الأصحاح الأول – سفر يشوع – القمص تادرس يعقوب ملطي

هذا الفصل هو جزء من كتاب: 06- تفسير سفر يشوع – القمص تادرس يعقوب ملطي.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

مقدمة في سفر يشوع

أولاً: شخص يشوع.

لكي نتفهم سفر يشوع يليق بنا أن نتلمس شخصية يشوع بن نون، خاصة في فتـرة التصاقه بموسى النبي، قبل استلامه قيادة الشعب ليدخل بهم إلى أرض الموعد المقدسة... وإن كنا قد سبق فتعرضنا لها أثناء دراستنا لسفر الخروج والعدد.

كلمة "يشوع"...

"يشوع" كلمة عبرية تعني "يهوه هو الخلاص"، أو "الله مخلص". إسمه في الأصل "هوشع" (عد 13: 8)، أو "يهوشوع" (1 أي 7: 27).

لما كان اسم "يشوع" هو بعينه "يسوع" في العبرية، لذلك أضفى هذا الاسم على السفر جاذبية خاصة، بكونه يمثل رمزيًا شخص يسوع كمخلص البشرية وأعماله معنا، مما جعل الآباء يسجلون في تأملاتهم كل كلمة وكل تصرف ورد في السفر بكونه رمزًا لعمل يسوع المسيح لخلاصنا.

إن اسم "يسوع" كما يقول الرسول بولس يفوق كل اسم، أُعطي لكلمة الله المتجسد "لكي تجثوا باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض" (في 2: 9 - 10)... ولما كان يشوع بن نون هو أول من حمل هذا الإسم، فإن هذا لم يتم مصادفة ولا بدون هدف، إنما ليُعلن عمل ربنا يسوع المسيح القيادي حيث يدخل بنا إلى أورشليم العليا، بعد أن يعبر بنا في الأردن، لننعم بالأرض الجديدة، ونتناول الحنطة الجديدة، ونتعبد في هيكل الرب بطقس تعبدي فائق.

يقول العلامة أوريجانوس [إن أحدًا من الأجيال القديمة الأولى لم يحمل هذا الاسم سوى يشوع بن نون. حقًا إن هابيل بميلاده "أُبتدئ يدعى باسم الرب" (تك 4: 26)، لكنه لم يتأهل لنوال الاسم. ونوح تأهل وحده في كل جيله أن ينال نعمة في عيني الله (تك 6: 8 - 9) ومع هذا لم ينعم بالاسم. حتى إبراهيم الذي وُعد بنوال العهد، وإسحق ابن الموعد، ويعقوب مختلس البركة (تك 28: 36). وموسى الآمين في كل بيت الله (عد 12: 7، عب 3: 2)، هؤلاء جميعًا لم يستحق أحدهم التمتع بهذا الشرف[1]].

يشوع ومعركة رفيديم...

يشوع بن نون، من سبط إفرايم، وُلد في مصر، وخرج مع موسى النبي إلى البرية، وتتلمذ على يديه، ولكننا لم نسمع عنه في الكتاب المقدس إلاَّ في معركة رفيديم حيث عينه موسى النبي كقائد للشعب في المعركة الأولى بعد الخروج وكانت ضد عماليق (17: 9)، وكان عمره آنئذ حوالي 44 عامًا.

في دراستنا لسفر الخروج تعرضنا لهذه المعركة، وما تحمله من رموز[2]، ولكنني ما أريد تأكيده هنا هو أن ذكر يشوع أولاً في هذه المعركة كبداية تعارف معه إنما يحمل فهمًا خاصًا يود الوحي الإلهي تقديمه. لقد قيل: "وأتى عماليق وحارب إسرائيل في رفيديم، فقال موسى ليشوع: انتخب لنا رجالاً وأخرج حارب عماليق، وغدًا أقف أنا على رأس التلة وعصا الله في يدي، ففعل يشوع كما قال له موسى ليحارب عماليق" (خر 17: 8 - 10). لعل الوحي أراد تأكيد أن لقاءنا مع مع رب المجد يسوع إنما يكون أولاً خلال معركة الصليب، خلالها ينتخب مؤمنيه كرجال أقوياء يحاربون إبليس وكل جنوده، فينعمون به على النصرة الروحية ضد قوات الظلمة. إننا في تعرفنا على يسوعنا الحيّ سواء في البشارة بتجسده أو ميلاده أو ختانه أو صومه أو تجربته أو عماده أو خدمته إلخ... إنما نراه خلال الصليب.

إننا نلتقي بيشوع بن نون لأول مرة كقائد جيش غالب، أما سرّ غلبته فهو حمله اسم "يشوع" غالب الشيطان. يقول الأب لكتانتيوس: [لقد أُختير قائدًا للجيش ضد عماليق المهاجم لبني إسرائيل، لكي يغلب العدو خلال رمز اسمه. ويقود الشعب إلى أرض الميعاد[3]].

لماذا طلب موسى من يشوع أن ينتخب رجالاً ويحارب عماليق؟ قلنا أن موسى يمثل الناموس، ويشوع يمثل يسوع المسيح واهب النعمة، وكما يقول الإنجيلي: "لأن الناموس بموسى أُعطي، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا" (يو 1: 17). كأن الناموس ممثلاً في موسى قد كشف عن عماليق العدو العنيف وأوضح خطورة الموقف، لهذا صرخ ليسوع المسيح القادر وحده أن يختار رجالاً روحيين يهبهم إمكانية النصرة. كشف الناموس عن عماليق الحقيقي، كقول الرسول: "لم أعرف الخطية إلاَّ بالناموس فإنني لم أعرف الشهوة لو لم يقل الناموس لا تشته" (رو 7: 7)، لكنه لم يقدر أن ينزعها، لذا قدمني ليسوع غالب الخطية، كقول الرسول نفسه: "لأن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن" (رو 10: 4). وكأن عمل الناموس مزدوج: الكشف عن خطورة المعركة مع عماليق (الخطية)، والإعلان عن الحاجة إلى يسوع كقائد للمعركة الروحية وواهب الغلبة.

يعلق العلامة أوريجانوس على هذا النص الكتابي (خر 17: 8 - 10)، قائلاً: [اعترف موسى بعدم قدرته على تحريك الجيش. إعترف بعجزه عن قيادته، ومع أنه هو الذي صنع الخروج من أرض مصر (خر 32: 11). لهذا يقول الكتاب أنه نادى يشوع وقال له: "انتخب لنا رجالاً وأخرج"، تُرى على من وقعت مسئولية محارية عماليق؟! [4]].

يا لها من صورة رمزية رائعة، إذ يقول موسى ليشوع: "انتخب لنا رجالاً وأخرج". وكأنه صوت الناموس الموسوي الذ هيأ الطريق للمخلص، وها هو يصرخ إليه، سائلاً إياه أن يختار مؤمنيه كرجال ناضجين (1 كو 16: 3)، ليس فيهم عجز الطفولة ولا تدليل النساء[5]. يخرجون إلى الحرب الروحية معه وبه، ذاك الذي بتجسده وإخلائه ذاته خرج إلينا لكي يغلب بالنيابة عنا، باسمنا ولحسابنا. لقد رآه يوحنا الحبيب: "خرج غالبًا ولكي يغلب" (رؤ 6: 2). لقد خرج في طاعة للآب محب البشر حتى الموت (في 2: 8)، ومن أجل محبته ليّ (غل 2: 20). ليحمل الموت عن كل واحدٍ منا، مصارعًا عماليق الحقيقي!

يشوع كجاسوس...

في دراستنا لسفر العدد تحدثنا عن يشوع كجاسوس مختار عن سبطه، قدم لنا هو وكالب رفيقه تقريرًا صحيحًا عن أرض الموعد، ينبع عن إيمانها بمواعيد الله الصادقة. رأينا ضرورة التحام يشوع بكالب (قلب) كعلامة التقاء إيماننا بيسوع كمخلص بإخلاص القلب وقداسته لنوال المواعيد الإلهية[6].

يشوع خادم موسى...

يقول الكتاب: "فقام موسى ويشوع خادمه، وصعد موسى إلى جبل الله" (خر 24: 13). فإن كان موسى يُشير إلى الناموس العاجز عن تقديم الخلاص كيف يمكن أن يُقال عن يشوع وهو رمز ليسوع المسيح أنه خادم موسى؟

يوضح العلامة أوريجانوس مفهموم كلمة (خادم) هنا، قائلاً: [كيف كان يخدمه؟ ليس كتابع له، أو كمن هو أقل منه، وإنما كمعين وحامي له[7]].

كيف يحسب يسوع المسيح ربنا خادمًا أو معينًا له. لقد حقق الناموس ما كان يهدف إليه، وقد عجز عن تحقيقه، ألا وهو خلاص البشرية. لقد كشف الناموس الداء لكنه لم يقدر أن يقدم العلاج سوى أن يسلمنا إلى السيد المسيح كطبيب حقيقي للنفس. أو بمعنى آخر، ما قد فعله الناموس هو أنه أعلن حكم الموت علينا مؤكدًا ضرورة اعدامنا، كالقائد الذي يضع طاقية الإعدام على المجرم فينتظر الكل تنفيذ الحكم، فالناموس دان الخطية فينا، فصرنا جميعًا تحت لعنة الناموس، عوض التمتع بالخلاص تأكدت اللعنة وصرنا تحت حكم الموت. لهذا جاء ربنا يسوع المسيح لينزع "طاقية الإعدام" ويبدد سلطان الموت لا بالكلام والأوامر إنما بالحب العملي، فحمل جسدنا ليقبل الموت فيه، ويحمل دينونتنا في جسده، هذا الذي لا يقدر الموت أن يحبسه ولا الإدانة أن تثبت عليه، فيقوم ليقيمنا في جسده أبرارًا، لا تقدر بعد اللعنة أن تملك علينا. لهذا يقول الرسول: "المسيح افتدانا من لعنة الناموس" (غل 3: 13). كما يقول: "لأنه ما كان الناموس عاجزًا عنه في ما كان ضعيفًا بالجسد فالله أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد" (رو 8: 3). وكأن السيد المسيح قد حقق مقاصد الناموس، أي خلاصنا، بحمله الدينونة في جسده محررًا إيانا من الحكم. لقد صارت تحت الناموس لكي يحررنا نحن من حرفيته القاتلة. يقول العلامة أوريجانوس: [ربما تسأل: كيف أن يسوع ابن الله، كان خادمًا لموسى؟ لأنه عندما "جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس" (غل 4: 4) [8]].

يتحدث البابا كيرلس الكبير عن كيفية خضوع السيد المسيح للناموس لكي يفتدينا من لعنته، قائلاً: [الآن نجده مطيعًا لناموس موسى، وبعبارة أخرى نجد الله المشّرع ينفذ القانون الذي شاء فسّنه! أو كما يقول الحكيم بولس: "لما كنا قاصرين كنا مستعبدين تحت أركان العالم، ولكن لما جاء ملء الزمان، أرسل ابنه مولودًا من امرأة تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني" (غل 4: 3 - 5). وكيف افتدانا؟... بحفظه وصايا الناموس. وبعبارة أخرى، أطاع المسيح الفادي عوضًا عنا الله الآب طاعة تامة. كما هو مكتوب: "لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جُعل الكثيرون خطاة هكذا أيضًا بإطاعة الواحد سيُجعل الكثيرون أبرارًا" (رو 5: 19). سّلم المسيح نفسه للناموس أسوة بنا، لأنه يليق به أن يكمل كل برّ، واتخذ صورة عبد، وأصبح واحدًا منا، نحن الذين بطبيعتنا تحت نير الناموس، بل دفع نصف الشاقل، وهو المقدار الذي فرضته الحكومة الرومانية على أفراد الشعب... فإذا رأيت المسيح يُطيع الناموس فلا تتألم ولا تضع المسيح الحرّ في زمرة العبيد الأرقاء، بل فكر في عمق السرّ العظيم، سرّ الفداء والخلاص[9]].

يشوع خليفة موسى...

أعلن موسى النبي إقامة يشوع خلفًا له في حضرة ألعازر رئيس الكهنة وقدام كل الجماعة (عد 27: 18 - 23). وكأن الناموس يُعلن لشعب الله خلال العمل الكهنوتي الحاجة إلى يسوع كقائد جديد يدخل بهم إلى الميراث الأبدي.

