هل نتجاهل آلام الفراق المقدسة؟

كارت التعريف بالسؤال

البيانات التفاصيل
التصنيفات أسئلة وأجوبة, اللاهوت الأخروي - الإسخاطولوجي, صلاة اليوم الثالث, طقس الجناز, طقوس الكنيسة القبطية - اللاهوت الطقسي, عقيدة, قيامة الأموات
آخر تحديث 11 أكتوبر 2021
تقييم السؤال من 5 بواسطة إدارة الكنوز القبطية

 من كتاب كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ7 – الأخرويات والحياة بعد الموت – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

هل نتجاهل آلام الفراق المقدسة؟

آلام الفراق أمر طبيعى، يعيشها الإنسان الذى وهبه الله الأحاسيس والمشاعر ليمارسها... فقد تألمت مريم ومرثا لانتقال أخيهما (يو 11: 19). وإذ رآهما السيد المسيح متألمين بكى (يو 11: 35)، مشاركاً إياهما آلامهما!

وجاءت العظة التى ألقاها القديس أمبروسيوس فى جنازة أخيه الأصغر ساتريوس Satyrus تكشف عن مشاعر القديس المرهفة نحو أخيه المحبوب لديه جداً.

[أقدم هذه العظة لكى أرافقه، فأكون معه بالروح فى رحلته إلى مدة أطول قليلاً، ولكى احتضنه بعقلى هذا الذى تراه عيناى. لأثبت نظرى بعمق عليه، أودعه ببطء وأظهر له ما فى القلب. لأخاطبه بكل شكل من الأشكال التى تُظهر معزتى له.

توقف ذهنى عن التفكير، لست أظن إنى قادر أن أفكر بأن ذاك الذى لازلت قادراً على رؤيته أمامى قد رحل. لا أستطيع أن أتيقن أنه مات، فإنى لازلت محتاجاً إلى خدماته التى أنسب إليها حياتى ونسماتى... إنى محتاج أن أهدئ من حزنى، لا أن أنتزع مشاعر عواطفى، فتشبع اشتياقاتى لا أن اسكنها لتنام[18]].

عاد بعد أسبوع من موت أخيه يعظ، فيبدأ كلماته بصورة مختلفة تماماً عنها فى يوم الجنازة، إذ يقول: [لقد حجمت اشتياقاى، لئلا وأنا أطلب أدوية قوية لجرحى الملتهب أزيده التهاباً عوض تهدئة آلامه[19]].

سجل لنا أيضاً القديس أغسطينوس مشاعره الفياضة يوم انتقال والدته القديسة مونيكا فقال فى اعترافاته:

[أغمضت عينيها فتملكنى حزن شديد، كاد يتحول إلى دموع لو لم تمتصها عيناى، بأمر صادر من إرادتى، من ينبوعها حتى كادت تجففها. أواه!...

رأينا أنه من المناسب أن نحتفل بهذا المأتم بلا صراخ ولا نواح ولا بكاء، لا كمن يبكون على موتاهم كأنهم ذاهبون إلى الفناء التام، لأن موت أمى لا يدعو إلى الحسرة، ولأنه ليس موتاً كاملاً... لم أذرف دمعة حتى ولا خلال الصلوات، لكننى طوال نهارى كنت أشعر فى داخلى بثقل الحزن على[20]].

وكتب القديس جيروم إلى باولا Paula سائلاً إياها ألا تفرط فى الحزن بسبب وفاة بلاسيللا Blaesilla، يقول: [بالتأكيد الآن إذ نؤمن بالمسيح ونحمله فى داخلنا، فبسبب زيت مسحته التى قبلناها (1 يو 2: 27) يليق بنا ألا نفارق هيكله، أى عملنا المسيحى، ولا نرتبك كالأمم غير المؤمنين، بل نبقى على الدوام فى الداخل كخدام مطيعين لإرادة الرب[21]].

