسط الكرة.

بُنيت كنيسة كبيرة جدًا فى القدس أمام قبر السيد المسيح وبجانبها كنيسة الجلجثة واسمها كنيسة نصف الدنيا، وأسموها كنيسة نصف الدنيا لأنه يقول صنعت خلاصًا فى وسط الأرض كلها. فصار هذا هو مركز دائرة الخلاص.

والكاهن يطوف حول المذبح بالبخور باعتبار أن المذبح هو المركز الموجود عليه جسد الرب ودمه، فمركز الخلاص هو المكان الذى وضعت فيه خشبة الصليب “صنعت خلاصًا فى وسط الأرض كلها”.

أصنع الخلاص علانيةً، كان عنوانًا مكتوبًا فوقه على الصليب بأحرف يونانية ورومانية وعبرية؛ ثلاث لغات كان العالم المحيط بالمنطقة وقتها يتعامل بها؛ وهى تمثّل الفلسفة والقوى الزمنية والدين، الثلاث قوى الموجودة فى العالم: الفلسفة (اللغة اليونانية لغة الفلاسفة واللاهوتيين والعلماء)، والقوة العسكرية (يرمز إليها بالرومان اللغة اللاتينية)، واللغة العبرية (لغة الديانة الوحيدة التى كانت موجودة فى هذا الوقت) تعلن عن مجيء السيد المسيح بمنتهى الدقة، التى هى توراة موسى والمزامير والأنبياء. بعد ذلك كُتبت الأسفار بالأرامى بعد السبى، ولكن اللغة الأساسية للعهد القديم كانت هى اللغة العبرية، حتى الأسفار التى كُتِبت بالأرامى تُرجمت إلى العبرية فيما بعد.

لذلك تعجب اليهود عندما وجدوا السيد المسيح يقرأ بالعبرية عندما دُفع إليه سفر إشعياء فى المجمع ويقتبس من التوراة والمزامير والأنبياء فى حواره مع اليهود “فَتَعَجَّبَ الْيَهُودُ قَائِلِينَ: كَيْفَ هَذَا يَعْرِفُ الْكُتُبَ وَهُوَ لَمْ يَتَعَلَّمْ؟” (يو7: 15) كيف يعرف أن يقرأ الكتاب المقدس باللغة العبرية حيث إنه لا أحد يعرف قراءته إلا الكتبة والفريسيين فقط، حتى إن عامة الشعب يحتاجون لأحد يترجم لهم. كان عندهم ما يسمى “الترجوم” يترجم لهم التوراه. والسيد المسيح نفسه كان يتكلم بالأرامى مثل عبارة “إِلُوِي إِلُوِي لَمَا شَبَقْتَنِي؟” (مر15: 34) فهى عبارة أرامية. وأيضًا عندما “أَمْسَكَ بِيَدِ الصَّبِيَّةِ وَقَالَ لَهَا: طَلِيثَا قُومِي” (مر5: 41) كان يتكلم باللغة الأرامية ولكنه استطاع قراءة اللغة العبرية والاقتباس من أسفارها أيضًا.

فلما قالوا هذا الكلام للسيد المسيح؛ قال لهم: “تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي” (يو7: 16) بمعنى لم أتعلم فى مدرسة ولكن الذى أقرأه هذا؛ هو علم الله ومعرفته.

كلام الرب كلام نقى، فضة محماه مجربة فى الأرض، قد صُفِّيتْ سبعة أضعاف

يحتاج الإنسان فى وسط دوامة الأباطيل أن يسمع لكلامٍ صافٍ نقىٍ “كلام الرب كلام نقى، فضة محماه مجرّبة فى الأرض قد صُفيّت سبعة أضعاف”.

فضة مصفّاة

الفضة التى تأتى من أول تصفية ممكن تأتى بعيار 700 أو 800، ثم كلما تنصهر وتُصفّى أكثر؛ تخرج الشوائب التى بها، وبذلك تصير أنقى من الأول ويزيد عيارها إلى 900، 950 وهكذا.. فربما فى هذا الوقت من الناحية العملية كانت الفضة النقية تمامًا الموجودة فى ذلك الزمان؛ هى التى تمر بسبع مرات تصفية، فهو يستعير من الواقع العملى الموجود، فتكون أنقى درجة من الفضة هى التى تُصفَّى سبع مرات. يقصد بهذا أن كلام ربنا ليس به غش لأن الفضة التى بها شوائب تكون مغشوشة، لذلك يقول “شفاه غاشة فى قلوبهم”.

