الأصحاح الثاني – تفسير الرسالة إلى كولوسي – القمص أنطونيوس فكري

الإصحاح الثانى

الأعداد 1-3

الآيات (1 - 3): -

"1فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَيُّ جِهَادٍ لِي لأَجْلِكُمْ، وَلأَجْلِ الَّذِينَ فِي لاَوُدِكِيَّةَ، وَجَمِيعِ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا وَجْهِي فِي الْجَسَدِ، 2لِكَيْ تَتَعَزَّى قُلُوبُهُمْ مُقْتَرِنَةً فِي الْمَحَبَّةِ لِكُلِّ غِنَى يَقِينِ الْفَهْمِ، لِمَعْرِفَةِ سِرِّ اللهِ الآبِ وَالْمَسِيحِ، 3الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ.".

لاَوُدِكِيَّةَ = هى مدينة فى آسيا الصغرى بالقرب من كولوسى، على نهر ليكوس، وبشرها أبفراس، وهو يذكرها هنا لأن أبفراس بشرها مع كولوسى ولأن لهم نفس المشاكل، ويبدو أن كنيسة لاودكية كانت هى الأكبر (كو4: 15، 16).

أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا = لو علموا محبته لهم وجهاده لأجلهم لإستمعوا لتعاليمه.

أَيُّ جِهَادٍ = كل عمل وكل خدمة لبناء كنيسة المسيح يقاوَم بحروب شديدة وخداعات كثيرة من إبليس، ولذلك يحتاج الخدام أن يجاهدوا فى الإهتمام بأولادهم والصلاة لأجلهم وتعليمهم وكرازتهم. وهنا نرى محبة بولس الرسول لكنيسة المسيح، فهو يجاهد ليس لمن علمهم فقط بل حتى لمن لم يراهم كأهل كولوسى ولاودكية الذين لم يكن قد رآهم قبل حبسه فى روما. وهكذا كل مسيحى حقيقى عليه أن يصلى حتى لمن لا يعرفهم. إن بولس لو استطاع لذهب إليهم ولكن قيوده فى سجنه كانت تمنعه فاكتفى بالرسائل لهم والصلاة لأجلهم. وماذا يطلب الرسول لهم، أو ماذا يجاهد لأجله فى صلاته عنهم؟ تَتَعَزَّى قُلُوبُهُمْ مُقْتَرِنَةً فِي الْمَحَبَّةِ = أى يطلب لهم أن يتعزوا وأن يقترنوا بالمحبة (تكون لهم علاقات قوية فى المحبة) وعموماً فلا تعزية سوى فى المحبة، فالمحبة هى أولى ثمار الروح القدس. "هوذا ما أحسن وما أحلى أن يجتمع الإخوة معاً.. كالطيب النازل على الرأس، على اللحية" (مز 133: 2، 1). هذا المزمور يشرح ما يريده الرسول، فحين نجتمع فى محبة ينسكب الروح علينا (الذى إنسكب على المسيح الرأس ينسكب علينا نحن المشبَّهين هنا باللحية لإرتباطنا بالمسيح الرأس، والطيب هو الزيت الذى كان يسكب على رأس هرون إشارة إلى الروح القدس). والروح القدس هو المعزى (يو14: 16، 26) + (يو26: 15). والروح القدس يقرن بين قلوبنا بالمحبة، فهو يربط أعضاء جسد المسيح الذين هم نحن بمفاصل آية 19 والمفاصل هى المحبة. وإستعمل الرسول كلمة إقتران إشارة لقوة رباطات المحبة بيننا. ومن يتجاوب مع الروح القدس ويحب الإخوة يملأه الروح القدس من تعزياته. ولاحظ أن التعزية الحقيقية التى يعطيها الروح تُختبر بالأكثر وسط الضيقات، والمحبة الحقيقية للناس تُعرف فى إستمرارها حتى لمن يسيئون إلينا.

لِكُلِّ غِنَى يَقِينِ الْفَهْمِ = أى لن نصل إلى الفهم الأكيد للأسرار الإلهية بدون محبة وهذا ما فهمناه من (أف 3: 19، 18). فكيف ندخل بيت الملك ونطلع على أسراره دون أن يدعونا هو لذلك، وكيف يدعونا إن لم يكن هناك محبة؟

لِكُلِّ = تعنى لبلوغ (الترجمة التفسيرية) وفى الإنجليزية TO ATTAIN. والفهم المقصود به فى اليونانية.. المعرفة العملية أو الإختباريه وهذه تكون بتنفيذ الوصايا فنعرف المسيح. (مت7: 24 – 27). وهنا نرى العلاقة بين السلوك الروحى وحصولنا على المعرفة الروحية. من يطيع الوصايا سيعرف المسيح عن إختبار. يقين الفهم أى الفهم الكامل الصحيح، ومن له هذا الفهم وعرف المسيح سيكتشف بسهولة ضلال الهرطقات.

والروح القدس هو الذى يعلم ويذكر، ومن يمتلىء منه، يملأه الروح من المحبة. وهنا الرسول يريد لهم أن يفهموا أنه لا الفلسفة ولا التهوُّد سيعطيانهم شيئاً. بل أن البر سيكون لهم بالمسيح، والمعرفة ستكون بالمسيح، والحكمة ستكون بالمسيح الذى يعطى لكنيسته كل شىء، فهو المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والمعرفة لِمَعْرِفَةِ سِرِّ اللهِ الآبِ وَالْمَسِيحِ = الرسول يصلى حتى يفتح الله قلوبهم ويفهموا سر الآب والمسيح، أى العلاقة بين الآب والمسيح. فالآب فى الإبن والإبن فى الآب (يو 9: 14 - 11). وأن الإبن مولود أزلي من الآب كشعاع نور مولود من الشمس، هو يعلن لنا الآب الذى لا نستطيع أن ندركه. وأن الآب هو نبع للمحبة، وإشعاعات الحب الإلهى تنبعث من الآب لتصب فى الإبن المحبوب بالروح القدس. وأن يفهموا أننا بتجسد المسيح دخلنا فى هذه الدائرة الإلهية، فبإتحادنا بالإبن صرنا أبناء، وأصبح الروح القدس يسكب المحبة الإلهية فينا (رو5: 5) هذه هى مقاصد الله الأزلية فى المسيح من جهة الكنيسة أى فداء المسيح الذى به جعل الكنيسة جسده، فحصلت الكنيسة على البنوة، وبالتالى صار لها مجد المسيح.

الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ = المسيح هو أقنوم الحكمة ويحوى كل حكمة ومذخر فيه، أى يستتر فيه حكمة خفية عن الأنظار. وقوله كنوز يعنى أنها شئ قيِّم جداً لايقدر بثمن وأنها لن تفرغ أبداً وأنها عظيمة الفائدة. فهو مصدر كل حكمة. وهذا رد على الغنوسيين الذين يقولون أن المعرفة تأتى من الفلسفة والعقل والبحث، بل تصوروا أن معرفتهم وحكمتهم البشرية يمكن أن تفوق المسيح نفسه، لذلك يشرح لهم الرسول أن المسيح فيه كل حكمة، وأى حكمة خارجة عن المسيح ما هى إلاّ ضلال كما أضلت الحية حواء. والمسيح يعطى حكمته لمن يشاء من المؤمنين (لكل من هو ثابت فيه ومتحد معه) وليس لمن يعتمد على حكمته البشرية. ويعطيها للبسطاء (مت25: 11). وبالتالى لا توجد حكمة أعلى من حكمة المسيح. وكما سنرى فى (الآيات9، 10) أن المسيح حل فيه كل ملء اللاهوت ليصير بإتحادنا به مصدرا لكل ما نحتاج إليه من حكمة ومعرفة حقيقية وحياة أبدية كما سنرى.

الأعداد 4-7

الآيات (4 - 7): -

"4 وَإِنَّمَا أَقُولُ هذَا لِئَلاَّ يَخْدَعَكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ مَلِق. 5فَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ غَائِبًا فِي الْجَسَدِ لكِنِّي مَعَكُمْ فِي الرُّوحِ، فَرِحًا، وَنَاظِرًا تَرْتِيبَكُمْ وَمَتَانَةَ إِيمَانِكُمْ فِي الْمَسِيحِ. 6فَكَمَا قَبِلْتُمُ الْمَسِيحَ يَسُوعَ الرَّبَّ اسْلُكُوا فِيهِ، 7مُتَأَصِّلِينَ وَمَبْنِيِّينَ فِيهِ، وَمُوَطَّدِينَ فِي الإِيمَانِ، كَمَا عُلِّمْتُمْ، مُتَفَاضِلِينَ فِيهِ بِالشُّكْرِ.".

بِكَلاَمٍ مَلِق = أى كلام له بريق وباطنه يحمل سماً مميتاً، وهذا هو هدف إبليس أن يخدع المؤمنين بشىء آخر خارج عن المسيح ليميتهم، هكذا فعل مع حواء. والغنوسيون خدعوهم بأن الإنتفاخ بالمعرفة بعيداً عن المسيح فيه الخلاص. ولاحظ الخداع هنا أنه كان باللعب على وتر الأنا والكبرياء والغرور، فالمعرفة عند الغنوسيين هى للكاملين الناضجين بإستعمال العقل الإنسانى، وكل من يسمع هذا يود لو كان من الكاملين وليس من البسطاء بحسب تقسيم الغنوسيين. وهذا هو خداع الحية، النغمة التى ترضى الذات فتنتفخ.

وَنَاظِرًا تَرْتِيبَكُمْ وَمَتَانَةَ إِيمَانِكُمْ = هذا ما أخبره به أبفراس فأراد الرسول أن يثبتوا على الإيمان الذى تسلموه. والرسول بالرغم من بُعْده عنهم فهو فى سجنه فى روما منشغل بهم فى أفكاره وإهتماماته، يصلى لأجلهم، فكأنه يعيش معهم = لكِنِّي مَعَكُمْ فِي الرُّوحِ. والروح الإنسانية هى عنصر الإتصال بين الإنسان والروح القدس. فقولنا إنسان روحى يعنى أن روحه الإنسانية خاضعة للروح القدس، الروح القدس يقود الروح الإنسانية، والروح الإنسانية تقود الجسد. وقول الرسول هنا لكِنِّي مَعَكُمْ فِي الرُّوحِ يعنى أن بولس الرسول منشغل بحال كنيسة وشعب كولوسى ويصلى لأجلهم، والروح القدس يعطيه تعزية ويطمئنه عليهم، أو أن الروح القدس يعطيه إرشاد بالتعليم الذى يوجهه لهم ليصحح أى خطأ عقيدى تسلموه من المتهودين أو الغنوسيين. وراجع تفسير الآيات (كو1: 9 - 11).

مَتَانَةَ = تعبير عسكرى يشير لجيش قوى مرتب قادر أن يصد غارات العدو الذى يحاول فتح ثغرة فى جبهة القتال.

فَكَمَا قَبِلْتُمُ الْمَسِيحَ اسْلُكُوا فِيهِ = فَكَمَا قَبِلْتُمُ الْمَسِيحَ (so then, as you received Jesus as Lord and christ) والمقصود إستمروا على ما تعلمتموه من أبفراس عن المسيح ولا تنحرفوا وراء الأفكار المنحرفة التى تحاول خداعكم. وقوله "اسلكوا فيه" تعنى ثباتهم فى المسيح وإتحادهم معه، لا يشغل فكرهم ولا قلوبهم سواه، وإن فعلوا وأحبوا المسيح لهذه الدرجة، وملأ حبه قلوبهم، لن يستطيع عدو الخير أن يجد مكاناً فى قلوبهم لأى محبة للعالم ولا لفكر غريب، فالقلب ملآن غير قابل أن ينشغل بشىء آخر وقوله "اسلكوا فيه" = فهو الطريق وعلينا أن نثبت فيه يفهم منه أن من يثبت فيه، وهو الطريق المؤدى للآب، يصل لحضن الآب. والثبات فيه يكون:

  1. لمن آمن وإعتمد ويحيا حياة توبة متبعا وصايا الكتاب. مثل هذا تصير له حياة المسيح. ويستخدم المسيح أعضاءه كألات بر.
  2. دائم التناول من جسد الرب ودمه.
  3. لا ينكر إيمانه.

مُتَأَصِّلِينَ وَمَبْنِيِّينَ فِيهِ ROOTED AND BUILT UP IN HIM.