كان لابد أن يموت موسى (يش 1: 2). ليتسلم يشوع القيادة، فإن كانت النفس قد ارتبطت بالناموس الموسوي كرجلها فلا يمكن لها أن ترتبط بيسوع إلاَّ بعد موت الرجل الأول. يقول الرسول بولس: "أم تجهلون أيها الأخوة، لأني أكلم العارفين بالناموس، أن الناموس يسود على الإنسان مادام حيًا، فإن المرأة التي تحت رجل هي مرتبطة بالناموس بالرجل الحيّ، ولكن إن مات الرجل فقد تحررت من ناموس الرجل. فإذًا مادام الرجل حيًا تُدعى زانية إن صارت لرجل آخر. إذًا يا إخوتي أنتم أيضًا قد متم للناموس بجسد المسيح لكي تصيروا لآخر للذي أُقيم من الأموات لنثمر لله." (رو 7: 1 - 4).

ويقول العلامة أوريجانوس: [كان يلزم أن يموت الناموس حتى لا يُتهم المؤمنون بالزنا[10]]. كما يقول: [إن لم نفهم كيف يموت موسى لن نقدر أن نفهم كيف يملك يسوع. إن كنت ترى أورشليم قد تهدمت والمذبح زال، فلا تنظر تقدمات أو الذبائح أو إراقة دم ولا كهنة ولا أحبارًا ولا طقوسًا دينية (يهودية)، إن رأيت هذا كله قد توقف فقل إن موسى عبد الرب مات (يش 1: 2). إن وجدت أنه ليس أحد يأتي "ثلاثة مرات سنويًا أمام وجه الرب" (خر 23: 17، 22)، ولا من يقدم عطايا في الهيكل، ولا من يذبح فصحًا ولا من يأكل فطيرًا أو يقدم بكورًا أو يقدس الأبكار (خر 22: 28)... قل "موسى عبد الرب مات". لكنك إذ ترى الأمم يدخلون الإيمان والكنائس تُقام والمذابح غير المغطاة بدم حيوانات بل مقدسة بدم المسيح الكريم (1 بط 1: 19)... فقل إن يشوع احتل مركز موسى ونال الرئاسة، لكن ليس يشوع بن نون، بل يسوع ابن الله. عندما نرى "المسيح فصحنا قد ذُبح" (1 كو 5: 7)، وترانا نأكل فطير الطهارة والحق (1 كو 5: 8)، وتنظر ثمر الأرض الصالحة يتضاعف في الكنيسة ثلاثين وستين ومئة (مت 13: 8 - 23)... عندما ترى "أبناء الله الذين كانوا متفرقين قد اجتمعوا معًا" (يو 11: 52) وترى شعب الله يقدس السبت لا بالامتناع عن أعمال الحياة اليومية وإنما بالكف عن أعمال الخطية، عندما ترى هذا كله فقل إن موسى عبد الرب مات وأن يسوع ابن الله نال الرئاسة[11]]. ويمكننا في اختصار أن نردد كلمات الأب لكتانتيوس: [لقد خلف يشوع موسى ليظهر أن الشريعة الجديدة التي تُعطى خلال يسوع المسيح تخلف الناموس القديم الذي أُعطي خلال موسى[12]].

هذا ولا يمكننا تجاهل الدور الرئيسي الذي قام به موسى النبي في تلمذته ليشوع، حتى أعتبره القديس أمبروسيوس مثلاً حيًا للتلمذة الحقيقية، إذ يقول: [حسن جدًا أن يلتصق الإنسان برجل صالح. إنه لمفيد للغاية أن يتبع الشاب رجالاً عظماء وحكماء، لأن من يعيش في صحبة الحكماء يكون هو أيضًا حكيمًا، من يرتبط بالأغبياء يُحسب غبيًا. الصداقة مع الحكماء هي عون عظيم يسندنا في تعليمنا، وبرهان أكيد على استقامتنا. فالأحداث عادة يمتثلون بسرعة بمن يلتصقون بهم]. هذه الفكرة لها أساسها في الواقع العملي، حيث ينشأ الأحداث مشابهين بمن يلتقون بهم خلال علاقات كاملة.

يشوع بن نون صار عظيمًا هكذا: لأنه كان في وحدة مع موسى‍! وكانت هذه الوحدة هي الوسيلة ليست فقط لتثقيفه بمعرفة الناموس وإنما أيضًا لتقديسه وناواله نعمته! فعندما كانت عظمة الرب تشرق في الخيمة خلال الحضرة الإلهية، كان يشوع في الخيمة! عندما كان موسى يتحدث مع الله كانت السحابة المقدسة تغطي يشوع (خر 24: 12 إلخ). لقد كان الكهنة والشعب يقفون أسفل الجبل بينما كان يشوع وموسى يصعدانه عند استلام الشريعة... وعندما نزل عمود السحابة وتحدث الله مع موسى وقف يشوع كخادم أمين بجانبه، ولم يخرج الشاب من الخيمة بينما وقف الشيوخ من بعيد مرتعبين.

في كل موضع كان يشوع يحتفظ بالوحدة مع القديس موسى وسط هذه الأعمال العجيبة والأسرار الرهيبة. لهذا صار في صحبته عند حديث الله معه، وخلفه في السلطة (تث 34: 9)...

جميلة هي هذه الوحدة التي قامت بين الشيخ والشاب، واحد يقدم شهادة، والآخر يعطي راحة، واحد يرشد والآخر يعطي بهجة! [13]].

يشوع والاستعداد للعبور...

لا أريد الإطالة في الحديث عن بقية حياة يشوع وأعماله، خاصة وأن ما سيرد بعد ذلك يتكلم عنه بشيء من التفصيل أثناء دراستنا للسفر نفسه، مكتفيًا هنا بوضع الخطوط العريضة حتى يسهل ربط السفر معًا.

لقد أعطى يشوع الشعب ثلاثة أيام لإعداد الزاد من أجل عبور الأردن والدخول إلى أرض الموعد (يش 1: 10 - 11)، وكأنه يرينا يسوع المسيح الذي يهبنا إمكانية القيامة معه (اليوم الثالث) كزاد ننعم به في حياة الأردن لنرث الحياة الجديدة، ونتمتع بالطعام الروحي الجديد.

يشوع والجاسوسان...

أرسل يشوع جاسوسين على ملك أريحا، فآوتهما راحاب الكنعانية الزانية، وخبأتهما بين عيدان الكتان على السطح. إنها صورة رمزية رائعة لإرسالية تلاميذ المسيح إلى الشعب الأممي ليتقبلوا الإنجيل في حياتهم الخفية، وتستتر كلمة الكرازة بين عيدان الكتان، أي في العمل الكهنوتي (لأن الكتان رمز النقاوة، ومنه تصنع ملابس الكهنة) الذي يرتفع روحيًا على السطح.

لقد طاردهما ملك أريحا، وكأنه بالجسد الذي يشتهي ضد الروح (غل 5: 17)، فيطلب أن تنزل النفس من الأعالي (السطح) إلى الهاوية، لا تستتر ببر المسيح وأعماله الكهنوتية (عيدان الكتان).

يشوع وعبور الأردن...

لعل عبور نهر الأردن يمثل أحد الأعمال الرئيسية ليشوع بن نون، وقد جاء في صورة بهية خاصة إن قورن بعبور البحر الأحمر تحت قيادة موسى، الأمر الذي نترك الحديث عنه إلى تفسير الأصحاح الثالث.

يشوع وسرّ الراحة...

إن كان سفر يشوع يسميه البعض [سفر الحروب والنصرة]، فإننا نستطيع أن نلقبه بسفر "الراحة" إذ جاء فيه: "استراحت الأرض من الحرب" (يش 11: 23). وحينما أراد الرسول بولس في رسالته إلى العبرانيين أن يقارن بين يسوع ويشوع إنما تحدث عن "الراحة". فإن يشوع دخل بالشعب إلى الراحة المؤقتة في أرض الموعد، لكن بقيت الراحة الحقيقية في شخص المسيح. الذي فيه يجد الآب راحته إذ يجدنا أولاده موضع سروره، وفيه نجد نحن أيضًا راحتنا إذ نرى الآب آبانا فاتحًا أحضانه الأبدية لنستقر فيها خلال دخولنا في المسيح يسوع ربنا.

أخيرًا أترك الحديث عن هذا القائد العظيم، يشوع رمز يسوعنا الحيّ، أثناء دراستنا للسفر، خاصة تقسيم أرض الميعاد الذي يُشير إلى تمتعنا بالميراث الأبدي بالمسيح يسوع ربنا.

ثانيًا: سفر يشوع.

كاتب السفر...

يؤكد التلمود اليهودي أن يشوع بن نون هو كاتب السفر، فيما عدا العبارات الخمس الأخيرة، التي غالبًا ما أضافها فينحاس بن العازر بن هرون (24: 33)، وجاء أغلب الدارسين يؤكدون أن الكاتب هو يشوع فيما عدا الفقرات التي حدثت بعد موت يشوع.

ومما يؤكد أن يشوع هو الكاتب أن السفر يسجله لنا شاهد عيان لكثير من الأحداث، فيقول: "عندما سمع جميع ملوك الأموريين الذين في عبر الأردن غربًا وجميع ملوك الكنعانيين الذين على البحر أن الرب قد يبس مياه الأردن من أمام بني إسرائيل حتى عبرنا ذابت قلوبهم" (5: 11) (راجع 5: 6)، وأن راحاب كانت حيّة أثناء كتابة السفر، إذ يقول الكاتب: "وسكنت في وسط إسرائيل إلى هذا اليوم" (6: 25). وإن السفر سجل قبل سليمان كما يظهر من (يش 16: 10) بمقارنته بـ (1 مل 9: 16)، ففي سفر يشـوع يذكر أن بني إفرايم لم يقدروا أن يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر، بينما في ملوك الأول يذكر أن فرعون مصر أخذ جازر وأحرقها بالنار وقتل الكنعانيين الساكنين فيها وأعطاها مهرًا لابنته امرأة سليمان. بل وكتب السفر قبل داود النبي إذ جاء فيه أن بني يهوذا لم يقدروا على طرد اليبوسيين من أورشليم إلى ذلك اليوم (يش 15: 63)، بينما جاء في (2 صم 5: 5 - 9) أن داود ضرب اليبوسيين الذين في أورشليم. سُجل السفر قبل القرن 12 ق. م حيث فيه يذكر إسم الصيدونيين (يش 13: 4 - 6). وقد صار "الفينيقيين" في القرن الثاني عشر بعد أن صعدت صور على صيدون؛ وقبل سنة 1200 ق. م أي قبل غزو الفلسطنيين للأرض، إذ لم يُذكر الفلسطنييون بين سكان المنطقة أيام غزو يشوع (ص 12).

أما الحوادث التي تحققت بعد يشوع فهي موته (24: 29، 30)، وغلبة كالب على حيرون (يش 15: 13، 14؛ قض 1: 20)، وعثينيئل على دبيسر (يش 15: 15 - 19؛ قض 1: 11 - 15)، ودان على لشم (يش 19: 47؛ قض 18)... ولعل هذه الفقرات أضافها رئيس الكهنة بعد نياحة يشوع بن نون.

موضوعه...

عند سفح جبل موآب، وقف شعب بني إسرائيل بخيمة الاجتماع وتابوت العهد مع كهنة الرب واللاويين يتطلعون إلى أرض الموعد عبر الأردن التي طالما كانوا يترقبون نوالها، يأملون في القائد الجديد يشوع أن يعبر بهم إليها فتتحقق فيهم مواعيد الله لآبائهم حقًا لقد استطاع موسى في عهده أن ينعم بأرض جلعاد شرقي الأردن، وهي أرض تصلح لرعاية الغنم، وطلب السبطان والنصف (رأويين وجار ومنسي) أن يمتلكوها، ولكن لم يكن ممكنًا أن ينال أحد شبرًا واحدًا من الميراث سواء شرقي الأردن أو غربه في أيام موسى، بل كان يلزم أن ينتظر الكل القائد الجديد الذي وحده له حق تقديم الميراث. وكأن هذا السفر هو سفر الميراث يعلن أن بيسوع المسيح وحده ينال رجال العهدين القديم والجديد الميراث الأبدي.

