الأصحاح الأول – سفر نشيد الأنشاد – القمص تادرس يعقوب ملطي

مقدمة في سفر نشيد الأنشاد

مركزه عند اليهود

تسلمت الكنيسة المسيحية من يدي الكنيسة اليهودية هذا السفر ضمن أسفار العهد القديم، وقد احتل هذا السفر مركزًا خاصًا بين الأسفار لما يحمله من أسلوب رمزي يعلن عن الحب المتبادل بين الله وكنيسته، أو بين الله والنفس البشرية كعضو في الكنيسة.

وقد ضمت النسخة العبرية للتوراة التي جمعها عزرا الكاتب في القرن الخامس قبل الميلاد هذا السفر، كما ترجم إلى اليونانية ضمن أسفار النسخة السبعينية في القرن الثالث قبل الميلاد، دون أي اعتراض أو شك من جهة معانيه الروحية.

وفي أيام السيد المسيح، حاول الحاخام شمعي استثناءه من الكتاب المقدس بسبب رغبته في التفسير الحرفي للكتاب المقدس بطريقة قاتلة، فأكدت مدرسة هلليل اليهودية التقليدية قانونية السفر. وأكد مجمع[1] Jamnias (95 - 100م) قانونيته.

وفي عام 135م أكد الحاخام أكيبا أهميته العظمى، قائلاً: "الكتاب كله مقدس، أما سفر نشيد الأناشيد فهو أقدس الأسفار، العالم كله لم يأتِ بأهم من ذلك اليوم الذي فيه أعطي هذا السفر".

وجاء في الترجوم اليهودي[2] "الأناشيد والمدائح التي نطق بها سليمان النبي، ملك إسرائيل، بالروح القدس، أمام يهوه الرب العالم كله في ذلك رنمت عشرة أناشيد، أما هذا النشيد فهو أفضل الكل".

وأكدت المدراش[3] Midrash: "نشيد الأناشيد هو أسمى جميع الأناشيد، قدمت لله الذي سيحل بالروح القدس علينا. إنه النشيد الذي فيه يمتدحنا الله، ونحن نمتدحه!".

ربما يتساءل البعض: لماذا استخدم الوحي هذا الأسلوب الرمزي الغزلي في التعبير عن الحب المتبادل بين الله وكنيسته؟

1. اعتاد الله أن يتحدث معنا خلال الوحي بذات الأسلوب الذي نتعامل به في حياتنا البشرية، فهو لا يحدثنا فقط باللغات البشرية، بل ويستخدم أيضًا تعبيراتنا، حتى لا يكون الوحي غريبًا عنا.

نذكر على سبيل المثال أن الوحي يتحدث عن الله بأنه حزن أو غضب أو ندم، مع أن الله كليّ الحب لن يحزن لأنه لا يتألم، ولا يغضب إذ هو محب، ولا يندم لأن المستقبل حاضر أمامه وليس شيء مخفي عنه. لكنه متى تحدث الكتاب عن غضب الله إنما يود أن يعلن لنا أننا في سقطاتنا نلقي بأنفسنا تحت عدل الله، وما يعلنه الوحي كغضب إلهي إنما هو ثمر طبيعي لخطايانا، نتيجة هروبنا من دائرة محبته.

بنفس الطريقة يستخدم الوحي التعبيرات البشرية عندما يقول: "عينا الرب نحو الصديقين، وأذناه إلى صراخهم، وجه الرب ضد عاملي الشر" (مز 34: 15)، فهل يعني هذا أن لله عينان أو أذنان أو وجه! إنما هو يحدثنا عن رعاية الله لنا بأسلوبنا!

هكذا أيضًا إذ يتحدث الكتاب المقدس عن كرسي الله أو عرشه، فهل أقام الله له كرسيًا أو عرشًا محدودًا يجلس عليه؟ ألم تكتب هذه كلها لكي نتفهم ملكوت الله ومجده وبهاءه حسب لغتنا وتعبيراتنا البشرية؟!

على نفس النمط يحدثنا الوحي عن أعمق ما في حياتنا الروحية، ألا وهو اتحادنا بالله خلال الحب الروحي السري، فيستعير ألفاظنا البشرية في دلائل الحب بين العروسين، لا لنفهم علاقتنا به على مستوى الحب الجسداني، وإنما كرموز تحمل في أعماقنا أسرار الحب لا ينطق له.

هذا الأمر ليس بغريب، فقد استخدمه كل الأمم حين تحدثوا عن العشق الإلهي والهيام في محبة الله. حينما تعلن النفس رغبتها في أن ترتمي في أحضان الله لتحيا به ومعه وحده، ليشبع كل أعماقها.

2. هذا المفهوم للحب الإلهي كحب زوجي روحي يربط النفس بالله ليس غريبًا عن الكتاب المقدس، فقد استخدمه أنبياء العهد القديم كما أستخدمه رجال العهد الجديد أيضًا، كما سنرى ذلك عند حديثنا عن "العرس السماوي".

3. عبارات هذا السفر لا يمكن أن تنطبق على الحب الجسداني، ولا تتفق مع القائلين أنه نشيد تغنى به سليمان حين تزوج بابنة فرعون أو ما يشبه ذلك، نذكر على سبيل المثال[4]:

أ. "ليقبلني بقبلات فمه، لأن حبك أطيب من الخمر" (1: 1). هكذا تُناجي العروس عريسها، لكنها تطلب قبلات آخر "فمه"، مع أنها تعلن له "حبك" أطيب من الخمر. كيف يمكن لعروس أن تطلب من عريسها أن يقبلها آخر بينما تستعذب حب العريس نفسه؟ يستحيل أن ينطبق هذا على الحب الجسداني، لكنه هو مناجاة الكنيسة للسيد المسيح عريسها، فتطلب قبلات فم الآب، أي تدابيره الخلاصية، والتي تحققت خلال حب الابن العملي، كقول الكتاب "الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو خَّبر".

ب. "لرائحة أدهانك الطيبة، اسمك دهن مهراق، لذلك أحبتك العذارى" (2: 1) إذ تُشيد العروس برائحة عريسها الطيبة المنعشة، وأن اسمه عطر كالدهن المسكوب، تعلن أن العذارى قد أحببنه. هل يمكن لعروس أن تفرح لأن عريسها موضع حب عذارى غيرها؟ لكن العروس هنا هي الكنيسة التي تُريد أن كل المؤمنين - كالعذارى - يحبون عريسها.

ج. "اجذبني وراءك فنجري" (4: 1). كيف تغير ضمير المتكلم المفرد إلى المتكلمين الجمع في عبارة واحدة؟! هل المتكلم هنا مفرد أم جمع؟ إن كانوا جمعًا، فكيف تلتقي الجماعة في حب الواحد جسدانيا؟! وأي عروس تطلب من عريسها أن يجتذبها فتجري ومعها كثيرات نحو حبه؟!

من هذه الأمثلة وما على شاكلتها كما سنرى، يظهر هذا السفر قد كتب لا ليُعبر عن حب جسداني بين عريس وعروسه، بل حب إلهي يربط الله بكنيسته ومؤمنيه.

كاتب السفر وعنوانه.

كتب هذا السفر سليمان الحكيم، الذي وضع أناشيد كثيرة (1 مل 4: 32).

وقد لقب "نشيد الأناشيد"، وذلك لأن تكرار كلمة "نشيد" تُشير إلى أفضليته على غيره من الأناشيد، كالقول "ملك الملوك، رب الأرباب، قدس الأقداس، سبت السبوت، سماء السموات، باطل الأباطيل، عبد العبيد[5].

سماته.

1. إن كان سليمان قد كتب سفر الجامعة مدركًا حقيقة الحياة الأرضية أنها "باطل الأباطيل"، فإنه إذ تلامس مع الحياة السماوية وجدها "نشيد الأناشيد".

في سفر الجامعة يعلن الحكيم أنه لا شبع للنفس خلال كثرة المعرفة، أما في سفر نشيد الأناشيد فتشبع النفس وتستريح تمامًا بالحب الإلهي، ولا تكون بعد في عوز.

في سفر الجامعة يتحدث عن كل ما هو تحت الشمس وإذا ليس فيه جديد، أما في النشيد إذ تدخل النفس إلى أحضان الله ترى كل شيء جديدًا.

2. فهم اليهود هذا السفر بطريقة رمزية تمثل العلاقات القائمة بين الله (العريس) وشعبه (العروس) منذ الخروج حتى مجيء المسيا، وفهمه المسيحيون أنه يمثل العلاقة بين المسيا المخلص والكنيسة عروسه. وقد أخذ المسيحيون ثلاثة اتجاهات في التفسير الرمزي لهذا السفر، هذه الاتجاهات في الحقيقة متكاملة ومتلازمة معًا، وهي:

أ. يرى العلامة أوريجينوس والقديسين جيروم وأغسطينوس وغيرهم أن السفر يُشير إلى العلاقة بين السيد المسيح وكنيسته ككل، أي جماعة المؤمنين.