مُتَأَصِّلِينَ... فِيهِ = التشبيه هنا بالنبات، وهذا له جذور تمتد فى باطن الأرض، وكلما كان الجذر عميقاً يحصل على المياه فينمو النبات، وكلما كان قوياً ينمو النبات. لذلك كانت دعوة المسيح "أدخلوا إلى العمق". فكلما دخل المؤمن للعمق يصل للمياه (الروح القدس) فيكون غرساً روحياً. ولاحظ قوله فيه فنحن كلما نثبت فى المسيح ونتحد به ندخل للعمق فنرتوى من مياه الروح القدس وننمو فيه، فالروح يحل علينا فقط لأننا متحدين وثابتين فى المسيح (أف 15: 4). فأعضاء الجسد لابد وأن تنمو. ولا نمو إلاّ لو كنا ثابتين فيه ولا إرتواء من العمق إلاّ لو كنا ثابتين فيه. وكيف نثبت فيه كمؤمنين؟

  1. طبعاً مادمنا مؤمنين فلا محل للكلام عن الإيمان والمعمودية، فهذا موجود.
  2. تكون حياتنا منسجمة مع المسيح بلا سماح بأى إستخفاف بالخطية وأن نسلك فى قداسة. والتناول المستمر من جسد الرب ودمه.
  3. التمسك بالإيمان القويم، المسلَّم مرة للقديسين (يه 3).
  4. السلوك بمحبة نحو كل إنسان. فالله محبة، وحياة بلا محبة لا يحتملها الله.
  5. الإلتصاق المستمر بالله (صلاة – دراسة كتاب – تسبيح – اجتماعات..).
  6. زيادة أصوامنا كوسيلة للزهد فى محبة العالم. فالصوم والصلاة أسلحة ضد إبليس، كما قال السيد المسيح.

بإختصار يكون المسيح كل حياتنا. نحن كنا متأصلين فى آدم حين سقط، لذا إشتركنا فى عواقب الخطية. وهكذا صرنا متحدين مع المسيح كرأس جديد، ولنا الإشتراك معه فى الحياة التى يحياها الآن، وننتظر أن ننضم إليه فى المجد العتيد أن يُستعلن فينا.

مَبْنِيِّينَ... فِيهِ = التشبيه السابق كان المؤمن مشابهاً لنبات ينمو، وهنا يشبه المؤمن بحجارة حية فى مبنى أساسه المسيح. وهذان المثلان سبق للرسول إستخدامهما فى (1كو 9: 3). والمبنى يشير لتراص المؤمنين فى محبة ليكمل البناء. وثباتنا فى المسيح هو السبب فى أنه يعطينا حياته "لى الحياة هى المسيح" (فى 21: 1) + "أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فىَّ" (غل20: 2). وبهذا نكون حجارة حية.

مُوَطَّدِينَ فِي الإِيمَانِ = يوطد أى يثبت أو يرسخ. فقطعاً كلما تأصل المسيحى فى المسيح يثبت إيمانه، الإيمان الصحيح الذى قبلناه عن طريق الرسل والكنيسة. وموطدين = غير مزعزعين. كَمَا عُلِّمْتُمْ = كما علمكم أبفراس وليس المتهودون أو الغنوسيون مُتَفَاضِلِينَ فِيهِ بِالشُّكْرِ = متفاضلين أى مكثرين أو فائضين أو يزداد إيمانكم فيه = أى فى الإيمان. وكيف يزداد إيماننا؟ بِالشُّكْرِ. فمن يحيا شاكراً على كل شىء يزداد إيمانه، ومن يحيا متذمراً ينقص إيمانه، لذلك تعلمنا الكنيسة أن نبدأ كل صلواتنا بالشكر، ونشكر على كل حال وفى كل حال. وكلما إزداد الإيمان يزداد فرحنا فنشكر، وكلما عشنا حياة الشكر يزداد إيماننا. وهكذا...

لقد كانت البرية بالنسبة لشعب إسرائيل مدرسة للإيمان، علمهم فيها الله حياة الإيمان. (راجع مقدمة سفر الخروج تحت عنوان مدرسة الإيمان). فهم عرفوا الله بالعيان فى مصر، عرفوه كإله جبار إذ رأوا بعيونهم الضربات العشر وشق البحر. لكن الله لا يمكن إرضاؤه إلاّ بالإيمان أى الثقة فيه وفى أحكامه كإله صانع خيرات (عب 6: 11). فكان لابد أن ينقلهم الله إلى حياة الإيمان، فإننا فى هذا العالم نسلك بالإيمان لا بالعيان (2كو7: 5). والإيمان هو الثقة بأمور لا تُرى (عب1: 11). وكان هذا بأن الله سمح لهم ببعض التجارب (ماء مر / لا ماء / لا طعام...) وكان عليهم أن يذكروا أعمال الله السابقة معهم، ولكنهم تذمروا فلم يزداد إيمانهم، لم يستفيدوا من مدرسة الإيمان. والله يسلك معنا حتى الآن بنفس الطريقة، فهو يسمح ببعض التجارب، ومن يحيا حياة الشكر وسط التجارب واثقا أن الله سيتدخل، يرى يد الله حين تمتد لتنقذه من التجربة، فينمو إيمانه، ومن يتذمر يفقد رؤية يد الله فلا ينمو إيمانه، ولا يستفيد من درس التجربة، ولا يرضى الله.

الأعداد 8-10

الآيات (8 - 10): -

"8اُنْظُرُوا أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدٌ يَسْبِيكُمْ بِالْفَلْسَفَةِ وَبِغُرُورٍ بَاطِل، حَسَبَ تَقْلِيدِ النَّاسِ، حَسَبَ أَرْكَانِ الْعَالَمِ، وَلَيْسَ حَسَبَ الْمَسِيحِ. 9فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا. 10 وَأَنْتُمْ مَمْلُوؤُونَ فِيهِ، الَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ.".

فى آية 8 نرى الرسول يحذر من خطرين.. الْفَلْسَفَةِ = أى الغنوسية وخطرها أنها تعلم أن الخلاص بدون دم المسيح.. والتهود = تَقْلِيدِ النَّاسِ هذه لا تعنى التقاليد بصفة عامة، بل تعنى تعاليم الآباء اليهود التى تخالف الناموس والتى هاجمها السيد المسيح (مت 15: 2، 6) وخطر هذه.

1) أنها تخالف الناموس صراحة (مت15: 3، 6 + مر7: 8، 9، 13).

2) وهناك خطر من إتباع الناموس حرفياً دون روح الناموس،.

وهذا يعود بنا للذبائح والختان والتطهيرات الجسدية.. إلخ وهذا ما يعلِّم به المتهودون، وهذا هو المقصود فى هذه الآية من قوله تَقْلِيدِ النَّاسِ = أى ما يعلم به المتهودون من ضرورة الإلتزام بحرف الناموس والإرتداد لطقوس الناموس التى كانت رمزا للمسيح، فإذا جاء المرموز إليه يبطل الرمز.

بَاطِل = جوفاء وغاشة وخادعة تعد بالسعادة ولكن لا تعطيها. والرسول أسمى التهود تقليد الناس، لأنهم تمسكوا بتقاليد الناس أى أبائهم أكثر من تمسكهم بالناموس نفسه، وهذا ما قادهم لإنكار المسيح. أما الرسل وغيرهم من الذين آمنوا بالمسيح فهؤلاء قد تمسكوا بالناموس قلبياً لإرضاء الله وليس لإشباع غرورهم وكبريائهم وإثبات برهم الذاتى، فأدركوا المسيح وإكتشفوه فغاية الناموس هو المسيح (رو 4: 10).