ولعل من أجمل ما قدمته القديس ماكرينا لأخيها القديس غريغوريوس أسقف نيصص قبيل نياحتها هو الحياة المتهللة السماوية كسمة الإنسان الروحى. فى حديثهما معاً تذكرا أخاهما القديس باسيليوس الكبير الذى تنيح منذ سنوات، فتأثر القديس غريغوريوس جداً وانسابت دموعه، أما هى فلم تشعر بانهيار أمام حزنه، بل حولت الحديث عن أخيهما إلى الحديث عن الحكمة السماوية... رفعت قلب أخيها الأسقف من الذكريات إلى الالتهاب بالحياة العلوية. تمالكت نفسها وهى هزيلة الجسد لتقول له إنه لا يليق أن نحزن على الراقدين كمن لا رجاء لهم. كانت تخفى تنهداتها وكل ما تعانيه من ضيق فى التنفس لتبرز الجانب المضئ المفرح. وكانت تتحدث معه وتجيب على أسئلته. وكما قال: [لقد بدت نفسى وكأنها قد ارتفعت تماماً من جوها البشرى بما قالته وتحت تأثير حديثها، ووقفت فى المقادس السماوية].

كتب القديس غريغوريوس مقالاً يحوى حديثه معها، جاء فى مقدمته:

[باسيليوس العظيم بين القديسين قد رحل إلى الله من هذا العالم. لقد حزنت عليه كل الكنائس! كانت أخته "المعلمة" لا تزال حية، وقد سافرت إليها، لكى نتبادل التعزية من أجل فقدان أخيها.

كانت نفسى بحق مضروبة بالحزن، وذلك بتلك الصفعة المؤلمة، فبحثت عن شخص يمكن أن يحمل ذات مشاعرى على قدم المساواة، حتى يمزج دموعه بدموعى.

إذ كنا معاً فى الحضرة ألهبت رؤيتى للمعلمة كل آلامى، إذ كانت راقدة منبطحة حتى الموت... لقد حاولت أن تصلح من أمرى بالحديث معى، وأن تصحح بلجام (شكيمة) براهينها ما أصاب نفسى من تشويش. لقد اقتبست كلمات الرسول إنه لا يليق بنا أن نحزن على الراقدين (1 تس 4: 13)، فإن هذه هى المشاعر من لا رجاء لهم. وبقلب يعتصر ألم سألتها: "كيف يمكن للبشر أن ينفذوا ذلك؟ [22]].

والكنيسة كأم حنون تشارك المتألمين مشاعرهم، فشترك الكهنة والشمامسة والشعب مع أسرة الراقد فى الآلام، معبرين عن ذلك بنغمات الحزن التى يترنمون بها فى صلوات الجنّاز... لكنها نغمات تبعث مع الحزن عزاء ورجاء. وكما يقول الرسول: "ثم لا أريد أن تجهلوا أيها الإخوة من جهة الراقدين، لكى لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم. لأنهم إن كنا نؤمن أن يسوع مات وقام، فكذلك الراقدون بيسوع سيحضرهم الله أيضاً معه" (1 تس 4: 13 - 14).

وفى عام 374 م، يبدو أن أمفليكوس Amphilochios لام ابن عمه القديس غريغوريوس أسقف نزينزا لأنه لم يتفاعل معه فى مشاعره عندما مات ابنه، فكتب إليه القديس وهو أصغر منه فى السن:

[إنك تحزن! أنت تبكى! بالنسبة لى، فيُفترض أنى مبتهج! كما ترى إننى كمن فى عيد، وأنا أفتخر بهذا.

أتحزن من أجل ابنك الذى أخذ منك واعطى كرامات يستحقها؟

إنك متأسف لأنه لم يعد بعد يهتم بك فى شيخوختك، ويرد لك كما يليق بما فعلته معه من أمور صالحة.

ماذا بالنسبة لى؟ ألم أحزن إذ تركنى والدى فى رحلته الأخيرة، فلا يعود يرجع ولا يُظهر ذاته لنا؟

مع هذا فأنا لا أنتقدك، ولا أطلب منك ذات التعزية التى لنا، فإننا نعرف أن الشعور بالألم بسبب موت الأحباء لا يترك مجالاً للاهتمام بمتاعب الآخرين...

