العلاقة بين القديس إيسيذوروس والبابا كيرلس الكبير – الأستاذ بيشوي فخري

كارت التعريف بالمقال


العلاقة بين القديس إيسيذوروس والبابا كيرلس الكبير

علاقة إيسيذوروس الفرمي بالبطريرك كيرلس الكبير فقد كانت ممتلئة محبة وأحترام مُتبادل فلم ينسَ الفرمي أن البابا كيرلس هو القائد الكنسي وهو راهب تحت لواؤه، ومن جانب كيرلس كان يكن له كل تقدير كأب روحي له تشهد تقواه وحكمته عن قداسة لا يمكن تغافلها.

وكانت القرابة الجسدية بين هذين الرجلين قد سمحت لإيسيذوروس أن يقدم انتقاد شديد اللهجة لكيرلس إذا رأى ما يستوجب توبيخه، كما مارس نشاطًا تحفيزيًا له في مواجهة البدعة النسطورية إذ كان إيسيذوروس من أشد أنصار كيرلس، ورغم أن كيرلس لم يصطحب إيسيذوروس معه إلى مجمع أفسس 431م، إلا أن إيسيذوروس لم يقف مكتوف الأيدي بل أرسل إلى الأمبراطور ثيودسيوس الصغير يستحثه فيها أن يتدارك الأمور بنفسه ولا يتركها في أيدي رجال لا يقدرون المسؤلية ولا يدركون أن واجبهم يحتم عليهم الوقوف على الحياد ليستطيع الآباء التشاور معًا في حرية تامة. وقد جاء في رسالة إيسيذوروس إلى الامبراطور ما نصه:

"إن كان لديك أيها الأمبراطور ثيودسيوس متسع من الوقت فأذهب بنفسك إلى أفسس لتعرف أن رجالك ملومون. أما إذا أعتمدت على رواية من تسوقهم الأغراض أفلا يكون المجمع سخرية وهزأة؟ إن لفى أستطاعتك أيها الأمبراطور أن تداوي هذه الادواء إن أنت منعت رجالك المدنيين من التدخل في شئون الكنيسة وعقائدها لأنهم بتصرفهم الخاطئ لا يعرضون الكنيسة للخطر ولكنهم يعرضون لأعظم الأخطار الامبراطورية التي يستعينون بسطوتها، إذ أن تصرفهم هذا سينتهي إلى أستثارة الامبراطورية على الكنيسة، ولن تستطع الأمبراطورية أو أى قوة عالمية أن تقف في وجه الكنيسة..." (Epstil I. 310).

وهكذا ساند إيسيذوروس كيرلس بشجاعة لا تتردد في قول الحق، مُفضّلاً بالأحرى أن يبقى في خلفية الصراع. كما كان إيسيذوروس يثق في قدرة كيرلس اللاهوتية لذلك تركه في حلبة الصراع الفكري مع نسطور دون تدخل مباشر من جهته، وتفرغ إيسيذوروس لمواجهة الأخطاء السلوكية والأنحرافات السلوكية للرهبان والكهنة لأنه كان على يقين مطلق بأن كيرلس قادر أن يُفند الآراء النسطورية (Ἀρτέμη , 2012 , .

وفي كتابات إيسيذوروس الكثير من الخطابات الموجهة إلى شخص يدعى "كيرلس"، دون توضيح ما إذا كان المرسل إليه هو كيرلس البطريرك، مما أثار الشك عند البعض فيما إذا كان كيرلس البطريرك هو المستلم لتلك الرسائل وليس شخص آخر بنفس الاسم. لكن مضمون الرسائل تؤكد أن البابا كيرلس هو مستلم تلك الرسائل وليس غيره، كما أن شهرة البطريرك لم تجعل إيسيذوروس يحتاج أن يوضح هوية المرسل إليه بأوصاف وألقاب.

وتكشف تلك الرسائل المرسلة من جانب إيسيذوروس عن الدالة القوية بين الرجلين، ففي رسالة من إيسيذوروس ذَكر أن كيرلس دعاه "أب "، وفي ذات الرسالة يحسب إيسيذوروس نفسه "ابنًا له" مُظهرًا العلاقة المباركة ببينهما (Epstil I. 370). وهنا إيسيذوروس لم يشعر بأنه ابن لكيرلس بسبب عمره أو سنه، لأن ذاك وُلد حوالي 360 - 370م، وكيرلس عاش ما بين 380م - 390م، أنما كان ذلك بسبب المكانة القيادية التي يحتلها كل واحد منهما.

وفي رسالة أخرى أرسلها إيسيذوروس قلقًا متخذًا رد فعل شديد اللهجة نتيجة أخبار خاطئة وصلت إليه بأن كيرلس قد قَبِل الصلح مع يوحنا الأنطاكي حليف نسطور، وكان إيسيذوروس يعرف أن المُمسكين بالسلطة يكونون عادة تحت ضغط الظروف العملية والإلحاحات اليومية، فيتغاضون أحيانًا رغمًا عنهم عن المثُل والمباد السامية، لذلك أرسل إليه صرخة بدافع اليقظة والغيرة على العقيدة يقول:

"العاطفة متحيزة لا تبصر جيدًا، والكراهية عمياء لا تبصر على الإطلاق. فإن أردت أن تكون خاليًا من هاتين الرذيلتين المختصتين برؤية الأمور، فلا تصدر أحكامًا عنيفة متسرعة، بل أفحص الأمور بدقة... لأن كثيرون من مجمع أفسس ينتقدوك بسبب أحاكمك العدوانية وعدم أتّباعك الأمور الأيمانية بطريقة مستقيمة..." Epstil I. 310)).