ب. يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص وبرنارد Bernard of Clairvaux أن السفر يُعبر عن العلاقة بين السيد المسيح والنفس البشرية على المستوى الشخصي. وقد أخذ العلامة أوريجينوس بهذا الاتجاه أيضًا[6] جنبًا إلى جنب مع الاتجاه السابق.

ج. يُفسر بعض إخوتنا الكاثوليك هذا السفر بكونه يُعالج موضوع التجسد الإلهي، ويروا في العروس أنها القديسة مريم والدة الإله.

والحقيقة أن المؤمن إذ يتذوق المحبة المتبادلة بين الله والكنيسة الجامعة، إنما يراها محبة شخصية تمس حياته هو بالذات. فالعلاقة التي تربط الله بالجماعة تؤكد وتثبت العلاقة بين الله والنفس البشرية، لا كعلاقة فردية خلالها ينعزل الفرد عن الجماعة، بل علاقة شخصية يختبرها الفرد بكونه عضو في الجماعة. أما عن القديسة مريم، فهي تمثل بطريقة ما الكنيسة الجامعة، كعضو أمثل وسام[7]، فإن فسر البعض هذا السفر كعلاقة محبة تربط السيد المسيح بالقديسة مريم، إنما لأنها قد تمتعت بحب الله كواحدة منا. ما قد تمتعت به يحمل بشكلٍ أو آخر ما ننعم نحن به أيضًا، وإن كان بدرجة مختلفة!

3. يرى العلامة أوريجينوس أن المؤمن وهو منطلق من برية هذا العالم ليدخل أورشليم السمائية يتغنى بأناشيد كثيرة، حتى متى استقر في حضن العريس الأبدي في الحجال السماوي يترنم بنشيد الأناشيد، أما الأناشيد التي يُسبح بها في الطريق، فهي:

أ. إذ تعبر النفس مع الشعب بني إسرائيل البحر الأحمر، تقول: "أرنم للرب لأنه قد تعظم. الفرس وراكبه طرحهما في البحر. الرب قوتي ونشيدي، وقد صار خلاصي" (خر 15: 1).

يعلق العلامة أوريجينوس على هذا النشيد قائلاً: "وإن كنت تترنم بهذا النشيد الأول إلاَّ أن الطريق لا يزال طويلاً للوصول إلى نشيد الأناشيد[8]".

هذا هو بدء الأناشيد، تترنم به النفس البشرية عندما تنعم بالدخول إلى مياه المعمودية، فتدرك أن "الله" هو سرّ قوتها وخلاصها وغلبتها على إبليس وكل جنوده... لقد صارت بالمعمودية ابنة له، تحت رعايته، يهبها روحه القدوس ليتمم خلاصها.

لهذا جعلت الكنيسة هذا النشيد جزءًا أساسيًا في التسبحة اليومية، وكأنها تُريد أن يتذكر أولادها كل يوم عبورهم من عبودية الخطية وتمتعهم بالتبني لله خلال المعمودية، فتتأكد في أذهانهم غلبتهم على قوات الظلمة، ويشهدوا للرب مخلصهم!

ب. يرى العلامة أوريجينوس أن النشيد الثاني في هذه الرحلة الروحية نترنم به عندما نأتي إلى البئر التي حفرها الرؤساء[9] في البرية، "حيث قال الرب لموسى أجمع الشعب فأعطيهم ماء" (عد 21: 16)... فترنم الكل هكذا: "اصعدي أيتها البئر، أجيبوا لها، بئر حفرها الرؤساء، بئر حفرها شرفاء الشعب بصولجان بعصيهم".

هذه أنشودة النفس التي تتقبل من الله نفسه - خلال الكنيسة (الرؤساء) - ينابيع المياه الحية. فآبار الآباء أو الرؤساء هي عطية الله نفسه، كقول الرب لموسى "أعطيهم ماء"، لكن الذي يحفرها هم الرؤساء، أي العاملون في كرم الرب.

ج. نترنم بالنشيد الثالث حين نقف مع موسى النبي على ضفاف الأردن، ونسمعه يترنم في مسامع الشعب قبيل رحيله، قائلاً: "أنصتي أيتها السماوات فأتكلم، ولتسمع الأرض أقوال فمي. يهطل كالمطر تعليمي ويقطر كالندى كلامي... كما يحرك النسر عشه وعلى فراخه يرف ويبسط جناحيه ويأخذها ويحملها على منكبيه، هكذا الرب وحده اقتاده وليس معه إله أجنبي. أركبه على مرتفعات الأرض فأكل ثمار الصحراء، وأرضعه عسلاً من حجر، وزيتًا من صوان الصخر. وزبدة بقر ولبن غنم مع شحم خراف وكباش أولاد باشان وتيوس مع دسم لب الحنطة، ودم العنب شربته خمرًا" (تث 32).

هذه أنشودة النفس وقد أدركت رعاية الله لها وسط البرية، يرافقها كما يرافق الأب ابنه كل الطريق، يقودها ويهتم بكل احتياجاتها الروحية والمادية. تراه النفس كالنسر الذي يرف على فراخه، ويبسط جناحيه فيحميها، يترفق بها ويحملها على منكبيه، يعطيها كل رعايته ولا يتركها تعتاز إلى آخر غيره. يشبعها وسط القفر، فيخرج لها من الحجر عسلاً ومن صوان الصخر زيتًا، أي يصنع من أجلها المستحيلات!

د. يتحدث العلامة أوريجينوس عن النشيد الرابع في الطريق أثناء الجهاد الروحي المستمر، قائلاً: "يجب عليك أيضًا أن تحارب تحت قيادة يشوع، وتملك الأرض المقدسة ميراثًا لك، وتتنبأ النحلة (دبورة) لك وتكون قاضية لك، فإن" دبورة "تعني" نحلة "، لكي ما تنطق شفتاك بالتسبحة التي وردت في سفر القضاة[10]".

هذه التسبحة نترنم بها أثناء جهادنا الروحي، فنكون كالنحلة، حتى نملك السماء ميراثًا لنا، قائلين: "أنا أنا للرب أرنم. أزمر للرب... تزلزلت الجبال من وجه الرب" (قض 5). فان الرب يزلزل أمامنا الجبال الوعرة أثناء جهادنا الروحي، ويفتح لنا باب السماء لندخل بالفرح ونرث إلى الأبد.

هـ. أما النشيد الخامس فهو الذي نطق به داود حين هرب من أيدي أعدائه، إذ قال: "الرب سند ليّ، قوتي وملجأي ومخلصي". هكذا تملك النفس مع الملك داود حين تتحطم قوى الشيطان عدوها بالله سندها وقوتها وملجأها وخلاصها. وكما ورث داود شاول نرث نحن أيضًا ونحتل مركز إبليس قبل السقوط، إذ كان من أعظم الطغمات السمائية.

و. إذ تكتشف النفس أسرار الملكوت، تنشد مع الأنبياء النشيد السادس، قائلة: "لا نشدن عن حبيبي نشيد محبي لكرمه" (إش 5: 1).

في اختصار نستطيع القول بأن أوريجينوس شاهد النفس في حالة ترنم مستمر تسبح سبعة أناشيد: النشيد الأول وهي خارجة من جرن المعمودية في حالة التبني لله، والثاني وهي تشرب من ينابيع الله التي تفيض في كنيسته، والثالث وهي تتلمس رعاية الله المستمرة وهي في البرية، والرابع تسبحة أثناء جهادها كالنحلة، والخامس تترنم به كلما تحظى بغلبة ونصرة فتملك مع الرب، والسادس تنشد مع الأنبياء حين تتحسس أسرار الأبدية والسماويات، وأخيرًا السابع هو سفر نشيد الأناشيد الذي تنطق به إلى الأبد حين تدخل إلى حضرة العريس نفسه، وتبقى معه في حجاله السماوي وجهًا لوجه. =.

4. كان هذا السفر يُقرأ في اليوم الثامن من الاحتفال بعيد الفصح[11] بكونه نشيد الحب الأبدي المقدم لله، أو الذي يربط الله بالمؤمنين الذين ينعمون بالخلاص خلال الدم... فاليوم الثامن يُشير إلى ما بعد أيام الأسبوع (7 أيام)، أي يُشير إلى الحياة الجديدة، أو الحياة الأخرى التي ننعم بها خلال السيد المسيح فصحنا الحقيقي. وكأن النشيد يحمل نبوة عن الفصح الحقيقي الذي ينقذنا من الموت ويدخل بنا إلى حجاله "سماء السماوات"، عروسًا عفيفة، متحدة به اتحادًا أبديًا.