يشمل هذا السفر تاريخ نحو 31 عامًا من موت موسى إلى موت أليعازر بن هرون، أي بعد موت يشوع بحوالي 6 سنوات. وبحسب التقليد الكنسي تمت هذه الأحداث حوالي عام 1450 ق. م وقد رأى البعض أن ذلك تم في حدود 1200 ق. م[14] بحجة أن بعض المستندات الأثرية تكشف عن أن هذه المنطقة كانت خاضعة لفرعون سنة 1600 ق. م وأيضًا سنة 1200 ق. م... لكن بعض الدارسين يرون أن الغزو المصري كان يتم في فترات متقطعة على مناطق محددة، فيمكن أن يكون قد حدث غزو سابق لامتلاكهم الأرض في أيام يشوع، وأن غزوًا جديدًا قد حدث على مناطق معينة بعد عصر يشوع.

مركز السفر...

في الدراسات العلمية للعهد القديم يضع بعض الدارسين هذا السفر مع أسفار موسى الخمسة كمكمل لها، حيث تسمى بالسداسيات أما في التقسيم العبري فينقسم العهد القديم إلى أسفار موسى الخمسة، وأسفار الأنبياء الأولين الذي يفتتح بهذا السفر، ثم الأنبياء المتأخرين.

ويلاحظ أن هذا السفر يبدأ بكلمة "وكان" وكأنه يربط ما بينه وبين السفر السابق "التثنية" بحرف العطف "الواو". على أي الأحوال يعتبر هذا السفر يمثل حلقة متكاملة مع الأسفار الخمسة خاصة سفري الخروج والعدد. فإن كان الخروج يمثل العبور من أرض العبودية إلى البرية متجهين نحو كنعان، فإن سفر العدد هو سفر الجهاد في البرية بقصد التمتع بالميراث. وإذ يأتي سفر يشوع يحقق غاية الخروج وغاية العدد بقصد الدخول إلى أرض الموعد وتوزيع الميراث على الأسباط. يمكننا أن نقول أن سفر يشوع هو سفر "القيامة مع المسيح" الذي لا ينفصل عن سفر الخروج الذي يمثل "صلب السيد"، ولا عن سفر العدد الذي يمثل "الجهاد"!

مركز هذا السفر بالنسبة لأسفار موسى الخمسة كمركز سفر الأعمال بالنسبة للأناجيل الأربعة. فإن كانت الأسفار الخمسة في جوهرها إنما تقدم وعود الله للآباء بمتلاك الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً، وقد قدمت الشريعة الموسوية ليمارس المؤمن الطاعة لله ويتعرف على العبادة الحقة والخلاص خلال الذبيحة، فإن سفر يشوع يعتبر بحق هو بداية تاريخ الكنيسة في أرض الموعد، حيث بدأت فعلاً في نوال الميراث، وتمتعت بشيء من الاستقرار في الأرض المقدسة لتلهج في شريعة الرب وتتعبد له في هيكله المقدس وتقدم الذبيحة بغير انقطاع. إنه سفر كنيسة العهد القديم في بدء انطلاقها بعدما استقرت في كنعان لتحيا ممثلة للعبادة الحيّة وسط عالم أممي دنّسته رجاسات الوثنية. إنه يشبه سفر أعمال الرسل بكونه سفر كنيسة العهد الجديد في بدء إنطلاقها بعدما استقرت بالروح القدس في المسيح يسوع ميراثها الحق، خلاله تمارس طاعة الشريعة الجديدة التي وردت في الأناجيل الأربعة وتمارس العبادة بالروح والحق، وتقدم ذبيحة المسيح الفريدة! إنها تنعم بما حملته إلينا الأناجيل المقدس من بشارة الفرح الجديدة!

سمات السفر...

1. شمل هذا السفر أعمال بني إسرائيل في بدء حياتهم الجديدة حيث عبروا نهر الأردن واستقروا في أرض الموعد، حتى يحين الوقت لإقامة هيكل الرب الذي يقدم ظلاً للسماويات. حقًا لقد ضم هذا السفر الحروب العديدة عن دخولهم الأرض ونصرتهم على الأمم ليملكوا هناك، لكن في الحقيقة هو سفر "أمانة الله" في تحقيق مواعيده للإنسان بالرغم من عدم أمانتنا. لقد رأينا في سفري الخروج والعدد عصيان الإنسان المستمر ومقابلته عطايا الله بجحود ومرارة، واستخدم الله كل وسيلة لإعلان غضبه ليس انتقامًا لنفسه ولكن عدم قبوله كقدوس رجاساتهم وعصيانهم، وأخيرًا اضطر أن يحرم الجيل الأول كله من التمتع بالميراث عدا يشوع وكالب (عد 14: 30). ومع ذلك فبفرح حقق الله وعده مع أبنائهم، مقدمًا لهم كل ما سبق فوعد به آبائهم. إن الله يبقى أمينًا بالرغم من عدم أمانتنا، ويترجى خلاصنا، وشتهي مجدنا بالرغم من جحودنا المستمر.

2. كشف لنا هذا السفر "مفهوم الخلاص"، فإن كان الله قد عبر بالشعب الأردن إنما ليملكوا مع يشوع عوض الأمم أصحاب الرجاسات. إنها بحق صورة حية لمفهوم الخلاص، ألا وهو أننا بالرب نطرد من قلبنا كل الرجاسات لنتحرر من سلطان الخطية كمن يطرد ملوكًا من مدنهم ويهدم حصونهم ويبدد جيشهم ويغتصب أرضهم، أما غاية هذا العمل فهو أن يملك يشوع الحيقيقي كملك الملوك، يملك فينا فنصير نحن به ملوكًا، وأصحاب سلطان في الرب. يعبر القديس يوحنا الدرجي عن هذا السلطان الذي يصير لنا بالرب، قائلاً: [كن متسلطًا على قلبك مثل ملك، لكنك تجلس في عمق الاتضاع! تأمر الضحك أن يذهب فيذهب، وتدعو البكاء العذب أن يأتي فيأتي، والجسد العبد العاصي أن يفعل هذا فيفعل (مت 8: 9) [15]].

الله لا يُريد أن يملك فينا لكي يستعبدنا، ولا يطلب عبادتنا كعبيد أو حتى كأجراء، ولكنه وهو يملك يجعلنا ملوكًا... يُريدنا أبناء أصحاب سلطان داخلي في النفس إنه ليس كما صوره الوجوديين يُريد أن يحطم حريتنا أو يكتم أنفاسنا.

3. أبرز هذا السفر "قداسة الله" إذ لا يطبق الخطية، ولا يقدر أن يهادنها. لقد استخدم شعبه في تأديب الوثنيين المصريين على الرجاسات المُرّة، هؤلاء الذين قال عنهم الرسول: "لأنهم لم عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي، وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء، وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات... الذين استبدلوا حق الله بالكذب، وأتقوا وعبدوا المخلوق دون الخالق" (رو 1: 21 - 25). وفي نفس الوقت ألزم شعبه كأداة تأديب أن يكونوا مقدسين، أن انحرفوا عن قداسته سقطوا تحت التأديب ليس لمجرد عقابهم وإنما بغية تقديسهم بالعودة إلى "سرّ قداستهم".

4. يُشير هذا السفر إلى الخلاص بيسوع المسيح ربنا بدخل الإنسان إلى الحياة الجديدة تحت قيادة قائد جديد في أرض جديدة وينعم بطعام جديد. إنه سفر الميراث الذي ننعم بعربونه هنا خلال تمتعنا بالحياة الجديدة التي صارت لنا في المسيح يسوع، والذي وهبنا سلطانًا على قوات الشر وإمكانية طرد كل شر وشبه شر لننعم بالراحة السماوية فيه. وكأننا نقول مع الرسول بولس: "أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع، ليُظهر في الدهور الآتية غنى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع" (أف 2: 6).

5. إن كان هذا السفر هو "سفر الخلاص المجاني" حيث يحقق الله وعوده من أجل أمانته ولأجل اسمه الذي دعي علينا، لكنه هو سفر الطاعة لله، فلا نصرة بدون طاعة، ولا تمتع بالميراث خلال العصيان! إيماننا بنعمة الله المجانية يجب أن يلتحم بالطاعة لله، فيُعلن كإيمان حيّ عامل بالمحبة.

6. يعتبر سفر يشوع أيضًا هو سفر قبول الأمم، فإن كان لابد للشعب أن يرث كنعان بعد طرد الوثنيين، لكن الله لا يرفضهم، إنما يرفض وثنيتهم وشرهم. وحينما أعلنت راحاب الكنعانية الزانية إيمانها تمتعت وعائلتها بالخلاص، وصار لها الشرف الذي حُرم منه كثير من العبرانيات أن من نسلها يأتي المسّيا المخلص. لقد سُجل اسمها في سلسلة نسب السيد المسيح (مت 1: 25)، الأمر الذي حُرم منه كثير حتى من أبطال الإيمان والأنبياء! الله لا يرفض إنسانًا في البشرية، بل يطلب خلاص الجميع: "يُريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (1 تي 2: 4).

7. معاملات الله مع الإنسان حملت وسيلة جديدة. قبلاً كان الله يتحدث مع أولاده خلال الأحلام والرؤى وخدمة الملائكة، أما الآن فقد تسلم موسى الشريعة، لذا صار حديث الله مع شعبه خلال الوصية المسلمة أو المكتوبة. كان الوصية الرئيسية للقائد الجديد هي: "كن متشددًا وتشجع جدًا لكي تتحفظ للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها موسى عبدي. لا تمل عنها يمينًا أو شمالاً لكي تفلح حيثما تذهب. لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك..." (يش 1، 7، 8). وعندما زحف يشوع إلى أرض الموعد اختار جبل عيبال كمركز لهم في ذلك الحين، عليه بنى مذبحًا للرب وكتب على الحجارة نسخة من توراة موسى (يش 8: 32)، ثم "قرأ جميع كلام التوراة البركة واللعنة حسب ما كُتب في سفر التوراة، ولم تكن كلمة من كل ما أُمر بها موسى لم يقرأها يشوع قدام كل جماعة إسرائيل والنساء والأصفال والغريب السائر في وسطهم" (يش 8: 34 - 35).

8. بدأ سفر يشوع بموت موسى كممثل الناموس حتى يتسلم يشوع القيادة ويدخل بهم إلى أرض الموعد، كما انتهى السفر بموت يشوع ليعلن أنه لا يمكن التمتع بالميراث ولا الاستقرار والراحة إلاَّ بموت ربنا يسوع عنا فنموت معه ونحيا معه وبه.

سفر يشوع والحروب...

لقد أثارت الحروب المذكورة في سفر يشوع تسؤلات: أما كان يمكن الله أن يهب هذا الشعب الميراث دون إلزامهم بقتل الشعوب القاطنة هناك؟

1. أظهرت الاكتشافات الحديثة حالة المجتمع في كنعان في ذلك الحين، وصورت مدى الانحطاط الخلقي الذي بلغه الإنسان، والفساد الذي لا يُعبر عنه، فقد عبد الإنسان الإله ملوخ والإلهة عشتاروت وإلتزمت النساء بارتكاب الشر كتقدمة للآلهة مع أمور أخرى غير لائقة[16]. لقد حمل الفساد موتًا روحيًا وهلاكًا أبديًا لا يمكن أن يعبر عنه، فما صدر من حكم إلهي يحققه شعب الله لم يكن إلاَّ كشفًا عن بشاعة ثمرة الخطية وتدميرها للحياة. لقد اختارت هذه الشعوب الهلاك لنفسها بنفسها، فالله في قداسته لا يطيق الفساد ولا يقبله، وحينما يأمر بإبادته فإنه لا ينتقم لذاته وإنما يحقق ما اختاره الإنسان لنفسه.

2. ما حدث لم يكن لصالح شعب إسرائيل وحده، وإنما في الحقيقة هو لصالح البشرية عامة، فإن هذه المنطقة كانت مركزًا هامًا للتجارة، وكان التجار يحملون في أسفارهم مع معاملاتهم التجارية الفساد وكأنه "الموت الأسود" ليتحرك في كل اتجاه في العالم المعروف حينئذ[17]. لقد أراد الرب أن يعطي للبشرية درسًا، وأن يحمي العالم من هذا الوباء. هذا ومن جانب آخر إذ كان الله يعد الشعب اليهودي ليكون خميرة للعالم في الشهادة له أمر بإبادة كل فساد حولهم حتى ينشأوا في جو نقي. يقول الوحي الإلهي: "لكي لا يُعلموكم أن تعملوا جميع أرجاسهم التي عملوا لآلهتهم، فتخطئوا إلى الرب إلهكم" (تث 20: 18).

