أبونا جودت جبرة – الدكتور إبراهيم ساويرس

كارت التعريف بالمقال

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب الدكتور إبراهيم ساويرس
الشخصيات الدكتور جودت جبرة
التصنيفات السير الذاتية
آخر تحديث 17 يوليو 2021

تحميل المقال

إنتبه: إضغط على زرار التحميل وانتظر ثوان ليبدأ التحميل.
الملفات الكبيرة تحتاج وقت طويل للتحميل.
رابط التحميل حجم الملف
إضغط هنا لتحميل المقال
1MB

أبونا... جودت جبرة.

العظيم البروفسيور جودت جبرة، أستاذ الدراسات القبطية بجامعة كليرمونت بكاليفورنيا (حاليًا على المعاش)، ومدير المتحف القبطي الأسبق، وأحد آباء التخصص في مصر والعالم من مواليد شهر سبتمبر. سيبلغ أستاذنا العظيم الرابعة والسبعين من عمره المديد في سبتمبر القادم. وبما أنه بعيدًا عنا في الغرب الأمريكي، ولا من وسيلة لنعبر له عن محبتنا الكبيرة، فقد قررت أن أكتب هنا بعض من ذكرياتي معه.

حتى تعييني معيد، عام 2003 لم يكن جودت جبرة بالنسبة لي إلا كاتب مصري يكتب بالإنجليزية كتبًا غالية الثمن، لا أستطيع شرائها لكنني مهتم بتصوير بعض منها من مكتبة المعهد الفرنسي بالقاهرة. أكرمني الله بالحصول على منحة لدراسة الأدب القبطي بهولندا أواخر العام 2009. ولم أكن أعرف أحدًا ولا يعرفني أحدًا خارج مصر أيامها. وكنت في حيص بيص، أروح هولندا دي أعمل إية؟ في ذلك الوقت أرسلت إميلا لهذا الرجل الشهير، جودت جبرة طالبًا النصيحة. فقط النصيحة. متوقعًا أنه لن يرد كعادة الأساتذة المشاهير.

رد الدكتور جبرة بجملة واحدة في اليوم التالي: "ابعت لي رقم تليفون أكلمك عليه".

كانت مفجأة كبرى بالنسبة لي، كيف للرجل أن يهاتفني من أمريكا؟ ولماذا هذا الاهتمام؟ كان ظني وقتها أنه لم يفهم إنجليزيتي العبيطة آنذاك. عرفت بعدها بسنوات، عرفت وتعلمت، أن عمل الأستاذ "الكبير" هو إعداد أساتذة آخرين. لم يتأخر الرجل، هاتفني في اليوم التالي بكل اتضاع: مساء الخير أستاذ إبراهيم، أنا جودت جبرة.... ثم قال لي أنه قادم لمصر في إجازة الكرسماس وأنه سيقابلني بمؤسسة القديس مرقس لدراسات التاريخ القبطي، كنت أهاب هذه المؤسسة جدا، واليوم –شاءت الأقدار - أن أكون عضو أحد العاملين بها.

قابلته ذاك اليوم للمرة الأولى، كطفل جالس أمام ديناصور ضخم يسمع ويدون وهو غير مصدق أن هكذا مقابلة قد حدثت. جاء الرجل من حيث يسكن على أطراف القاهرة خصيصا من أجل مقابلتي في مكتب المؤسسة بالكاتدرائية. شكر الرجل في جامعة سوهاج، وقسم الآثار بها، وتكلم بتواضع كبير...

رشح لي بعض القراءات، وأهداني أحد كتابه المهم عن الأديرة القبطية، ثم وعد بالحديث مع جاك فاندر فليت، أستاذي المستقبلي في هولندا.

كان البروفسيور فاندر فليت بالسودان وقتها، فهاتف البروفسيور جودت من أوصل له رسالة بالسودان عن الطالب القادم إلى هولندا، وعن كفاءته. حتى عاد جاك إلى مكتبه بليدن، وتبادل حديث طويل مع الدكتور جودت بخصوصي.

