الأصحاح العاشر – سفر زكريا – القمص تادرس يعقوب ملطي

هذا الفصل هو جزء من كتاب: تفسير سفر زكريا – القمص تادرس يعقوب ملطي.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

الأصحاح العاشر

إنتظار الملكوت المسياني.

إن كان الله قد وهبهم نعمة في عيني الإسكندر الأكبر، وأعطاهم نصرات متتالية في عصر المكابيين، لكن الحاجة إلى الدخول في الملكوت المسياني، حيث يأتي الملك الوديع واهب الخلاص ومانح السلام الداخلي للأمم، ففي هذا الملكوت ننعم بالآتي:

1. التمتع بالمطر المتأخر [1].

2. التمتع برعاية الله الشخصية [2 - 3].

3. التمتع بالنصرة وردّ الملك [4 - 12].

العدد 1

1. التمتع بالمطر المتأخر:

"اطلبوا من الرب المطر في أوان المطر المتأخر فيصنع الرب بروقًا ويعطيهم مطر الوبل، لكل إنسان عُشباً في الحقل" [1].

قديمًا بسبب الشر أوقف إيليا المطر ثلاث سنين وستة أشهر حتى يتأدب الكل وينزل المطر، وهكذا تحجب خطايانا فيض نعم الله الغزيرة علينا وتحرمنا من مطره الذي يحول البرية القاحلة إلى جنة تُفرح قلبه (نش 5: 1).

في دراستنا لسفر هوشع (6: 3) لاحظنا أنه في فلسطين يسقط مطر مبكر حيث تلقي البذار، ومطر متأخر به يتم نضج المحصول، المطر الأول يشير إلى عمل الروح القدس خلال الناموس والنبوات إلخ... قبل مجيء السيد، أما المتأخر فيشير إلى فيض حلول الروح القدس على كنيسة العهد الجديد، الذي أعلن عنه يوئيل النبي: "أسكب روحي على كل البشر" (يؤ 2: 28).

يمكننا القول أن المطر المبكر هو الناموس والنبوات التي منحها الرب لرجال العهد القديم، وأما المطر المتأخر فهو الكرازة بالإنجيل الذي يكشف أسرار الله ويهبنا معرفة عميقة ورؤيا للحياة الإلهية.

يرى القديس ديديموس الضرير أن المطر المبكر أيضًا يعني التعاليم الخاصة بتجسد المخلص أما المطر المتأخر فهو التمتع بأسرار لاهوته.

على أي الأحوال ليتنا لا نكف عن أن نطلب من الله بغير إنقطاع لكي يبرق في قلوبنا ببهاء مجده واهبًا إيانا مطره المتأخر ليسقي أرضنا بحبه الإلهي ويهبها ثمرًا متكاثرًا.

الأعداد 2-3

2. التمتع برعاية الله الشخصية:

إن كان الله يمطر على الصالحين والأشرار، لكنه لا يهب المطر الروحي إلاَّ لطالبيه، والآن لكي يتعهد قطيعه روحيًا يلزم لهذا القطيع أن يترك خداعات العرافة والسحر والأحلام التي للأنبياء الكذبة فيرعى هو شعبه.

"لأن الترافيم قد تكلموا بالباطل والعرافون رأوا الكذب وأخبروا بأحلام كذب، يغرون بالباطل، لذلك رحلوا كغنم. ذلوا إذ ليس راعٍ، على الرعاة إشتعل غضبي فعاقبت الأعتدة، لأن رب الجنود تعهد قطيعه بيت يهوذا وجعلهم كفرس جلاله في القتال" [2 - 4].

