إرشادات أرثوذكسية في الوعظ الكنسي – إلى الوعاظ من آبائي الكهنة والخدام – الأغنسطس كيرلس بشرى

كارت التعريف بالمقال

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب الدكتور كيرلس بشرى
التصنيفات الخدمة الكنسية - اللاهوت الرعوي, الوعظ والتعليم
آخر تحديث 11 أكتوبر 2019

تحميل المقال

إنتبه: إضغط على زرار التحميل وانتظر ثوان ليبدأ التحميل.
الملفات الكبيرة تحتاج وقت طويل للتحميل.
رابط التحميل حجم الملف
إضغط هنا لتحميل المقال
0.5MB

إرشادات أرثوذكسية في الوعظ الكنسي - إلى الوعاظ من آبائي الكهنة والخدام - الأغنسطس كيرلس بشرى

أولًا: تحديد المُشكلة

يبدأ العلاج الحقيقيّ من تحديد المُشكلة. والحقيقة التي يجب ألَّا نتجاهلها، أو نتناساها، أنّ بعض الوعظ الكنسيّ في كنيستنا القبطيّة الأرثوذكسيّة يُعاني؛ لضعف الوعي اللاهوتيّ والليتورجيّ للواعظ. فهذا ليس فقرًا في لاهوت الكنيسة، بل هو فقدان الرغبة من الواعظ للتعلُّم، فينتُج للأسف عظة هزيلة ضعيفة في محتواها اللاهوتيّ والليتورجيّ، وبالتالي الروحيّ. من هُنا، يجب البحث عن الطريقة المُثلى، التي يجب أن تقوم عليها ”العظة الأرثوذكسيّة القبطيّة“. وهُنا لاحظ عزيزي القارئ، أنَّ هناك سمتان أساسيّتان للعظة في كنيستنا:
  1. أن تكون ”عظة أرثوذكسيّة“: حيث تحمل سمة التعليم الأرثوذكسيّ، غير متأثرة على الإطلاق، بأي تعليم خارجيّ، لا يماثلُها، ولا يجاريها. فنحن كنيسة أرثوذكسيّة، فالتالي يلزم أن تحمل العظة سمات التعليم الأرثوذكسيّ، وسمة التعليم الأرثوذكسيّ الأولى إنّها كنيسة ”تقليدية رسوليّة“.
  2. أن تكون ”عظة قبطيّة: أي تحمل عناصر الكيان القبطيّ. والكيان القبطيّ هو ”الليتورجيّة القبطيّة“.
إنَّ الوعظ يُقاس في المقام الأوَّل على مقياس الأرثوذكسيّة من جهة، والليتورجيّة من جهة أُخرى. فحتّى تكون العظة مؤثِّرة، يلزم أن تحمل في وجهيها سمتي: الأرثوذكسيّة والقبطيّة. يجب أن نواجه مشكلتنا، من ضعف العظة الكنسيّة، لأنها مبنية على أسّس شخصيّة، لا أسّس كنسيّة. الوعظ ليس دور وظيفيّ يقوم به الواعظ، لأنَّه مُلزم به، بل هو دورٌ روحيٌ في المقام الأوَّل، غرضه بث رسالة الإنجيل إلى الشعب في القُدَّاس، حتّى يخرج بمنفعة روحيّة، تُغير من سلوكه الروحي، وتقوده إلى معرفة حقيقة لشخص يسوع المسيح. الوعظ يجب أن يُدَّرس، مثله مثل كلّ علوم الكنيسة، لأنّ الواعظ لا يُولد واعظًا، بل يجب عليه أن يكتسب مهارات الوعظ.

ثانيًا: أخطاء يجب تجنبها في الوعظ

1.  حشو قصِّصًا خرافيّةً داخل العظة

البعض يحشو قصَّصًا خالية من أي معنى أو مضمون لاهوتيّ ليتورجيّ روحيّ، والأدهى ألَّا تكون لها أي علاقة مُطلقًا بغرض القراءات الكنسيّة. فقط هيَ رغبة الواعظ في أن يبهر مستمعيه، ويُدخل في نفوسهم السرور الوقتيّ الزائف. حينئذ يضيع المسيح، وحلّ محلّه بطل الرواية الخرافيّة!