سارت الأمور على ما يرام، دعاني الدكتور جودت للمشاركة في سمبوزيوم مؤسسة سان مارك، وقابلته في مؤتمر الجمعية الدولية للدراسات القبطية بروما عام 2012، وما تلاه من مؤتمرات. ودعاني مرة لزيارة مونستر، مدينته المفضلة. وتقابلنا بمصر عدة مرات. كلما جاء، يهاتفني بتواضع سائلا هل عندك وقت لنتقابل؟ ولاحقًا كان يُصر على مناداتي دكتور ساويرس سواء كنا وحدنا أو مع آخرين.

الدكتور جودت جبرة، رجل مصري، مُشرف أينما حل. باحث يجيد الإنجليزية والألمانية والفرنسية. ويكتب باستمرار وبانتظام في أهم الدوريات الشهيرة. يحرر مع آخرين عدد ضخم من الكتب المرتبطة بتاريخ الرهبنة والمسيحية في مصر على مر العصور.

إن تحلم في يوم بالنجاح، تحلم بأن تكون ك "جودت جبرة".

جلست ساعات مطولة معه في مصر وخارجها، وأشهد أنه عَفّ اللسان جدًا، لا يتكلم عن أحد إلا بالمدح حتى لأبناء جيله ولمن نافسوه يومًا.

صدر كتابين تذكاريين في محبة جودت جبرة، الأول عام 2011 من تحرير ماريان إيتون - كراوس، وسيسليا فلوك، وخرتروود فان لون،.

Egypt 1350 BC to AD 1800: Art Historical and Archaeological Studies for Gawdat Gabra.

والثاني صدر عام 2013 من تحرير يوحنا نسيم يوسف وصموئيل معوض.

From Old Cairo to the New World: Coptic Studies Presented to Gawdat Gabra on the Occasion of his Sixty - Fifth Birthday.

في مقدمة الكتابين كتب مارتن كراوزه مقدمة عن جودت جبرة. خلي بالك، مارتن كراوزه علامة من علامات الدراسات القبطية في القرن العشرين يكتب مقدمة كتاب تذكاري عن "تلميذه" جودت جبرة. هذه المقدمة أو المديح Laudatio كما عنونها مارتن كراوزه نشرت مرتين في الكتابين بالألمانية مرة وبالإنجليزية مرة، وقد ترجمتها (بتصرف) إلى العربية تقديرًا للرجل الذي وقف بجوارنا جميعًا، أقصد أهل التخصص من المصريين.

مارتن كراوزه... مديح.

ولد جودت جبرة في مدينة الأقصر في الرابع من والعشرين من سبتمبر عام 1947. كان جودت الابن الثاني وسط أربعة أبناء لوالده جبرة عبد السيد، والذي كان يعمل بسد أسوان، وكانت والدته مدرسة للغة الإنجليزية. بعد أن أنهى مرحلة تعليمه الثانوية، التحق جودت بكلية الآداب بجامعة القاهرة. كان جودت أصغر طالب بالجامعة، لم يتجاوز بعد السادسة عشرة من عمره، وكان يرغب في التخصص بآداب اللغة الإنجليزية. بعد فترة قصيرة غير جودت رأيه، ودرس علوم المصريات وتخرج عام 1967. في العام التالي أعد جودت نفسه لإعداد الماجستير، وفي نفس الوقت التحق بالعمل في هيئة الآثار المصرية.

صار جودت مفتش آثار منطقة إدفو. كانت أولى منشوراته العلمية، والتي استكملها بفخر لاحقًا، مرتبطة بالمواقع الأثرية في إدفو. خلال هذه الفترة من حياته، والتي كان يشغلها بالكامل علم المصريات، صار جودت الممثل المقيم لهيئة الآثار المصرية بالنوبة، وكان محور عمله المساعدة في إنقاذ معابد النوبة مثل معبد الدر ومعبد دكه، وكان ذلك بالتعاون مع هيئة اليونسكو.

في هذه الفترة قابل جودت العالم بلملي الذي دعاه للسفر إلى كمبريدج للدراسة. هناك درس جودت مع بلملي اللغة القبطية، وتعمق في دراسة المصريات بالتحاقه بعدد من الكورسات التي ألقاها باري كمب بجامعة كمبريدج. في كمبريدج زاد اهتمام جودت بعلوم القبطيات، وزادت معرفته بها.

عام 1976 كان عامًا فارقًا في حياة جودت جبرة، ليس فقط بسبب تعيينه أمينًا بالمتحف القبطي، المؤسسة التي لم تزل لليوم تستفيد من خبراته وولائه لعلوم القبطيات، بل بسبب زواجه من مرثا سيف حبشي ملطي، والتي كانت تدرس ماجستير الهندسة بجامعة عين شمس آنذاك.