الترافيم عبارة عن تماثيل لآلهة يقيمونها داخل البيوت كحارسة لهم ولكي يستشيروها قبل كل تصرف. فإن الله لا يمكن أن يتسلم رعاية شعبه ماداموا يتكلون على الترافيم ويسألون العرافة ويلجأون إلى أحلام الأنبياء الكذبة، فإن هذه جميعها قد تهادن الإنسان وتخدعه بكلمات لطيفة مخادعة، لكن المتكلين عليها لا يسقطون في المذلة إذ هم بلا رعاية. والآن إذ يترك الشعب هذه الخداعات الباطلة يقوم الرب بعملين: يعلن غضبه على الرعاة الفاسدين ويتسلم هو الرعاية بنفسه، كما أكد في سفر حزقيال: "هأنذا أسأل غنمي وأفتقدها... أنا أرعى غنمي وأربضها يقول السيد الرب" (حز 234: 11، 15). إنه يُعاقب الأعتدة (الكباش) الشريرة ويتعهد قطيعه مقدمًا حياته فدية عنها (يو 10: 11). يهبهم حياته القادرة أن تقيمهم كفرس في موكب الخلاص، قادرون على القتال ضد إبليس وأعماله. وكما قيل: "هل على الأنهار حمي يارب، هل على الأنهار غضبك، أو على البحر سخطك حتى أنك ركبت خيلك مركباتك مركبات الخلاص؟!" (حب 3: 8).

الأعداد 4-12

3. التمتع بالنصرة وردّ المُلك:

ثمر رعاية الله الشخصية هو تمتعهم بالنصرة والأمان والفرح وردّ مُلك الله فيهم.

أولاً: "منه الزاوية، منه الوتد، منه قوس القتال، منه يخرج كل ظالم سريعًا" [4]. تظهر الرعاية الإلهية الحقة بتجلي السيد المسيح وسط شعبه كحجر زاوية يربط الكل معًا فيه، ويسند الجميع بروح واحد. يظهر فيهم أيضًا كوتد يسند خيمتهم الزمنية أي حياتهم المؤقتة فلا تحركها رياح التعاليم الغربية ولا عواصف محبة العالم وشهوات الجسد. هذا هو الوتد الإلهي الذي يسند الجسد (الخيمة) بتقديسه لحساب ملكوت الله. ويكون الرب أيضًا فيهم قوس قتال يصوبه المؤمن محاربًا الشر والخطية، فيُقال عنهم: "واحد منكم يطرد الفًا ويهزم إثنان ربوة" (تث 32: 30)، أما هم فكجنود للرب حاملين السيد المسيح سهمهم الحقيقي فيقولون: "أن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولات هذا العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف 6: 13).

أما قوله: "منه يخرج كل ظالم سريعًا" فيشير إلى عمله في كنيسته التي تقبله حجر الزاوية والوتد والقوس الروحي، إذ ينزع عنها الظالم والمفسد ليكون الكل فيها مقدسين به.

ثانيًا: "ويكونون كالجبابرة الدائسين طين الأسواق في القتال ويحاربون لأن الرب معهم والراكبون الخيل يخزون" [5]. هذا هو جبروتهم وهذه هي غلبتهم أنهم يدوسون طين الأسواق فلا يكون كصاحب الوزنة الذي دفنها في التراب (مت 25: 18)، إنما بالرب السماوي يرتفعون فوق كل فكر مادي محلقين في السماويات، مهما بدا هذا الفكر عنيفًا كراكبي الخيل.

يميز القديس ديديموس الضرير بين راكبي الخيل والفرسان؛ فراكبو الخيل هم الذين يمتطونها دون ضبطها بلجام، فإن كانت الخيل تُشير إلى الجسد فإن النفس تمتطي الجسد وتتركه في جموحه وعناده، لذا تخزى هذه النفس بسبب شهوات الجسد. كما تُشير الخيل إلى الأفكار السوفسطائية المتعجرفة تمتطيها النفس فتسقط في الكبرياء وتُحرم من الخلاص. عن راكبي الخيل قيل: "الفرس وراكبه طرحهما في البحر" (خر 15: 1)، "هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل أما نحن فإسم الرب إلهنا نذكر" (مز 20: 7)، "باطل هو الفرس لأجل الخلاص" (مز 33: 7). هذا بالنسبة لراكبي الخيل أما الفرسان فيشيرون إلى من يمتطي الفرس أو الخيل ضابطًا إياه بلجام، فقد قيل لإيليا النبي: "يا أبي يا أبي مركبة إسرائيل وفرسانها" (2 مل 2: 12).