فهو يرغب قى توضيح الفرق بين كلام الأشرار والشياطين وبين كلام ربنا؛ كلام نقى ليس به غش. ويقول معلمنا بولس الرسول: “لأَنَّنَا لَسْنَا كَالْكَثِيرِينَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ اللهِ” (2كو2: 17) نحن لا نغش كلام ربنا.

الفضة والأرض

فى الترجمة البيروتية “كَلاَمُ الرَّبِّ كَلاَمٌ نَقِيٌّ كَفِضَّةٍ مُصَفَّاةٍ فِي بُوطَةٍ فِي الأَرْضِ مَمْحُوصَةٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ” (مز12: 6) فى بوطة فى الأرض؛ الوسيلة العملية البوتقة التى يصهرون فيها.

ربط هنا بين الفضة والأرض لأن كلام ربنا لابد أن يكون مُرسلاً إلى الأرض “فى بوطة فى الأرض”.. ففيما هو يكلمنا عن الكلام، ينبهنا إلى تجسد الإله الكلمة الذى حل بيننا على الأرض.

لماذا سبعة أضعاف؟

الرقم 7 رقم مقدس.

والمنارة التى كانت فى القدس لها سبعة سرج “وَتَصْنَعُ سُرُجَهَا سَبْعَةً” (خر25: 37).

وأمام العرش الإلهى سبعة مصابيح “وَأَمَامَ الْعَرْشِ سَبْعَةُ مَصَابِيحِ نَارٍ مُتَّقِدَةٌ، هِيَ سَبْعَةُ أَرْوَاحِ اللهِ” (رؤ4: 5).

وأسرار الكنيسة سبعة أسرار.

حل الروح القدس على الكنيسة فى يوم الخمسين بعد سبعة أسابيع من القيامة وفى أول الأسبوع الثامن “وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الْخَمْسِينَ.. وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ” (أع2: 1-2).

ومع أن الإنسان خُلق فى اليوم السادس الذى هو آدم الأول لكن آدم الثانى جاء فى اليوم السابع وليس السادس.

وعندما كان السيد المسيح يصنع معجزة مثل شفاء المولود أعمى؛ ويأخذ طينًا من الأرض ويطلى به عينيه “قَالَ هَذَا وَتَفَلَ عَلَى الأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ التُّفْلِ طِينًا وَطَلَى بِالطِّينِ عَيْنَيِ الأَعْمَى” (يو9: 6) كان يصنعها خصيصًا يوم السبت لهذا يقول “سبعة أضعاف”. وعندما قالوا له أنت تكسر السبت، ثم قالوا عنه: “هَذَا الإِنْسَانُ لَيْسَ مِنَ اللهِ لأَنَّهُ لاَ يَحْفَظُ السَّبْتَ” (يو9: 16)، أوضح لهم أن الراحة التى استراحها الرب؛ أضاعوها هم بسبب خطاياهم، وأنه قد أتى لشفاء عمى البشرية “لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هَذَا الْعَالَمِ حَتَّى يُبْصِرَ الَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى الَّذِينَ يُبْصِرُونَ” (يو9: 39)، وقال لهم: “أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ” (يو5: 17) أى اشتغل فى اليوم السابع لأُعيد خلقة الإنسان من جديد..

النقاوة التى يتكلم عنها طبعًا هى خلو السيد المسيح من الخطية لأنه قدوسٌ كقول الملاك جبرائيل للسيدة العذراء “لِذَلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ” (لو1: 35).