إنك تتهمنى – كما فهمت – أننا لا نبالى بابنك الذى هو بالحق "أخى"، أو أننا قد خناه، وهذا أمر مؤلم! أتظن أننا لا نشعر بكل ما لحق بك وبأصدقائه وأقاربه أنه خسارة؟ ماذا يالنسبة لى؟ إننى خسرت أكثر من الكل، هو وحده كان سنداً لى، كان مرشدى، ورفيقى فى ممارسة التقوى...

بسبب حزنى القديم كنت عاجزاً عن الحضور إليك مرة أخرى، وذلك بسبب حزنى والتزامى نحو والدى، الذى يستحق الإكرام، فإنه ليس شئ يفوق هذا...

لتلقِ هذا الحزن جانباً الذى يبدو لى أنه ليس بلائقٍ[23]].

يظهر اهتمام المسيحيين بالمشاعر المقدسة نحو فراق الأحباء من الرسالة التى كتبها القديس غريغوريوس أسقف نزينزا إلى القديس غريغوريوس أسقف نيصص ليعزيه فى ثيؤسيبيا التى تبدو أنها كانت زوجته (قبل سيامته وعاشا بعد كأخين)، وإن كان البعض يرى إنها مجرد شماسة، عُرفت بفكرها الراجح وكانت محبوبة جداً[24].

[إنى معجب من ثباتك والفلسفة التى أظهرتها – كما سمعت – عند عبور أختك الطوباوية القديسة.

كان سلوكك هو سلوك رجل صالح وقائد تقى، له معرفة بالإلهيات والأمور البشرية أكثر من غيره. إنك إنسان يتطلع إلى ما هو محزن للغاية بالنسبة لغيره إو وجدوا فى مثل هذه الظروف، على أنها أمور محتملة.

لقد تركتها تذهب إلى القبر وتوضع فى أماكن الراحة كسنبلة قمح تُجمع فى الوقت اللائق (أى 5: 26)، بعدما شاركت فى سحر الحياة وهربت من اللحظات، فإن مدة حياتها مُقاسة تماماً، إذ رحلت قبل أن تحزن على موتك، فنالت كرامات فى جنازتها تليق بالقديسين.

كما تعرف، أود أنا أن أترك هذه الحياة، وإن كان ليس فى ذات العمر مثلك، إذ أريد لك عمراً أطول، إنما على الأقل ان أكون باراً مثلك!

ما هى مشاعرنا نحو ناموس الله الذى وُضع منذ القدم والذى تحقق الآن فى "ثيؤسيبياى" my Theosebia، ادعوها: "لى my" لأنها عاشت فى الله، فى قرابة روحية تفوق قرابة الدم.

ثيؤسيبيا هى مجد الكنيسة، لؤلؤة المسيح، فخر جيلنا، كرامة النساء.

ثيؤسيبيا أعظم مجداً وشهرة بين إخوتها الرائعين.

ثيؤسيبيا هى قديسة وزوجة كاهن، تكرم بالمساواة وتستحق أسراراً فائقة.

ثيؤسيبيا سيقتنيها الجيل القادم ويضعها فى سجل الخالدين، وفى قلوب كل من يعرفها ومن سيأتى بعد.

لا تعجب إن كنت أكرر اسمها، فإنى أجد لذة فى تذكر هذه الطوباوية[25]].


[18] De excessmfrat. 1.

[19] De excess frat. 1: 2.

[20] Confession, Book 12: 9: 29, 33.

[21] Ep 4: 39.

[22] Dialogus de anima et resurrectione qui inscribtur Macrinia.

[23] Letter 63 to Amphilochioc, the Elder, his consin.

[24] - للمؤلف: القديس غريغوريوس أسقفنيصص 1993، ص12.

[25] Letter 197.

كيف نتغلب على آلام الفراق؟

من يحمل النفس بعد انفصالها عن الجسد؟