يشوع ويسوع...

ارتبطت شخصية يشوع بربنا يسوع المسيح بكونه الرمز الذي يسبق المرموز إليه، أم أوجه الشبه فكثيرة نذكر منها:

1. جاء يشوع بعد موسى مستلم الناموس، كرمز لربنا يسوع المسيح الذي جاء بعد الناموس يحقق ما عجز عن آدائه، يقول الرسول بولس: "لأن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن، لأن موسى يكتب في البر الذي بالناموس إن الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها" (رو 10: 4 - 5). كما يقول: "فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها، إذ الناموس لم يكمل شيئًا، ولكن يصير إدخال رجاء أفضل به نقترب إلى الله (عب 7: 18، 9).

2. يشوع قاد الشعب قديمًا إلى النصرة كرمز لربنا يسوع المسيح واهب الغلبة على الخطية والموت وكل قوات الظلمة. يقول الرسول: "الذي نجانا من موت مثل هذا وهو يُنجي" (2 كو 1: 10)، "ولكن شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان" (2 كو 2: 14).

3. إذ تعرض الشعب لغضب الله مزق يشوع ثيابه وسقط على الأرض يشفع فيهم أمام تابوت العهد حتى المساء (يش 7: 7 - 10)، وأيضًا إذ سقطت البشرية تحت الغضب أخلى كلمة الله ذاته ونزل إلى الأرض ليشفع فينا بدمه لدى أبيه.

وكما يقول الرسول يوحنا: "إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضًا" (1 يو 2: 2).

4. قام يشوع بتقسم أرض الميراث، ويقول الرسول عن عمل المسيح فينا: "الذي فيه أيضًا نلنا نصيبًا معينين سابقًا حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته" (أف 1: 11).

كنعان والكنعانيون...

لما كان سفر يشوع هو سفر الميراث حيث أعلن تحقيق مواعيد الله لشعبه بدخولهم أرض الميراث، التي هي أرض كنعان، لذلك أشعر بالضرورة تلزمني بالحديث عن هذه الأرض والشعب القاطن فيها.

كنعان هو ابن حام الرابع (تك 10: 6، 1 أي 1: 8)، قطن نسله في الأرض الواقعة غرب الأردن، والتي دعيت باسم كنعان، كما دعيت أيضًا أرض إسرائيل (1 صم 13: 19). والأرض المقدسة (زك 2: 12) وأرض الموعد (عب 11: 9) وأرض العبرانيين (تك 40: 15) نسبة إلى عابر جد إبراهيم. كان الفينيقيون والعبرانيون يعتبرون فنيقية جزءًا من كنعان، سكنها إبراهيم ووُعد بها ملكًا لنسله (تك 12: 5، 8)، ثم سكنها إسحق ويعقوب وأولاده (تك 26: 45)، ولكن يعقوب تركها بسبب المجاعة (تك 46) وذهب مع أولاده إلى مصر.

في أيام يشوع كان الكنعانيون بقبائلهم المختلفة أو شعوبهم غالبًا ما يقطنون في الوديان والمناطق الساحلية حيث يوجد الماء بصورة نسبية أوفر وأسهل مما يوجد على الجبال. كانوا يقطنون في مدن محصنة منتشرة في المناطق السهلة، كل مدينة لها ملك خاص أشبه بدويلة مستقلة، لها حكامها وأشرافها وجيشها ومشاريعها التجارية ومؤسساتها الدينية وعبيدها، ولا توجد حكومة مركزية[18].

يمكننا تقسيم الكنعانيين إلى ثلاثة فئات من الشعوب أو القبائل:

أ. قبائل مستقرة، بلغت درجة من الحضارة مثل الفينيقيين على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، هؤلاء الذين صاروا من أهم تجار البحار في العالم القديم. كما توجد قبائل أخرى أصغر مستقرة في الوديان والتلال ما بين البحر الأبيض والأردن مثل الأموريين، أو شرق الأردن مثل الموآبيين وبني عمون.

ب. قبائل تُحسب نصف بدو، مثل بني آدوم وأخرى أصغر منها.

ج. قبائل بدو تمامًا، أي جماعات رحّل، مثل بني مديان والإسماعيليين وعماليق، الذين كانوا يجولون في الصحراء العربية[19].

وفيما يلي فكرة مختصرة عن بعض هذه القبائل:

1. العناقيون...

هم ذرية عناق، يُشير الاسم "عنق" إلى ضخامة الجسم. يصورهم التقليد العبري كجبابرة لطول قامتهم وشدة بأسهم في الحرب (عد 13: 28، 33؛ تث 2: 10، 21؛ 6: 2). أقام ثلاثة من بني عناق في منطقة حبرون (عد 13: 32)، بينما قطن الباقي بالمدن المجاورة خلال التلال. خافهم العبرانيون قبل أن يحاربوهم، حتى حاربهم يشوع بن نون واستولى على ممتلكاتهم وقسمها بين اليهود، وأعطى حبرون لكالب بن يفئة (يش 11: 21 - 22؛ 14: 12، 15). وهم يحسبون من الرفائيين، وكانوا مضرب الأمثال من جهة كثرة عددهم وضخامة جسمهم (تث 2: 10)، ويظن أن جليات الجبار هو واحد منهم[20].

2. الرفائيون...

يرى العلامة أوريجانوس أن كلمة "الرفائيين" تعني "أمهات متراخيات"، بينما يراها البعض أنها تعني "أرواح الراحلين" أو "ظلال الموت. وقد استخدم هذا الاسم في العهد القديم بأكثر من معنى:

المعنى الأول: يقصد به إحدى قبائل منطقة كنعان قبل إسرائيل. سبق فضربهم كدرلعومر ملك عيلام (تك 14: 5)، وفي سفر التثنية جاء عن الرفائيين كمجموعة شعوب سابقة لإسرائيل، بعضهم سكن في أرض موآب، وقد دعاهم بني موآب بالإيميين (تث 2: 11)، والبعض كان يقطن في أرض العمونيون، وكان هؤلاء يدعونهم زمرميين (تث 2: 20)، والبعض سكن في باشان وكان عوج آخر ملوكهم (3: 13)، هذا الاتساع من توزيع الرفائيين جعل بعض الدارسين يرون أن كلمة "رفائيين" تعنى لغويًا "السالفين" وإن كان هذا التفسير مشكوك فيه، ولكن في رأيهم أن كل شعب يُقيم في منطقة يدعو الشعب السابق له بالرفائيين أي السابقين لهم[21].

المعنى الثاني: يقصد به الأموات[22] الذين في الهاوية، الذين لا يسبحون الله، ترجمت في سفر الأمثال بالأخيلة (2: 18، 21: 16) الذين بلا عمل ولا حياة[23].

المعنى الثالث: تستخدم كلمة "الرفائيين" أو "رفايم" كاسم لوادي قريب من أورشليم وبيت لحم[24]، جنوب غرب أوشليم ووادي هنوم[25]، عرف بخصوبته (أش 17: 5). أخذ اسمه عن الرفائيين الذين غالبًا ما قطنوه فترة من الزمن. يسمى حاليًا "وادي البقاع".

3. الأموريون...

يرى البعض أنها مأخوذة من الكلمة الأكادية "أمر" بمعنى الأمر، أو ربما تعني "حارس أو نصير أو عميل patron" [26].

بداية تاريخهم غامض، لكنهم لعبوا دورًا همًا في منطقة الهلال الخصيب؛ تمتد منطقة نفوذهم من فلسطين إلى الصيصة. خلال الثلاثة آلاف سنة ق. م. دعى البابليون سوريا وفلسطين بأرض الأموريين. وكانت الأسرة الأولى لبابل التي أقماها Sumu - abu حوالي عام 1894 ق. م أمورية، أهم ملك فيها هو حامورابي (القرن 18 / 17 ق. م.)، انتهت هذه الأسرة عندما نهب الحويون بابل[27].

يُدرج الأموريون مع بقية الشعوب أو القبائل الكنعانية، كأبناء كنعان، وهم من نسل حام، هذا التقسيم يبدو أنه على أساس جغرافي أكثر منه أثنولوغي (علم الأخلاق والأجناس أو أصول السلالات البشرية) [28]. وفي أيام إبراهيم ظهروا بالقرب من البحر الميت في حصون تامار (تك 14: 7)، "وكان ساكنًا عند بلوطات ممرا الأموري أخي أشكول وأخي عاز، وكانوا أصحاب عهد مع إبرام" (تك 14: 13). وفي (تك 48: 22) دعيت شكيم مدينة أمورية. كان لهم مملكة في شرق فلسطين تحت حكم سيحون التي هزمها الإسرائيليون (عد 21: 21). وفي غرب فلسطين - حسب التقليد اليهودي - سكن الأموريون على الجبال بينما سكن الكنعانيون على سواحل البحر وفي وادي الأردن (عد 13: 9)، وفي سفر يشوع (10: 5) ركز الملوك الخمسة لأورشليم وحبرون ويرموت ولخيش وعجلون كملوك أموريين، غلبهم يشوع عند جبعون... وقد بقى بعض الأموريين في أرض كنعان بعد افتتاحها، وقد كانوا منتشرين على نطاق وأسع، في كل منطقة كنعان، وفي زمن صموئيل النبي صنع معهم العبرانيون صلحًا (1 صم 7: 14)، وقد استخدمهم سليمان في التسخير (1 مل 9: 20 - 21). هذا ويبدو أنه بسبب أهميتهم كان اسم "الأموريين" يطلق بوجه عام على كل شعب منطقة كنعان (يش 7: 7، قض 6: 10).

4. الجبعونيون...

"جبعون" اسم عبري يعني "تل"، وهي المدينة الرئيسية للحويين من أهل كنعان، ينتمون أيضًا إلى الأموريين (2 صم 21: 2)، وكانوا يمتلكون كغيرة وبئيروت وقرية يعاريم (9: 17).

حاليًا هي قرية الجيب تقوم على قمة هضبة في شمال غرب أورشليم، على بعد حوالي 8 أميال من أورشليم، بجوار رأس وادي عجلون[29]. غير أن المدينة القديمة كانت أكثر اتساعًا وارتفاعًا عن التل المجاور الذي تقوم عليه القرية الحالية. قام J. B. Pritchard باكتشافها على أربعة فصول ابتداء من عام 1956، وقد أكدت اكتشافاته ما جاء في الكتاب المقدس عنها كمدينة ملوكية عظيمة (10: 2). وأكدت الاكتشافات أن جبعون في أيام الحكم الإسرائيلي كانت أعظم مركز لتصنيع الخمور، حتى دعوا هذه المنطقة بالمناطق الصناعية[30].

لقد صارت جبعون من نصيب بنيامين (يش 18: 25)، وقد أُعطيت هي ومسارحها لبني هارون كإحدى مدن اللاويين (يش 21: 17).

5. الحويون... Hivites.

في العبرية Hawwa وتعني "قرية من الخيام" وفي العربية حواء تعني مجموعة خيامة. أحد أجناس كنعان قبل غزو العبرانيين (تك 10: 17، خر 3: 17، يش 9: 10) وقد انتشروا في مجتمعات متعددة، ولم يكونوا مختونين. سكن بعضهم في شكيم في أيام يعقوب (تك 33: 18؛ 34: 2، 14 - 24) وظل لسلالتهم تأثير في المدينة لأجيال عديدة بعد الغزو (قض 9: 28). والبعض سكن في جبعون وما يجاورها وقد حصلوا على عهد سلام مع يشوع (يش 9). كان لهم مقر واسع، ربما كان في سفح جبل لبنان، من جبل حرمون إلى مدخل حماة (يش 11: 3، قض 3: 3). وكانت لهم قرى يملكونها في هذه المناطق الجبلية الشمالية إلى أيام داود (2 صم 24: 7). الذين كانوا في فلسطين استخدمهم سليمان في التسخير (1 مل 9: 20 - 22؛ 2 أي 8: 7).

ربما يسأل البعض إن كان الحويون كشعب لهم وجود حقيقي مستقل. في الواقع إن الحوريين Horites, Hurrians عاشوا في وسط فلسطين وسوريا في تاريخ مبكر، ويرى البعض أن لبسًا قد حدث بين الكلمتين "حويين" و "حوريين" في النص العبري. ففي سفر التكوين (26: 2) ذُكر أن صبعون حوّي، بنيما في نفس الأصحاح (36: 20، 39) أنه حوري. وجاءت كلمة "حوّي" في العبرية في (تك 34: 2) مترجمة في السبعينية "حوري"... والاحتمال القائم هو أن قسمًا من الحوريين يُعرف بالحويين، وأن كلمة "حوري" هي الأصل[31].

6. الحثيون[32]... Hittites.

منذ عام 1871 عندما اكتشفت نقوش في كركميس بدأت معرفتنا بالحثيين الذين يمثلون إمبراطورية شرقية عظيمة بجوار إمبراطور بني وادي النيل ووادي دجلة والفرات، أزدهرت الإمبراطورية الخاصة بالحثيين في آسيا الصغرى ما بين 1900 ق. م، 1200 ق. م تقريبًا، ولا يُعرف على وجه التحقيق العنصر الذي ينتمي إليه الحثيون، فهناك جنس منهم يشاهد في آثار مصر له أنف كبير، ويبدو أن الأرمن الحديثين هم سلالة جماعة من الأمة.

كلمة "حثيون" تستخدم على الأقل في ثلاثة معانٍ:

أ. المواطنون الذين قطنوا في منتصف الأناضوليا. (Hattians).

ب. المواطنون الذين عاشوا حول عاصمة حاتوشاش (Nesians) أي الناسيون.

ج. الذين عاشوا في جنوب الإمبراطورية، يتحدثون بلغة محتفظ بها في الهيروغليفية.

من الناحية التاريخية يجب وضع حد فاصل يميز بين الإمبراطورية الحثية، والولايات الحثية في شمال سوريا وجنوب شرق آسيا الصغرى، وبحسب علم الحفريات، تنطبق كلمة حثيين على بقايا ثقافة شهيرة فريدة موجودة في آسيا الصغرى، شمال سوريا وشمال المصيصة Mespotamia. وبالرغم من المشابهة بين آثار حثي آسيا الصغرى، وتلك التي في شمال المصيصة وشمال سوريا (بما في ذلك منطقة طورس)، فهناك بعض العوامل التي تبين انفصالاً عامًا بين الجماعتين. ويظهر أن ثقافة الحثيين الأناضوليين قد تركزت في كبادوكية، التي تبين أوانيها الفخارية صلات نسب كثيرة لطرواده Troy.

على أي الأحوال جاء المفتاح الحقيقي لمشكلة الحثيين باكتشاف 10. 000 لوحة طينية في تركيا ببوغاز كوي (موقع حتوشاش القديم)، منقوشة بحروف أشورية إسفينية أو مسمارية، وهي تمثل عددًا من اللغات: السومرية والأكادية والحثية. والنقوش على الآثار الحثية مكتوبة بالحروف الحثية الهيروغليفية، وهي تمثل اللسان الثاني في الأهمية لدى الإمبرطورية. وهي تبدو آرية "هندية أوروبية". كانت مستخدمة في الإمبراطورية الحثية من سنة 1600 - 700 ق. م.

يقسم المؤرخون المحدثون تاريخهم إلى ثلاث مراحل[33]: المملكة القديمة والمملكة الحثية، الممالك الحثية الجديدة، الأمور التي يطول الحديث عنها.

جاء في العهد القديم عن الحثيين أنهم ذرية حث ثاني أبناء كنعان. ونقرأ عن إبراهيم أنه اشترى مغارة المكفيلة من عقرون الحثي (تك 23: 10 - 18)، وأن عيسو اتخذ إمرأتين حثيتين (تك 26: 34)، وأن العبرانيين قد تزاوجوا فيما بعد معهم (قض 3: 5 - 6). وكان لداود أصدقاء حثيون (1 صم 26: 6)، وتزوج بتشبع امرأة أوريا الحثي (2 صم 11: 2 - 27). وكان لسليمان نساء حثيات (1 مل 11: 1) وقد استخدم الحثيين في التسخير (1 مل 9: 20 - 22). وقد اعتبرهم العبرانيون شعبًا قويُا معروفًا، اعترفوا بأرضهم (1: 4)، يذكرونهم مع ملوك آرام (1 مل 10: 29)، ويضعونهم في مرتبة واحدة مع المصريين كدليل على عظمتهم (2 مل 7: 6).

7. اليبوسيون... Jebusites.

يرى العلامة أوريجانوس أن كلمة "يبوس" تعني "يدوس بالأقدام"، فتحمل معنى رمزيًا لمن يدنس الشيء وينجسه بقدميه.

تظهر كلمة "يبوس" كاسم مدينة أورشليم في (قض 19: 10؛ أي 11: 4)، وإن كان بعض الدارسين يرونها تضم أيضًا الجبال المحيطة بها بينما يرى آخرون أنها تنحصر فقط في صهيون أو مدينة داود القائمة في الجبل الشرقي.

ظهر اليبوسيون كإحدى القبائل القاطنة في كنعان (تك 15: 20؛ عد 13: 29؛ تث 7: 1؛ يش 3: 10؛ قض 3: 5؛ 1 مل 9: 1؛ نح 9: 8). وهم من سلالة كنعان (تك 10: 16؛ 1 أي 1: 14)، أخضعهم يشوع لكنهم لم يتركوا أورشليم (يش 15: 63؛ قض 1: 21)، وبقوا فيها حتى أيام داود، وقد استخدمهم سليمان الملك في التسخير (1 مل 29: 21)، وبقى البعض في اليهودية إلى ما بعد رجوع السبي (عز 9: 1 - 2).

8. الفرزيون... Perizzites.

يرى بعض الدارسين أنها تعني "أهل قرية مفتوحة"، ويرى العلامة أوريجانوس.

أنها تعني "الثمر الكثير".

لاحظ البعض أن الفرزيين يحصون أحيانًا وحدهم مع الكنعانيين (تك 13: 7؛ 34: 30؛ قض 1: 4) مما جعلهم ينظرون إليهم كالرفائيين من السكان الأصليين للمنطقة، عنصرهم مختلف عن الكنعانيين وأقدم منهم في البلاد. وقد أحصوا مع السبعة شعوب الذين أكد الرب على شعبه ألا يقطع معهم عهدًا أو يصاهروهم (تث 7: 2 - 3)، ولكنهم مع هذا صاهروهم (قض 3: 5). وقد استخدم سليمان الحكيم في التسخير (1 مل 9: 20).

9. الجرجاشيون... Girgashite.

أُحصي الجرجاشيون مع القبائل الكنعانية (تك 15: 21، تث 7: 1، يش 3: 10؛ 24: 11، نح 9: 8)، وهي من القبائل التي لا نعرف عنها شيئًا.

يجب ألا نخلط بينهم وبين الجرجسيين المذكورين في العهد الجديد (مت 8: 28 - 33؛ مر 5: 1)، إذ لا ارتباط بينهم.

سفر يشوع وعلم الآثار...

بفضل عمليات التنقيب التي قام بها بروفيسير سيلين Prof. Sellin في منطقة أريحا وما حولها ظهر التطابق بين ما ورد في سفر يشوع والاكتشافات الأثرية[34]. يرى أن أساسات الأسوار التي بناها الكنعانيون حول مدنهم بسهولة يمكن التعرف عليها، فقد استخدموا حجارة كثيرة الأضلاع والزوايا أما الإسرائيليون فكانوا يستخدمون الحجارة المربعة الجوانب. لا تزال حطام أسوار أريحا محفوظة وبقايا منزل على السور ارتفاعه ستة أقدام قائمًا.

يقول الدكتور جون إلدر[35] أن أعمال التنقيب قد دلت على أن أريحا من أقدم المدن في العالم، وترجع أسسها إلى حوالي عام 6700 ق. م، وأن مواصفات المدينة تتفق مع (يش 2: 15) يحيط بها جداران يتصلان من أعلى بوصلات عرضية مقامة عليها منازل سكنية، والجداران الآن ساقطان على الأرض في مكانهما، وللمدينة مدخل واحد (يش 2: 5 - 7). ويلاحظ على الآثار أن المدينة كلها محروقة بالنار كما تُشير طبقة الرماد وبقايا الأخشاب المحترقة (يش 6: 24)، ولكن الدلائل كلها تُشير إلى أن المدينة لم تُنهب قبل إحراقها فالقمح والعدس والبصل والبلح وجد في صوامع من الطين، حتى العجين اُكتشف في أوانية لأن يشوع قد حّرم أخذ شيء من المدينة (يش 6: 17 - 18). أخيرًا فإن الدلائل تُشير إلى أن المدينة المحترقة قد تركت كما هي بدون بناء لعدة قرون، هذا يتفق مع لعنة يشوع (يش 6: 26، 1 مل 16: 34) وتثبت أيضًا أن خراب المدينة قد تم حوالي عام 1500 ق. م، وهذا يتفق مع تقرير الوحي.

أقسام السفر:

أولاً: الحروب الروحية والنصرة ص [1 - 12].

1. الاستعداد للميراث [1 - 5].

2. ميراث القسم الأوسط [6 - 8].

3. ميراث الجنوب [9 - 10].

4. ميراث الشمال [11 - 12].

ثانيًا: تقسيم الأرض [13 - 19].

ثالثًا: مدن اللاويين ومدن الملجأ [20 - 22].

رابعًا: وصايا وداعية [23 - 24].

الفصل الأول.

الحروب الروحية والنصرة.

ص 1 - ص 12.

1. الاستعداد للميراث [1 - 5].

2. ميراث القسم الأوسط [6 - 8].

3. ميراث الجنوب [9 - 10].

4. ميراث الشمال [11 - 12].

الإستعداد للميراث.

قدم لنا سفر الخروج صورة حية للعبور من أرض العبودية والإنطلاق من أسر فرعون، لكن هذا العمل يبقى ناقصًا بلا نفع ما لم يدخل العابرون إلى أرض الموعد ويتمتعوا بمواعيد الله. العبور في سلبيته خروج، وفي إيجابيته دخول! هو تحرر من أسر إبليس لأجل التمتع بالدخول إلى الأحضان الإلهية في المسيح يسوع قائد العبور الروحي الحق.

وكما استلزم الخروج استعدادات طويلة ظهرت في ظهور موسى كأول قائد للشعب، وعمل الله معه في علاقته بفرعون وبالشعب، وتجلى الله في الخلاص خلال الضربات خاصة ضربة البكور التي استلزمت ذبح خروف الفصح، وانشقاق البحر الأحمر... هكذا أيضًا احتاج الدخول إلى الميراث إلى استعدادات كثيرة سجلها سفر يشوع في الأصحاحات الخمسة الأولى:

ففي الأصحاح الأول: أعلن الله أنه هو العامل الحقيقي في هذا الخلاص. هو الذي يختار يشوع، وهو الذي يسنده ويسند الشعب بكلمته واهبة الحياة، وبطعامه الروحي الذي يقدمه لهم، وأمانته في تحقيق مواعيده.

وفي الأصحاح الثاني: يبرز الجانب البشري في شخص راحاب الأممية الزانية، التي بالرغم من فقرها الشديد في التمتع بالخلاص، لكنها بالإيمان الحيّ دخلت كعضوة في الجماعة المقدسة، بل وجاء المسيّا المخلص من نسلها.

وفي الأصحاح الثالث: قدم لنا إمكانية الأردن، حيث يدخل بنا يسوع المسيح بنفسه إلى مياهه الحلوة، لنعطي للبرية ظهرنا، متأملين في الميراث الأبدي ليس كأمر غريب أو بعيد عنا!... بالمعمودية المقدسة تتحقق الاستنارة فندرك ما لا يدرك!

وفي الأصحاح الرابع: تظهر الكنيسة المختفية في مياه الأردن حيث يحمل الأسباط اثني عشر حجرًا تُمثل الكنيسة. فلا عبور للميراث الأبدي خارج الكنيسة الخفية، أي العضوية في جسد المسيح.

أخيرًا في الأصحاح الخامس: يتم الختان الثاني ويعيّد الفصح، فلا دخول للميراث بالإنسان العتيق، إنما يلزم ختان القلب ليحّل الإنسان الجديد عوض القديم. هذا كله إنما يتحقق خلال المسيح يسوع فصحنا.

في إختصار نقول إن الإمكانيات التي صارت لنا للتمتع بالميراث الأبدي هي:

1. أدراك أن الله هو العامل فينا وقائدنا الروحي (ص 1).

2. التمتع بالإيمان الحيّ العملي (راحاب الزانية ص 2).

3. التمتع بالبنوة خلال المعمودية (عبور الأردن ص 3).

4. الدخول فى العضوية الكنسية (ص 4).

5. خلع الإنسان القديم ولبس الجديد خلال الفصح الجديد (ص5).

الأصحاح الأول

الله هـو العامل.

"اختيار يشوع".

أُفتتح السفر بإعلان موت موسى وتسليم يشوع القيادة، وقد أبرز الوحي بكل وضوح في إعلان تسليم يشوع القيادة أن القائد الحقيقي هو الله، الذي يختار خدامه ويهبهم عونًا وحكمة، ويسندهم بشريعته "كلمته الإلهية"، ويرافقهم في كل عمل.

1. موت موسى ليملك يشوع [1 - 2].

2. أمانة الله في وعوده [3 - 5].

3. معيته للخدام [5 - 7].

4. شريعته كسفر للخدام [8 - 9].

5. الزاد الإلهي [10 - 11].

6. الدور الإنساني [12 - 18].

الأعداد 1-2

1. موت موسى ليملك يشوع...

"وكان بعد موت عبد الرب أن الرب كلّم يشوع بن نون خادم موسى قائلاً: موسى عبدي قد مات، فالآن قم أعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم أي لبني إسرائيل" [1 - 2].

الله الذي سبق فاختار موسى لقيادة الشعب بالانطلاق به من أرض العبودية إلى جبل سيناء حتى يتسلم الشريعة الإلهية كمرشد ومعين وسط برية هذا العالم، مؤكدًا له: "إني أكون معك" (خر 3: 12)، وهو بعينه يُعلن موت موسى وإقامة يشوع كقائد عبور ومحقق للميراث. كان لابد لموسى أن يموت ليظهر يشوع، فينتهي عهد الناموس لننعم بعهد النعمة، فإن الله هو العامل في العهدين بخطته الإلهية المتكاملة... إن سّر القوة في خدمة موسى أو يشوع إنما في الدعوة التي تقدم لهما من الله لتحقيق مقاصد إلهية.

الله الذي اختار موسى ممثلاً لناموسه هو الذي سمح بموته ليقيم يشوع ممثلاً ليسوع ابنه الوحيد الجنس، وقد سبق لنا في مقدمة هذا الكتاب الحديث عن الارتباط بين موت موسى وقيام يشوع، أو إبطال الناموس للتمتع بالنعمة.

يقول الأب قيصريوس أسقفArles: [مات موسى وحكم يشوع! لقد بطل الناموس القديم وحكم يشوع الحقيقي، أي يسوع. حقًا يشهد الإنجيلي: "كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا" (لو 13: 13). هذا وقد جاء في الإنجيل "موسى" بمعنى "الناموس" إذ قيل: "عندهم موسى والأنبياء" (لو 16: 29)، أي عندهم الناموس والأنبياء، ويقول الرسول: "لكن حتى اليوم حين يُقراء موسى" (2 كو 3: 15)، أي يُقرأ الناموس. إذًا، يبطل الناموس يصعد يسوع ربنا إلى العرش[36]]. وفي تعبير أخر يقول القديس إيريناوس: [كان لائقًا أن يُخرج موسى الشعب من مصر، وأما يسوع فيدخل بهم إلى الميراث. كان موسى كممثل للناموس يجب أن يتوقف، أما يشوع (يسوع) فبكونه الكلمة الذي صار جسدًا فيُبشر للشعب... [37]].

الله هو الذي دعى موسى للعمل، الآن يدعو يشوع، أو على حد تعبير الرسول بولس أن الله كلمنا قبلاً خلال الناموس والأنبياء كلمنا في هذه الأيام في ابنه (عب 1: 1).

لم يقف الأمر عند دعوة يشوع، وإنما بقى الله هو القائد الروحي الحقيقي العامل خلال يشوع، فقد أصدر له أمره "قم أُعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم" [2]. نستطيع في شيء من التجاسر أن نقول أن هذا الأمر الإلهي يمثل عملاً رمزيًا يكشف عن العلاقة بين الآب وابنه الحبيب يسوع. فإن كان يسوع قد أطاع حتى الموت موت الصليب (في 2: 8). فقد أقامه الآب ليس كعطية خارجية يمنحه إياها، وإنما كإعلان عن قبول الصليب خلال إرادة الآب بأن يقوم الابن، فيعبر هو وشعبه نهر الأردن (مياه المعمودية)، فننال شركة الميراث الأبدي. يسوع هو القيامة (يو 11: 25)، سبق فأعلن عن نفسه أنه صاحب السلطان أن يضع نفسه حتى الموت وأن يأخذها (يو 10: 18). من أجلنا يقبل الموت ومن أجلنا يتقبل القيامة التي هي ليست بطبيعة خارجية تمنح له، إذ هو واهب الحياة (يو 11: 25). هذا ما أعلنه رمزيًا بقول الله ليشوع: "قم أُعبر" فقد قام الابن في طاعة للآب وعبر بنا قبرنا، واهبًا إيانا قوة القيامة خلال معموديته، حتى نترنم قائلين: "أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات" (أف 2: 6).

لم يكن ممكنًا لموسى النبي أن يعبر الأردن ليدخل ارض الميراث، فإنه لا يحمل قوة القيامة ولا السلطان لتحطيم التنين الراكد في المياه (إش 27: 1)، أما يشوع فحمل رمز المسيح يسوع الذي يعبر بقوة محطمًا التنين وكاسرًا شوكة الموت بقيامته (رؤ 20: 2، 1 كو 15: 55).

الأعداد 3-5

2. أمانة الله في وعوده...

"كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى" [3].

لقد سبق فأكد الله لموسى أن يهبهم الأرض التي سبق فوعد بها الآباء: إبراهيم وإسحق ويعقوب، فإن الله يبقى أمينًا في وعوده بالرغم من عدم أمانتنا، كقول الرسول: "فماذا إن كان قوم لم يكونوا أمناء؟! أفلعل عدم أمانتهم يبطل أمانة الله؟! حاشا! بل ليكن الله صادقًا وكل إنسان كاذبًا (رو 3: 3 - 4). فإن كان الجيل الخارج من مصر من عبودية فرعون قد عصى الله، لكن الله يبقى أمينًا فيحقق وعوده لأولادهم.

إنه أمين في وعوده، وهو الذي يعرف "ملء الزمان" الذي فيه يقدم عطاياه بخطته الإلهية المحكمة لخلاصنا وخيرنا. فالإنسان بسبب ضعفه البشري وإرتباطه بالزمن الزائل يود أن يرى الله واهبًا إياه كل شيء في الحال، لكن الله الذي يهتم بخلاصنا ليس فقط يعرف ماذا يقدم وإلى أي مدى يهب وإنما يحدد الموعد المناسب أيضًا حتى تُحقق هباته غايته فينا... لقد طلب إبراهيم وسارة ابنًا ربما لسنوات طويلة حتى شاخا ويئسا، فطلبت سارة من رجلها أن أن يقيم له نسلاً من جاريتها، لكن الله أعطاها إسحق من أحشائها (التي صارة في حكم الموت) ابنًا مباركًا، جاء في الوقت المناسب ليُحقق نصيبًا من خطة الله لخلاص البشرية كلها! أعطاها ما لم تكن تتوقعه أو تحلم به، لكن في الوقت الذي يحدده هو!

الله أمين في مواعيده، حتى إن حسبناه قد تأخر في العطية، هذا من جانبه أما من جانبنا فلا يليق بنا أن نقابل إيجابية حب الله نحونا بسلبيتنا، ولا أمانته بعدم الأمانة، لهذا يقول الرب لأسقف كنيسة سميرنا: "كن أمينًا إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة" (رؤ 2: 10). لكن من أين لنا أن نحمل هذه السمة، أي سمة الأمانة، إلاَّ باتحادنا بالأمين وحده، القادر أن يهبنا سماته عاملة فينا؟! يقول الرسول بولس: "أمين هو الذي يدعوكم الذي سيفعل أيضًا" (1 تس 5: 24)، إنه الأمين وحده القادر أن يهبنا أمانته عاملة فينا خلال شركتنا معه!

هذا من جهة أمانة الله وإلتزامنا بالأمانة أيضًا خلال اتحادنا معه، أما من جهة العطية التي قدمها فيقول: "كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته".

كأن الله يُريد أن يدخل بنا إلى سباق بلا نهاية، فإنه يعطي بلا حدود، إنما نحن الذين نقدم الحدود. لنجر سريعًا مادمنا في العالم، ولنطأ كل محبة للعالم تحت بطون أقدامنا، فإنه كل موضع تدوسه بطون أقدامنا يقدمه لنا الله ملكًا وهبة من عندياته!

لقد عاش آباؤنا في هذا السباق، يريدون أن ينعموا بالميراث المجاني خلال جهادهم بالرب الذي لا ينقطع، كقول الرسول: "لعلي أبلغ إلى قيامة الأموات، ليس أني قد نلت أو صرت كاملاً لكني أسعى لعلي أدرك الذي لأجله أدركني أيضًا المسيح يسوع. أيها الإخوة أنا لست أحسب نفسي أنيّ قد أدركت، ولكني أفعل شيئًا واحدًا إذ أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام، أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع" (في 3: 11 - 14).

أما عن الميراث، ألعل الله يهمه أن نرث أرضنا أو يقصد المعنى الحرفي لوطء الأرض ببطون أقدامنا؟! لست أظن هذا، فإن كان قد سبق فوعد الشعب في العهد القديم بالأراضي التي تطأها أقدامهم، إنما كان هذا في جوهره يحمل ما هو أعظم: ميراثنا لمواضع علوية ندخل إليها ونقطن فيها! يرى بعض الآباء أن هذه الأراضي إنما تُشير إلى المركز الذي كان لإبليس وجنوده قبل السقوط، حيث كان ملاكًا نورانيًا مقربًا لله، كوكب الصبح المنير، هذا الذي سقط مع ملائكته، وبسقوطه أيضًا وطأ قلوبنا تحت قدميه، إذن، علينا تحت قيادة يشوع الحقيقي أن نسترد أرضنا ونطأ إبليس وجنوده تحت أقدامنا كوعد السيد أنه وهبنا سلطان أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوة العدو (لو 10: 19). فلا نسترد قلوبنا فحسب إنما نحتل المركز الذي كان لإبليس قبلاً.

في هذ يقول العلامة أوريجانوس: [أنظروا بماذا وعد يشوع جنوده في ذلك الحين؟ "كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته" (1: 23). كان الوعد بالنسبة للذين كانوا في ذلك الوقت يمثل أرض الكنعانيين والفرزيين واليبوسيين وكل الأمم التي نُزعت عنهم أرضهم ميراثًا بعد طرد سكانها غير المستحقين لها! أما بالنسبة لنا فهذه الكلمات تضم وعودًا أخرى: توجد أجناس شيطانية مقتدرة، نشن عليها الحرب ونصارعها بعنف شديد في هذه الحياة. فإن وطأنا بأقدامنا هذه القوات العظيمة وغلبناها في القتال نحتل أرضهم ومقاطعاتهم وممالكهم هذه التي يوزعها علينا الرب يسوع، فإن هؤلاء المقتدرين كانوا قبلاً ملائكة، لهم شركة في بهاء ملكوت الله. ألم نقرأ في أشعياء ما يقوله عن أحدهم: "كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح؟ ‍‍‍!") إش 14: 12). كان مسكن رئيس الشياطين ظاهرًا في السموات، لكنه إذ صار ملاكًا ساقطًا أستطيع أن أغلبه وأطأه تحت قدمي؛ فإذ تأهلت بالرب يسوع أن أسحق الشيطان تحت قدمي (رو 16: 20) صار ليّ الحق في التمتع بمكان رئيس الشاطين في السموات. بهذا نفهم وعد ربنا يسوع أن كل موضع تدوسه بطون أقدامنا يهبه لنا. لكي لا تظنوا أننا نقدر أن ننعم بهذا الميراث ونحن نيام في غفوة الجمود والإهمال[38]]. ويقدم لنا العلامة أوريجانوس (شيطان الغضب) كمثال ينبغي أن نذله تحت أقدامنا لكي نطرده من أرض الموعد (قلوبنا) ليماك يسوع فيها عوضًا عنه، قائلاً: [لقد أسقط الغضب الملاك من رتبته، فإن لم تنتصر عليه في قلبك، إن لم تستبعد عنك كل حركات الإثارة والغضب لن تقدر أن تنال الموضع الذي شغله هذا الملاك كميراث. لكن لا يمكنك طرده من أرض الموعد وأنت متراخ. هكذا أيضًا بالنسبة للكبرياء والحسد والأنانية والنجاسة. كل هذه الرزائل لها ملائكتها المؤذية التي توحي بالشر وتحرض عليه، إن لم تنتصر عليها في قلبك مطهرًا إياه منها، هذا الذي سبق فتطهرّ بنعمة المعمودية، لن تنعم بالميراث الموعود قط[39]].

وللعلامة أوريجانوس تفسير رمزي آخر، وهو أن المؤمن لكي ينعم بالميراث الروحي الأبدي يلزمه أولاً أن يطأ بقدميه الأراضي المنخفضة أي يطأ التفسير الحرفي القاتل لكي ينعم بالتفسير الروحي الذي يرفعنا إلى السمويات. الذي يسلك بروح الناموس الحرفي يعيش بفكر أرضي، أما من يسلك بالنعمة فيحيا روحيًا في السمويات. إنه يقول: [ما هي هذه المواضع التي تدوسها بطون أقدامنا؟ ‍‍! إنها رسالة الناموس الموضوعة على الأرض وترقد في الأعماق المنخفضة فلا يمكنها أن ترتفع قط مادمنا نسلك في حرفية الناموس. لذلك إن أردت أن ترتفع من الحرف إلى الروح، وتعلو من المدلول التاريخي إلى إدراك أسمي، فإنك بهذا تكون قد ارتفعت إلى المواضع السامية التي يُورثها لك الله. إن كنت تقدر أن تدرك الرموز فيما هو مكتوب وتفهم الأمور الإلهية، إن كنت تبحث بروحك وإدراكك "الأشياء التي من فوق حيث يجلس المسيح عن يمين الله" (2 كو 3: 1)، فإنك ترث هذه الأمور كقول مخلصنا وفادينا: "حيث أكون أنا هناك يكون خادمي أيضًا" (يو 12: 26). إن كنت قد بلغت إلى المسيح الجالس عن يمين الله بإيمانك وحياتك ونقاوتك وفضيلتك وبطن قدميك الذين غسلهما يسوع (يو 13: 5) فإن ترث هذه المواضع التي يهبها الله لك، وتصير وارثًا لله ووارثًا مع المسيح (رو 8: 17) [40]]. هكذا يرى العلامة أوريجانوس أن وطء الأرض بالقدمين إنما تعني انطلاقة النفس بإدراكاتها الروحية إلى الفكر الروحي والتفسير العميق لكلمة الله خلال الحياة الإيمانية النقية والمقدسة بالرب.

أما إمتداد الأرض التي يرثونها فيحددها الله هكذا: "من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات" [4]. ويلاحظ في هذا النص:

أولاً: تبدأ حدودها بالبرية، فإن أرض الموعد في الحقيقة هي قلوبنا التي صارت خلال انفتاحها لعدو الخير كبرية خربة بلا حياة، يدخلها يشوع الحقيقي لتتحول من حالة البرية القاحلة إلى الجنة المثمرة التي تُفرح قلب الله. لذلك يقول النبي "تفرح البرية والأرض اليابسة" (إش 35: 1)، كما يقول أن: "بني المتوحشة أكثر من بني ذات البعل" (54: 1). وفي سفر النشيد يُقال للعروس: "من هذه الطالعة من البرية مستندة على حبيبها" (نش 8: 5). يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [نحن الذين كنا قبلاً غير مستحقين للمجد الأرضي، نصعد الآن إلى ملكوت السموات، وندخل السموات، ونأخذ مكاننا أمام العرش الإلهي[41]]. هكذا نرتفع عن البرية لا لندخل إلى جنة أرضية أو فردوس زمني، إنما إلى السموات عينها، ونكون أمام العرش الإلهي.

ثانيًا: يقول "من البرية ولبنان هذا"؛ وفي الترجمة السبعينية "موضع لبنان Antilibanon وليس لبنان ذاتها... فالميراث لا يوهب فقط لمن كانوا في البرية وإنما أيضًا للذين كانوا في" موضع لبنان ". ويرى العلامة أوريجانوس أن لبنان تُشير إلى اليهود، أما" موضع لبنان "فيُشير إلى الأمم التي احتلت مركز اليهود خلال الإيمان. فيقول: [إذا تأملت الأمة الأولى التي حسب الجسد، إسرائيل، والتي كانت الزيتونة الجيدة (رو 11: 24) فإفهم أنها لبنان الحقيقية، لكن بسبب قلة إيمانها نُزع ملكوت الله منها وأعطى لأمة تعمل أثماره (مت 21: 43). متى رأيت الأمة المطرودة، والأخرى تحتل موضعها في الملكوت إفهم أن الأمة الثانية هي" موضع لبنان "التي هي" كنيسة الله الحيّ "(1 تي 3: 15)، والتي جمعت من الأمم أيضًا (رو 9: 24) بيسوع المسيح ربنا[42]].

ثالثًا: "إلى النهر الكبير نهر الفرات... وإلى البحر الكبير نحو مغرب الشمس يكون تخمكم" [4]. دخل نهر الأردن في تخم العبرانيين بكونه "نهر الحياة" أي المعمودية المقدسة التي بدونها لن ننعم بالميراث، ولا تكن لنا حياة. يقول الرائي: "وأراني نهرًا صافيًا من ماء الحياة لامعًا كبلور خارجًا من عرش الله والخروف" (رؤ 22: 1)، لكن لا تدخل إلى أرض الموعد مياه هذا العالم التي تملأ النفس تلفًا فلا النهر الكبير ولا البحر الكبير... يقول الرائي عن الأبدية: "ثم رأيت سماءً جديدة وأرضًا جديدة لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا والبحر لا يوجد فيما بعد" (رؤ 21: 1). لتبقى مياه هذا العالم خارج تخم أرض الموعد فلا تدخل إلى قلوبنا ولا تقلق نفوسنا حتى تعبر أيامنا بسلام!

"نحو مغرب الشمس يكون تخمكم" [4]، وكأن شمس البر لن يغرب عن أرضنا قط، إنه يبقى دائمًا يشرق فينا، واهبًا إيانا إستنارة روحية لا تتوقف!

الأعداد 6-7

3. معيته للخدام...

"لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك.

كما كنت مع موسى أكون معك.

لا أهملك ولا أتركك.

تشدد وتشجع.

لأنك أنت تُقسم لهذا الشعب الأرض التي حلفت لآبائهم أن أُعطيهم "[5 - 6].

إن كان الله قد دعى يشوع للعمل، إنما ليكون الله نفسه هو العامل به وفيه... "كما كنت مع موسى أكون معك". كأنه يقول له: "إن كان موسى قد نجح في تحقيق رسالته فأنا سرّ نجاحه، وأكون أيضًا معك كسرّ نجاحك!

خلال هذه المعية الإلهية لا يكون للخادم عدو شخصي، فيرى كل الناس أحباء له، يشتهي خلاصهم. وإن وجد مقاوم فهو عدو الخير الذي يُهيج الناس، وليس الناس أنفسهم، لذلك يقول له: "لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك" [5]. لا يعني هذا أن الخادم لا يجد من يقاومه، إنما يدرك أن المقاوم الحقيقي هو رئيس مملكة الظلمة! في هذا يقول الرسول: "فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف 6: 12).

وخلال المعية مع الله أيضًا يدرك الإنسان أنه مختف في الله قائد المعركة الحقيقي فلا يخاف ولا يرهب قوات الظلمة، لأنها ليست ثائرة عليه وإنما على القائد الإلهي نفسه. لهذا يؤكد الله ليشوع: "لا أهملك ولا أتركك، تشدد وتشجع". فالله يُريد في خدامه أن يكونوا مملوئين رجاء وثقة فيه، كما يثق الجند في قائدهم. هذا ما نلمسه بقوة في كلمات معلمنا بولس الرسول الذي أدرك أن سيده هو الغالب الحقيقي، الذي غلب كرأس حين جاءنا بالجسد، ولا يزال يغلب قوات الظلمة خلال الجسد أي خلال خدامه وكنيسته، إذ يقول: "شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان" (2 كو 2: 14). كما يقول: "في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا" (رو 8: 37).

الأعداد 8-9

4. شريعته كسند للخادم...

إن كان الله هو الذي يختار الخادم وهو الذي يدعوه ويسنده ويكون معه كسرّ غلبته فلا يقف إنسان في وجهه كل أيام حياته، إذ يخفيه داخله هو بمواجهة كل هجوم يثيره إبليس، فإنه أيضًا يُقدم شريعته لخادمه ليلهج فيها نهارًا وليلاً، تكون كسرّ تقديس له وسرّ حكمته الإلهية تُعينه في خدمته. لهذا يؤكد الله على يشوع:

"إنما كن متشددًا وتشجع جدًا، لكي تتحفظ للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها موسى عبدي،.

لا تمل عنها يمينًا ولا يسارًا لكي تفلح حينما تذهب.

لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك، بل تلهج فيه نهارً وليلاً... "[7 - 8].

أمران هامان في حياة الخادم يركز عليهما الله في هذا الحديث مع يشوع، وهما أيضًا مترابطان معًا ومكملان بعضهما البعض:

أولاً: التأكد أن الله معه فيسلك متشددًا ومتشجعًا، يعمل بقوة ويقين شديد، واثقًا في الله العامل به ومعه تحت كل الظروف يقول الرسول: "إن إنجيلنا لم يصر لكم بالكلام فقط بل بالقوة أيضًا وبالروح القدس ويقين شديد" (2 تس 1 - 5). لهذا أكثر من مرة يؤكد الله على يشوع "كن متشددًا وتشجع، لا ترهب ولا ترتعب، لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب" [7 - 9]، وبنفس الروح يقول لأرميا النبي: "لا تقل إنيّ ولد... لا تخف من وجوههم لأنيّ أنا معك لأنقذك يقول الرب... فيحاربونك ولا يقدرون عليك لأنيّ أنا معك يقول الرب لأنقذك" (إر 1: 7 - 8، 19). بقدر ما يختفي الخادم في الله لا يخاف غيره، إذ يبقى مطمئنًا فيه، وكما يقول القديس يوحنا الدرجي: [الذي صار خادمًا لله يخاف سيده وحده، أما من لا يخاف سيده فغالبًا ما يخاف حتى من خياله[43].].

ثانيًا: التمسك بشريعة الله عمليًا، فإنه إذ يختفي في الله مرسله يخاف الله وحده، أي يخش أن يجرج مشاعر أبوته الإلهية بكسر وصيته وعده تحقيق إرادته، لهذا يلهج في شريعة الرب ليلاً ونهارًا حتى تشغل كل قلبه وفكره وأحاسيسه وسلوكه الخفي والظاهر. بهذا تصير كلمة الله طعام الخادم وشرابه وسلاحه وسرّ راحته، أو قل جزءًا لا يتجزأ من حياته إن صح هذا التعبير. هذا هو سرّ القوة في حياة الخادم الداخلية وفي كرازته. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يليق بنا حقًا لا أن نطلب معونة الكلمة المكتوبة فحسب، بل أن تظهر حياتنا نقية هكذا، فتكون لنا نعمة الروح عوض الكتب بالنسبة لنفوسنا. فكما كتبت بالحبر في الكتب تسجل بالروح في قلوبنا[44]]. كما يقول: [عدم معرفة الكتب المقدسة هو علة كل الشرور؛ إذ ندخل المعركة عُزل من السلاح، فكيف نقدر أن نغلب؟! [45]].

هكذا يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن كلمة الله هي السلاح الحقيقي للخادم، لا يتقبلها خلال المعرفة الذهنية فحسب، أو الحفظ عن ظهر القلب، إنما خلال الحياة بها، فتشهد حياته لها عمليًا. حقًا ما أحوج العالم اليوم إلى قادة روحيين يعيشون الحياة المقدسة، ويمارسون كلمة الله كسرّ حياة لهم قبل أن يكرزوا بها بأفواههم!

الأعداد 10-11

5. الزاد الإلهي...

طلب يشوع من عرفاء الشعب أن يخبروا الشعب ألا يتسرعوا بل يتهيأوا للعبور حاملين معهم زادًا لمدة ثلاثة أيام. فمن هم هؤلاء العرفاء؟ وما هو الزاد؟

كان هؤلاء العرفاء هم المدبرين الذين يعملون تحت المسخرين المصريين لحساب عدّ الطوب (خر 5: 6)، أما بعد الخروج فيعملون كرؤساء ألوف ومئات وعشرات لتحقيق العدالة (تث 1: 15).

ما هو هذا الزاد؟

أولاً: يرى الأب قيصريوس أن هذا الزاد لمدة ثلاثة أيام ثم بعده يعبرون الأردن للتمتع بالميراث إنما هو الإيمان بالثالوث القدوس. إذ يقول: [اليوم الثالث كما نعلم هو سرّ الثالوث. أي طعام يلزمنا أن نعده حتى نبلغ اليوم الثالث؟ يبدو ليّ أنه يليق بنا أن نفهم الزاد بالإيمان، فالمسيحيون يبلغون سرّ المعمودية (نهر الأردن) بالإيمان بالثالوث... حقًا أيها الإخوة لن يعاين الإنسان أرض الموعد الحقيقية أي الطوبى الأبدية ما لم يعبر خلال سرّ المعمودية[46]].

ثانيًا: يرى نفس الأب في الزاد لمدة ثلاثة أيام لعبور الأردن أنه التمتع بسمات الإيمان والرجاء والمحبة إذ يقول: [الإيمان والرجاء والمحبة[47]].

ثالثًا: يرى العلامة أوريجينوس أن الزاد الذي يلزمنا أن نحمله في داخلنا لكي نتبع يشوعنا الحقيقي لندخل أرض الموعد الأبدية إنما هو الكتاب المقدس أو كلمة الله مدركة بطريقة روحية ومعلنة عمليًا في حياتنا. يقول العلامة: [بعد ذلك يقول يشوع: "هيئوا لأنفسكم زادًا للطريق"، واليوم إن أصغيت يقول لك يسوع: "إن تبعتني فهيئ لنفسك زادًا للطريق". الزاد في الحقيقة هي الأعمال التي ترافقنا في سفرنا مع المخلص خلال الطريق العتيد. ليتنا في دراستنا للكتاب المقدس نحذر من القراءة السريعة المتهاونة، وإلاَّ فكيف نستخلص الزاد؟ ‍‍! [48]].

رابعًا: يمكننا أن نقول بأن هذا الزاد الذي يبقى معنا ثلاثة أيام إنما هو إمكانية الحياة المقامة في المسيح يسوع. فنحن نعلم أن رقم "3" يُشير إلى القيامة التي بدونها لا نقدر أن نعبر الأردن، ولا ندخل أرض الموعد، إن الزاد الذي نهيئه لأنفسنا ليس من عندياتنا، لكنه إقتناء حياة المسيح المقامة كحياة لنا، بدونها نبقى في البرية حتى نتحول إلى جثث هامدة غير قادرة على الحركة. في دراستنا لسفر الخروج تحدثنا عن سرّ الأيام الثلاثة حيث كان الحديث مع فرعون "الآن نمضي سفر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا" (خر 3: 18)، وكان فرعون يبذل كل الجهد ألا يدخلوا إلى سرّ الأيام الثلاثة، وكأنه بإبليس الذي يُريد أن يحرم الإنسان من قوة القيامة مع المسيح، فلا تُقبل عبادته ولا ينعم بالميراث. قد سبق فاختبر أبونا إبراهيم هذا السرّ حيث سار ثلاثة أيام ليقدم ابنه ذبيحة حب الله (تك 22: 4)، متطلعًا إلى علامة القيامة من الأموات، فقدم ابنه الحبيب في يقين أن الله قادر على الإقامة من الأموات (11: 9) [49].

الأعداد 12-18

6. الدور الإنساني...

علامة حب للإنسان ليس فقط أن يهبه ولكنه يُشركه معه في العمل، لكي تلتحم إرادة الله الفائقة بإرادة الإنسان التي تتقدس باتحادها مع الله في ابنه... هذا ما برز بكل وضوح في الحديث الإلهي مع يشوع بن نون، فإن كان الله هو العامل في الدخل كواهب قوة القيامة والعبور فإن يشوع ملتزم مع الشعب أن يقوم ويعبر [1]. الله يهب الميراث مجانًا كوعده لكن ليس للكسالى والمتراخين، وإنما يقدم كل موضع تدوسه بطون أقدامهم [3] مشجعًا إياهم على السير لأجل الميراث. إنه يعلن معيته مع خادمه [5] ومساندته له ضد كل هجوم من العدو لكن الخادم ملتزم أن يتشدد ويتشجع لا يخاف إنسانًا [6 - 7]. الله يهبه شريعته كسند له، ولكن الخادم ملتزم أن يلهج فيها نهارًا وليلاً حتى تصلح طريقه وينجح [8]. يطلب منهم أن يهيئوا لأنفسهم زادًا، وهو يقدم لهم الزاد! يا للعجب فإن محبة الله الغنية تهب كل شيء مجانًا لكنها دون احتقار لإرادة الإنسان أو تجاهل لجهاده ومحبته!

وقد برز هذا الجانب الإنساني بكل وضوح في تصرف يشوع مع السبطين والنصف (رأويين وجاد ونصف منسي) الذين أرادوا أن يستقروا غرب نهر الأردن (عد 23: 1 - 5) في أرض جلعاد، وقد وافق موسى على ذلك مشترطًا أن يتركوا نساءهم وأطفالهم ومواشيهم في الأرض، لكن الرجال يعبرون مع بقية الأسباط نهر الأردن ولا يعودوا إلى جلعاد حتى يتمموا كل الجهاد مع إخوتهم ويمتلك الكل أرض كنعان... وقد حمل ذلك رمزًا لكنيستي العهد القديم والعهد الجديد، الأولى يمثلها السبطين والنصف، والثانية التسعة أسباط ونصف، وقد سبق لنا الحديث عن ذلك بأكثر تفصيل[50]. لقد كان الله قادرًا أن يُخلص التسعة أسباط ونصف دون جهاد السبطين والنصف... لكن الله يُقدس العمل البشري والوحدة، فألزمهم بالعمل مع إخوتهم مادامت لهم قوة للعمل. ماداموا قادرين على الجهاد. لا يستخدم الله المعجزات إلاَّ بالقدر الذي فيه لا يوجد طريق آخر للخلاص من المأزق!

في شيء من الوضوح أود أن أوكد تقديس الله لمؤمنيه، روحيًا وفكريًا وعاطفيًا وجسديًا، إحدى علاقات هذا التقديس أنه يستخدم الإنسان للعمل والجهاد ولا يتدخل بالعمل المعجزي الفائق إلاَّ عند الضرورة، في حالة العجز البشري! فقد كان يمكن لله الذي أخرج الشعب بيد قوية وذراع رفيعة، وعالهم أربعين سنة في البرية، وصنع لهم معجزات بلا حصر أن يقدم لهم أرض الموعد دون جهاد هذه الأسباط (السبطين والنصف) أو حتى دون جهاد كل الأسباط، لكن لو حدث هذا لما تقدست وحدة الشعب ككل ولما نالت هذه الأسباط بركة عمل الله بها.

أقول حينما نطلب أن تكون حياتنا مليئة بالعمل المعجزي الفائق إنما نطلب حرماننا من تقدير الله لنا الذي يُريد أن يعمل بقلبنا وفكرنا وأحاسيسنا وأيدينا، مقدسًا كل ما وهبنا للعمل بطريقته الخفية فينا حتى يدخل بنا أرض الميراث مكللين.

من وحي يش 1.

لك الشكر أيها المدرّب والمهذّب الإلهي!

  • إلهي، تسبحك نفسي في وسط الضيق كما في الفرج.

في ضيقي أتمتع بحمل صليبك، لأدخل ومعي كثيرون،.

لا إلى أرض الموعد، بل إلى الميراث الأبدي.

  • من يقدر أن يرفع قلبي وقلوب إخوتي إلى السماء إلا أنت.

أنت وحدك الذي نزلت إلينا، لكي تصعد بنا إلى سماواتك.

أنت هو خلاصي ومجدي وإكليلي الأبدي!

لتتجلّى يا إلهي في أعماقي، وتقيم ملكوتك في داخلي،.

فأشتهي أن أقدم لك كل بشرٍ ينعمون بحضورك الإلهي.

  • مع كل خطوة لتهمس في آذان عبيدك: "تشدّدوا وتشجعوا،.

لا يقف إبليس وكل قواته في وجوهكم كل أيام حياتكم.

كما كنت موسى وكل الآباء والأنبياء والرسل والشهداء، أكون معكم ".

  • لتحقق وعودك الصادقة: "كل ما تصنع تنجح فيه".

أنت هو الطريق، تعبر بي إلى السماء عينها!

هب لنا ألا ننحرف يمينًا ولا يسارًا،.

بل ألتزم وكل مؤمنيك بالسلوك فيك.

لترافقنا كل أيام حياتنا، فيلتصق بنا فرحك وسلامك،.

وتتحول رحلة حياتنا إلى تهليل لا ينقطع!

  • لك الشكر أيها المدرّب والمهذّب الإلهي.

لأثبت فيك فتقيم مني قائدًا حيًّا،.

ولتثبت فيّ، فتهبني إمكانياتك العجيبة،.

فلا يكون لكلمة "مستحيل" موضعًا في قاموس حياتي!


[1] راجع أوريجانوس: عظات على يشوع عظة 1: 1 ترجمة أمال إبراهيم.

[2] للمؤلف: سفر الخروج 1980، أصحاح 17.

[3] Lactantius: Divine Inst. 4: 17.

[4] In Jos. Hom. 1: 1.

[5] للمؤلف: سفر العدد 1981.

[6] المرجع السابق، ص 77 - 84.

[7] In Jos. Hom. 1: 2.

[8] Ibid 2: 2.

[9] الحب الإلهي، ص 269، 270.

[10] In Jos. Hom. 1: 3.

[11] Ibid 2: 1.

[12] Divine Inst. 4: 17.

[13] Duties of Clergy 2: 20.

[14] Peak's Comm. On the Bible, 1920, p.

[15] Ladder, step 7: 39.

[16] J. M. Gray: Comm. On the Whole Bible, 1971, P 166.

[17] Ibid.

[18] C. M. Laymann: Interpreter's one - volume Comm - on the Bible, P 123.

[19] Peak's Comm. , p. 3.

[20] New Westminister Dict. Of Bible, P 41.

[21] John L. Mckenzie: Duct. Of Bible, 1972, P 730.

[22] Ibid..

[23] في اللغة الـ ugaritic.

[24] New Westminister Dic. Of Bible, P 798. Josuiph. Antiq. 7: 4: 1; 2 Sam. 23: 13 - 14.

[25] Jos. Antiq. 15: 18; 18; 16.

[26] Strong: Dict of the Hebrrew Bible, P. 4.

[27] Dict. Of Bible, word Amorites.

[28] Mckenzie, P 26.

[29] Ibid, P 307.

[30] Ibid.

[31] Dict. , P 400.

[32] Ibid, P 398 - 400.

[33] Mckenzie, P 363 / 4.

[34] J. M. Gray, P 180.

[35] الأحجار تتكلم للدكتور جون إلدر، تعريب د. عزت زكي، قصل 7.

[36] Sermon 116: 1.

[37] Fragm. 19.

[38] In Jos. Hom 1: 6.

[39] Ibid.

[40] Ibid 2: 3.

[41] الحب الإلهي: ص 732.

[42] In Jos. Hom. 2: 3.

[43] Ladder, step.

[44] In Matt. Hom. 1: 1.

[45] In Hom. g.

[46] Sermon 115: 1.

[47] Ibid 115: 2.

[48] In Jos. Hom. 1: 4.

[49] سفر الخروج 1981، ص 36 - 38.

[50] سفر العدد 1981، ص 210 - 216.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

الأصحاح الثاني - سفر يشوع - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفاسير سفر يشوع الأصحاح 1
تفاسير سفر يشوع الأصحاح 1