حَسَبَ أَرْكَانِ الْعَالَمِ = كلمة أركان تشير لغوياً للحروف التى تتكون منها اللغة وهذه الكلمة تعنى الأوليات. ويقصد الرسول أن هذه الفلسفات البشرية لا تتقدم إلى ما هو أبعد من معرفة المحسوسات والقشور الخارجية. ولذلك إستخدم الرسول كلمة أركان العالم إشارة للعناصر الضعيفة أو الأوليات.

فالفلسفة أو الطقوس الناموسية لن توصل أحداً لأن يعرف الله، فلن يعرف أحد الله إلا ّ بيسوع المسيح. فنحن صرنا أبناء لله بالمسيح يسوع، وصرنا قادرين أن نرى الآب حين نرى المسيح. وقوله وَلَيْسَ حَسَبَ الْمَسِيحِ = أى أن تقليد الناس والفلسفة مصدرهم ليس المسيح، بل تصورات الناس وهذه لا ترضى المسيح.

فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا:

فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا:

كلمة اللاهوت تعنى الكيان الإلهى والجوهر الإلهى. ففى التجسد لم يتحد جزء من اللاهوت مع جسد المسيح بل كل اللاهوت. اللاهوت بالكامل إتحد بالجسد. فالمسيح هو الله حتى لو إتخذ شكل إنسان. وكلمة يَحِلُّ = جاءت بمعنى الإستمرار أى أن الألوهية ساكنة فيه على الدوام، كل الطبيعة الإلهية فى كمالها.

وهذه الآية تشير أيضاً لأن المسيح لم يترك جسده بعد أن أنهى عمله الفدائى بل لقد كان إتحاد اللاهوت بالجسد (الناسوت) بلا إختلاط ولا إمتزاج ولا تغيير ولم ينفصلا قط لحظة واحدة ولا طرفة عين. وفى هذه الآية نرى رداً على الغنوسيين فالمسيح هو الله نفسه وليس أيوناً وَسَطاً. وكان اتحاد اللاهوت بالناسوت بركة لنا. فنحن بالمعمودية والتناول نتحد بجسده، فنمتلئ من كل بركة نحتاج اليها.

وَأَنْتُمْ مَمْلُوؤُونَ فِيهِ = أى فى المسيح نمتلىء من كل البركات الإلهية. "من ملئه نحن جميعاً أخذنا ونعمة فوق نعمة" (يو16: 1). اى نأخذ كل ما نحتاجه لخلاصنا، فنمتلىء بكل حكمة وقداسة من خلال اتحادنا به، ونأخذ ايضا حياة أبدية وقداسة ومجد. وبحياة التوبة نستمر فى حياة الثبات فيه. ولا نحتاج أن نطلب شيئاً لا يوجد فيه، فهو وحده كفايتنا ولا نحتاج إلى أى فلسفة أو تقليد يهودى أو أركان اليهودية أو أركان العالم (قيل أن هذه الكلمة تشير لمن يعتقدون فى النجوم وأنها تشير للمستقبل، وكان الملوك يستشيرون المنجمين بل حتى الآن هناك عرافون يعملون كمستشارين لزعماء العالم. كل ما هو خارج المسيح فهو باطل ولا يقود سوى للموت. الَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ رِيَاسَةٍ = إذاً لا يخدعكم أحد بعبادة الملائكة، فالمسيح هو رئيس الملائكة بحكم أنه خالقهم.

الأعداد 11-12

الآيات (11 - 12): -

"11 وَبِهِ أَيْضًا خُتِنْتُمْ خِتَانًا غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، بِخَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا الْبَشَرِيَّةِ، بِخِتَانِ الْمَسِيحِ. 12مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ، الَّتِي فِيهَا أُقِمْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ بِإِيمَانِ عَمَلِ اللهِ، الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ.".

قارن مع (رو6: 3 - 8). المتهودون كانوا يلزمون المؤمنين أن يختتنوا كشرط للخلاص وبهذا ضللوا أهل كولوسى. وهنا فالرسول يقول أن الأمم إذ إعتمدوا نالوا الختان الروحى من المسيح، وهذا يعنى الموت والقيامة مع المسيح، كما أن الختان الجسدى فيه موت لجزء من الجسم ليحيا الإنسان.

ومن نال ختان القلب الروحى لا حاجة له لختان الجسد، ولا عذر للمتهودين فى عدم فهمهم لهذه الحقيقة، فالناموس تكلم عن ختان القلب (تث 10: 16) + (تث 6: 30). ونرى هنا أن ختان القلب يصنعه الله، ومن يختن الله قلبه يحيا.

ونلاحظ فى (تث16: 10) أنه يطلب منهم ختان القلب مع أنهم قد خُتنوا جسدياً، ومن هذا نفهم أن الله يهتم بختان القلب أكثر من ختان الجسد.

بل أن الختان اليهودى أقل كثيراً من ختان الروح فى المعمودية، فالختان اليهودى مصنوع بيد إنسان أما الختان الروحى فهو بعمل إلهى = غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ. وذلك لأن المعمودية لها عمل روحى فهى موت مع المسيح وقيامة معه متحدين به (رو6). وبها ننفصل عن نسبتنا لآدم ونصير منتسبين لله. وبها نقوم مع المسيح من موت الخطية. وبها تتجدد طبيعتنا كلها. أما الختان اليهودى فليس سوى علامة فى الجسد تؤكد لليهودى أنه من شعب الله وراجع (رو29: 2) لترى أن الذى يختن القلب هو الروح القدس.

بِإِيمَانِ عَمَلِ اللهِ، الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ = لا معمودية إلاّ بعد الإيمان بما عمله الله بالمسيح. والقوة التى يعطيها لنا المسيح لنسلك فى جدة الحياة (رو4: 6). فالقوة التى أقامت المسيح من الموت ستقيمنا.

1) الآن من موت الخطية وأعطتنا حياة أبدية.

2) فى الأبدية (أف 1: 20، 19).

3) فمن يؤمن بالمسيح يكون له شركة فى قيامته روحياً. فقوة الله التى عملت فى المسيح لتقيمه هى نفسها تكون للمؤمن تعمل فيه روحياً ليحيا غير مستعبدٍ للخطية.

خَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا الْبَشَرِيَّةِ = جسم البشرية = إنساننا العتيق = عبارة عن حالتنا ونسبتنا إلى آدم أو الطبيعة البشرية الساقطة التى ورثناها منه. وقوله خلع هو إشارة لأننا نخلع الطبيعة القديمة، ويموت فينا الإنسان العتيق الذى على شكل آدم ويولد إنسان جديد يتجدد حسب صورة خالقه (كو3: 10، 9). وبهذا الإنسان الجديد يبطل سلطان الخطية على الإنسان وينشىء فيه القوى الروحية القادرة بالمسيح على أن تبطل كل عمل للخطية وكافة خطايا الطبيعة الفاسدة (رو14: 6). ونجد هنا مقابلة بين الختان الذى هو قطع قطعة صغيرة من اللحم وتركها لتموت، وبين المعمودية التى هى عمل روحى عظيم الأهمية الذى جرى فينا حين ولدنا من الله فى المعمودية، وبه نلنا الحياة الجديدة. وكان الختان يميز شعب اليهود عن سائر الأمم وبه يصيرون منتسبين لله. وبالمعمودية نصير أولاداً له اذ اتحدنا بابنه. ولنلاحظ أن المسيح بعد موته وقيامته لم يذهب للهيكل، وإنتهت كل علاقة له مع الطقوس اليهودية، لذلك بعد معموديتنا وهى موت مع المسيح وقيامة تنتهى علاقتنا بالناموس وطقوسه. ونحن نعلم أن الخطية تبقى فينا بعد المعمودية ولكن لا يجوز أن تسود علينا بل بنعمة الله نسود نحن عليها (رو14: 6).

مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ = لذلك تقوم الكنيسة الأرثوذكسية بتغطيس المعمد ليحصل الدفن. وقوله مدفونين تشير لإستمرار الموت مع المسيح = موت الإنسان العتيق، وذلك بإماتة أنفسنا أمام الخطية (رو6: 11 + كو3: 5). ونلاحظ أن موت المسيح بحياة آدم له فعل مستمر، وقيامة المسيح من الأموات بحياة أبدية لها فعل مستمر. وهذا يعنى أن كل من يعتمد يشترك مع المسيح فى فعل موته بحياة آدم، ليقوم مع المسيح بحياته المقامة من الأموات وهى حياة أبدية.

العدد 13

آية (13): -

"13 وَإِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فِي الْخَطَايَا وَغَلَفِ جَسَدِكُمْ، أَحْيَاكُمْ مَعَهُ، مُسَامِحًا لَكُمْ بِجَمِيعِ الْخَطَايَا.".

من أول هذه الآية إلى آخر الإصحاح يتحدث عن إشتراك المؤمنين مع المسيح فى موته وقيامته، وأنهم به يستغنون عن كل حكمة بشرية وفرائض قديمة لم تستطع أن تعطيهم شيئاً من إحتياجاتهم. كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فِي الْخَطَايَا = الخطية تعنى الموت الروحى أى الإنفصال عن الله، ولا يستطيع أحد أن يقيم الموتى ويحييهم سوى الله. أَحْيَاكُمْ = كيف؟ بأن أعطانا حياة جديدة من الماء والروح. وهو أحيانا بنفس الحياة التى له فى القيامة، صار لنا حياة جديدة. غَلَفِ جَسَدِكُمْ = يشير لحالة الإبتعاد والنجاسة التى كنا عليها والرغبات الشريرة التى كانت تعمل فينا بسبب الخطية، وهذه فيها إشارة للخطية الأصلية، أو الفساد الداخلى وحب الخطية أو القلب غير المختون. مُسَامِحًا لَكُمْ بِجَمِيعِ الْخَطَايَا = الله لا يحيينا ثم يتركنا تحت أثقال خطايانا بل يعطينا قوة لنسود على الخطية، وهو رفع عنا كل خطايانا السابقة وأقامنا من موتنا الأبدى ويعطينا قوة ويساندنا بنعمته حتى لا تسود علينا الخطية ثانية فنموت.

العدد 14

آية (14): -

"14إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدًّا لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّرًا إِيَّاهُ بِالصَّلِيبِ.".

الصَّكَّ = هو فى اليونانية إقرار الإنسان مكتوباً بيده بأنه مدين وعاجز عن إيفاء هذا الدين. والصك هو الوثيقة التى سجل بها عصياننا وتمرُّدنا على وصايا الناموس. الناموس طالب الإنسان بما لا يستطيع أن يعمله، وحكم بالموت على من يخالف، لذلك كان الناموس ضِدًّا لَنَا.

مُسَمِّرًا إِيَّاهُ بِالصَّلِيبِ = قيل أنه كانت هناك عادة جارية وقتئذ، أن من كانت عنده ورقة مالية على أحد، ثم قبض قيمتها، يعلقها بالمسمار بالعتبة أو بالحائط دلالة على أنه إستوفى حقه من المديون. وقيل أنه عندما كان يُلغى قانون أو أمر ما، كان الرومان يرفعونه ليثبت بمسمار فى شىء مرتفع. ونحن ننظر للصليب لنرى فيه البرهان الشرعى أن الدين الباهظ الذى كان علينا لعدل الله قد وُفىَّ تماماً. فاليهود عجزوا عن أن يوفوا وصايا الناموس، وهم قالوا كل ما تكلم به الرب نفعل (خر8: 19 + 3: 24). وهم بهذا وَقَّعوا على أنفسهم صكاً بإلتزامهم بالناموس. ولكن الناموس صار حكماً وقاضياً عليهم بالموت. والأمم عجزوا أن يوفوا بالناموس الأدبى (الضمير)، فهم أخطأوا ضد ما يشير به ضميرهم. والقانون العام أن النفس التى تخطىء تموت (خر20: 18).

ولاحظ أن الأمم إذ ليس لهم ناموس هم ناموس لأنفسهم (رو14: 2). وهم أخطأوا ضد ما يعرفون داخلهم أنه الحق. وبالصليب محا الله الصك الذى علينا معلناً براءة الإنسان من حكم الموت إذ اتحد المسيح بالجسد البشرى ومات بالنيابة عنا. أى لم يعد للناموس أى مطلب علينا، فقد تمم المسيح بموته كل فرائض الناموس، وأكمل بموته كل ما كان يشتكى به الناموس علينا. فيحسب كل من هو ثابت فيه كاملا (كو1: 28). وهناك 3 كلمات تعبر عن أن المسيح وفَّى الدين الذى كان مكتوباً فى الصك هى محا / رفع / مزق بالمسمار. وبهذا أبطل مفعول الصك. مِنَ الْوَسَطِ = من طريقنا بحسب الترجمة الانجليزية.

العدد 15

آية (15): -

"15إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَارًا، ظَافِرًا بِهِمْ فِيهِ.".

الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ = هم الملائكة الساقطون إبليس وجنوده، الله جردهم من كل سلطانهم ونفوذهم. الرياسات والسلاطين هم درجات للملائكة وحين سقط الشيطان جَرَّ معه من بعض الرتب الملائكية. فالإنسان كان مستعبداً لإبليس حينما أخطأ. وكان إبليس يقبض على كل نفس عند إنتقالها، هو كان يطالبنا بثمن الخطايا واللذات التى سهلها لنا وأتاحها لنا، وإذ لم يكن للإنسان ما يوفى به، كان يقبض على الإنسان نفسه ويلقيه فى جهنم (وهذا ما أشار إليه العهد القديم، فإذا إستدان إنسان من آخر، ولم يستطيع أن يوفى كان يعمل كعبد عنده 6 سنين ويتحرر فى السابعة، رمزاً للراحة والحرية التى بالصليب والتى كانت من خلال اليوم السابع). والمسيح هو أول من إستطاع أن يقول "رئيس هذا العالم آتٍ وليس له فىَّ شىء" (يو30: 14) فهو وحده الذى كان بلا خطية "من منكم يبكتنى على خطية". والآن كل من هو ثابت فى المسيح يستطيع أن يقول هذا "رئيس هذا العالم آتٍ وليس له فىَّ شىء" بل أنه فى لحظة الصليب، لحظة موت المسيح، أعلن المسيح لاهوته وقيد الشيطان وأدانه بتهمة التعدى على الله وتهييجه اليهود ضده بدون سبب. وبهذا أنهى المسيح بصليبه سلطان إبليس ووفَّى الدين وحرر الإنسان من عبودية إبليس = جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ = أنهى سلطانهم وإستعبادهم لنا بل وشكايتهم علينا، فالمسيح وفَّى الدين الذي علينا (رو8: 32 – 34) بل ذهب لعقر دارهم أى الجحيم وأنقذ الذين ماتوا على الرجاء فاتحاً لهم الفردوس (لو11: 22، 21).

أَشْهَرَهُمْ جِهَارًا = لقد تركهم المسيح يُهَيِّجُونَ الجميع، يهوداً وأمم عليه ليصلبوه، ففضح شرهم وخداعهم للإنسان، فصار الانسان بلا عذر. واظهر الله كراهيتهم لنا وفشلهم، فهم لا يستطيعون عمل شىء إلاّ ما يسمح به الله وما يريده الله. هم أرادوا بالصليب شراً بالمسيح، وأراد الله بالصليب الخير لكل البشرية. لذلك فالله يضحك على كل مؤامراتهم، فمهما فعلوا وتآمروا فهم لن يفعلوا سوى ما يريده الله (مز2: 1 - 5). وبالصليب إنتصر المسيح على إبليس وعلى الموت = ظَافِرًا بِهِمْ فِيهِ. ولاحظ أن كل من هو ثابت فى المسيح الآن يستطيع ان يقول مع المسيح: "رئيس هذا العالم آتٍ وليس له فى شىء" بل يصلى للعذراء الأم "وعند مفارقة نفسى من جسدى إحضرى عندى" (قطع الغروب). فالعذراء والقديسون والملائكة يستقبلون النفوس البارة الثابتة فى المسيح فى لحظات الموت. وكل من هو ثابت فى المسيح يكون له سلطان على إبليس. نحن الآن نحارب شيطاناً مهزوماً لا سلطان له علينا.

أَشْهَرَهُمْ جِهَارًا = السيد أظهر عداوة الشيطان للجنس البشرى ومؤامراته ليأتى لحظة الموت ليقبض على النفس التى كانت مديونة له، إذ خدعها بإغراءات الخطايا والمتع الدنيوية الشريرة. وحاول هذا مع المسيح كما تعود أن يقبض على كل النفوس من آدم حتى المسيح. ولكن المسيح وحده كان بلا خطية فلم يتمكن منه. ولكن ظهرت عداوته ضد الإنسان، وصار واضحا لنا أن كل خداعه بالخطايا وإثارة شهوات الجسد هو لإسقاطنا فيأتى لحظة الموت ويقبض على أرواحنا ليأخذها معه إلى الجحيم. فصار واضحا لنا أن كل إغراءات الخطية ما هى إلا خداع شيطانى مهلك أبديا لنا.

الأعداد 16-17

الآيات (16 - 17): -

"16فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ فِي أَكْل أَوْ شُرْبٍ، أَوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أَوْ هِلاَل أَوْ سَبْتٍ، 17الَّتِي هِيَ ظِلُّ الأُمُورِ الْعَتِيدَةِ، وَأَمَّا الْجَسَدُ فَلِلْمَسِيحِ.".

فَلاَ يَحْكُمْ = الفاء هنا تشير إلى أنه إذا كان المسيح قد هزم كل الأعداء الروحيين فإنه من الحماقة أن نرتد لفلسفات العالم أو أركان اليهود الضعيفة للخلاص، فالخلاص تم بالصليب، ولا خلاص لنا سوى بالموت مع المسيح وبالقيامة معه وهذا يتم بالمعمودية. (المعمودية = موت مع المسيح + نحيا حياة الإماتة عن الخطية + فنحيا بحياة المسيح فينا). وهنا يرد على المتهودين الذين يصرّون على منع مأكولات معينة كطريق للخلاص حسب الناموس. وهؤلاء المتهودون رفضوا الانجيل إذ أرادوا أن يمكثوا تحت الناموس، وطالبوا بتطبيق الشرائع حرفياً بكونها واهبة الخلاص، وهم أرادوا إرغام الأمم على ذلك. والرسول يطلب من المؤمنين رفض كل ذلك. وشريعة العهد القديم * حرمت بعض الأطعمة لُتجَسِّم للإنسان فعل النجاسة التى بالخطية، فمثلاً لا يؤكل الخنزير، لأن الخنزير يرتد للقاذورات مهما نظفوه (إشارة لإرتداد التائب لخطيته ثانية). وملاءة بطرس كانت تشير لتحليل أكل كل شىء، وهذا أيضاً تعليم المسيح (مت15: 18، 11). * الِهلاَل = بداية كل شهر هى عيد عند اليهود. * عِيدٍ = العيد يأتى كل عام. * السَبْتٍ = يأتى كل أسبوع. واليهود إحتفلوا بهذه الأيام بطريقة خاطئة حرفية ومنعوا عمل الخير فيها. أما الختان فصار رمزاً للمعمودية والذبائح صارت رمزاً للصليب. كل هذه الأمور لم يعد لها معنى بعد المسيح، بعد أن حررنا من نير الخطية، أما الأعياد اليهودية فكانت مجرد رمز للمسيحية = ظِلُّ الأُمُورِ الْعَتِيدَةِ.