2.  البلاغات والإنشاءات الأدبيّة الرنَّانة

حين يلعب الواعظ دور المُمثِّل على خشبة المسرح، فيتحدث بالفصحى بعبارات خلَّابة وصياغات رنانة وكلمات طنانة، في حين تفتقر العظة من المعاني الروحيّة، وتبقى جوفاء! ابتهج الشعب، وخرج مسرورًا بقوَّة وبلاغة الواعظ، وقدرته اللُّغويِّة على الإنشاء الأدبيّ والوعظيّ، وعلى رأي الواعظ الكبير الأرشيذياكون بانوب عبده: [يظل العشب غارقًا في الجهل، لا يعرف من حقائق إيمانه إلاَّ اليسير، ولا عجب إن سقط فريسة للبدع والأضاليل.] وبالتالي، لم يتقدَّم قِيْد أَنْمُلة نحو وعي لاهوتيّ ليتورجيّ حقيقيّ!

3.  الوعظ المسترسل

عناء البحث والتحضير، يتقدَّم الواعظ بما لديه من معلومات على المنبر الكنسيّ، ويقول ما يقوله، فلا حساب ولا رقيب. فالكلّ مدعو بأن يسمع عظة مُرسلة فارغة غير مُرتبة، لأن الواعظ اختار الطريق الأسهل والمريح إذ كفَّ عن عناء البحث والدراسة، مهتمًا بأمور ثانويّة، لأجل إشباع غروره على حساب الشعب والكنيسة، لأنّه لم يُقدِّر الشعب، الذي قرَّر أن يُعطيه من وقته ويسمعه!

4.  المحتوى الفارغ

إن قرَّر الواعظ أن يتحلى بأبسط مبادئ الوعظ، ويُحضر وعظته، فإنّه يلجأ إلى مصادر هزيلة ضعيفة بسيطة، وبالتالي تخرج عظة فارغة! وربما الأكثر حين يلجأ البعض إلى تفاسير كتابيّة لكُتَّاب غير أرثوذكسيّين، وأخصُّ بالذِكر هنا التفاسير البروتستانتيّة، البعيدة كلّ البُعد عن الجو الكنسيّ الأرثوذكسيّ القبطيّ. تلك التفاسير والعظات لا تُمثِّل الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة، ولا تُعبِّر عن هويتها، إنّها صحيحة ومناسبة في مكانها، في الاجتماعات غير الأرثوذكسيّة، بينما نحن أمام مذبح الرب، وسنشارك في العمل الطقسيّ الجماعيّ، وسنتناول من جسد الرب ودمه، ونصير متحدين به ومع بعضنا البعض. لا توجد أي سمة اشتراك أو مقاربة بين التعليم الأرثوذكسيّ وغيره من تعاليم الكنائس المختلفة. فيجب أن نُظهِر هويّتها من خلال مصادرنا الكنسيّة الآبائيّة واللاهوتيّة والليتورجيّة.

5.  خلو العظة من التعليم اللاهوتيّ والليتورجيّ

إنَّها المآساة الحقيقة! الموضوع الحقيقيّ يجب أن يحمل ”البُعد اللاهوتيّ“، و”البُعد الليتورجيّ الطقسيّ“. إنهما سلاح الإيمان الأرثوذكسيّ تجاه حروب العالم غير المنظور! وللأسف يحل محلهما أساطير خرافيّة، وتعاليم غير سويّة نفسيًّا، وخبرات شخصيّة من الواعظ عن حياته الشخصيّة والخدميّة، وبالتالي ضاع المسيح من العظة. إنَّ إهمال الجانب اللاهوتيّ والليتورجيّ من العظة، يُفقدنا بهاء التمتُّع بالتعليم الأرثوذكسيّ. إنَّها الفرصة الأفضل التي يجتمع بها الشعب في الكنيسة حول الإفخارستيَّا لتعلُّم أصول التعليم اللأرثوذكسيّ السليم. إنَّها فرصة فيما يُقارب الربع ساعة، حتّى يتثنى إطعام الحاضرين من مائدة الغذاء اللاهوتيّ والعقائديّ والطقسيّ.

