قراءة في «سِيَر البِيعَة المُقَدَّسَة».. طَوْر التَّكوين (2) – الأستاذ شريف رمزي

كارت التعريف بالمقال

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب الأستاذ شريف رمزي
التصنيفات سير قديسين وشخصيات
آخر تحديث 19 يونيو 2021


قراءة في «سِيَر البِيعَة المُقَدَّسَة».. طَوْر التَّكوين (2)

شريف رمزي - باحث في التاريخ الكنسيّ.

11 ديسمبر 2020 - 2 كيهك 1737 ش.

على مدى قُرونٍ خلَت كان الاعتقاد الشَّائع أنَّ الأنبا ساويرُس بن المُقَفَّع أُسقُف الأشمونَين، الَّذي ذاع صيته في القرنِ العاشر بفضلِ علمهِ ونبوغهِ وكثرة مؤلَّفاته اللاَّهوتيَّة، هو أوَّل من تصدَّى لجمعِ سِيَر الآباء البطاركة الَّتي كانت مُتناثِرة على أيامهِ في عددٍ من الأديرةِ القديمة، وترجمتها من اللُّغةِ القبطيَّة إلى اللُّغةِ العربيَّة، ومن ثَمَّ إعادة صياغتها على النَّحوِ الَّذي وصَلَنا من خلالِ مخطوط «سِيَر البِيْعَة المُقَدَّسَة». لكن الدِّراسات الحديثة الَّتي أُجريَت في هذا المضمار تنفي عن ابنِ المُقَفَّع ذلك الدَّور، وتَنسب العمل بصورتهِ الحالية إلى الشَّمَّاسِ الإسكندرانيّ «موهوب بن منصور بن مُفَرِّج»، ومُؤلِّفين آخرين في أزمنةٍ تالية.

إنَّ قراءة مُتعمِّقة في «سِيَر البِيْعَة» تَكشِف بجلاءٍ عن مؤلِّفيهِ الحقيقيِّين - وحتَّى بعض الرُّواة والنُّسَّاخ والمُهتَمِّين - الَّذين نَدين لهُم بالفضلِ كون إسهامهم كان هو العامل الأبرَز في تخليدِ سِيَر بطاركة كنيستنا - مع صفحاتٍ من تاريخِ مصر - وحِفظها من الضَّياعِ.

في السُّطورِ التَّالية نُحاول - باختصارٍ - استدعاء الدَّور الَّذي أدَّاه كلّ واحد من هؤلاءِ إلى دائرةِ الضَّوء.. (1).

1) مينا: يميل بعض الدَّارسين إلى الاعتقادِ بأنَّه كان راهبًا بدَيرِ القدِّيس الأنبا شنوده (المعروف بالدَّير الأبيض)، في فترةٍ ما بين القرنَين الخامس والثَّامن الميلاديّ. ولا نعرف الكثير عنه أو عن طبيعةِ الدَّور الَّذي أسهَم به في سِيَرِ البِيْعة المُقدَّسة، لكن اسمه يرِد في سياقٍ يُعطي الانطباع بأنَّه أوَّل مؤرِّخ قبطيّ يهتَمّ بتدوينِ سِيَر الآباء البطاركة، مُستفيدًا من المصادرِ التَّاريخيَّة الأقدَم، وبوجهٍ خاصّ تاريخ الكنيسة ليوسابيوس القيصريّ، فضلًا عن سِيَرٍ ومدائِح وميامر - باليونانيَّةِ والقبطيَّة - تؤرِّخ للبطاركةِ الأوائل من مار مرقس الرَّسول إلى البابا ديسقورُس الأوَّل / 25 (444 - 458م): [وبَعد ذلك كَتَب أفريقينوس وأوسابيوس ومينا، كُلّ التَّجارِب والجِهادات الَّتِي نالَت الرُّعاة والشَّعب إلى أنبا كيرلُّس البَطريَرك الحَكيم، وما جَرى بَينهم وبَين نسطور، وما لَقِيَه الأبّ ديسقورُس البَطريَرك بَعده في مَجمَعِ خَلقِدونيَة. ثُمَّ افترَقَت الأمانة الأرثُذكسيَّة والكراسيّ، حَتَّى أنَّه لم يَبق مَن يَكتُب سيرة، وانقَطَع ذلك. والرَّبّ دائِم إلى الأبَدِ].

