قراءة في «سِيَر البِيْعَة المُقَدَّسَة».. طَوْر التَّكوين (4) – الأستاذ شريف رمزي

كارت التعريف بالمقال

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب الأستاذ شريف رمزي
التصنيفات سير قديسين وشخصيات
آخر تحديث 19 يونيو 2021


قراءة في «سِيَر البِيْعَة المُقَدَّسَة».. طَوْر التَّكوين (4)

شريف رمزي - باحث في التاريخ الكنسيّ.

26 فبراير 2021 - 19 امشير 1737 ش.

نُتابع حديثنا عن الكُتَّابِ الَّذين أسهَموا في تكوينِ «سِيَر البِيْعَة المُقَدَّسَة»، في إطارِ دراسةٍ مُتعمِّقةٍ لأقدمِ مخطوطاتهِ..

5) الأنبا ميخائيل أُسقُف تِنِّيس (الدِّمراويّ): نشأ في مدينةِ «دمرو» (مكانها حاليًا قرية دمرو الخمارة التَّابعة لمركز المحلَّة الكُبرى بمُحافظةِ الغربيَّة)، وهذه المدينة اتَّخَذها بعض الآباء البطاركة مكانًا للإقامةِ ومقرًّا للكُرسيِّ البطريركيّ، وشَيَّد فيها البابا زخاريَّاس / 64 (1004 - 1031م) كنيسة كبيرة، أتَمّ بناءها خليفته البابا شنوده الثَّاني / 65 (1032 - 1046م)، وأنفق فيها مالاً كثيرًا وفاءً لِما كان قد نذره قبل بطريركيَّته، ولمَّا تنيَّح دفنوه فيها. ولكثرةِ كنائسها عُرِفَت المدينة بـ«دمرو الكنائس».

شهِد «ميخائيل» في طُفولتهِ الاضطهاد الشَّنيع الَّذي شَّنَّه الخليفة الفاطميّ الحاكم بأمر الله (996 - 1021م)، وتِسع سنوات عِجاف كانت بالنِّسبةِ للمسيحيِّين أشبه بالكابوس، وكانت العِبادة الجَماعيَّة في الكنائسِ أشبه بحُلمٍ بعيد المَنال. وفي طُفولتهِ تعَلَّم «ميخائيل» حِرفة النِّجارة: [وأُعلِمكُم أُعجوبة أعلَمَني بها والدي الجسدانيّ، وكانت صِناعته البِناء وفيه دين ومَحبَّة، لأنَّني أنا البائِس كُنت طِفلاً في زَمَنِ هذا الضِّيق، فأخَذَني في صُحبَتِهِ يَومًا وهو مُتَوَجِّه إلى ضَيعَةٍ يَبني فيها، وكُنت أنا أتَعَلَّم صِناعة النِّجارة مِنه لأنَّه كان نَجَّارًا وبَنَّاء].

وبلا شَكٍّ كان لعاملِ الاضطهاد بالِغ الأثر في تشكيلِ وعيه ووجدانه، لا سيَّما وأنَّ والده كان من بين أولئك الَّذين تجرَّعوا مرارة ذلك الاضطهاد وحصدوا بركاته.. وما سمعه «ميخائيل» من والدهِ نقله إلينا بنصِّهِ في «سِيَرِ البِيْعة»: [كُنت أعمَل بمصر فلَحِقني ضَعف فخِفت أنْ يَشتَدّ بي الوَجَع ولَيس عِندي مَن يَخدِمَني فخَرَجت ماشيًا قَليلاً قَليلاً إلى السَّاحِلِ فوَجَدت مَركَبًا مُنحَدِرًا إلى المَحَلَّةِ رَكَبتُ فيه، وكان المَركَب موقَرًا (مُحمَّلاً) بالنَّاسِ وبَعضَهم يُضَيِّق على بَعضٍ مِن كَثرَتِهِم... وأنا في وَسَطِ النَّاس مُطَّرِحًا وَجِعًا والنَّاس يُضَيِّقون عليَّ ويَلكُزوني (يلكموني) ويَدفَعوني ويَقولون لي: يا مَرذول يا كَلْب يا نَصرانيّ. ويُضَيِّقون عليَّ ويهزأون بي بكُلِّ فَنٍّ مِن الفُنونِ ويَنسِبون إليَّ ما يَفعَلونه مِن القَبيحِ كَذِبًا. فلمَّا زاد عليَّ أمرهم رَفَعت عَيني إلى السَّماءِ... ورأيت السَّيِّد المسيح مَلِك المَجد].

