روحانية السجود – الأستاذ بيشوي فخري

كارت التعريف بالمقال

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب الأستاذ بيشوي فخري
التصنيفات الحياة الروحية المسيحية - اللاهوت الروحي, مفاهيم في الحياة الروحية
آخر تحديث 16 فبراير 2022


روحانية السجود

وردت كلمة "السجود" في العهد الجديد 60 مرة وكلها كانت مقرونة بالسجود للسيد المسيح، فيما عدا بعض المرات التي كان السجود فيها موجه الى أشخاص آخرين، مثل سجود كرنيليوس لبطرس عندما دخل اليه مما استدعي بطرس أن يرفض السجود: "فاقامه بطرس قائلا قم أنا ايضا انسان" (اع 10: 25). وسجود يوحنا للملاك الذي ظهر له في سفر الرؤيا، مما استدعى الملاك أن يقول له انا عبد مثلك: "فخررت أمام رجليه لاسجد له. فقال لي انظر لا تفعل. انا عبد معك ومع اخوتك الذين عندهم شهادة يسوع. اسجد للّه. فان شهادة يسوع هي روح النبوة" (رؤ 19: 10).

في السجود معرفة وإعتراف بقيمة النفس وحقيقتها وأصلها، فتنزل النفس مع الجسد إلى التراب، ولما يجد الله إنسحاقها يرفعها مُجدَّدًا إلى فوق.. نتذكر ما فعلته الخطيئة فينا، ثم ندرك مافعلته النعمة فينا!

"كل مرة نسجد فيها الى الأرض نشير إلى كيف أحدرتنا الخطية إلى الأرض وحينما نقوم منتصبين نعترف بنعمة الله ورحمته التى رفعتنا من الأرض وجعلت لنا نصيباً فى السماء" (ق. باسيليوس الكبير).

فالسجود هو المقياس الحقيقي لمعرفة ذواتنا ومعرفة الله. إدراك لعظمة الله وقيمتنا الحقيقية. ولذا السجود اليوم يمثل صعوبة لدى الإنسان الذي يعتقد أنه سيد الكون والمسيطر عليه، ينتزع السلطة من يد الله محاولاً مسك زمام العالم. بينما الساجد الحقيقي يقبض يده فارغه وينزل واضعًا كل همومه وقرارته وحياته في يد ضابط الكل.

السجود تعبير صادق عن العبادة اللائقة بالله، لأنه وحده يليق له العبادة والسجود، غير أنه يجوز أن يقدم للآخرين وإنما فى معانى أخرى غير العبادة.

فالسجود علامة خضوع وطاعة، وسيادة الله فهو المكتوب عنه "وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ اللهِ" (عب1: 6)، وأيضًا "لأَنَّنَا جَمِيعاً سَوْفَ نَقِفُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «أَنَا حَيٌّ يَقُولُ الرَّبُّ إِنَّهُ لِي سَتَجْثُو كُلُّ رُكْبَةٍ وَكُلُّ لِسَانٍ سَيَحْمَدُ اللهَ»." (رو14: 10 - 11)، وأيضًا "لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ" (في2: 10).

بالسجود نشعر برهبة حضور الله، فلا نملك إلا أن نسجد محبة لوجودنا معه، فالمفارقة العجيبة هى في أمتزاج الخوف مع الحب... السقوط مع القيام... إعلان ضعفنا مع قوة الله... أستقامة النفس مع تغيير الفكر للأفضل... السجود أمام الله البعيد والقريب، بعيدًا يعبده ويسجد له، وقريبًا في قلب الساجد المنسحق الذي لا يرذله هو!

السجود بالروح في العبادة أمر حتمي يطالب به الله: "الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ." (يو 4: 23).

وهى الفضيلة الغائبة التي بحث عنها الله لمن يقدمها بشكر، فلما شفى ربنا يسوع العشرة البرص واحد منهم فقط: "رَجَعَ يُمَجِّدُ اللهَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ شَاكِرًا لَهُ، وَكَانَ سَامِرِيًّا. فَأجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَلَيْسَ الْعَشَرَةُ قَدْ طَهَرُوا؟ فَأَيْنَ التِّسْعَةُ؟" (لو 17: 17)!

السجود بروحانية أمام الله هو صراخ طلب الشفاء الذي لا يرده الله لأنه طلب يتوافق مع مشيئته الإلهية: "وَإِذَا أَبْرَصُ قَدْ جَاءَ وَسَجَدَ لَهُ قَائِلًا: «يَا سَيِّدُ، إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي». فَمَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَلَمَسَهُ قَائِلًا: «أُرِيدُ، فَاطْهُرْ! ». وَلِلْوَقْتِ طَهُرَ بَرَصُهُ" (مت 8: 2). فالله محبة يطهر الإنسان الساجد الذي يسكب نفسه في سجوده مثل ساكبات الطيب، فتمتلئ حياته برائحة المسيح الذكية وقتها يشتمها العالم فينا فيأتي ساجدًا للمسيح!