لكننا في المقابل لم نجد رد من كيرلس على أى من الرسائل التي بعثها لها، يبدو أن كيرلس كان منشغلاً في القضية النسطورية، ولم يجد الوقت الكافي للرد على إيسيذوروس، أو أنه أدرك أن أنفعال إيسيذوروس من جراء الوشايات المغرضة، لذلك لم يتخذ موقف من إيسيذوروس وتقبل الأنتقاد بصدر رحب مفضلاً الصمت، وهو موقف يُعلى قدر الرجلين الأول بغيرته للحق، والثاني لعدم الأصطدام وتقدير سوء التفاهم.

وكما كان إيسيذوروس عون لكيرلس في مواجهة الأمور العقيدية، كان أيضًا عينًا لكيرلس ترصد الأخطاء الإدارية وتعمل على تصحيحها، فقد أرسل ينبه كيرلس من سوء الأدارة المالية في الكنيسة وأسلوب جمع المال لبناء الكنائس (Epstil V. 79). وكتب له لمنع سيامة شخص يسعى ليكون أسقفًا وهو لا يستحق (Epstil II. 127).

إلا أن هذه الأنتقادات لم تكن أبدًا باستعلاء أو رفض لسياسة كيرلس بل كان يعتبره إيسيذوروس "ممتازًا في كل شئ" (Epstil II. 127).

أما في الشرح اللاهوتي فقد تطابقت عقيدتهما تمامًا، واستخدم كلاهما أمثلة من الحياة اليومية لتبسيط شرح العقيدة لعامة الناس، ويجعلان من الكتاب المقدس المرجع الأول لأفكارهما، ثم تقليد الآباء السابقين ويُذكّر إيسيذوروس في أحدى رسائله كيرلس بشرح البابا أثناسيوس للعقيدة بطريقة تفوق الذهن البشري وعليه أتباعه (Epstil I. 323)، لأنه يدرك أن كيرلس الوريث الأداري والقيادي الفكري لأثناسيوس (PG74, 249D)، وهذا هو سر أتفاق عقيدتهما، أن منبعهما للشرح والأعتقاد واحد.

وقد كان القديس كيرلس أدق الآباء في التعبير عن العقيدة السليمة، لأنه أنتهج الآباء الذين سبقوه، وهو دائمًا يشير في كتاباته إلى تعبير: "كما قال الآباء οἱ Πατέρες λέγουσι" دون أن يذكر اسم أحدهم، ثم يورد شرحه المتسق معهم، بعكس إيسيذوروس الذي وأن كان يتبع تعليم السابقين إلا أنه نادرًا ما يُشير إلى مرجعه الذي أقتبس منه، وأن كان دائمًا ما يمتدح تعليمهم: "إني أكتب ما سمعته من رجل حكيم، لكّني أكتب أيضًا آرائي الخاصة لتجدوا ما هو أكثر وضوحًا" (Epstil III. 152).

أما أسلوب كيرلس التفسيري للكتاب المقدس فقد أختلف بعض الشئ عن إيسيذوروس، ورغم أن القديس كيرلس عاش وكتب في بيئة سكندرية وتنفس ميراث التقليد السكندري الرمزي، إلا أنه تحفظ جدًا نحو المنهج الرمزي في التفسير، حيث أقر بأن الرمزية لم تكن من نتاج فيلون اليهودي ولا أوريجانوس، بل من شعراء وحكماء اليونان. وكانوا يستهدفون تفسير وتخطي الأشكال البشرية لملاحم هوميروس وأوديسا (PG 75, 1253D - 1256A). هكذا قادته المبالغات الخطيرة للمنهج الرمزي للتفسير، إلى استبعاده لهذه الرمزية المتطرفة، واستخدم التفسير الروحي والتاريخي لتأمين التفسير الكتابي السليم (P. G 73, 501D).

أما القديس إيسيذوروس الفرمي لم يجد غضاضة في استخدام التفسيرين (الرمزي، التاريخي) حسبما يحتمل النص، لذلك كان في بدء تفسيره يُنبه القارئ إلى أى منهج يستخدمه، على عكس الأمر عند كيرلس فلم يكن محتاج أن يُشير إلى منهجه في كل مرة لأنه منهجه معروف.

ويتفق القديس كيرلس مع القديس إيسيذوروس في أن التفسير عمل صعب، يُشبهه بعملية الصيد أو المطاردة الصعبة (P. G 73, 28D)، ويرجع ذلك أن الإنسان مخلوق وأن العمل التفسيري يتعامل مع حروف بشرية لا يمكن أن تحتوي أو تشرح الطبيعة والمقاصد الألهية المراد التعبير عنها وشرحها (P. G 73, 82D).

إلا أنهما لا يصمتا عن التفسير نهائيًا إذ أن آيات الكتاب المقدس هى سلاحهما الأول في مواجهة الهرطقات خاصة النسطورية المعاصرة لهما (P. G 70, 1060A.).

إذ كانت لهما روح الغيرة على العقيدة السليمة وشرحها فلم يعرفا اللامبالاة المؤدية للهلاك مدركين دورهما الخطير في أستقامة الفكر (PG 68, 556C).

(بيشوي فخري،.

القديس إيسيذوروس الفرمي وآثاره، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية آداب جامعة اسكندرية، 2021م).