القمص سرجيوس سرجيوس – الأستاذ بيشوي فخري

كارت التعريف بالمقال

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب الأستاذ بيشوي فخري
الشخصيات القمص سرجيوس سرجيوس
التصنيفات أدب مسيحي, سير قديسين وشخصيات
آخر تحديث 11 أكتوبر 2019

اضغط هنا لقراءة الفهرس

القمص سرجيوس سرجيوس: بطل الوحدة الوطنية، والثائر في الكنيسة القبطية

وُلد ملطي سرجيوس في 16 مارس 1883 في مدينة جرجا، وألتحق بالمدرسة الأكليريكية بالقاهرة وهو لم يزل صبيًا في الخامسة عشر من عمره، وفيها بدء أول سماته الثوريه عندما نقصت في يوم "حصة التغذية" وقاد الطلبة في إعتصام أمام الدار البطريركية، ولكن مطالبه تم رفضها، ولكن بعد حين أستدعاه البابا كيرلس الخامس لرسامته كاهنًا على بلده ملوي باسم القس ملطي سرجيوس، ولم يتجاوز الحادية والعشرين من عمره ربما لكى يزيد من سلطانه عليه لتحجيم أرآئه الثورية والأستفادة من قوة حجته في الوعظ الديني!. ثم انتقل وكيلا لمطرانية اسيوط، وخدم في الفيوم والزقازيق.

ولم يمض ثلاثة أشهر على رسامته حتى مَثَل القمص سرجيوس أمام المحاكمات الكنسية التي أنعقدت لمجاوبته وقبل سماع الحكم عليه قال لهم: "لا تتعبوا أنفسكم لقد عزلت نفسي بنفسي" ثم خرج وعاد إلى بلدته ليقضي فيعا عامين بلا عمل. وتكررت محاكمات القمص سرجيوس وخلافاته مع بطاركة الكنيسة، فقد كان حالة نادرة لم تتكرر في ثياب الكهنوت!

وتوالت عليه العروض من الأنبا كيرلس مقار (البطريرك الكاثوليكي الذي أستقال من منصبه فيما بعد بعد ندمه على ترك أرثوذكسيتة)، لينضم إلى الكاثوليكية مع الوعد بتوليه مناصب كبيرة لكنه آثر التمسك بكنيسته بقول مؤثر قال فيه: "كنت كالكلب الأمين لصاحبه الذي يطرده صاحبه كلما ترآى له فما يلبث أن يعود إلى الدار ليقف خارجًا". فبحث عن حقل خدمة آخر فحاول مرة في أثيوبيا، ولكنه نجح في السودان وصار من أشهر دعاة الإصلاح الأجتماعي والديني في الخرطوم وعُيّن وكيلًا لمطرانيتها، وأصدر فيها مجلة المنارة المرقسية في سبتمبر سنة 1912 م بعد أن أشترك في قيادة حملات ثورية لمحاربة العادات الإجتماعية الذميمة في أيامه. غضب عليه الإنجليز وأمروا بعودته إلى مصر في أربع وعشرين ساعة، فغادرها في 16 مايو 1915 متجهًا لمصر حيث أقام في حي «القللي» وبعدها انتقل إلى 7 ش العزيز المتفرع من شارع البعثة بشبرا، وكانت آخر كلماته للمدير الإنجليزي هي: "إنني سواء كنت في السودان أو في مصر لن أكف عن النضال وإثارة الشعب ضدكم إلى أن تتحرر بلادي من وجودكم".

وتميز بالحس الثوري الذي لم تعتاده الكنيسة من رجالها، وأنتقد بشده أوضاع موجودة، وبالغ في المعارضات الشديدة وأتخذ من المنطق اللاذع أسلوبًا لمهاجمة أوضاع الكنيسة، وسام كاهن في واقعه ليس لها أى داعِ مخالفًا بذلك طقس وقوانين الكنيسة وعُرفها، وكان في محاكمته للمرة الثانية عام 1913 عن ستين مخالفة يصرخ بعبارته الخالدة "أريــد عدلاً.. لا عـفـواً".

ومن حماسه الشديد ورغبته في الإصلاح بنى كنيسة مارجرجس بالقللي، لتكون منبره، رغم العراقيل الكثيرة التي وُضعت في طريقه. وإبعاده عنها 16 سنه. ولكنه بتعيين البابا مكاريوس الثالث بطريركًا عادت المياه لمجاريها بين القمص سرجيوس والكنيسة بتعيينه وكيلا عاما للبطريركية. ولكن الوضع لم يستمر طويلا إذ أقاله البابا يوساب الثاني عام 1946م. وجرده من رتبته الكهنوتية للمرة الثالثه ولم يستسلم الكاهن الثائر لقرار البابا فرفع دعوى ضد البطريرك أمام محكمة القضاء الأدارى التي أنصفته وأبطلت قرار البابا وألزمته بالمصاريف وأتعاب المحاماة! لكن هذا الحكم لم ينفذ وبقي القمص سرجيوس محرومًا محدد أقامته، ذاته منكسرة، شُل لسانه، وأخُرست شفتاه، لكنه كان يخدم الكنيسة (من منازلهم) بوضع ردود قوية تجاه من هاجم العقيدة المسيحية أنئذ، منها: (الرد على الشيخين الطنيخى والعدوى حول تجسد الله ولاهوت المسيح، الرد على الشيخ العدوى حول التثليث والتوحيد، الدكتور لوقا نظمى فى الميزان، هل تنبأت التوراة او الانجيل عن محمد، سر المائدة او القربان، الرد على القائلين بتحريف التوراة والأنجيل، هل تنبأت التوراة عن المسيح؟، الرد على المنتصر المهدي حول صلب المسيح وموته).