في ديسمبر من نفس العام عُقد أول مؤتمر دولي للدراسات القبطية في القاهرة تحت رعاية هيئة الآثار المصرية وهيئة اليونسكو. انعقد المؤتمر تحت عنوان "مستقبل الدراسات القبطية"، وكانت محاضرتي (كراوزه) عن برنامج الدراسات القبطية بجامعة مونستر، والذي يؤهل الطلاب للتخصص بالكامل في الدراسات القبطية Major أو أن يدرسوا القبطية كتخصص فرعي Minor.

مع نهاية المؤتمر تأسس الاتحاد الدولي للدراسات القبطية وقد تم اختياري كأول رئيس له. كان محل الاهتمام الرئيس في المؤتمر هو عدم وجود قسم بمصر يُدرِّس للطلاب المصريون هذا التخصص. كانت توصية المجتمعين هي الكتابة للسلطات المصرية طلبًا لإدخال هذا التخصص. كانت هناك حاجة لوجود شخص يمكنه تدريس ذلك التخصص، ووجب أن يكون على معرفة عميقة بعلم المصريات، وله خبرة مع هيئة الآثار المصرية، بالإضافة لمعرفته بعلوم القبطيات. وقد رشح لبيب حبشي، الذي صار فيما بعد كبير مفتشي آثار الصعيد، جودت جبرة. وقد تم ترشيح الشاب الصغير جودت لأنه يتمتع بكل الميزات المطلوبة. منحة دراسية من هيئة التبادل العلمي المصرية الألمانية أهلت جودت للسفر للدراسة بألمانيا مباشرة بعد ميلاد ابنته نفرت.

بدأ جودت إقامته بألمانيا في مدينة فرايبورج حيث درس اللغة الألمانية، ثم انتقل إلى مونستر. في فصل الشتاء 1978 - 1979 التحق جودت جبرة بجامعة مونستر لدراسة القبطيات كتخصص رئيس، والمصريات والدراسات الإسلامية كتخصصين فرعيين. بين مواعيد الفصول الدراسية، وخلال الرحلات الدراسية والاجازات صار جودت جبرة على معرفة طيبة بالآثار القبطية في متاحف أوربا، كما صار معروفًا لعدد من العلماء الكبار بألمانيا وتلاميذهم.

كان أهم مكان لجودت هو ليدن، حيث صار عنده أصدقاء وزملاء كثر هناك، سيؤثرون فيما بعد على تقدم دراسته وعمله. كان جودت يعمق معرفته بالقبطية، ويدرس عربية العصور الوسطى بنفس الوقت. وكانت نتيجة ذلك أن اختار موضوعا للدكتوراة يوظف فيه معرفته بالتخصصين. اختار جودت أن يدرس الأسقف بسنتاؤس، أسقف قفط ونصوصه، وقد كنت مشرف رسالته لأنني درست الأسقف ابراهام أسقف أرمنت المعاصر لبسنتاؤس.

حصل جودت على درجة الدكتوراة عام 1984، وحصلت زوجته مارثا على نفس الدرجة من جامعة دورتموند في علوم الكمبيوتر. كانت نتائج رسالته للدكتوراة منشورة في كتاب بعنوان: Untersuchungen zu den Texten über Pesyntheus, Bischof von Koptos.

وهو كتاب أجمع كل من قرأه على قدرة جودت الكبيرة في التعامل مع النصوص القبطية والعربية المرتبطة بحياة الأنبا بسنتاؤس. أثناء إعداد رسالته للدكتوراة، درس جودت نصوص الدفنار القبطية والعربية وقد نشر عدة بحوث عنها فيما بعد.

عاد جودت جبرة لمصر، وتولى مسئولية إدارة المتحف القبطي، واكتشف نسخة نادرة من سفر المزامير ربما تعود للقرن الرابع أو الخامس، ومكتوبة بلهجة مصر الوسطى، كانت موضوعة تحت رأس مراهقة عمرها 13 سنة مدفونة بجبانة المضل ببني سويف.

