الطاعة وحدود الخضوع – الأستاذ بيشوي فخري

كارت التعريف بالمقال

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب الأستاذ بيشوي فخري
التصنيفات الحياة الروحية المسيحية - اللاهوت الروحي, الطاعة, مفاهيم في الحياة الروحية
آخر تحديث 7 فبراير 2021

الطاعة وحدود الخضوع.

كانت المشكلة مع الطاعة كثيرًا في التلميذ الذي يعصي ويتمرد ويتهرب من طاعة مرشده ومعلمه، ويبدو أنه كان من الحكمة التركيز على مفهوم الطاعة من جهة المُدبِّر أيضًا!

إذ كثيرًا ما تستخدم كلمة الطاعة في أوساطنا الكنسية على العكس مما هو مقصود منها في تقليدنا الروحي، والتنبيه جاء مبُكرًا من فم يوحنا الدرجي: "أختبر مرشدك لئلا تقع تحت يدي مريض بدل طبيب".

فالطاعة في الكنيسة ليست عسكرية تلغي العقل، وتسلب الأرادة، وتنسخ الشخصية، بل هى تدريب متدرج للوصول إلى حالة الحرية الداخلية، وتنمية التلميذ ليكون "هو" وليس آخر!

فليست مهمة الأب الروحي تدمير قدرة التلميذ على اتخاذ القرار، وتعطيل مواهبه على تحقيق ذاته، إنما مساعدته ليرى نفسه ويحققها من أجل نفسه، لا أن يجعل منه نسخة مطابقة له، أو يحقق فيه ما فشل في أنجازه، ولا هو معجب بذاته فيستقطب مسلوب الأرادة لزيادة أتباعه بلا فحص.

ففي كل ما يصدره الأب من نصائح يسمح بنقاش لكل ما لا يفهمه ابنه أو يشعر بأنه لم يقبله بإرتياح، إذ أن الثمرة لا تزهر في تربة ترفضها، وأن جاءت بثمر سريع فيذبل في أول فرصة تأتي للتخلص من ذاك الذي حاول أن يمحي نكهتها المميزة!

وإذا ما اضطر الأب الروحي، في أوضاع خاصة جداً، إلى أن يطلب من ابنه أحياناً أن يطيعه طاعة غير مشروطة وعمياء ظاهرياً، فلا يكون طلبه هذا غاية بحدّ ذاته، بل وسيلة تهدف إلى تحربر الابن الروحي من الأنا الخدّاعة والوهم الباطل. إنه علاج «صَدَمي» يهدف إلى البلوغ إلى الحرية الحقيقية، ويستخدمه الأب المختَبِر في حالات استثنائية جداً حينما يكون ابنه الروحي معرّضاً لخسران خلاصه. فالبنوة الروحية ليست عبودية. وإن جُرِّب الابن بها فعلى الأب أن يلاحظ تعلّق الابن المَرَضي به ويحرّره منها، وإلا فلن يصل الابن إلى تحمّل مسؤولية خلاصه الحقيقية. يقول الأسقف كاليستوس وير بهذا الصدد: «الأب الروحي لا يفرض أفكاره وعبادته الشخصية، بل هو يساعد ابنه الروحي على اكتشاف دعوته الخاصة».

وثمة فارق ولو ضئيل بين طاعة الرهبنة التي اختار أصحابها طريق جحد الذات ونكرانها، وبين المؤمن والشاب العادي الذي عليه أن يكشتف ذاته ويحققها قبل مطالبته بأنكارها!

فلا يجوز للأب أن "يستخدم" أولاده، ويعتبرهم "أرقام" تحت سلطانه، بل أبناء الله المدعوون لدعوة خاصة، بداخلهم كنز ألهي عليهم أكتشافه، دوره أن ينير أعماقهم للروح الساكن فيهم.

ولم يُعلم الكتاب بأن الطاعة عمياء بل أن تكون "في الرب"، أى في نور وحرية ومشيئة الله لذلك يُحذر سمعان اللاهوتى قائلاً: [ابتهل إلي الله بصلواتك ودعواتك أن يعطيك معلماً باراً خالياً من الانفعالات وادرس أيضاً بنفسك الكتب المقدسة، وبخاصة كتابات الآباء القديسين العملية، لكي تقارن بينها وبين ما تتعلمه من مدرسك ومعلمك. هكذا سوف ترى كما في مرآة إلي أي حد يتفوقون. وعلى ذلك استوعب واستبق في أفكارك ما يطابق المؤلفات الدينية، وبعد دراسة فاحصة ذكية تجنب مالا يطابق، لئلا تقع في الباطل. لأنه يجب عليك أن تعرف أن عدداً كبيراً من المعلمين الأفاقين والمضلين ينتشرون بيننا الآن].

والحقيقة أن الله أعطانا عقلاً وأرادة حرة، فهذه تشهد لحقيقة أخرى وهى أن الله لا يريدنا أن نمارس الطاعة العمياء لأى شخص ولا حتى له هو نفسه!

فأنه يريد الخضوع له بحب وفهم وأرادة مستنيرة ـ هو يريد.. لكنه لا يُتمم أراداته إلا إذا أردنا!

لقد أعطانا حرية مجد أولاده... بعد أن خلقنا على صورته في الحرية، هل بعد ذلك نتنازل عن هذه الحرية ونعطيها لآخر؟!

عندما نسلم أرادتنا للمسيح، فإن الرب ينقي هذه الارادة، ويعيدها له بحيث تكون طاعته بعدئذ تستند فقط على الحب الممارس من خلال تلك الأرادة الحرة.

عند الكثير من المفكرين الطاعة العمياء لا تختلف كثيرًا عن "الوثنية"، لأنها تنزع السلطة من ضابط الكل وتضعها في يد آخر، وتحرمنا من عطية ألهية، فلم يخلقنا الله دُمى ولا روبوتات (الإنسان الآلي)، خلقنا نحتاج لبعضنا البعض وأيضًا خلقنا عاقلين... خلقنا نحتاج لمرشد ينير لنا الطريق لكن سنقف وحدنا لُنكافَئ أو لنُعاقَب!

لقد علمنا الكتاب المقدس أن التجسد الألهي لم يبدء إلا بعد أن قالت العذراء مريم: "ليكن لي كقولك"، ولم تقل هذا إلا بعد أن سألت: "كيف يكون هذا...".

والسيد المسيح استخدم القدوة لا القوة في اجتذاب مًحبيه، وتحاور مع السامرية، وشرح لتلميذي عمواس النبؤات، ووضح ليوحنا المعمدان "... لأنه ينبغي أن نكمل كل بر"، وطالبنا "فتشوا الكتب..." لنؤمن به عن أختبار وتذوق وأكتشاف، لا عن غصب وطاعة عمياء...