القيامة حدثت فى أول الأسبوع فى اليوم الثامن –حسب الأسبوع الحالى الزمنى- لكن متى يكون اليوم الثامن الحقيقى؟ سيكون فى الأبدية، لأننا مازلنا حتى الآن فى اليوم السابع حتى مجيء الرب واستعلان ملكوت الله. لكن اليوم الثامن فى الأسبوع العادى الرمزى هو يوم الأحد لهذا هو يوم الرب الذى نأخذ فيه عربون الأبدية بالتناول من جسد الرب ودمه. فنحن نحيا فى اليوم السابع ولكن نأخذ عربون اليوم الثامن فى القداس الإلهى، ونحتفل بقيامة الرب يوم الأحد الذى هو اليوم الأول من الأسبوع و7+1= 8

“فَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ” (تك2: 2) فمتى ستكون الراحة الحقيقية بالنسبة للمفديين؟ ستكون فى اليوم الثامن فى السماء وتختطف الكنيسة لملاقاة الرب فى الهواء ويدخل بها لملكوت أبيه السماوى “ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهَكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ” (1تس4: 17).

السيد المسيح جاء فى اليوم السابع لهذا فهى ممحوصة سبع مرات، اليوم السابع بالنسبة للخليقة كلها.

فاليوم السادس خُلق فيه آدم، واليوم السابع استراح فيه الرب، وبعدما استراح سقطت البشرية، فبدأ السيد المسيح يقول: “أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ” (يو5: 17) إذًا فهو يعمل ويشتغل؛ أين الراحة بعد؟ أبى يعمل وأنا أعمل. لذلك كان يتعمَّد أن يشفى فى يوم السبت أى اليوم السابع لكى يقول لهم أنا أتيت لأخلق فى اليوم السابع وبالأخص المولود أعمى صنع له عينين فى اليوم السابع. وفى سفر الرؤيا يتكلم عن السماء الجديدة والأرض الجديدة، ثم يقول: “وَقَالَ الْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ: هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيداً” (رؤ21: 5). ويقول معلمنا بولس الرسول: “إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ، الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً” (2كو5: 17)،

وأنت يا رب تنجينا وتحفظنا من هذا الجيل وإلى الدهر

كلام ربنا النقى الذى ليس فيه غش، كان يعزى القديسين ولا يستطيع أحدٌ أن يتكلم عليهم.. فى عصر الشهداء افترى الكثيرون على القديسين، مثلما اتهموهم بأنهم سبب حريق روما، وقالوا إنهم ضد قيصر، وقتلوا منهم أناسًا كثيرين … فعندما تقرأون أقوال الآباء المدافعين الذين دافعوا عن المسيحية أمام المحاكم الرومانية، تجدون أنهم كانوا ينفون عن المسيحيين تُهم بالفساد، فقد اتهموا المسيحيين بأنهم يجتمعون لذبح شخص وشرب دمه على اعتبار إنهم يقولون إننا نتناول دم السيد المسيح.. حاول الوثنيون تشويه صورة المسيحيين. ففى الوقت الذى كان الوثنيون يزنون داخل هياكلهم؛ كانوا يتّهمون المسيحيين باتهامات باطلة وهم أطهار وأبرار لم يعرف العالم مثلهم منذ ابتداء الخليقة.

كانوا يفترون على المسيحيين كثيرًا ويُحاكمونهم كمجرمين وكفاعلى شر، لكن كلمات السيد المسيح تدوى “طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ مِنْ أَجْلِي كَاذِبِينَ. اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ” (مت5: 11، 12).

أى مصيبة كانت تحدث فى الإمبراطورية؛ كانوا يتهمون المسيحيين إنهم السبب فيها. وعندما حرق نيرون روما لكى يصنع روما جديدة، أحضر موسيقار وآلة “كمان” وجلس يعزف وهو يرى روما وهى تحترق. فأشار عليه وزراؤه أن يتهم المسيحيين بتهمة حرق روما إذ هاج الشعب عليه لسبب حرق منازلهم، وبالفعل اتهم المسيحيين بحرق روما. وقالوا له احكم عليهم بالعقوبات التى يستوجبها الإجرام الذى فعلوه، وهكذا فعل. أين نيرون اليوم؟ وأين الأباطرة مثل دومتيان وغيره ممن اضطهدوا المسيحية حتى دقلديانوس؟ انتهوا جميعهم وبقيت المسيحية يشهد لها التاريخ أنها أسمى ديانة ظهرت فى الوجود ولا يستطيع أحد أن ينكر ذلك..