قدم هذا الكشف مصدر مهم جدًا لدراسة اللهجات القبطية، والكوديكولوجي، والباليوجرافي القبطي. بعد أن أدركت هيئة الآثار المصرية مدى أهمية الكشف، منحت الدكتور جودت تفرغ ليعد النص للنشر. منحت هيئة ألكسندر فون هومبولت الدكتور جودت عامين للدراسة في مونستر لإنجاز العمل، هناك عمل الدكتور جودت مع باحثين آخرين لنشر السفر الذي لا مثيل له.

بعد ذلك عاد جودت لمنصبه، مدير المتحف القبطي، الذي شغله حتى عام 2001. في تلك الفترة كانت جودت نشيطًا جدًا في إنهاء الكثير من الأعمال في تطوير المتحف القبطي، وإعداد كتالوجات له، وكذلك امتدت أعماله ومنشوراته إلى دراسة كنائس مصر القديمة المحيطة بالمتحف. ما بين عامي 1987 - 1992 دعا الدكتور جودت المتخصصين من أوربا وأمريكا لبدء المشروع الضخم الكتالوج العام للمتحف القبطي. ظهر من هذه الكتالوجات، كتالوج الأيقونات والأعمال المعدنية، وفي الطريق كتالوج النسيج. (بعض الكتالوجات الآخرى ظهرت بعد هذه المقدمة، مثل كتالوج الأعمال الخشبية).

إضافة إلى إدارته للمتحف، قام جودت جبرة بالتدريس في عدة أماكن، منها معهد الدراسات القبطية (1985 - 1988)، المعهد العالي للسياحة بالمقطم (1995 - 2001)، والجامعة الأمريكية بالقاهرة (1997). كما عمل كأستاذ زائر بجامعة ولاية بورتلاند في أورجون (2002)، ثم في الجامعة الأمريكية ثانية (2003)، وأخير منذ عام 2004 في جامعة كليرمونت بكاليفورنيا. في كل هذه الجامعات دَرّسَ جودت مصر وحضارتها منذ العصور الفرعونية إلى مجيء الإسلام. كما تعمل زوجته أستاذة جامعية بالولايات المتحدة حيث تدرس أنظمة المعلومات وعلوم الكمبيوتر.

صار جودت ضيفًا دائمًا ومهما في كل المحافل الدولية المهتمة بالدراسات القبطية، ونزيل مهم بكل المؤتمرات بكل أنحاء العالم، وهو يحرص على قضاء عدة أسابيع بمكتبة جامعة مونستر بألمانيا كل عام ليطلع على الجديد في التخصص، ويعد المزيد من بحوثه التي لا تنتهي.

جودت جبرة هو عضو مجلس إدارة مؤسسة القديس مرقس لدراسات التاريخ القبطي، التي أسسها مع الدكتور فوزي اسطفانوس، وقد كان مسئولًا مع هاني تكلا عن تنظيم سمبوزيوم دولي كل عامين يتناول المسيحية والرهبنة في منطقة ما من مصر. اللافت للنظر في هذا السمبوزيوم أنه يربط الأديرة كأماكن لاستضافة فعاليات السمبوزيوم، ورهبان تلك الأديرة كمساهمين في أعمال السمبوزيوم المنشورة، بالإضافة إلى الباحثين المتخصصين من أنحاء العالم. هذا السمبوزيوم قد ساهم في رفع الوعي بالتراث القبطي داخل مصر، وهو الأمر الأقرب لقلب جودت.

إن كان هناك محاولة لذكر أمر واحد يمثل حياة وعمل جودت جبرة، فهو بلاشك التزامه المطلق في دراسة وكشف وفهم مصر المسيحية فنًا وأدبًا. يتجلى ذلك في منشوراته المتعددة، ليس فقط المنشورات الأكاديمية العلمية، بل أيضًا تلك المزينة بصور رائعة لفنون القبط والتي اتخذها كأداة تعليمية لغير أهل التخصص. يضاف لذلك عمله في تطوير المتحف القبطي، وزيادة عدد زائريه من كل أنحاء العالم.

لم ينجح جودت جبرة في تأسيس كرسي للدراسات القبطية في إحدى الجامعات الحكومية ببلده مصر (حتى موعد طباعة هذه المقدمة). إن تذكية لبيب حبشي قد أمدتنا بشخص مبجل عالميًا، ليس في شخصه فحسب، بل في علمه أيضا.

أبونا جودت جبرة - الدكتور إبراهيم ساويرس 1
.