سفر نشيد الأناشيد في الحقيقة هو سيمفونية رائعة، تطرب بها النفس المنطلقة من عبودية هذا العالم، متحررة من سلطان فرعون الحقيقي "الشيطان"، متكئة على صدر ربها، تدخل أورشليم السمائية في حرية مجد أولاد الله، لهذا لا يتحدث هذا السفر عن وصايا أو تعاليم، بل عن سرّ الحب الأبدي والحياة مع العريس السماوي. هو سيمفونية القلب المتحد مع مخلصه! هو نشيد فريد في نوعه وفي معانيه، يترنم به في تقديس بدم الحمل، داخلاً بدالة الحب إلى قدس الأقداس السمائي بغير كلفة أو روتين أو رسميات. حتى يستقر في حضن الآب، مرتفعًا فوق كل فكر مادي جسداني إلى الفكر الروحي الحق. وكما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [يأمرنا الكلمة في النشيد ألا نفكر فيما هو للجسد - حتى ونحن بعد في الجسد - بل نرتفع إلى الروح، فنحول كل تعبيرات الحب التي نجدها هنا كتقدمات طاهرة غير مدركة، نقدمها للرب الصالح الذي يفوق كل فهم، والذي فيه وحده نجد كل عذوبة وحب ومشتهي.].

فنشيد الأناشيد في الحقيقة هو أغنية الحب الإلهي، مسجلة برموز غزلية، تحمل معان سماوية، أكثر عمقًا مما يحمله ظاهرها... يترنم بها الناضجون روحيًا، الذين عبروا اهتمامات العالم والجسد وانطلقوا سالكين بالروح، لذلك يسميه العلامة أوريجينوس "سفر البالغين"، إذ يقول: [أما الطعام القوي للبالغين... الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة، وأما الأطفال في الإيمان فلهم في كلام الله غذاء يجدونه في الأسفار الأخرى...

واخطر ما نخشاه أن يجد الجسدانيون الأرضيون سبيلاً إلى هذا السفر! إنها مجازفة قاتلة للجسداني الذي لا عهد له أن يسمع أو يتعامل بلغة الحب في الطهارة... ونصيحتي لكل إنسانٍ مازال في ظلمة الجسد وتتحكم فيه الطبائع البشرية أن يبتعد عن قراءة هذا السفر.

وعندي أن العبرانيين كانوا محقين لما جعلوا هذا السفر - مع أجزاء أخرى من العهد القديم - ممنوعًا على الذين لم يبلغوا الكمال[12].].

وعندما تحدث القديس غريغوريوس أسقف نيصص عن هذا السفر قال: "إنني أتحدث عن سرّ نشيد الأناشيد معكم أنتم جميعًا يا من تحولتم إلى ما هو إلهي...

تعالوا أدخلوا إلى حجرته الزيجية غير الفاسدة، يا من لبستم ثوب أفكار النقاوة والطهارة الأبيض! فان البعض لا يرتدي ثوب الضمير النقي اللائق بعروس إلهية، فيرتبكون بأفكارهم الذاتية، ويحدرون كلمات العريس النقية إلى مستوى اللذات البهيمية، وهكذا يبتلعون في خيالات مشينة[13].].

أما القديس بفنوتيوس، من آباء برية مصر، فيرى في كتب سليمان الحكيم درجات النسك الثلاثة، التي ترتفع بالإنسان إلى حياة الحب والوحدة مع الله في سفر "نشيد الأناشيد"، إذ يقول: "سفر الأمثال يقابل النوع الأول من النسك، فيه نقمع الشهوات الجسدية والخطايا الأرضية. والنوع الثاني يطابق" سفر الجامعة "، حيث يعلن أن كل ما يحدث تحت الشمس باطل. وأما النوع الثالث فيطابقه" سفر نشيد الأناشيد "، فيه تسمو النفس فوق كل المنظورات، مرتبطة بكلمة الله، بالتأمل في الأمور السماوية[14]".

سفر العرس السماوي.

إذ نتحدث عن "العرس" أو "الزواج" يليق بنا ألا نحبس أفكارنا في نطاق الجسد، فالزواج هو اتحاد سري داخلي عميق يحمل حبًا فوق حدود الجسديات... هذا عن الحياة الزوجية بين بني البشر، فماذا نقول عن الزوجية الروحية التي فيها تقبل النفس ربها كعريس لها، يضمها إليه لتكون واحدًا معه!.

ففي العهد القديم فهم الأنبياء العهد الذي بين الله وشعبه كعهد زوجي فيقول إشعياء النبي مثلاً: "لأن الرب يُسرّ بك... كفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك..." (62: 4 - 5). ويقول هوشع النبي: "ويكون في ذلك اليوم يقول الرب أنك تدعيني" رجُلّي "... وأخطبك لنفسي إلى الأبد، وأخطبك لنفسي بالعدل والحق والإحسان والمراحم، أخطبك لنفسي بالأمانة فتعرفين الرب" (2: 14 - 20). وهكذا جاءت عبارات مماثلة في سفر الخروج (45) وإرميا (2: 2)، حزقيال (16: 7 - 14).

هذا الاتحاد الزوجي الذي عبر عنه الأنبياء، كان رمزًا لاتحاد أكمل حققه "الكلمة الإلهي" أو "اللوغوس" في ملء الزمان.

فسفر النشيد هو سفر العريس السماوي، فيه تتحقق إرادة الله الأزلية نحو الإنسان. هو نبوة لسرّ الزفاف الاسخاتولوجي (الأخروي)، فيه تزف الكنيسة الواحدة، الممتدة من آدم إلى آخر الدهور، عروسًا مقدسة.

هذا العرس تطلع إليه يوحنا المعمدان حين قال: "من له العروس فهو العريس" (يو 3: 19). وهو غاية كرازة الرسل، إذ يقول الرسول: "فإني أغار عليكم غيرة الله، لأني خطبتكم لرجل واحد، لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 2)، "هذا السرّ العظيم، ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة".

ويقول القديس يوحنا: "رأيت المدينة المقدسة، أورشليم الجديدة، نازلة من عند الله كعروس مزينة لرجلها" (رؤ 21: 2).

"قد ملك الرب الإله... لأن عرس الخروف قد جاء، وامرأته هيأت نفسها، وأعطيت أن تلبس بزا نقيًا بهيًا..." (رؤ 19: 6 - 8). "الروح والعروس يقولان تعال" [15] (رؤ 22: 17).

نستطيع الآن أن نقول أنه خلال نشيد الأناشيد يمكننا العبور إلى الأبدية وممارسة لغة الحب السماوي، إذ يحوي حوارًا بين المسيا العريس وكنيسته الجامعة الرسولية العروس، أو بينه وبين كل نفس اتحدت به كعضو حيّ في كنيسته.

يكشف هذا الحوار الروحي عن الحب المشترك من الجانبين: الله والإنسان، والبحث المشترك من جانب كل منهما نحو الآخر، وينتهي بالراحة الحقيقية خلال الملكية المشتركة التي يقدمها كل منهما للآخر.

سفر الأسرار الكنسية[16].

يحمل هذا السفر في مجمله نبوة صادقة عن عمل الله السرائري القدسي في كنيسته، وقد فسره آباء الكنيسة الأولى تفسيرًا سرائريًا Sacramental خلاله نتفهم الأسرار.

فعندما يتحدث السفر عن الدخول في "حجال الملك"، إنما يتكلم سريًا عن دخول الوعوظ في جرن المعمودية، ليرتبط بالعريس السماوي، يدفن معه، ويصلب معه، ويقوم معه، حاملاً في داخله الخليقة الجديدة على مثال المسيا.

سرّ المعمودية هو سرّ الزوجية الروحية مع المسيا المصلوب القائم من الأموات، والذي يتم بالروح القدس، فيرى القديس كيرلس الأورشليمي أن جرن المعمودية هو "حجال العريس" [17] ". ويقول القديس ديديموس الضرير: [الذي خلق لنا النفس، يتقبلها عروسًا له في جرن المعمودية[18].] كما يحدث القديس غريغوريوس النزينزي طالبي العماد، قائلاً:

[بقي ليّ أن أبشركم بأمر واحد، أن الحال الذي تصيرون عليه بعد عمادكم قدام الهيكل العظيم إنما هو مثال للمجد العتيد أن يكون:

التسبيح الذي يستقبلونكم به إنما هو تمهيد لتسبيح السماء!