بعض مخطوطات «سِيَر البِيْعة» تُشير إلى رِسامةِ «ميخائيل» شمَّاسًا بيد البابا زخاريَّاس، ثُمَّ قِسًّا بيد البابا شنوده الثَّاني. أمَّا أقدَم روايات «سِيَر البِيْعة» - ولعلَّها الرُّواية الأدَقّ - فتُشير إلى رِسامتهِ شمَّاسًا بيد البابا شنوده، ومن الرُّوايةِ نفسها نستنتج أنَّه لم يَكُن لميخائيل أيّ دور في الحياةِ الكنسيَّة قبل أنْ يختاره الأنبا شنوده كاتبًا له: [وأنا البائِس ميخائيل الغَير مُستَحِقّ (أنْ أُدعَى) أُسقُف بتِنِّيس، كُنت يَومَئِذٍ شَمَّاسًا... وكُنت بَين يَدَيه كاتِبًا لأنَّ قَومًا وَصَفُوني له فأخَذَني أكتُب له].

والإشارة إلى عدمِ وجود سابق معرفة بين البابا شنوده الثَّاني (وكان قبل بطريركيَّته قِسًا بديرِ أبو مقار وشيخًا من شيوخ برِّيَّة شيهيت)، و«ميخائيل الدِّمراويّ»، قبل أنْ يختاره البابا كاتبًا له ويرسمه شمَّاسًا، تقودنا إلى إعادةِ النَّظرِ في الاعتقادِ الشَّائعِ بأنَّ «ميخائيل» كان راهبًا بديرِ أبو مقار، أو أنَّه كان راهبًا بالأساس! وهو اعتقاد يستند فقط على احتفاظِ مكتبة هذا الدَّير بنُسخةٍ من السِّيَرِ الَّتي كتبها ميخائيل.

وما من شكٍّ في أنَّه كان لهذا الشَّمَّاس المُبارك - الَّذي بدأ حياته كصبي نجَّار - ما يؤهله لأنْ ينال نعمةً في عيني البابا خرستوذولُس / 66 (1047 - 1077م) ليرتقي به من وظيفةِ كاتب القلاَّية إلى كُرسيِّ الأُسقُفيَّة وتقليده مهام كاتب السِّنودُس (سكرتارية المَجمَع المُقدَّس): [ومِن بَعدِ هذه الأيَّام أقسَم الأبّ أنبا إخرسطاذولُس البَطريَرك كاتِبًا له أُسقُفًا على كُرسيِّ تِنِّيس، وهو فاضِلٌ عالِمٌ]. ومن المؤكَّدِ أنَّ تلك الرِّسامة قد جرَت في أوائلِ حبريَّة البابا خرستوذولُس، قبل أنْ يُسافر الأنبا ميخائيل إلى أنطاكية في عام 1049م حاملاً السِّنوديقا (الرِّسالة المجمعيَّة) إلى بطريركِها يوحنَّا الثَّامن (1049 - 1057م).