6.  ضياع رسالة القراءات اليوميّة الكنسيّة

إنَّ القراءات اليوميّة تحمل رسالة، وضعتها الكنيسة بدقة، كنظام تتبعه كافة الكنائس، فتعيش الكنيسة كلَّها في شركة. فحين يتخلف المؤمن في مرة عن حضور كنيسته، ويحضر غيرها، يجب حينئذ أن تصله نفس الرسالة الكنسيّة من القراءات الكنسيّة في ذلك اليوم. فمثلًا: إنجيل الأحد الأوَّل من شهر توت رسالته هي: ”محبّة الله الآب“. إذًا يجب أن تكون العظة مُنصبَّة في هذا الإتجاه، في كلّ كنيسة، وعناصرها اللاهوتيّة والطقسيّة مُتنوِّعة ومتشعِّبة ومُتسعة، ومليئة بالكنوز اللاهوتيِّة والروحيِّة. الكنيسة ليست فقيرة في محتواها اللاهوتي، حتّى يخرج الواعظ بعظة تتحدث عن ,,العطاء‘‘ مثلًا، لأن بالأمس واجهته مشكلة مالية! إنَّ القراءات الكنسيّة هي رواية مترابطة ومتماسكة بعضها مع بعض، لا يُمكن الإخلال أو تجاهل إحدى مشاهدها، لأي هدف أو غرض آخر. وهناك خطأ آخر يقع فيه الواعظ أيضًا، وهو أن يختار آية واحدة من الإنجيل، ويَصُب كلّ عظته عليها، فيتجاهل أيضًا غرض الكنيسة من اختيار ذلك الفصل الكتابي بالذات. ويقول الارشيذياكن بانوب عبده: [وهكذا يُصبح بلا ضابط ذلك المنبر المرقسي القائم على أسّس متينة من النظام الدقيق العجيب، بل ويصبح عرَضة لمختلف الأهواء والنزوات وهو ما أراد أن ينزهه عنه واضعوه.] هكذا لا يجب أن نقع في تلك الفخاخ، بل علينا أن نعي تمامًا أنَّ المنبر المرقسي له قيمته اللاهوتية.

ثالثًا: إرشارات أرثوذكسيّة حول العظة الكنسيّة

1.  التحضير المُسبق للعظة

يبدأ التحضير من خلال اختيار الكنيسة لفصل الإنجيل. ويبدأ الواعظ في التركيز على الهدف الكنسيّ من الفصل، الذي لأجله وضعت الكنيسة القراءات اليوميّة. فوضوح العظة يأتي من كشف رسالة الكنيسة من فصل الإنجيل. ومن هنا يتعلم الشعب أن لكل مناسبة رسالة لاهوتية خاصة. ويُركز الواعظ أيضًا على ارتباط بقية القراءات اليومية بعضها ببعض مع الإنجيل، وعلاقة كلّ هذا بالسنكسار اليومي. ويتأمل مدى إنطباق فصل الإنجيل مع بقية لقراءات وسير القديسيين، ويستنتج منهم الرسالة ويؤكدها بطرق متنوعة.

2.  رسم عناصر واضحة ومُنقطة للعظة

العظة الناجحة هي التي تُبنى على عناصر واضحة، ثلاثة أو أربعة عناصر على الأكثر، حتّى يتثنى للشعب أن يفهم العظة، ثابتةً في عقله، معاشةً في قلبه. وكما يُلزم أن تكون عناصر الموضوع الثلاثة منصبه نحو رسالة الإنجيل، فلا يحيد الواعظ أبدًا عن مضمون وجوهر القراءات اليومية.
 

3.  الإلتزام بسمات التعليم الأرثوذكسيّ

إنَّ سمات التعليم الأرثوذكسيّ إنه تعليم تقليدي، أي تعليم ”آبائي“ و”ليتورجيّ“. يجب أن تحتوي العظة على تعليم الآباء وشروحات، فلا حياد عن التعليم الآبائيّ في كنيستنا. وبجانب الشروحات الآبائيّة، يُلزم أيضًا إدخال الجانب الليتورجيّ والطقسيّ، أي ذكر بعض من نصوص التسبحة أو القُدَّاس أو الصلوات الطقسيّة. فتخرج العظة مُشبَّعة شاملة ومُهيَّئة ومُمنمقة بالعناصر اللأرثوذكسيّة.