المشاعل التي تضيئونها هي سرّ الاستنارة الذي تستقبلون به العريس! [19]].

إذ تدخل النفس إلى سرّ الزوجية الروحية في المعمودية، يراها الملائكة في ثياب العرس الداخلي فيترنمون قائلين: "من هذه الصاعدة التي صارت بيضاء؟!" (نش 8: 5 الترجمة السبعينية).

وفي هذا السفر نجد دعوة إلهية للتمتع بسـرّ الإفخارستيا، وليمة العرس، وكما يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [يهب السيد المسيح أبناء الحجرة الزوجية أن يتمتعوا بجسده ودمه.].

وفي هذا السفر أيضًا يمكن أن نتفهم "سرّ الميرون" حيث يطبع العريس بختمه على قلب عروسه وساعدها، لكي تتهيأ بالروح القدس للعرس الأبدي.

سفر البتولية.

لما كان هذا السفر هو سفر الزوجية الروحية التي تربط السيد المسيح البتول بكنيسته البتول رباطًا روحيًا، لهذا رأي بعض الآباء الأولين في هذا السفر أنه "سفر سرّ البتولية"، حيث تشبع النفس البتول بعريسها البتول، فلا تحتاج إلى شيء... حتى ولا إلى الزوجية الزمنية. وهي في هذا لا تحتقر الزواج لكنها تُريد زواجًا على مستوى أعظم وأبدي!

وقد استخدم كثير من الآباء بعض عبارات السفر في مدح البتولية والبتوليين. وأنني أقتطف هنا عينة بسيطة من كلمات القديس جيروم ضد جوفينانوس محتقر البتولية. فقد أعلن القديس كرامة البتولية مستشهدًا بالكتاب المقدس، ولما جاء إلى سفر النشيد رآه "سفر البتولية"، فقد ربط بين الإنجيل والبتولية كما ربط بين الناموس الموسوي وعفة الزواج، ففي رأيه أن هذا السفر قد أعلن أن وقت الشتاء قد مضى، أي كمل زمان الناموس الذي يحث على العفة خلال الزواج المقدس وجاء وقت الربيع حيث تظهر زهور البتولية كثمر من ثمار الإنجيل... وقد حسب القديس السفر كله يؤكد البتولية ويمدحها، إذ يقول: [إني أعبر إلى نشيد الأناشيد[20]]، فقد ظن خصمنا أن هذا السفر يتحدث بكليته عن الزواج، لكنني أوضح كيف حوى أسرار البتولية.

لنسمع ماذا قيل للعروس قبل مجيء العريس على الأرض وتألمه ونزوله إلى العالم السفلي وقيامته: "نصغ لك شبه ذهب مع حلي من الفضة، مادام الملك على مائدته" (1: 10 - 12)، فإنه لم يكن للكنيسة ذهب (البتولية) قبل قيامة الرب وإشراق الإنجيل، بل كان لها شبه ذهب (الزواج العفيف)... كان لها حلي من الفضة، بل أنواع منها: أي أرامل وعفيفون ومتزوجون.

لقد أجاب العريس العروس معلمًا إياها أن ظلال الناموس القديم قد عبرت، وأن حق الإنجيل قد جاء، قائلاً لها: "قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي... لأن الشتاء قد مضى والمطر مرّ وزال" (2: 10 - 11).

مرة أخرى يتحدث عن الإنجيل والبتولية فيقول: [الزهور ظهرت في الأرض. بلغ أوان قضب الكروم.] أليس من الواضح أنه يردد قول الرسول: "الوقت منذ الآن مقصر لكي يكون الذين لهم نساء كأن ليس لهم" (1 كو 7: 22). وفي أكثر وضوح يعلن عن الطهارة، قائلاً: "صوت اليمامة سمع في أرضنا"، فإن اليمامة هي أطهر الطيور، تسكن عاليًا باستمرار كرمز للمخلص...

"قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي. يا حمامتي في محاجئ الصخر، في ستر المعاقل. أريني وجهك، أسمعيني صوتك، لأن صوتك حلو ووجهك جميل" (2: 13 - 14). أن سترتي وجهك مثل موسى ووضعتي برقع الناموس لا أرى وجهك ولا أنزل لا سمع صوتك. أقول: "وإن أكثرتم الصلاة لا أسمع" (إش 1: 15). أما الآن فانظري مجدي بوجه غير مقنع، فتحتمي في محاجئ الصخر، وفي ستر المعاقل. إذ تسمع العروس ذلك تكشف عن أسرار الطهارة، قائلة: "حبيبي ليّ وأنا له، الراعي بين السوسن" (2: 16)، أي أن سرّ طهارتها هو ذلك الراعي الذي يرعى جماعات العذارى الطاهرات.

يقول: "اذهب إلى جبل المرّ"، أي إلى أولئك الذين أماتوا أجسادهم، "إلى جبل اللبان" (4: 6)، أي إلى جماهير العذارى الطاهرات...

يكمل العريس حديثه قائلاً: "شربت خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب واشربوا واسكروا أيها الأحباء" (5: 1). فقد قيل عن الرسل أنهم امتلأوا خمرًا جديدًا وليس خمرًا عتيقًا (متى 4: 17). والخمر الجديد إنما يوضع في زقاق جديد، إذ لم يسلك هؤلاء بالحرف القديم بل سلكوا في جدة الروح (رو 7: 6). هذا هو الخمر الذي متى سكر به الشبان والشابات يعطشون إلى البتولية ويمتلئون بروح العفة...

"حبيبي أبيض وأحمر"، أنه أبيض بالبتولية، أحمر بالاستشهاد... وهكذا لا يسعفني الوقت أن أشرح الكتاب وأوضح كل أسرار البتولية كما وردت في سفر نشيد الأناشيد.

المسيح في سفر النشيد.

يليق بنا في دراستنا للكتاب المقدس بوجه عام، ولهذا السفر بوجه خاص ألا نقف عند الحرف واللفظ، بل ندخل إلى الأعماق، لنلتقي مع الله الكلمة نفسه، نرى يسوعنا واضحًا، حيًا، يُريد الاتحاد بنا لنعيش به ومعه إلى الأبد.

في هذا يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [في فن الرسم من يتأمل صورة تكونت باستخدام الألوان بطريقة ماهرة لا يقف بصره عند حدود الألوان، بل بالحرى يتطلع إلى الشكل الذي أوجده الفنان بألوانه. هكذا يليق بنا في دراسة الكتاب المقدس ألا نقف عند مادة الألوان، بل ننظر شكل الملك الذي تُعبر عنه مفاهيم الذهن الطاهرة خلال الكلمات. فالألوان هنا هي الكلمات الحاملة لمعان غامضة مثل (ما جاء في هذا السفر من كلمات): "الفم، القبلات، المرّ، الخمر، أعضاء الجسد، السرير، الجواري، وما أشبه ذلك..." أما الشكل الذي عبرت عنه هذه الكلمات فهو: هالة الكمال والطوباوية، الاتحاد مع الله، عقاب الشر، المجازاة عما هو بحق صالح وجميل ".

شخصيات السفر.

يتحدث هذا السفر عن عدة شخصيات هم:

1. العريس، وهو السيد المسيح الذي يخطب الكنيسة عروسًا مقدسة له (أف 5: 27).

2. العروس، وهي الكنيسة الجامعة، أو المؤمن كعضو حيّ فيها، وتسمى "شولميث".

3. العذارى، في رأي العلامة أوريجانوس هم المؤمنون الذين لم يبلغوا بعد العمق الروحي، لكنهم أحرزوا بعض التقدم في طريق الخلاص.

4. بنات أورشليم، ويمثلن الأمة اليهودية التي كان يليق بها أن تكرز بالمسيا المخلص.

5. أصدقاء العريس، وهم الملائكة الذين بلغوا الإنسان الكامل (أف 4: 13).

6. الأخت الصغيرة، وهي تمثل البشرية المحتاجة من يخدمها ويرعاها في المسيح يسوع.

أقسام السفر

سفر النشيد هو سفر الحب العميق، أو سفر القلب الذي لا يتطلب. أقسامًا معينة، بل يحمل وحدة الحب الفياض المتبادل. لكننا من أجل تسهيل الدراسة يمكننا تقسيم السفر إلى ستة فصول:

الفصل الأول: شخصا العروسين.

1. المسيا المتألم [1: 2 - 6].

2. المسيا الراعي [1: 7 - 12].

3. المسيا الملك [1: 12 - 16].

4. المسيا الحبيب [2: 1–7].

الفصل الثاني: الخاطب يطلب خطيبته.

1. ينزل إليها بنفسه [2: 8 - 14].

2. يحذرها من الواشين [2: 15].