وقد دَوَّن الأنبا ميخائيل - باللُّغةِ القبطيَّة - سِيَر عشر بطاركة، من البابا ميخائيل الثَّالث / 56 (880 - 907م) إلى البابا سانوتيوس (شنوده) الثَّاني / 65 (1032 - 1046م): [و(وَجَدت) الَّذي تَضَمَّنته السِّيَر الَّتي رَتَّبها الآباء المُتَقَدِّمون الَّذين أُيِّدوا بروحِ القُدُس إلى الأبِّ سانوتيوس (شنوده)، وهذا الخامِس والخَمسون مِن الأبِّ الإنجيليّ الطَّاهِر الرَّسول البِكر البَشير ماري مَرقُس... وإلى زَمانِ شنوده الخامِس والسِّتِّين لم يُسَطِّروا شَيئًا، فسَطَّرت أنا البائِس إلَيهِ، وهو الَّذي وَسَمَني شَمَّاسًا بغَيرِ استِحقاقٍ].

ويُحدِّد الأنبا ميخائيل زمن كتابته لهذا الجُزء - وفقًا لأقدَمِ الرُّوايات - [في سَنةِ سَبع مائة وسَبعين للشُّهَداءِ] الموافقة لسنة 1054م، في حينِ أنَّ الشَّائع لدى الدَّارسين - وفقًا للمخطوطاتِ الأحدَث - أنَّه أتمّ ذلك الجُزء سنة 767ش / 1051م.

ولعلَّ أهم ما يُميِّز هذا الجُزء من السِّيَرِ، الدِّقَّة الَّتي كتَب بها الأنبا ميخائيل أحداثًا ووقائع كان مُعاصِرًا لها وشاهِدًا عليها، لا سيِّما المُتعَلِّقة باضطهادِ الخليفة الحاكِم والظُّروف الَّتي عاشتها الكنيسة في عهدهِ. ويُنَوِّه الأنبا ميخائيل في الوقتِ نفسه إلى اعتمادهِ على مصادرٍ شَّفهيَّةٍ في تأريخهِ للبطاركةِ السَّابقين، والوقائع الَّتي لم يُعاصِرها، وأبرزها أُعجوبة نقل الجبل المُقطَّم في حَبريَّةِ البابا أبرام بن زُرعة / 62 (975 - 978م)، وسيرة الواضح بن رجا المُعترِف في حَبريَّةِ البابا فيلوثاؤس / 63 (979 - 1003م).

فهو وإنْ لم يكُن مُعاصِرًا أو شاهد عيان لكُلِّ ما دَوَّنه، لكنَّه كمؤرِّخٍ ينقل إلينا ما تَحصَّل عليه من معلوماتٍ بواسطةِ أُناسٍ يثِق بهم، وكانت تُمَثِّل - بالنِّسبةِ له شَخصيًّا - حقائق تاريخيَّة: [قـال: الواجِب يا أحبَّائي أنْ نُسَطِّر لأجلِ المَحبَّة ما أخَّر الأوَّلون تَسطيره، مِمَّا شاهَدوه وعَرَفوه وكانوا خُدَّامًا للكَلِمةِ، الَّذي كان في البِيْعَةِ الأرثُذكسيَّة، والرُّعاة في كُلِّ جيلٍ. فطَلَبت مِن مَوهِبةِ روح القُدُس العَليّ مَعونة ضَعفي أنا البائِس الخاطِئ خائيل، لأبتَدئ وأجعَل لِساني النَّاقِص قَلَمًا سَريع الكِتابة، لكَيما يَتَحَرَّك بمَوهِبةِ روح القُدُس، فأكتُب ما سَمِعناه بآذانِنا وعَرَفناه مِن الصَّادِقين الَّذين يُقبَل قَولهم].

والدِّراسة المُتَعَمِّقة لِما أرَّخه الأنبا ميخائيل من سِيَرٍ؛ تُفيد بأنَّ الأحداث والوقائع الَّتي دَوَّنَها نتيجة مُعاصرته لها تتَّسِم بأنَّها أكثر دِقَّةً وموضوعيَّةً وتفصيلاً، وتتَضَمَّن تواريخًا مُحدَّدة، مُقارنة بتلك الَّتي وصلته بالتَّواترِ الشَّفَهيّ؛ وهو أمر ينطبق على مؤرِّخي «سِيَر البِيْعة» السَّابقين واللاَّحقين.

يُتْبَع.