ثالثًا: يعوضهم عن السنين التي أكلها الجراد، فعوض الخسائر التي لحقت بهم يوم رفضهم الرب ينالون بركات عظمى تغطي الخسائر السابقة، إذ يقول: "وأقوي بيت يهوذا وأخلص بيت يوسف وأرجعهم، لأني قد رحمتهم ويكونون كأني لم أرفضهم لأني أنا الرب إلههم فأجيبهم" [6]. لماذا يتحدث عن بيت يهوذا وبيت يوسف؟ لأنه من البيت الأول خرج يسوع واهب الخلاص، ومن البيت الثاني ظهر يوسف رمز المسيح الذي قدم القمح بعد أن سحقهم الجوع والقحط (تك 41: 56). فإن كان إسرائيل قد مرت به سنوات قحط فيوسف الحقيقي يشبعهم كقول القديسة مريم: "أشبع الجياع خيرات" (لو 1: 53). إنه الرب إلههم الذي يجيب سؤالهم ويشبع إحتياجاتهم، فلا يعودون يذكرون الماضي بمجاعته الروحية القاسية لأن أفراح الحاضر تغطي على كل أحزان الماضي. لذا يقول: "ويكون أفرايم كجبار ويفرح قلبهم كأنه خمر" [7]. هذه هي سمة العصر المسياني: فرح الروح القدس الذي لا يستطيع العالم أن ينزعه من القلب!

هنا يذكر أفرايم كجبار مملوء فرحًا، ربما إشارة إلى مملكة الشمال التي عاشت في السبي مدة أطول من يهوذا لذا أكدّ مساندته لها. وربما قصد سبط أفرايم بالذات لأنه العنيف الذي كان المحرض الأول لفساد مملكة الشمال، خاصة وأن يربعام الذي حرض الأسباط العشرة على الثورة ضد يهوذا كان أفرايمي (1 مل 11: 26؛ 12: 2)، وهو الذي أقام العبادة الوثنية في إسرائيل (1 مل 12: 25 - 33). الآن يؤكد الرب لافرايم أنه يصير كجبار روحيًا ويمتلئ قلبه فرحًا.

رابعًا: يجمع شتاتهم وينميهم في حضنه: "أُصفر لهم وأجمعهم لأني قد فديتهم ويكثرون كما كثروا" [8]. إنه كالنحّال الذي يُصفر لنحله المشتت لجمع العسل من المروج والبساتين. إنه يضمهم إليه ويهبهم بالبركة أن ينموا ويكثروا كما سبقوا فأكثروا، بمعنى أنه إن كان قد إهتم بهم وهم تحت التأديب، تحت عبودية فرعون فكانوا ينمون بقدر ما أذلوهم (خر 1: 7) أفليس بالأولى يُنميهم ويكثرهم حين يفديهم من العبودية؟!

إنه يُحقق فيهم وعده لإبراهيم أب الآباء: "لأني أجعلك أبًا لجمهور من الأمم، وأثمرك كثيرًا جدًا وأجعلك أممًا" (تك 17: 5 - 6)، وكما قيل في إشعياء: "الصغير يصير ألفًا والحقير أمة قوية" (إش 60: 22). وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [لو أخذت هذه الكلمات بطريقة حرفية لظهرت صعبة فإن كثير من القديسين لم يكن لهم أولاد قط مثل إيليا وأليشع ويوحنا المعمدان الذي لم يبلغ إليه أحد في الفضيلة ومعرفة الأسرار المقدسة (مت 11: 11) ومع ذلك لم يكن له أولاد لذا يجب أن نفهم ذلك روحيًا]. فمن جهة أخرى يكون لهم أولاد في الروح كالذين ولدهم بولس في الإنجيل (1 كو 4: 15)، الذين تمخض بهم حتى يتصور المسيح فيهم (غلا 4: 19)، أو الذين يدعوهم بطرس الرسول: "أولاد الطاعة" (1 بط 1: 14)، ومن جهة أخرى يكون لهم أولاد في القلب أي ثمار الروح القدس المعلنة فينا كأولاد يفرحون قلب الله!