3. وليمة العرس "القيامة والصليب" [2: 16 - 17، الأصحاح الثالث].

الفصل الثالث: الزفاف السماوي.

1. العروس المقامة [4: 1–15].

2. العروس تشارك عريسها [4: 16].

الفصل الرابع: الحياة الزوجية.

1. بدء الحياة الزوجية [5: 1].

2. ظلال في حياة الزوجية [5: 2 - 3].

3. بالصليب يعود الحب [5: 4 - 9].

الفصل الخامس: الحب الزوجي المتبادل.

1. العروس تمدح عريسها [5: 10–16].

2. حوار في الحديقة [الأصحاح 6].

3. وصفه للعروس "شولميث". [الأصحاح 7].

الفصل السادس: العروس العاملة [الأصحاح 8].

الفصل الأول شخصا العروسين

العروس تعلن شخصية خطيبها:

في فترة الخطوبة تتعرف العروس على عريسها، تتكشف شخصيته، وتعرف أسراره، وتتحقق صدق حبه لها وتعرف إمكانياته حتى ترتبط به عريسًا إلى الأبد.

وإذ تذوق حبه يبتلع العريس كل تفكيرها، ويمتص كيانها كله، فيصير موضوع حديثها مع أقاربها ومعارفها، بل يصير بالنسبة لها الكل في الكل.

فماذا رأت الكنيسة في "المسيا" عريسها؟ لقد رأته:

1. المسيا المتألم.

2. المسيا الراعي.

3. المسيا الملك.

4. المسيا الحبيب.

الأصحاح الأول

العدد 1

1 المسيا المتألم

قبلات الفم الإلهي.

لو أن هذا السفر خاص بالمبتدئين لبدأ بمناجاة الله العريس لعروسه، يلاطفها ويعلن حبه لها، ليدخل بها إلى حياة التوبة، فتصطلح معه وتقبل الاتحاد معه، لكنه هو سفر الناضجين الذين ذاقوا بالفعل محبته والتهبت قلوبهم به. لقد تقبلوا تيار حبه المتدفق خلال الصليب، فيطلبون أن يعيشوا حياتهم كلها يلهجون في هذا الحب الإلهي، قائلين بلسان الكنيسة:

الأعداد 2-3

"لِيُقَبِّلْنِي بِقُبْلاَتِ فَمِهِ،.

لأَنَّ حُبَّكَ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ،.

لِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ، اسْمُكَ دُهْنٌ مُهْرَاقٌ،.

لِذَلِكَ أَحَبَّتْكَ الْعَذَارَى "[٢ - ٣].

إنه صوت الكنيسة الجامعة وقد رفعت أنظارها إلى الصليب، فاشتمت رائحته الطيبة، ورأت اسمه مهرقًا من أجلها، فوجدت لذة في حبه، لهذا أخذت تناجيه، قائلة: "لِيُقَبِّلْنِي بِقُبْلاَتِ فَمِهِ". وهنا نلاحظ الآتي:

1. إنها تطلب قبلات فم الآب. "لِيُقَبِّلْنِي (هو)". حقًا لقد قبلها الله بقبلات كثيرة على مر العصور. أعلن حبه لها فخلق العالم كله من أجلها، أوجدها من العدم، وأعطاها صورته ومثاله، وباختصار لم يعوزها شيء. بعد السقوط لم يتركها بل وعدها بالخلاص، ووهبها الناموس المكتوب عونًا، وأرسل لها الأنبياء يؤكدون لها خلاصه... لكن هذا كله لن يشبع العروس، فإنها تريده هو بنفسه يقترب إليها ويهبها ذاته... تريد كل قبلات فمه المباشرة! وكأنها بالعروس التي تفرح بالعريس الذي يطلب يدها ويرسل لها أقاربه، ويبعث إليها الهدايا المستمرة الثمينة... لكنه لن تشبع إنما تطلبه هو!

في هذا يقول العلامة أوريجينوس: [إن الكنيسة في العهد القديم كانت كفتاة صغيرة غير ناضجة، لم تتمتع بصحبة العريس نفسه مباشرة بل تمتعت بصحبة أصحابه أي الملائكة والآباء والأنبياء، ومن خلالهم تقبلت قبلات الله التي هي تعليم العهد الجديد ووصاياه[21]. كانت في طريق النمو، تسير نحو النضوج لترى عريسها قادمًا إليها على جبال الناموس وتلال النبوات فالتهب قلبها بالحي نحوه، قائلة: "ليأت وينزل إلى ويقبلني بنفسه على الصليب، ليضمني إليه بالحب العلمي فأتحد معه". هذا ما أعلنه الرسول بولس في حديثه مع العبرانيين إذ يقول: "الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديمًا بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه" (عب 1: 1 - 2)... كلمنا بقبلات الحب العملي المباشر.

2. لا تستحي أن تطلب من الابن قبلات الآب، لأن ما هو للآب فهو للابن أيضًا. وما قدمه الابن بإرادته إنما قدمه طاعة الآب. لهذا يؤكد الكتاب: "هكذا أحب الله (الآب) العالم حتى بذل ابنه الوحيد" (يو ٣: ١٦)، وفي نفس الوقت يقول الرسول "أحبني وأسلم ذاته من أجلي"... إن قبلات الصليب لنا هي علامة حب الآب والابن أيضًا!.

لقد سبق فرأينا استحالة انطباق هذه العبارة على أي حب جسداني زمني، إذ تطلب العروس من عريسها قبلات آخر غيره، لكن الحديث هنا عن القبلات الإلهية الروحية التي تحمل معنى الاتحاد الخفي لتكون واحدًا مع الآب في ابنه خلال قبلات الصليب.

3. لا تطلب العروس قبلة أو قبلتين أو أكثر بل تريد كل "قبلات فمه"... هذه أحساسات المؤمن حين ينفتح قلبه لمحبة الله، فإنه يرى كأنه لا يوجد في الحياة إلاَّ الله وهو، فيطلب كل حب الله له.

4. لا تطلب الكنيسة قبلات الرب جميعها فحسب، لكنها تطلب نوعية خاصة من القبلات، ألا وهي "قُبْلاَتِ فَمِهِ"، التي تُعبر عن العلاقة الزوجية الوطيدة والفريدة التي لا يشترك فيها آخر معهما.

لقد سجل لنا الكتاب المقدس نوعيات مختلفة من القبلات، لكنها ليست بالقبلات المشبعة، فقد ودع لابان بنيه وبناته بالقبلات (تك ٣١: ٥٥)، واستقبل يعقوب حفيديه ابني يوسف بالقبلات (تك ٤٨: ١٠)، وودعت نعمى كنتاها بالبكاء والتقبيل (راعوث ١: ٩)، وطلب إسحق من ابنه يعقوب أن يتقدم ويقبله ليأخذ بركة (تك ٢٧: ٢٦)، وتقدم أبشالوم بن داود ليقبل أبناء الشعب ليكسب قلوبهم (٢ صم ١٥: ٥)، وقبل يوناثان داود النبي علامة الصداقة وميثاق الوفاء (١ صم ٣٠: ٤١)، وودعت كنيسة أفسس الرسول بولس بالبكاء والتقبيل (أع ٢٠: ٣٧). هذه كلها قبلات تمت بسبب رباط الدم أو القرابة أو الصداقة أو علامة آلام الفراق... لكنها قبلات مؤقتة، أما الكنيسة فتطلب قبلات الحب الأبدي، قبلات فم الله التي لا تتوقف.

الحب الأطيب من الخمر:

تُناجي الكنيسة عريسها المصلوب من أجلها، قائلة: "لأَنَّ حُبَّكَ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ". هو حب يسكر النفس، فتنسى كل ما هو أرضي لتهيم في حب الله وحده.

جاءت كلمة "حُبَّكَ" في الترجمة السبعينية "ثدياك"، وكأن المؤمنين يجدون في اللبن الإلهي النابع من الثديين والمشبع للأطفال الصغار عذوبة وفاعلية وقوة أكثر مما للخمر الذي يستخدمه الرجال للدفء والقوة. في هذا يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [ما هو سام في حكمة العالم، يصغر جدًا أمام التعاليم التي نتقبلها من الكلمة الإلهي المقدمة للأطفال. هنا نجد الثديين الإلهيين أطيب من الخمر البشري].

إذ تُردد النفس: "ثدياك أطيب من الخمر" تعود إلى بساطة الطفولة تتطلع إلى خطيبها المرتفع على الصليب وتتعلق به في بساطة الإيمان كالطفل على صدر أمه... ترضع من ثديين حب الله فتنسى كل هموم الحياة وتمتليء تعزية، كقول المرتل: "عند كثرة همومي في داخلي تعزياتك تلذذ نفسي" (مز ٩٤: ١٩).