كما كتب الكثير من المقالات في مجلات غير مجلته، كان يوقع عليها باسم "يونس المهموز".

والقمص سرجيوس كاهن لم تعرفه المنابر الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية فقط بل أعتلى أيضًا منبر الأزهر وقت أعتقال سعد زغلول في سيشل وظل يخطب 59يومًا متواصلاً في الأزهر وغيره من المساجد. وفي يوم الإفراج عن سعد زغلول ظل يخطب فوق أحدى السيارات تسع ساعات كاملة. فهو خطيب الثورة، وكاهن مصر الذي أعتلى منابر كنائسها ومساجدها.

وهتف يومًا أمام فندق الكونتنتنال وطالب آلاف المتظاهررين حوله أن يهتفوا بأسلوبه الساخر: "نعم ليحيا الأنجليز". فدهشت الجماهير وترددت في الهتاف فأوضح لهم: "نعم يحيا الأنجليز فهم بظلمهم واستبدادهم ووحشيتهم قد وحدوا صفوفنا جميعًا لا فرق بين مسيحيين ومسلمين لكى نطالب معًا بالحرية والأستقلال". فكان سرجيوس ظاهرة عجيبة في مصر حتى أُطلق عليه "الكاهن المُسيّس"!

كان هذا الكلام مثيرًا لمشاعر الجماهير الوطنية فتقدم أحد الضباط الأنجليز مصوبًا مسدسه في وجهه فطالبه البعض أن يكف عن الكلام خوفًا على حياته، فصاح القمص بعبارته التاريخيه: "وهل مثلي يهرب؟ ليس هنا مصريًا يهرب من الموت أو يخشى من الرصاص، أن مسدسه محشو بالحلويات لا بالرصاص والمفرقعات، دعوه يقتلنى لآروي أرض مصر الطاهرة بدمي مثلما رواها من قبلي آبائي وأجدادى".

ومن ضمن نوادره أنه وقف ذات مرة وخطب في الجماهير وألقي سؤالاً "عارفين عملت ايه النهاردة"؟، فقالوا: "عملت أيه": أجاب سرجيوس: "اليوم أتممت زواجًا مسيحيًا لبنت مسلمة"، فتساءل الجميع من هى؟؟ فقال لهم وهو يضحك: "زوجت مصر للإستقلال التام" فدوت الجماهير بالهتاف والتصفيق.

وحسبه الأنجليز ضمن الثوار، والمحرضين على الأضراب فاعتقلوه في ثكنات قصر النيل ثم نقلوه إلى معتقل رفح الذي ظل به 80 يومًا مع محمود فهمي النقراشي، والشيخ على القاياتي.

ولما حاول الأنجليز محاولة تبرير وجودهم بحجة حماية الأقباط قال من فوق منبر الأزهر: "أن كان الأنجليز يتمسكون ببقائهم في مصر بحجة حماية الأقباط، فليمت الأقبـاط وليحيـا المسلمون احـرارًا".

وأنهى حياته في حبرية البابا كيرلس السادس القديس الذي أجتذبه بحضنه الأبوي، وأنتقل في 5 سبتمبر سنة 1964 م، بعد أن  قضي واحد وثمانون سنه في تعب ونضال، ومحاكمات ودعاوي، في ثورات وحماس غريب عن وداعة رجال الدين المسيحي، وأيجابية وغيرة وطنية تليق بالمصري المُخلص لوطنه، وبكته جموع مصر الأمينة في جنازة مهيبة أمتدت لثلاث كيلو مرات، تاركًا نموذج نادر من الكفاح والوطنية وصلابة المصري الأصيل.

وقد مدحه القمص صموئيل تاوضروس السرياني كثيرًا، فقال: "كان قائدا روحيا تقدميا نابغًا، لم تر الكنيسة مثله منذ أجيال بعيده، وقد زينه الله بطلعة بهية وشخصية قوية فكان إذا تحدّث أشبع وإذا ناقش أقنع، كريمًا جدًا في بيته يجود بما ليديه على ذوي الحاجة، يحب البساطة في التعبير ولا يخرج في مباحثاته عن دائرة الكتاب، وإذا أسندت إليه أية وظيفة إدارية كان كفيلاً بأن يملاأ كل فرع فيها بحيث لا يترك في عمله مكنًا لأحد... إن القمص سرجيوس هو الأول من نوعه في القرون الأخيرة الذي حمل المسيح على كتفه وطاف به أحياء القاهرة وربوع الوادي يعلن عن مجده الأثنى وينادي بدينه القويم فإن لم نجد له مكنًا بين العاملين الذين أسعدهم الحظ فلاقوا تقديرًا، فيسرنا أن نضعه مع أوريجانوس ورفاقه في ضريح الجندي المجهول".