أَمَّا الْجَسَدُ فَلِلْمَسِيحِ = ليس المطلوب من الجسد هو الإمتناع عن أكل أو شرب بل أن يمجد المسيح 1كو 20: 6. ولا يصح لأحد إستخدام هذه الآية للهجوم على الأصوام فى الكنيسة الأرثوذكسية، فالكنيسة لا تمنع أكلاً لأنه نجس بدليل أنه بعد إنتهاء فترة الصيام نأكل كل شىء. ولا يصح ان نطبق قول الرسول لاَ يَحْكُمْ على الكنيسة التى اعطاها المسيح هذا السلطان (مت 18: 18).

العدد 18

آية (18): -

"18لاَ يُخَسِّرْكُمْ أَحَدٌ الْجِعَالَةَ، رَاغِبًا فِي التَّوَاضُعِ وَعِبَادَةِ الْمَلاَئِكَةِ، مُتَدَاخِلاً فِي مَا لَمْ يَنْظُرْهُ، مُنْتَفِخًا بَاطِلاً مِنْ قِبَلِ ذِهْنِهِ الْجَسَدِيِّ.".

هنا يرد الرسول على المعلمين الكذبة من الغنوسيين الذين طالبوا بعِبَادَةِ الْمَلاَئِكَةِ بناء على حجة فاسدة وهى أن العبادة لله رأساً لا توافق التواضع الحقيقى أمام الله. فالله روح سامٍ جداً. والبشر من مادة فلذلك هم نجسون جداً فكيف يقف النجس أمام الله؟ والحل فى نظرهم عبادة الملائكة. وبولس هنا لا يهاجم التواضع الحقيقى الذى دعا إليه السيد المسيح (مت11: 29). بل التواضع الخاطىء الذى دعا إليه الغنوسيون. والمقصود من الآية طبعاً الدعوة لعبادة المسيح فقط.

الْجِعَالَةَ = أى الجائزة التى تُعطَى للمنتصر فى السباق، وهى هنا الوصول للسيد المسيح فى مجده، والحياة الأبدية معه فى المجد.

مُتَدَاخِلاً فِي مَا لَمْ يَنْظُرْهُ = لقد تظاهروا بدرجة فائقة من النمو الروحى، وأنهم نظروا ترتيب صفوف الملائكة فى عبادتهم وأنهم رأوا ذلك فى السماء إذ دخلوا فيها وما هذا إلا هلوسات ناتجة عن كبرياء وخداعات الشياطين. وهم عرضوا على الكنيسة أن تراعى ذلك فى ترتيب عبادتها، وهذا فيه إنتفاخ وكبرياء ومحاولة إثبات الذات = مُنْتَفِخًا بَاطِلاً = هذا الإنتفاخ هو من قِبَل إبليس المضلل الذى أوحى لأذهان هؤلاء بذلك = مِنْ قِبَلِ ذِهْنِهِ الْجَسَدِيِّ.

العدد 19

آية (19): -

"19 وَغَيْرَ مُتَمَسِّكٍ بِالرَّأْسِ الَّذِي مِنْهُ كُلُّ الْجَسَدِ بِمَفَاصِلَ وَرُبُطٍ، مُتَوَازِرًا وَمُقْتَرِنًا يَنْمُو نُمُوًّا مِنَ اللهِ.".

من ينتفخ ويقول ما سبق فى آية 18 يكون غير متمسك بالرأس الذى هو المسيح، والتمسك بغير المسيح سببه الكبرياء، وهذا هو السبب فى كل الهرطقات. فمن يتمسك بأحد غير المسيح يكون غير واثقاً فى المسيح، أو غير واثق أن المسيح قادر على العمل بمفرده، وفى التمسك بغير المسيح يضعف التمسك بالرأس. فلا رأس للكنيسة سوى المسيح، ومن يتمسك بالملائكة ويعبدهم يترك المسيح الرأس ويُبَدِّلَه ببعض الخلائق ويكون هذا كأنه عبادة أصنام. ونلاحظ فى هذه الآية أن أعضاء الكنيسة مرتبطون ببعضهم البعض كأعضاء جسد واحد، هم مرتبطون بالمحبة التى تقرنهم (كو2: 2). وكلهم مرتبطون بالمسيح الرأس، كرأس للجسد كله، فإذا كانت الكنيسة مرتبطة بالمسيح هذا الإرتباط فلا يمكن أن يدخل شىء بينها وبينه. ولو حدث فهذا يحرمنا من الحياة التى أحيانا بها الله فيه.

بِمَفَاصِلَ وَرُبُطٍ = الروح القدس يربط الأعضاء كلهم فى محبة ويثبتهم كلهم فى الرأس. مُتَوَازِرًا = نفهمها من (أف16: 4). فنحن كلنا نكمل بعضنا بعضاً، والمعنى أن كل عضو منا يؤازر الآخر أى يسنده ويدعمه ويقويه بما أعطاه له الله من مواهب نخدم بها بعضنا البعض (1بط4: 10) ولكن الرأس يتحكم فى كل الأعضاء. كما تتحكم الرأس بواسطة الأعصاب فى كل أعضاء الجسم. يَنْمُو = الجسد ينمو فى العدد وفى القداسة، وكل عضو ينمو طالما هو ثابت فى المسيح. راجع تفسير الآيات (أف4: 16، 15). ملحوظة: - الكنيسة تؤمن بشفاعة الملائكة، وهذه غير عبادة الملائكة، فنحن لا نعبد سوى المسيح، أما الشفاعة فهى محبة تجعل الكل يصلى لأجل الكل، وهذا ما طلبه الكتاب (يع16: 5). فهل لا يصح أن تنفذ العذراء هذه الآية وتطلب لأجلى إذا طلبت منها أن تصلى لأجلى، وهل ذلك لأنها ميتة؟ ‍‍ والكتاب يقول أن الله إله أحياء وليس إله أموات (مت32: 22). بل الكنيسة تصلى لأجل العذراء فى كل قداس (صلاة المجمع). وهذا ما نراه فى سفر الرؤيا، فالملائكة يسبحون الله على الخلاص الذى تم للبشر (رؤ 5: 9، 10، 13). فالمسيح وَحَّد السمائيين مع الأرضيين (أف10: 1). والله يقول أنا أكرم الذين يكرموننى (1صم30: 2). ويكون هذا بأن يستجيب الله شفاعتهم. فطلبة البار تقتدر كثيراً فى فعلها (يع 16: 1).