"ثدياك أطيب من الخمر"... كان الخمر يُقدم للضيوف، خاصة في الأعياد، علامة الفرح، كما كان يُقدم عند تقديم الذبائح (خر ٢٩: ٤٠؛ لا ٢٣: ١٣؛ عد ١٥: ٥٠)، أما حب السيد المسيح ففريد، يهب فرحًا لا يستطيع العالم أن ينزعه!

كان العنب يُعصر في مصر وربما في فلسطين بأن يسحق بالدوس بالأقدام في المعصرة (نح ١٣: ١٥؛ أي ١٤: ١١)، فينساب عصير (دماء) العنب الأحمر، ويخرج الرجال ثيابهم محمرة، أما إشعياء النبي فقد رأى السيد المسيح – العريس المحب – عظيمًا في القوة، بهيًا، يجتاز المعصرة بثياب محمرة من أجل خلاص عروسه... فتساءل قائلاً:

"مَنْ ذَا الآتِي مِنْ أَدُومَ بِثِيَابٍ حُمْرٍ مِنْ بُصْرَةَ؟!

هَذَا الْبَهِيُّ بِمَلاَبِسِهِ، الْمُتَعَظِّمُ بِكَثْرَةِ قُوَّتِهِ؟!

أَنَا الْمُتَكَلِّمُ بِالْبِرِّ، الْعَظِيمُ لِلْخَلاَصِ.

مَا بَالُ لِبَاسِكَ مُحَمَّرٌ وَثِيَابُكَ كَدَائِسِ الْمِعْصَرَةِ؟!

قَدْ دُسْتُ الْمِعْصَرَةَ وَحْدِي، وَمِنَ الشُّعُوبِ لَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ "(إش ٦٣: ١–4).

هذا هو الحب الفريد الأطيب من الخمر[22]... فقد أجتاز الرب المعصرة وحده، لا ليقدم خمرًا أرضيًا بل يقدم دمه المبذول عنا، سرّ حياتنا وقوتنا وخلاصنا.

لا عجب أن يبدأ السيد خدمته في عرس قانا الجليل، محولاً الماء خمرًا، لا ليسكروا بل بالحري أفاقهم من السكر، وهبهم الخمر الجديد علامة حبه واهب الفرح والقوة. في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [في ذلك الوقت والآن أيضًا لا يكف عن تغيير ضعفنا وإرادتنا الواهية. نعم فإنه يوجد أناس لا يختلفون عن الماء في شيء، باردون وضعفاء ومملؤون سيولة (ميوعة). لنأت بمثل هؤلاء إلى حضرة الرب ليحول إرادتهم إلى خمر، فلا يعودوا كالماء المهو بل يصيرون متماسكين، ويصيروا سرّ بهجة لنفوسهم ولغيرهم[23]]. هذا هو الحب الأطيب من الخمر الذي يدخل بطبيعتنا الضعيفة إلى الحياة الجديدة فتحمل قوة الحياة.

خلال هذا الخمر الجديد، أو خلال الحب العريس الأطيب من الخمر تشتم النفس المؤمنة رائحة أدهان المسيح الطيبة، وترى اسمه دهنًا مهرقًا، إذ اجتاز الصليب وحده، إنها تُناجيه قائلة:

"لِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ،.

اسْمُكَ دُهْنٌ مُهْرَاقٌ "[2].

الممسوح بالدهن الطيب:

على الصليب سكب الرب كمال حبه فأفاح برائحته الطيبة في المسـكونة كلها،.

وظهر أسمه في الأرض كلها.

فاحت رائحة طيبة، فأدركت الكنيسة أنه بعينه الممسوح بالدهن من قبل الآب لخلاصنا، الذي شهد له النبي: "أحببت الحق وأبغضت الإثم. من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك" (مز ٤٤؛ عب ١: ٩)، بل وأكد الرب ذلك عندما دخل المجمع كعادته وفتح سفر إشعياء النبي، وقال: "روح الرب عليّ، لأنه مسحني لأُبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأُنادي المأسورين بالإطلاق والعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحريه..." عندئذ بدأ يقول لهم أنه قد تم اليوم هذا المكتوب في مسامعهم (لو ٤: ١٧–٢١؛ إش ٦١: ١).

وحين هاج اليهود على الرسل صلت الكنيسة هكذا: "بالحقيقة اجتمع على فتاك القدوس يسوع الذي مسحته، هيرودس وبيلاطس البنطي مع أمم وشعوب إسرائيل" (أع ٤: ٢٧).

في العهد القديم، مسح يعقوب الحجر الذي كان تحت رأسه وأقامه ليكون عمودًا في بيت للرب (تك ٢٨: ١٨؛ ٣١: ١٣)، كعلامة إنفتاح السماء على الأرض، أو اللقاء بين الله والإنسان، أو سكنى الله وسط شعبه. وبحسب الشريعة كان الكهنة يُمسحون (خر ٤٠: ١٥)، كذلك الملوك (١ صم ١٠: ١)، والهيكل وكل ما بداخله وأواني بيت الله تُمسح بمسحة مقدسة. هذه المسحة سواء للأشخاص أو الأشياء تعني تكريسهم للرب، فلا يُمارس الأشخاص أعمالاً أخرى في العالم سوى خدمة الرب ولا يستخدم الهيكل أو الأواني المقدسة لغرض آخر غير خدمة الرب. وحين نتحدث عن "خدمة الرب" نقصد "خدمة الرب وسط شعبه" أو الدخول بالإنسان إلى حضرة الرب، إي خدمة الرب خلال البشرية وليس في معزل عنهم. لهذا حين نتحدث عن العريس "كلمة الله" كممسوح نرى فيه تحقيق المسحة في أكمل صورها، إذ حملنا فيه ودخل بنا إلى الاتحاد مع الله... هذا هو عمل المخلص، إذ يقول "من أجلهم أُقدس ذاتي (أي كرس عمله من أجلنا)... لكي يكونوا هم أيضًا مقدسين في الحق".

هذه المسحة الفريدة قد فاحت رائحتها في السماء، فقد اشتمها الآب رائحة رضا، إذ حملت رائحة طاعة الابن الوحيد الحبيب الذي أطاع حتى الموت، ونحن أيضًا على الأرض نشتمها رائحة طيبة إذ تقتل رائحة نتانة خطايانا (مز ٨٣: ٥)، وتجعل منا "رائحة ذكية" (٢ كو ٢: ١٥). هذه هي فاعلية مسحته، أنه المسيح الذي يجعل من الخطاة مسحاء لهم رائحته الذكية.

لقد تحدث آباء الكنيسة عن آثار هذه المسحة المقدسة في حياتنا، فيرى القديس غريغوريوس النزينزي في سرّ العماد... أن المعمد يتمتع بسمات المسيح، فتفوح رائحة المسيح الذكية في كل أحاسيسه، إذ يقول[24]: [ليتنا نشفى من جهة الشم أيضًا... فلا يصعد علينا الغبار بل الرائحة الذكية (إش ٥: ٢٤)، لنشتم الدهن المهرق لأجلنا، لنقبله فينا روحيًا، فنتشكل ونتغير بواسطته، فيشتمون فينا الرائحة الذكية.].

ويرى القديس أغسطينوس أن الأدهان الطيبة هي رائحة المسيح السماوي الذي يجتذب بصليبه القلب في السماء، إذ يقول[25]:

[لنحبه ولنتمثل به، لنجري وراء أدهانه...

لقد جاء وأفاح رائحته الطيبة التي ملأت العالم!

من أين جاءت هذه الرائحة الطيبة؟ من السماء!].

إذًا، فلتسيروا نحو السماء إن أردتم ألا تجاوبوا باطلاً عندما يقال لكم: إرفعوا قلوبكم[26]... إرفعو أفكاركم، إرفعوا حبكم ورجاءكم، حتى لا تفسد هذه الأشياء على الأرض... فإنه حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم أيضًا (مت ٦: ٢١).

ويتحدث القديس أغسطينوس أيضًا عن جاذبية هذا الدهن الطيب، قائلاً[27]: [لنحول حواسنا عن رائحتنا الكريهة ونتوجه إليه، فنتنسم أنفاسنا قليلاً!].

الاسم المهرق:

على الصليب أهرق هذا الدهن الطيب، ودخل به القبر حتى يتنسم الأموات رائحة الطيب عوض الفساد الذي لحق بهم، وبقيامته قدم للعالم هذا الدهن المهرق الطيب.