السجود الروحاني هو جواب الإنسان أمام الشعور بحضور الله، فالإنسان يستر وجهه ويشعر بعدمه وخطيئته كلما أقترب من الله ساجدًا، "فَغَطَّى مُوسَى وَجْهَهُ لأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى اللهِ." (خر 3: 6)، واشعياء النبي صرخ: "فَقُلْتُ: « وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ... لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ». (أش 6: 5)، وحزقيال:" هذَا مَنْظَرُ شِبْهِ مَجْدِ الرَّبِّ. وَلَمَّا رَأَيْتُهُ خَرَرْتُ عَلَى وَجْهِي "(حز1: 28). فالسجود هو حركة عفوية تلقائية لمن يتعبد لله، وجواب الله للإنسان المتضع الساجد بالروح هو أن يكشف له ذاته ويُكلمّه ويطهره، يمس فمه ولا يحرقه، يكلفه ويدعوه ليعمل معه، يقيمه من سقوطه ويمجده؛ هذا هو مكافأة السجود الروحاني!

السجود بروحانية هو أرتماء في أحضان الله للشعور بالأمان والراحة، ننحني: "" مُلْقِينَ كُلَّ هَمِّكُمْ عَلَيْهِ، لأَنَّهُ هُوَ يَعْتَنِي بِكُمْ. "(1 بط 5: 7).

السجود هو انحناء عند قدمي المخلص لتقبيلها، فننال منه غفران الخطايا ويصرفنا بسلام، فمن يحب الله كثيرًا لن يكف عن تَقْبِيلِ رِجْلَيَّ يسوع!. ومن ينحني عند قدمي يسوع يدهنهما بدموعه يسمع أحلى العبارات من فمه الإلهي «مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ» (لو7: 48).

السجود الروحاني هو سقوط مع المسيح تحت ثقل الصليب ثم حمله والقيام به مثل سمعان القيرواني، هو موت (بالتلامس مع الأرض)، وحياة بالقيام عن الأرض، لنتذكر الحياة الأبدية والقيامة مع المسيح القائم من بين الأموات!

السجود هو التعليم الألهي الذي لقنه الله للبشرية لا بتعليم ووصايا بل بقدوته وحياته: "" ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلًا وَخَرَّ عَلَى الأَرْضِ، وَكَانَ يُصَلِّي.... "(مر 14: 35).

أخيرًا... روحانية السجود الحقيقية هى التي تتم لا في أجواء الراحة والإستجابة؛ بل التي تُقدم لله في أوقات صمته وغموضه!

الله لا يكشف نفسه إلا لمن تدرب على إصغاء الصمت الإلهي... ولا يتكلم إلا لمن ذهب وراؤه في البرية متخليًا عن ظهوره حتى يقدر أن يختفي فيه!

فأول مرة ترد فيها أشارة للسجود في الكتاب المقدس كانت في أشد المواقف غموض وصعوبة.. كانت يوم أن طلب الله من أب أن يذبح ابنه ويقدمه محرقه... أمام هذا الطلب الصعب والعجيب، والمشاعر الممزقة... والأسئلة التي بلا أجابات... والفعل غير المنطقي المضاد للمشاعر الأنسانية والأبوية: "فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِغُلاَمَيْهِ: «اجْلِسَا أَنْتُمَا ههُنَا مَعَ الْحِمَارِ، وَأَمَّا أَنَا وَالْغُلاَمُ فَنَذْهَبُ إِلَى هُنَاكَ وَنَسْجُدُ، ثُمَّ نَرْجعُ إِلَيْكُمَا». (تك 22: 5). لكن كان فعل السجود لله في ذهن إبراهيم أمام غموض الله... وهذا هو محك الإيمان وروحانية السجود... أن نُقدِّم عبادتنا لله حتى في الأوقات التي لا نفهم فيها قصد الله... وقتها يتقبل الله ذبيحة حياتنا وعبادتنا، وقت ما نمسك سكين الطاعة ونذبح حريتنا تحت أقدام مشيئته... وقتها تكون روحانية ساجدة خاضعة... وسجودنا روحاني، وحياتنا التي كانت مظلمة تضئ بمعرفة الله وحضوره... والمواقف التي كانت غامضة وسجدنا لله من أجلها نرى فيها الله ونفهم مشيئته ونفرح:" فَدَعَا إِبْرَاهِيمُ اسْمَ ذلِكَ الْمَوْضِعِ «يَهْوَهْ يِرْأَهْ». حَتَّى إِنَّهُ يُقَالُ الْيَوْمَ: «فِي جَبَلِ الرَّبِّ يُرَى». (تك 22: 14) / "أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ" (يو8: 56)!.. هذا هو ثمرة... روحانية السجود.

المحتويات