“وأنت يا رب تنجينا وتحفظنا من هذا الجيل وإلى الدهر” لا يستطيع أحد أن يطمس الحقيقة لأن الحق دائمًا هو الذى ينتصر فى النهاية لأن {الحق يتكلم حتى ولو سكت، ويتكلم حتى لو بدا أنه قد ضاع. لأن الحق لا يمكن أن يضيع}. أنت يا رب تنجينا وتحفظنا من هذا الجيل. المسألة تحتاج إلى إيمان وصلاة وصبر.

من هذا الجيل وإلى الدهر

البُعد الأول: “نجنا من هذا الجيل” أى أن الله يُعلن للأبرار فى جيلهم برهم وقداستهم وبراءتهم مهما قيل عليهم.

والبُعد الثانى: “وإلى الدهر” تعنى استمرارية ذكرهم للبركة إلى دهر الدهور “ذِكْرُ الصِّدِّيقِ لِلْبَرَكَةِ وَاسْمُ الأَشْرَارِ يَنْخَرُ” (أم10: 7)، “لأَنَّهُ لاَ يَتَزَعْزَعُ إِلَى الدَّهْرِ. الصِّدِّيقُ يَكُونُ لِذِكْرٍ أَبَدِيٍّ” (مز112: 6).

المنافقون حولنا يمشون مثل ارتفاعك أكثرت أعمار بنى البشر

لماذا تكلم عن المنافقين مرةً أخرى بعد أن تكلم عنهم فى بداية المزمور؟ لأنه يريد توضيح أن المشهد الذى شرحه كله فى هذا المزمور؛ يمثّل دراما أو قصة متكاملة مع بعضها، وهناك متفرجون لهذه القصة. فماذا يرى هؤلاء المنافقون المتفرجون؟ يقول: “مثل ارتفاعك أكثرت أعمار بنى البشر” إنهم سوف يرون أن “اَلصِّدِّيقُ كَالنَّخْلَةِ يَزْهُو” (مز92: 12) أى بما أنك يا رب مرتفع جدًا؛ فإنك ستجعل ذكرى الصديق تدوم إلى الأبد، أما المنافقون سيكونون مثل الهباء الذى تذريه الريح عن وجه الأرض.

المدينة الحصينة أورشليم؛ الكنيسة النازلة من السماء مثل عروس مزينة لعريسها، التى يقول لها: “هَئَنَذَا أَبْنِي بِالأُثْمُدِ حِجَارَتَكِ وَبِالْيَاقُوتِ الأَزْرَقِ أُؤَسِّسُكِ.. وَكُلَّ بَنِيكِ تَلاَمِيذَ الرَّبِّ وَسَلاَمَ بَنِيكِ كَثِيرًا” (إش54 : 11، 13) فارتفاع الكنيسة؛ يجعلها لا تهتم بجيوش الأشرار التى تدور حول أسوارها.

وانتهى المزمور بهذا المشهد الرائع بأن الكنيسة لا يستطيع الأشرار أن يصلوا إلى إرتفاعها وتساميها، ولا أن يمسوها.

هللويا

تعنى “هللوا لله”. لماذا يهلل المرنم؟ لأن الإعلان والوعد يفرح قلوب القديسين. عندما يصلى الإنسان هذا المزمور يشعر بأنه لا توجد قوة فى الوجود كله تستطيع أن تقف أمام عمل ربنا، ولا مؤامرة تستطيع أن تعطل عمل ربنا، ولا أباطيل ولا أكاذيب تستطيع أن تغلب قوة الحق المعلن بواسطة أولاد الله الذين يضيئون كأبرار فى هذا العالم.

والمجد لله دائمًا آمين

تأملات فى مزمور يارب إليك صرخت - مزامير - الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري

تأملات فى مختارات من مزامير الأجبية - الجزء الأول - الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري

سلسلة تفسير المزامير - الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري
سلسلة تفسير المزامير - الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري