الأصحاح التاسع – سفر هوشع – القمص تادرس يعقوب ملطي

هذا الفصل هو جزء من كتاب: 33- تفسير سفر هوشع – القمص تادرس يعقوب ملطي.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

الأصحاح التاسع

الفرح الباطل.

ظن إسرائيل أنه يفرح كبقية الأمم عندما ينطلق من عبادة الله الحيّ إلى عبادات الوثنية، وكأنه بالابن المسرف الذي طلب نصيبه من أبيه لينطلق مع أصدقائه، يقضي أيامه في اللهو والمسرات، لكن هذا الفرح الباطل يصحبه مرارة داخلية وغمّ مع كآبة النفس، وذلك للأسباب الآتية:

1. تحول عبادتهم إلى خبز حزن 1 - 6.

2. حلول وقت العقاب 9.

3. عدم إثمارهم 10 - 14.

4. طردهم من امام الرب 15 - 17.

الأعداد 1-8

1. تحول عبادتهم إلى خبز حزن

"لا تفرح يا إسرائيل طربًا كالشعوب، لأنك قد زنيت عن إلهك، أحببت الأجرة على جميع بيادر الحنطة. لا يطعمهم البيدر والمعصرة ويكذب عليهم المسطار" [1 - 2].

ظن إسرائيل أن الشعوب المحيطة بعبادتها الوثنية التي اتسمت بالولائم الكثيرة والرجاسات واللهو أكثر منه حظًا وطربًا، لذا اشتاق أن يتمثل بهذه الشعوب ويسلك على منوالها. لكن حتى أن فرحت الشعوب وامتلأت طربًا وسط الرجاسات... وهذا أمر مظهري يرافقه غم داخلي وكآبة، فإن إسرائيل في اِمتثاله بهذه الشعوب يُحسب زانيًا عن إلهه، فيسقط تحت التأديب المر. لقد اختاره الله شعبًا له يلتزم بشريعته المقدسه، فإن انحرف قام بدور زانية تستحق الرجم. هكذا إلى هذا اليوم متى سقط مؤمن في خطية حلّ به التأديب بطريقة أسرع وأقسى مما يحل بالأشرار، لأنه مختار من الله، وابن له يلتزم تأديبه، يقول المرتل: "لا تُغر من الأشرار ولا تحسد عمال الإثم... تلذذ بالرب فيعطيك سؤل قلبك" (مز 37: 1، 4).

يظن الإنسان أن السير وراء الشهوات يشبعه، قائلاً: "أذهب وراء محبيّ الذين يعطون خبزي ومائي، صوفي وكتاني، زيتي وأشربتي" (2: 5). هذه هي الأجرة التي يشتهي الإنسان نوالها من الآلهة الأخرى أفضل من بركة الرب المعلنة في "جميع بيادر الحنطة". يطلب الأجرة الزمنية الزائلة لا بركة الرب الدائمة في مخازن القمح المشبعة لنفسه، فإذا به يخسر هذه وتلك، إذ لا يطعمه البيدر والمعصرة، ويكذب عليه المسطار الذي ظن فيه فرحه وبهجته.

من الجانب التاريخي تحقق ذلك في حياة هذا الشعب الذي كان يجري نحو رجاسات الأمم المحيطة به فإذا به يسقط تحت سبي أشور فيُحرم من حريته وممتلكاته وخيرات أرضه، كما يُحرم من عبادة الله الحيّ؛ فقد اللذات الأرضية والبركات الروحيّة.

حرمانهم من الفرح هو ثمر طبيعي لزناهم عن إلههم، فلا يقبل الله عبادتهم ولا سكيب خمرهم (علامة الفرح) ولا يُسر بذبائحهم، فتصير تقدماتهم مرفوضة ونجسة لأنها تصدر عن زناه روحيًا، وتتحول هذه التقدمات إلى "خبز حزن" يرجع إليهم ليأكلوه في مرارة عوض أن يتقبله رائحة رضا.

لا تقف العقوبة عند حرمانهم من الفرح ومن الشبع، وإنما تصل إلى الطرد النهائي من أرض الرب التي سبق فوهبهم إياها كأرض موعد تفيض لبنًا وعسلاً، قائلاً: "لا يسكنون في أرض الرب" إذ يُحملون إلى السبي، وهناك يحرمون من كل شيء: "لا يسكبون للرب خمرًا، ولا تسره ذبائحهم، إنما لهم خبز الحزن كل من أكله يتنجس، أن خبزهم لأنفسهم، لا يدخل بيت الرب" [4]. ففي أرض السبي يعيشون كما في أرض نجسة، ليس لهم شيء طاهر يمكن أن يقدموه للرب القدوس! لقد كانوا قبلاً في أرض الرب المقدسة، وإذ انسحبت قلوبهم إلى خارج بيت الرب ودخلوا بالرجاسات إلى المقادس، طُردوا من المقادس وحرموا من ممارسة عبادة نقية مقبولة لدى الرب.

أقول إنها صورة مرة للنفس غير الأمينة التي يدخل بها الرب لا إلى أرض الموعد، بل يقيم ملكوته فيها ويهبها دمه المقدس علامة خلاصها، ويمنحها روحه ساكنًا فيها، لكنها في عدم أمانة تكسر العهد الجديد وترتبط بالرجاسات مستهينة بعطايا الله الفائقة، وكما يقول الرسول بولس: "من خالف ناموس موسى على شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة، فكم عقابًا أشر تظنون أنه يُحسب مستحقًا من داس ابن الله، وحسب دم العهد الذي قُدس به دنسًا، وازدرى بروح النعمة" (عب 10: 28 - 29)... مثل هذا يفقده عطايا الله له، وتصير بركات العهد الجديد سر دينونة وشهادة ضده. مثل هذه النفس إن قدمت عبادة - أيا كانت - لا يتقبلها الله مادامت مصرة على خيانتها للعهد ونجاسة قلبها، فيردها إليها كخبز حزن لها. لذلك يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [لا يليق تقديم ذبيحة من شيء دنس، إذ هي تُحسب بكورًا عن الأعمال الأخرى. ليتنا نقدّم أيدينا وأقدامنا وفمنا وكل أعضائنا (طاهرة) كبكورة الله، فتُحسب موضع سرور الله[40].].

يتحدث القديس كبريانوس عن الذبائح المرفوضة من الله والمرتدة إلى مقدّميها خبز حزن لهم، إنها تعاليم الهراطقة وعبادتهم ومعموديتهم، قائلاً: [هنا يعلمنا بوضوح عن الذين ارتبطوا بالخطية مطلقًا متدنسين بذبيحة كاهن دنس شرير[41]، كما يقول: [هنا يعلمنا عن الذين يتحدون بقادة مدانين إذ هم يتدنسون معهم بجرائمهم[42].].

إذن قدّم الكهنة في إسرائيل ذبائح لله وقد ارتبط قلبهم بالبعل، فرد لهم ذبائحهم خبز حزن لهم، وطردهم من بيت الرب بالكلية بسبيهم إلى أشور. ولئلا يقول السامعون أن ما يقوله النبي مجرد تهديد نظري لا يتحقق عمليًا، يكمل حديثه: "ماذا تصنعو في يوم الموسم وفي يوم عيد الرب؟ إنهم قد ذهبوا من الخراب، تجمعهم مصر، تدفنهم موف، يرث القريص نفائس فضتهم، يكون العوسج في منازلهم" [5 - 6].

يقولون أننا في كل موسم وفي أعياد الرب نجتمع في بيت الرب فرحين متهللين بالمزامير والتسابيح، فكيف يقول النبي أن ذبائحنا ترتد إلينا كخبز حزن؟ إننا نقضي أيامنا في طرب وفرح وليس في حزن ومرارة. يجيب النبي أنه يرى الخراب قادم سريعًا من أشور، فيلجأون إلى فرعون مصر، ويهربون إلى الأرض التي سبق فأطلقهم الرب منها ليموتوا هناك في منفيس عاصمتها (موف)، فيخسرون وعود الله لهم التي هي كلمته (الفضة)، عوضها يرثون القريص (الصدأ)، وتخرب بيوتهم في أرض الموعد، وتتحول إلى برية تنبت عوسجًا وحسكًا.