يقول القديس أمبروسيوس: [بإن هذا هو ما يختبره المؤمن حيث يدفن مع المسيح في المعمودية ويقوم فيشتم رائحة ثياب الرب، ويتنسم أسمه المهرق على الصليب، وينهل من رائحة القيامة[28].].

والعجيب أن هذا الاسم الطيب إذ أهرق على الصليب فاحت رائحته في العالم كله، فلم يعد أسم الله معروفًا بين اليهود وحدهم كما كان قبلاً بل تعرف عليه أمم وأجناس العالم. في هذا يقول القديس أمبروسيوس[29]: [كان الله معروفًا في يهوذا واسمه عظيمًا في إسرائيل (مز ٢٦: ١)، أما وقد ارتفع على الصليب فصار أسمه عجيبًا في الأرض كلها.].

بمعنى آخر على الصليب تعرفت البشرية على إسمه، أنه "يسوع" مخلص البشر، وإنه عمانوئيل (الله معنا). إذ خلال الصليب أدركنا خلاصه وتفهمنا؟ معينة معنا بمصالحنا مع الله، لهذا نُناجيه قائلين: "اسمك دهن مهراق".

حب العذارى له:

إذ إشتمت البشرية رائحة اسمه المهرق انجذبت إليه بقلوب عذراوية لا تُريد أن تنشغل بآخر غيره، وانسابت أفكارها نحوه في عذراوية لا تُريد أن تفكر في اهتمامات الحياة أو إغراءاتها، وانطلقت أحاسيسها وعواطفها وكل طاقاتها الداخلية نحوه... قائلة: "لِذَلِكَ أَحَبَّتْكَ الْعَذَارَى" [٣].

هذه الجاذبية التي خلقها الصليب في أعماقنا الداخلية حتى خرج كل ما في داخلنا كعذارى نطلب العريس وحده تولد فينا جاذبية، فلا نجري إليه وحدنا، بل ونجتذب معنا كثيرين يجرون إليه بفرح، لهذا تُناجيه النفس البشرية قائلة:

العدد 4

"اُجْذُبْنِي وَرَاءَكَ فَنَجْرِيَ،.

أَدْخَلَنِي الْمَلِكُ إِلَى حِجَالِهِ،.

نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ بِكَ،.

نَذْكُرُ حُبَّكَ أَكْثَرَ مِنَ الْخَمْرِ.

بِالْحَقِّ يُحِبُّونَكَ... "[٤].

تقول: "أجذبني (أنا) فنجري (نحن) إليك،.

أدخل (أنا) إلى حجالك، فنبتهج (نحن) ونفرح (نحن) بك... ".

هذا هو سرّ الصليب وفاعليته، إنه يحمل قوة الشهادة والجاذبية، وسرّ البهجة والفرح!

إذ تتمتع نفسي بك، وتكون أنت في داخلي خلال الصليب، وأصير أنا فيك، يتعرف الناس عليك خلالي ويطلبونك، حينئذ تمتلئ قلوبنا بهجة وفرحًا حتى السمائيون يفرحون أيضًا معنا!

أنجذب زكا العشار وراء السيد المسيح، فجمع الخطاة والعشارين ليلتقوا بالرب ويفرحوا به، وإذ جلست المرأة السامرية معه نادت أهل المدينة ليجالسوه وينعموا بحديثه الفعال.

هذا هو سرّ الكنيسة... قوة الصليب الجذابة، أما أن نسيت الكنيسة هذا الصليب، واهتمت بطرق العالم، لا تقدر أن تسابق العالم فيما يخصه، لكنها تغلبه بالحب خلال الصليب العامل في حياة أولادها.

بالصليب وحده تنجذب النفوس إلى الكنيسة خلال التوبة، أما وسائل العالم المغرية، فتحطم صورة الكنيسة حتى في عيني العالم نفسه.

الحجال الإلهي:

"أَدْخَلَنِي الْمَلِكُ إِلَى حِجَالِهِ" [٤].

طلبت النفس يد العريس السماوي قائلة: "اجذبني" لكي يسندها ويمسك بها ويدخل بها إلى حجاله الروحي في أبهج لقاء.

يرى العلامة أوريجينوس النفس وهي في حالة انجذاب ودخول إلى حجال الرب صورة للمؤمنين الروحيين الذين انطلقت أذهانهم من التفسير الحرفي لكلمة الله ودخلت بقوة الروح القدس إلى أسرار الكلمة أو التفسير الروحي العميق، تدخل إلى العريس نفسه وتكشف أسرار ملكوته، هذا هو الحجال الإلهي... الذي هو تفسير الكلمة روحيًا، المشبع للنفس لا في هذه الحياة فحسب بل وفي الأبدية أيضًا، أو كما يرى العلامة أوريجينوس هو طعام النفس السماوي.

ويرى بعض الآباء أن "الحجال الإلهي"، هو "سرّ المعمودية". ففي جرن المعمودية يلتقي المؤمن بالسيد المسيح عريسًا له. يلبس الإنسان الجديد، وينعم بالملكوت الإلهي. تلبس النفس مسيحها كثوب أبيض للعرس الأبدي، تلبسه كبرّ لها لسرّ قداستها، يتجمل به، وتحيا به إلى الأبد. في هذا يقول الرسول بولس: "قد لبستم المسيح" (غلا ٣: 2٧).

العدد 5

بين السواد والجمال:

إذ تلبس النفس مسيحها برًا لها وتقديسًا لحياتها تُقارن ماضيها بحاضرها، فتخاطب بنات أورشليم هكذا: "أَنَا سَوْدَاءُ وَجَمِيلَةٌ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، كَخِيَامِ قِيدَارَ كَشُقَقِ سُلَيْمَانَ" [٥]. إنها تعترف بضعفها الذاتي لكنها تُعلن عن جمالها الذي اقتنته خلال اتحادها بالمسيح يسوع ربها، قائلة: "أنا سوداء كخيام قيدار" [30] التي بلا جمال، لكنني في نفس الوقت جميلة كستائر سليمان (أو كما جاء في الترجمة اللاتينية كستائر سلما) [31].

يرى القديس أغسطينوس النفس البشرية قبل اتحادها بالسيد كقطعة الفحم السوداء، لكنها متى اتحدت به التهبت بناره المقدسة يزول سوادها وتصير جمر نار حارة في الروح، مملوءة جمالاً. وقد قدم القديس أغسطينوس شاول الطرسوسي مثالاً، إذ يقول[32]: [كان الرسول قبلاً مجدفًا ومضطهدًا وضارًا، كان فحمًا أسود غير متقد، لكنه إذ نال رحمة ألتهب بنار من السماء. صوت المسيح ألهبه نارًا وأزال كل سواد فيه، صار ملتهبًا بحرارة الروح، حتى ألهب آخرين بذات النار الملتهبة فيه.].

ويرى القديس أمبروسيوس في هذه العبارة صورة لحالة الكنيسة التي تمتعت بالجمال الروحي، وبالإيمان تكملت في جرن المعمودية بنعمة الله، إذ يقول[33]: [إذ لبست تلك الثياب خلال جرن المعمودية تقول في نشيد الأناشيد: أنا سوداء وجميلة (كاملة) يا بنات أورشليم. إنيّ سوداء خلال الضعف البشري، كاملة خلال سرّ الإيمان!].

كما يقول أيضًا[34]: [الكنيسة سوداء بخطاياها، كاملة بالنعمة. إنها سوداء بالطبع البشري، كاملة بالخلاص... سوداء بأتربة الجهاد، كاملة عندما تتكلل بحلي النصرة!].

وتعتبر هذه العبارة في الحقيقة دواءً للمؤمن، متى شعر ببرّه الذاتي وحورب بالكبرياء يصرخ في أعماقه: "أنا سوداء"، وإن تثقلت نفسه بالضعف وحورب بصغر النفس أو اليأس يردد بقوة "أنا جميلة". وكأن الشعورين "بالسواد والجمال" ليسا متناقضين، بل يكمل أحدهما الآخر. شعور يسند في لحظات والآخر يسند في لحظات أخرى. الشعوران يؤديان إلى حالة توازن داخل النفس: الشعور بالضعف الذاتي مع إدراك لقوة عمل النعمة الإلهية.

وللعلامة أوريجينوس تفسير جميل لهذه العبارة... إذ يقول[35]:

[الكنيسة هنا توجه خطابها - لا إلى العريس، ولا إلى العذارى الساعيات في الطريق – بل إلى بنات أورشليم، اللواتي اتهمن الكنيسة العروس بالقبح وشهرن بسوادها، فتُجيب الكنيسة على هذا الاتهام بحديث تؤكد به صدق الاتهام، لأنها فعلاً سوداء، وهكذا تبدو وكما حكمت عليها بنات أورشليم. ولكن ليت بنات أورشليم يدركن جمال الداخل الذي للكنيسة، إذ بينما هي سوداء فهي جميلة.