الأعداد 20-23

الآيات (20 - 23): -

"20إِذًا إِنْ كُنْتُمْ قَدْ مُتُّمْ مَعَ الْمَسِيحِ عَنْ أَرْكَانِ الْعَالَمِ، فَلِمَاذَا كَأَنَّكُمْ عَائِشُونَ فِي الْعَالَمِ؟ تُفْرَضُ عَلَيْكُمْ فَرَائِضُ: 21«لاَ تَمَسَّ! وَلاَ تَذُقْ! وَلاَ تَجُسَّ! » 22الَّتِي هِيَ جَمِيعُهَا لِلْفَنَاءِ فِي الاسْتِعْمَالِ، حَسَبَ وَصَايَا وَتَعَالِيمِ النَّاسِ، 23الَّتِي لَهَا حِكَايَةُ حِكْمَةٍ، بِعِبَادَةٍ نَافِلَةٍ، وَتَوَاضُعٍ، وَقَهْرِ الْجَسَدِ، لَيْسَ بِقِيمَةٍ مَا مِنْ جِهَةِ إِشْبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ.".

وصايا المتهودين لا تسود على من مات مع المسيح فى المعمودية لماذا؟ لأن موتنا مع المسيح حررنا من عبوديتنا للخطية أصلاً، وحررنا من الناموس، وصرنا للمسيح فقط، فلماذا الرموز والبدائيات التى كانت تشرح خطورة الخطية؟ لقد نضجنا الآن، فلا داعى لمرحلة الطفولة. عِبَادَةٍ نَافِلَةٍ = أى زيادات على الناموس أو الإفراط فى التمسك بالشكليات فى العبادة، وهذا يتفق مع الأهواء الشخصية ولم تأمر به الشريعة، كمن إعتبر الزواج نجاسة.

لاَ تَمَسَّ = كان الناموس يمنع لمس جثة الميت وإلاّ يتنجَّس الإنسان. ونلاحظ أن جميع الأشياء التى تعلقت بالناموس هى مادية. والتى تعلقت ببركات النعمة فى المسيح هى روحية تدوم للأبد.

لَهَا حِكَايَةُ حِكْمَةٍ = APPEARANCE OF WISDOM لها شكل الحكمة أو هيئتها، هى شىء شبيه بالحكمة. ولها تفسير آخر أن لها سمعة الحكمة. فظاهرياً كان هؤلاء يُحسبون حكماء. ولكن ما يظهر حكمة أمام الناس من هذه الأمور السابقة هو جهالة أمام الله، فالمسيح قد أغنانا عنها وعن كل حكمة إنسانية وتعاليم أناس بشر، هذه تعاليم بحسب إرادة الناس وليس بحسب إرادة الله.

إِذًا إِنْ كُنْتُمْ قَدْ مُتُّمْ مَعَ الْمَسِيحِ = الموت مع المسيح تم فى المعمودية، وبها أيضاً قد إقتنينا طبيعة جديدة تسمو وترتفع فى سلوكها عن كل الفرائض البدائية التى لا تصلح سوى للقُصَّرْ. فالرسول يقول.. "إذا كنتم قد متم عن الخطية فلماذا تعودون لرموز قديمة كانت فقط للتأديب حينما كنتم أطفالاً روحياً؟ لماذا لم تنضجوا روحياً كمؤمنين، ومازلتم تسلكون كأطفال قُصَّر؟ أو كأهل العالم الذين يحتاجون إلى فروض خارجية لضبط وتهذيب سلوكياتهم مثل إعتبار أن بعض المأكولات أو المشروبات نجسة، مع أن جميعها سيزول، بإستعمالكم لها = جَمِيعُهَا لِلْفَنَاءِ فِي الاسْتِعْمَالِ. ولن يكون لها تأثير على النفس أو الروح أو الذهن. كما أن جميع هذه الفرائض الغنوسية وتعاليم آباء اليهود لا تزيد عن كونها فرائض بشرية، كما أن حتى فرائض الناموس بعد أن مزق المسيح الصك الذى علينا ما عُدنا ملزَمين بها، وصار من يفرضها عليكم هم البشر وليس الله. وللأسف فإن هؤلاء المعلمين يخدعونكم، ويقدمون لكم تعاليمهم فى مظهر الحكمة، ولكى تحوز تعاليمهم قبولكم فهم يفرطون فى التمسك بشكليات العبادة كما يسنونها مستترين فى إتضاع مزيف ويمعنون فى إذلال أجسادهم = قَهْرِ الْجَسَدِ. فهم يظنون أن الجسد هو مصدر الشر فيهم، فهم إعتقدوا أن المادة شر. مع أن الواقع يثبت بالدليل القاطع، أن هذه التعاليم ليس لها أى قيمة تذكر فى كبح جماح الشهوات الجسدية، بل تنشىء فيمن يتمسك بها الكبرياء والإتكال على البر الذاتى فيحرم نعمة الله التى تشبع النفس البشرية بتجديدها وارتباطها بالرب. أما الصوم والبتولية فى المسيحية لا يعتبران الطعام أو الزواج نجاسة، بل فيهما ضبط للشهوات منعاً للإندفاع، ولكى يكون هناك فرصة للتعرف على لذة العلاقة مع الله، فاللذة لا تكمن فقط فى الطعام والشراب والجنس، بل هناك لذة روحية موجودة فى الصلاة والعلاقة مع الله، وعلينا أن نكتشفها والكنيسة تساعدنا على ذلك بتحديد أوقات للصوم وزيادة الصلوات والإمتناع عن الملذات الجنسية للمتزوجين حتى يتفرغوا للرب، وهذا ما قاله الرسول (1كو5: 7). أما الغنوسيون فاعتبروا أن الزواج وبعض الأطعمة نجاسة. لذلك يهاجمهم الرسول. والكنيسة إذا إمتنعت عن أكل اللحم يكون هذا لفترة تعود بعدها لأكل اللحم فهى لا تعتبر اللحم نجاسة.

إِشْبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ = ظن الغنوسيون أن فى النسك إشباع للبشرية. ولكن فى الحقيقة هم أشبعوا غرور الإنسان وملأوه كبرياء، ومحبة فى الظهور والإفتخار أمام الناس، وشعور الإنسان أنه متميز عن الباقين. وهذه كمياه البحر لا تروى أحداً بل تزيد من الشعور بالعطش. فلا شبع خارج عن المسيح وهذا هو هدف النسك المسيحى الذى غايته وهدفه الشبع بالمسيح الذى يشبع حقاً النفس والجسد والروح.

No items found

الأصحاح الثالث - تفسير الرسالة إلى كولوسي - القمص أنطونيوس فكري

الأصحاح الأول - تفسير الرسالة إلى كولوسي - القمص أنطونيوس فكري

تفاسير الرسالة إلى كولوسي الأصحاح 2
تفاسير الرسالة إلى كولوسي الأصحاح 2