4.  الاهتمام بالجانب العقائديّ اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ

لعلنَّا نُدرك أنّ الوعظ الحاليّ يفتقد لأهمّ عنصر فيه، وهو ”الوعي اللاهوتيّ“. مستحيل أن يكون هدف العظة كلَّه مُنصب فقط على الجانب التأمليّ الروحيّ! هذا ما وقعنا فيه جرَّاء سماع العظات غير الأرثوذكسيّة. ياربي! أكاد لا أسمع عظات تحمل البُعد اللاهوتيّ العقائديّ الأرثوذكسيّ، فأنا أسمع فقط تأملات شخصيّة مجرَّدة على المنبر المرقسيّ. أقولها آسفًا! أين التعليم اللاهوتيّ على المنبر، ذلك المنبر الذي أمتلأ أحاديثًا عن الحياة الاجتماعيّة، والمشاكل النفسيّة، والأغراض الشخصيّة. أين التعليم عن الروح القدس؟ لقد أصبحت صورة الله مُشوَّهة جرَّاء تجاهل الحديث عن طبيعة الله وعمله في التاريخ البشريّ الخلاصيّ. لقد أُهمِل الحديث عن اللاهوت، ظنًا بالخطأ، أنَّ اللاهوت صعب الحديث عنه! مع أنّ الحديث عن الله سهل التعبير فيه، لأنّ الله بسيط، وطبيعته المحبّة. تلك هيَ صورة الله، التي يجب أن يعرفها الكلّ. يجب الحديث عن الإيمان الأرثوذكسيّ، عن الإفخارستيّا، التي توحِّدنا مع الله، وتثبتنا فيه. دون الحديث اللاهوتيّ ينفصل المؤمن تلقائيًّا عن الكنيسة والليتورجيّة، لأن الهوَّة تتسع مع فصل الوعظ الروحيّ عن اللاهوت والليتورجيّة. إنَّ وضوح التعليم الأرثوذكسيّ يُشكِّل الضمان، لثبات المؤمن على التعليم الأرثوذكسيّ. فيكون مفتوح العينين أمام كلّ التيارات الإلحاديّة أو التيارات غير الأرثوذكسيّة.

5.  الجديّة في الإلقاء

لا مجال للمناقشة أو الأخذ والرد! فإنّها ليس ندوة روحيّة، بل هيَ عظة كنسيّة، فقط يكون المؤمن ”مستمع“ فيما لا يزيد أبدًا عن 15- 20 دقيقة حول كلمة دسمة لاهوتيًّا – ليتورجيًّا – روحيًّا. لا مجال أيضًا للفكاهة، ولا للقصص الاجتماعيّة! كلّ هذا يُخرج المؤمن عن المضمون الروحيّ، والخشوع، وتقبُّل وفهم المغزى الروحيّ واللاهوتيّ. لا مجال للكلمات المسجوعة، التراكيب المتكررة، والألفاظ الرنانة الطنانة! إن الهدف هو تغير الشخص داخليًا وعقليًا، تغير الإتجاه بأكمله، استعاب معاني لاهوتية وليتورجية جديدة، تؤثر في الذهن، لا على العاطفة! نحن لسنا في جلسة مشورة نفسية، نحن في قلب الحدث الليتورجي، والطبيب الحقيقي على المذبح، لعلاج خطايانا، النابعة من عقولنَّا، فمع تغير العقل يتغير القلب. التركيز على العقل وليس القلب! الاسلوب الهادي المتزن هو مثال العظة الناجحة، وليس الأسلوب العاطفي والصوت العالي والمتقلب، ليس بحركات بهلونية، بل بإتزان وخشوع، بكلمات مُدبرة حكيمة، خالية من الاخطاء اللغوية والمعلومات الخاطئة، بأسلوب سلس بسيط وقوي غير مُملل ولا كسلان، دون انفعالات بلا جدوى! تجنب التكرار والحشو والتطويل الممل! الاختصار هو الأنسب دائمًا، والعبارات القصيرة هي الأفضل، والأقوي تأثيرًا. وكلما زاد المستمع انتباهًا، اختصر الواعظ، حتّى لا يفقد المستمع تركيزه.