خامسًا: إذ يرجعهم إليه لينموا ويثمروا بالروح القدس يعود فيزرعهم بين الشعوب كبذار حية تدفن في الأرض لتأتي بثمر كثير، إذ يقول: "وأزرعهم بين الشعوب فيذكرونني في الأراضي البعيدة ويحيون مع بنيهم ويرجعون، وأرجعهم من أرض مصر وأجمعهم من أرض أشور وآتي بهم إلى أرض جلعاد ولبنان ولا يوجد لهم مكان، ويعبر في بحر الضيق ويضرب اللجج في البحر وتجف كل أعماق النهر وتخفض كبرياء أشور ويزول قضيب مصر، وأقويهم بالرب فيسلكون بإسمه يقول الرب" [9 - 12].

يا لها من صورة حية ومفرحة لعمل الله فيهم، فبعد أن يجمعهم من سبي الخطية ويردهم إليه، يلقيهم كبذار حية وسط الشعوب ليشهدوا للخلاص في الأراضي البعيدة ويكون لهم أبناء روحيون في الرب. لكنهم لا يسلكون بروح العالم إنما ترجع قلوبهم عن أرض مصر الرمزية أي محبة العالم، ويجمعهم الرب من أشور أي من روح الكبرياء وينطلق بهم إلى أرض جلعاد ولبنان، ولئلا يُفهم ذلك ماديًا قال: "ولا يوجد لهم مكان"، إذ هم في حالة هجرة مستمرة وإنطلاقة دائمة من قوة إلى قوة ومن مجد إلى مجد، مرتفعة قلوبهم في السمويات، وليس لها مكان في الأرض!

يعلق القديس ديديموس الضرير على هذه العبارة بكونها إعلانًا عن الهجرة الروحية للإنسان المؤمن: [الذي يعبر من الرذيلة إلى الفضيلة. هذا هو بالحق تغيير البلد، تغيير من الخطية إلى البرّ، ومن الشر إلى التقوى... ويسير من فضيلة إلى فضيلة (مز 83: 8)، ويعبر من ظل الناموس حيث الحرف الذي يقتل ليبلغ الروح الذي يُحيي (2 كو 3: 6)]... ويري القديس ديديموس أن الهجرة إلى لبنان الروحية إنما هي هجرة إلى حالة التأله بمعنى التمتع بسمات الرب يسوع، حيث تدخل النفس إلى الكنيسة المجيدة المقدسة التي "لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك" (أف 5: 27)، فيُقال عنها: "رائحة ثيابكِ كرائحة لبنان" (نش 4: 11).

إذ يدخل بهم إلى لبنان الجديد أي الحياة الكنسية المقدسة، يعبر بهم في بحر الضيق، كالسمك الحيّ الذي يختفي في المياه مع كل إضطراباتها والبحر بكل أمواجه دون أن تفقده حياته... إنهم يدخلون إلى الضيق في هذا العالم لكن لا يستطيع لجج العالم أن تبتلعهم ولا أعماق النهر أن تسحبهم! إنما يخرجون من كل ضيقة أكثر قوة معلنين ملكوت الله في داخلهم، لذا يختم حديثه عن بركات هذا العصر بقوله: "وأقويهم بالرب فيسلكون بإسمه يقول الرب" [12].

No items found

الأصحاح الحادي عشر - سفر زكريا - القمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح التاسع - سفر زكريا - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفاسير سفر زكريا الأصحاح 10
تفاسير سفر زكريا الأصحاح 10