يُعيِّد السِّنكساري القبطيّ في يوم 17 أمشير لاستشهاد قدِّيس اسمه مينا، كان راهبًا بأحدِ أديرة أخميم واستشهد بالقُربِ من الأشمونين في بدايةِ الحُكم الإسلاميّ (حوالي منتصف القرن السَّابع)، لاعترافهِ بالسَّيِّدِ المسيح وبأنَّه الله الظَّاهر في الجسدِ. فهل يكون هو نفسه مينا الكاتب؟

2) جرجة: كان راهبًا بديرِ القدِّيس أنبا مقار ببرِّيَّة شيهيت، [رَجُل حَكيم، مُحبّ للنَّاس، عارِف بالكُتُب الإلهيَّة، فاضِل]. وقد شغل وظيفة كاتب القلاَّية البطريركيَّة في عهد البابا يوحنَّا الثَّالث / 40 (677–686م)، ثُمَّ في عهدِ البابا سيمون الأوَّل / 42 (689–701م)، وهو - على الأرجَحِ - قد سيِّم شمَّاسًا بيَدِ الأوَّل ثُمَّ جرَت ترقيته إلى رُتبةِ أرشيدياكون (رئيس شمامسة) في عهدِ الأخير. وفي كلِّ الشَّدائدِ الَّتي نالها البابا يوحنَّا الثَّالث (أبوه الرُّحيّ) [كان كاتب هذه السِّيرة مَعَه لأنَّه ولده].

والظَّاهر لنا أنَّ الرَّاهب جرجة قد تدخَّل في الجُزءِ المنسوب إلى مينا الكاتب (لا سيِّما سيرة البابا كيرلُّس الأوَّل / 24، وسيرة البابا ديسقورُس الأوَّل / 25) - وكانت العادة أن ينسَخ الكاتب ما دُوِّن بأيدي سابقيه، مُضيفًا إليه ما تَيسَّر له من تواريخِ البطاركة وأخبارهم، ثُمَّ أكمَل - باللُّغةِ القبطيَّة - تدوين سِيَر البطاركة إلى البابا ألكسندروس الثَّاني / 43 (705–730م): [وكُلّ ما جَرى كُتِب به إلينا إلى ها هُنا فى ثاني عَشر سِيرَة مِن سِيَرِ البِيْعَة. وبَدأ بكَتْبِ ما بعد ذلك - مِن الأبِّ كيرلُّس، وهو في دَيرِ أبلاح يَسأل عنها، إلى الأبِّ المُعتَرِف ألكسندرُس - المُعَلِّم والكاتِب في زَمانِه، هو الشَّمَّاس الأرشيدياقُن صاحِب الأبّ البَطريَرك أنبا سيمون بَطريَرك الإسكندريَّة وكاتبه، الرَّاهِب أنبا مركة (جِرجَة). وكَتَب ذلك في جَبَلِ القِدِّيس أبو مَقار بوادي هبيب، وأعلَمَنا ما جَرى في زَمان مَرقيان الكافِر وما لَحِق آبائِنا مِن التَّعبِ].

ويتوقَّف الجُزء الَّذي أرَّخ له الرَّاهب جرجة عند خلافة سُليمان بن عبد المَلِك (715 - 717م): [وكَتَب ذلك في جَبَلِ القِدِّيس أبو مَقار بوادي هبيب، وأعلَمَنا ما جَرى في زَمانِ مَرقيان الكافِر وما لَحِق آباءَنا مِن التَّعبِ، وما جاء بَعدَهُم إلى زَمانِ سُلَيمٰن مَلِك المُسلِمين]. وقبل وفاة الإمبراطور البيزنطيّ أنسطاسيوس الثَّاني (713–715م): [وبعد سنتَين مَلَك نسطاسيوس إلى الآن، وهو زمان وَضع هذه السِّيرَة]. وهي إشارة إلى تَدوينِ ذلك الجُزء في غُضونِ عام 715م.

يتبع..

1) هذه الدِّراسة تُعدّ حلقة ضمن سلسلة يعود فضل السَّبق فيها أوَّلًا إلى الشَّمَّاس القبطيّ كامل صالح نخلة، الَّذي يُعَدّ كتابه «تاريخ وجداول بطاركة الإسكندريَّة القبط» (1943م)، أوَّل المُحاولات لدراسة «سِيَر البِيْعة» وتحديد الأدوار المُختلفة لمُحرِّريه، يليه المُستشرق الهولنديّ «Johannes den Heijer» الرَّائد في هذا المجال، والَّذي صدرت له في العام 1989م دراسة علميَّة مُستفيضة حول «سِيَر البِيْعة» ومؤلِّفيه. ثُمَّ أخيرًا وليس آخِرًا الأخ وديع الفرنسيسكانيّ والدُّكتور صموئيل قزمان. ولكلٍّ من هؤلاء الأساتذة الأفاضل إسهامه المُميَّز الَّذي ساعد في فَضِّ الاشتباك والتَّداخُل بين تلك الأدوار بعضها البعض.