إن كان الله قدّم لنا وعود فضة لا تصدأ، وأقام لنا بيوتًا روحيّة نقطن فيها فرحين مطمئنين، لكن انحرف القلب عنه يحولنا من الفضة إلى الصدأ ومن البيوت إلى البرية بعوسجها وحسكها! وهكذا يفقد الإنسان سلام الله الداخلي وبهجة قلبه وفرحه، بل ويفقد حياته ليدفن كغريب في موف، وتتحول حياته إلى صدأ وبيته الداخلي إلى برية!

من الجانب الرمزي يمكننا القول بأن الفضة تشير إلى النفس والمنزل يشير إلى الجسد حيث تسكنه النفس في الداخل، وكأنه إذ يجري الإنسان وراء الفرح الزمني والطرب كالشعوب الوثنية بملاهي العالم ومحبة الترف يخسر نفسه الفضية فتصدأ، ويفقد قدسية جسده فيصير تحت اللعنة من جديد ينبت شوكًا وحسكًا.

العدد 9

2. حلول وقت العقاب

توهم إسرائيل أنه يعيش في ملذات الأمم وشهواته بفرح وطرب ولم يدركوا أنه قد حل وقت العقاب: "جاءت أيام العقاب، جاءت أيام الجزاء (المكافأة)" [7]. لقد حل الوقت الذي فيه يُجازي إسرائيل على شره ويكافأ الأنبياء على شهادتهم الحق واحتمالهم التعييرات والآلام منهم، "سيعرف إسرائيل: النبي أحمق، إنسان الروح مجنون من كثرة إثمك وكثرة الحقد" [7]. ليعرف إسرائيل أن من ظنوه أحمق هو حامل روح الحكمة، ومن حسبوه مجنونًا هو رجل الروح، وأن كثرة إثمه وكثرة حقده أفسدت بصيرته عن معرفة النبي رجل الروح. ومن الجانب الآخر فإن إسرائيل سيكتشف أن النبي الكاذب الذي يجاملهم بالكلمات اللينة، قائلاً: "سلام سلام ولا سلام" (إر 6: 14)، هو الذي بالحق أحمق، ومن كان يدعي أنه إنسان الروح هو بالحق مجنون، إذ ترك إسرائيل في إثمه مطيبًا خاطره على حساب الحق. هكذا ينكشف النبي الحقيقي الذي قد يجرح بكلمات الحق لأجل البنيان من النبي المخادع الذي هو "فخ صياد على جميع طرقه" [8]. يصطاد النفوس بالكلمات المعسولة، مملوء حقدًا ضد بيت إلهه [8].

لقد حلّ وقت الجزاء ليكتشفوا أنهم "قد توغلوا، فسدوا كأيام جبعة" [9]، إذ بات رجل لاوي متغربًا في جبعة التي بنيامين (قض 19: 14) فاِرتكب رجال المدينة الشر مع سريته الليل كله إلى الصباح وأطلقوها عند طلوع الفجر، حيث جاءت عند عتبة البيت وأسلمت روحها، فأمسك الرجل بها وقطَّعها إلى اثنتى عشرة قطعة وأرسلها إلى جميع تخزم إسرائيل لينظروا الرذالة والقباحة التي كانت في ذلك الموضع (قض 20: 6). إن كان حادث جبعة فضح الشر، هكذا يأتي وقت الجزاء ليفضح خفايا الشعب!

الأعداد 10-14

3. عدم إثمارهم

فقد إسرائيل الفرح الروحي الداخلي أولاً بسبب بحثهم عن طرب الشعوب ولهو الأمم مرتكبين الزنا عن إلههم فتحولت عبادتهم إلى خبز محزن [1، 6]، وثانيًا لأن وقت الجزاء قد حلّ ليكتشفوا خطأ معاييرهم فمن كانوا يظنونه مجنونًا وأحمق إذا به النبي الحق، ومن كانوا يحسبونه نبيًا يطيب خاطرهم إذا به المجنون الأحمق [7، 9]، وأما السبب الثالث لفقدانهم الفرح فهو تغير طبيعة إسرائيل، فعوض كونه عنبًا في البرية وباكورة تين سلّم نفسه للخزي، وصار في طبيعته رجسًا بهواه، إذ يقول: "وجدت إسرائيل كعنب في البرية، رأيت آباءكم كباكورة على تينة في أولها، أما هم فجاءوا إلى بعل فغور ونذروا أنفسهم للخزي وصاروا رجسًا كما أحبوا" [10]. وقد سبق لنا التعليق على هذه العبارة في مقدمة السفر.

عوض أن يكون إسرائيل عنبًا شهيًا في عينيّ الله وسط برية قاحلة وتينًا بكرًا، صار بهواه نذرًا ومأكلاً لبعل فغور التي تعني "بعل الفجور" أو "سيد الفجور". لقد سلم نفسه بهواه للشيطان سيد الفجور فتحول من حالة الإثمار المبهجة لله وله إلى حالة العقم. تحولت طبيعته من طبيعة مفرحة إلى طبيعة مملوءة كآبة ومرارة نفس.

ارتباطهم ببعل فغور حطم طبيعتهم ونزع عنهم أيضًا كرامتهم ودخل بهم إلى العار والخزي فلا تكون فيهم حالة ولادة، إذ لا تحبل نساؤهم، بل يكن عقيمات، وإن حبلن وولدن فالله نفسه يثكلهن، حاكمًا على أولادهن بالموت، إذ يقول: "إفرايم تطير كرامتهم كطائر من الولادة ومن البطن ومن الحبل؛ وإن ربوا أولادهم أتكلهم إباهم حتى لا يكون إنسان" [11 - 12]. لقد صار إفرايم – في شره - كالطائر الذي يطير على الدوام، ليس له عش يستقر فيه ليضع فيه بيضًا ويكون له صغار! إنها صورة مؤلمة للإنسان الذي تسحبه الخطية من عشه الحقيقي الذي هو "مذبح رب الجنود" ليهيم في الجو بلا مستقر، فيقضي أيام غربته بلا راحة ولا طمأنينة، ولا يكون له صغار، أي ثمر روحي يخلد اسمه في الأبديّة. هذا العقم هو ثمر طبيعي للهروب من العش الإلهي، والانصراف عن الله واهب الثمر... فإنهم إذ ينصرفون عنه ينصرف هو عنهم ويسقطون تحت الويل الأبدي: "ويل لهم أيضًا متى انصرفت عنهم" [12].

سقط إسرائيل في حالة العقم خلال عبادته للبعل والعشتاروت، إذ اعتقد فيهما إنهما إلهيّ الإثمار والخصوبة، لذلك يقول النبي: "أعطيهم يارب، ماذا تعطي؟ أعطهم رحمًا مسقطًا وثديين يبسين" [14].

الأعداد 15-17

4. طردهم من أمام الرب

أخيرًا إذ كان إسرائيل يجري وراء البعل والعشتاروت ليهباه خصوبة وأثمارًا صار له الرحم المسقط والثديان اليابسين... أما ما هو أمَرّ فإن الله يطرده من أمام وجهه ويحرمه من بيته المقدس. "من أجل سوء أفعالهم أطردهم من بيتي، لا أعود أحبهم" [16]، فلا يمكن أن يحمل ثمرًا بعد، وإن حمل ثمرًا يقتله الرب منذ نشأته في الرحم، أيّ وهو جنين بعد. لقد اِزدروا بالله ولم يسمعوا له، لذا يستخف بهم ويتركهم تائهين بين الأمم بلا كرامة [17]. هذه هي صورة نفس كل مؤمن ينسى شريعة إلهه ويطلب لهو العالم ومباهجه، فيفقد كل شيء ويصير كتائه في العالم بلا هدف.


[40] In Pom. Hom 20.

[41] Ep. 67: 3.

[42] Ep. 75: 9.

No items found

الأصحَاح العاشر - سفر هوشع - القمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح الثامن - سفر هوشع - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفاسير سفر هوشع الأصحاح 9
تفاسير سفر هوشع الأصحاح 9