إنها وأن كانت في سواد وقبح قيدار إلاَّ أنها في جمال شقق – أي ستائر – بيت الملك سليمان.

إن الكنيسة صاحبة هذا الحديث هي كنيسة جماهير الأمم... وبماذا يمكن لكنيسة الأمم أن تتفاخر أمام بنات أورشليم الأرضية، أي اليهود؟ الذين صبوا جام غضبهم على الكنيسة وعريسها، وكالوا للكنيسة كل احتقار وازدراء، ونسبوا إليها دناءة الأصل وخسته، لأنه لا يجري في عروق أعضائها وأبنائها دم النسب إلى إبراهيم وإسحق ويعقوب... هذا هو الذنب العظيم في نظر اليهود، إن كنيسة الأمم ليست من سلالة الآباء. وتعترف الكنيسة بهذا، وتردد نفس الاتهام الذي تعيرت به من بنات أورشليم "أنا سوداء"، وهذا السواد ليس فقط للحرمان من نسب الآباء، وإنما أيضًا للحرمان من تعليم الآباء والأنبياء.

هؤلاء الذين رفضهم الناموس وطردوا من خيمة إسحق، خلع عليهم الإنجيل جمال شقق وستائر بيت الملك سليمان... وما هي ستائر بيت ملك السلام إلاَّ ستائر خيمة الاجتماع حيث يسكن الله مع شعبه... الخيمة التي غطتها من الخارج جلود الماعز غير الجميلة... واحتوت من الداخل روعة الستائر، فضلا عن مجد الله فيها... وستائر الخيمة هي... من خارج شعر الماعز وجلود الكباش المحمرة وجلود التخس، أما من داخل فالستائر من أسمانجوني وأرجوان وقرمز وبوص.].

عرض العلامة أوريجينوس بعض أحداث العهد القديم وعباراته التي أنبأت بدعوة جماعة الأمم السوداء ودخولها إلى الاتحاد مع المسيح كعروس جميلة ومقدسة له، ألا وهي:

1. زواج موسى النبي بالمرأة الكوشية (سوداء البشرة)، الأمر الذي أثار أخته فتكلمت ضده وشهرت به (عد ١٢)، لهذا ضُربت بالبرص وأُخرجت خارج المحلة. حمل هذا العمل صورة رمزية لاتحاد السيد المسيح بكنيسة الأمم الأمر الذي أثار اليهود حتى رفضوا الإيمان به، وصاروا يعيرون الأمم بماضيهم الشرير.

يتحدث العلامة أوريجينوس على لسان كنيسة الأمم إذ تخاطب اليهود، قائلاً[36]: [حقًا إنيّ أعجب يا بنات أورشليم أنكن توبخنني على سواد بشرتي. هل نسيتن ما ورد في ناموسكن وما عنته مريم حين تحدثت ضد موسى لأنه إتخذ لنفسه امرأة كوشية سوداء؟! ولا تعرفن أن هذا الرمز قد تحقق فيّ بحق؟! أنا هي الكوشية! حقًا أنيّ سوداء بسبب رداءة أصلي، لكنني جميلة بالتوبة والإيمان. لقد اتخذت لنفسي ابن الله. لقد قبلت "الكلمة الذي صار جسدًا" (يو ١: ١٤)، لقد أتيت إلى ذاك الذي هو "صورة الله، بكر كل خليقة" (كو 15: 1)، "الذي هو بهاء مجده ورسم جوهره" (عب ١: ٣)، فصرت جميلة! ماذا تفعلن؟ أتوبخن من تركت خطيتها. الأمر الذي يمنعه الناموس؟! أتطلبن مجد الناموس وأنتن تنتهكن إياه؟!].

2. قصة ملكة سبأ التي جاءت تسمع حكمة سليمان (١ مل ١٠) التي حملت رمزًا لكنيسة الأمم، إذ جاءت تسمع حكمة سليمان (١ مل ١٠) التي وقد أشار السيد نفسه إليها، موبخًا اليهود، قائلاً: "ملكة التَّيْمَن ستقوم في الدين مع هذا الجيل وتدينه لأنها أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان، وهوذا أعظم من سليمان ههنا" (مت ١٢: ٤2).

جاءت ملكة سبأ وتكلمت معه بكل ما في قلبها (١ مل ١٠: ٢) وامتحنته بأسئلة وألغاز ظنت أنها بلا إجابة، لكن سليمان الحقيقي حلّ كل مشاكلها، وأعلن لها معرفة الله الحقيقي، وأوضح لها خلود النفس والدينونة الأخيرة... الأمور التي لم يستطع الفلاسفة أن يوضحوها للأمم بحق.

جاءت الملكة إلى "أورشليم" التي تعني "رؤية السلام" [37]، والسيد المسيح في أسبوع آلامه أعلن للكنيسة امكانياته، قائلاً: "سلامي أنا أعطيكم".

حين رأت الملكة ما لسليمان "لم يبق فيها روح بعد" (١ مل ١٠: ٥)، والكنيسة إذ تكتشف أسرار مسيحها المتألم تذوب حبًا، ولا تطيق بعد إلاَّ أن تنطلق وتكون معه.

لقد قدمت للملك سليمان مئة وعشرين وزنة ذهب (١ مل ١٠: ١٠)، وهو ذات الرقم الذي سمح به الرب في أيام نوح لعمر الإنسان (تك ٦: ٣)، وهو عمر موسى النبي (تث ٣٤: ٧)، وكأن كنيسة الأمم أرادت أن تُقدم كل عمرها كوزنات ذهبية، أي تحمل الطبيعة السماوية.

قدمت أيضًا أطيابًا كثيرة (١ مل ١٠: ١٠) وهي تقدمة الحب التي يتقبلها السيد المسيح من الخطاة التائبين.

3. جاء في سفر المزامير: "يأتي شرفاء من مصر. كوش تبسط يديها إلى الله. يا ممالك الأرض غنوا لله، رنموا للسيد" (مز ٦٨ (٦٧): ٣١، ٣٢). هكذا تبسط كنيسة الأمم السوداء (كوش) يديها لله فتصير جميلة، ومن خلالها ينطلق لسان كل ممالك الأرض بالتسبيح له.

4. ورد في صفنيا: "فانتظروني يقول الرب... لأنيّ أحول الشعوب إلى شفة نقية، ليدعوا كلهم باسم الرب، ليعبدوه بكتف واحدة... من عبر أنهار كوش المتضرعون إليّ، متبددي يقدمون تقدمتي" (٣: ٨–١٠). هكذا تتحول الشعوب الوثنية إلى شفاة تسبيح نقية، وتعبر أنهار كوش أي تترك سوادها وظلمتها خلال تعبدها لله وتقديم ذبيحة المسيح.

5. إذ أنقذ ملك الكوشي إرميا واخرجه بحبال من الجب (إر ٣٨: ٧–١٣) صارت كلمة الرب إلى إرميا: إذهب وكلم عبد ملك الكوشي قائلاً: هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل: هأنذا جالب كلامي على هذه المدينة للشر... ولكنني أنقذك في ذلك اليوم يقول الرب فلا تُسلم ليد الناس الذين أنت خائف منهم، بل إنما أُنجيك نجاة فلا تسقط بالسيف بل تكون لك نفسك غنيمة لأنك قد توكلت عليّ يقول الرب "(إر ٣٩: ١٥–١٨). هكذا كان هذا الرجل الكوشي رمزًا لكنيسة الأمم السوداء التي اتكلت على الله فخلصها.

ختم العلامة أوريجينوس مقارنته هذه بقوله: [توجد عبارات كثيرة – كما ترون – تشهد لهذه السوداء والجميلة تتصرف حسنًا مع بنات أورشليم، وتؤكد بثقة: حقًا أنيّ قاتمة (سوداء) كخيام قيدار، لكنني جميلة كستائر سليمان.].

وللعلامة ملاحظة أخرى: [مع أن المتحدث يبدو أنه شخصية واحدة، لكنه تُشبه نفسها بالخيام والستائر بصيغة الجمع، لهذا يلزمنا أن نعرف أن المتحدث هنا جماعة من الكنائس بلا حصر منتشرة في العالم وتجمعات من الشعوب، وذلك كما قيل عن ملكوت الله أنه واحد ومع ذلك يذكر وجود منازل كثيرة في بيت الآب (يو ١٤: ٢).].

العدد 6

بين شمس التجارب وشمس العدل:

تقدم العروس سببًا لسوادها أو ظلمتها، قائلة:

"لاَ تَنْظُرْنَ إِلَيَّ لِكَوْنِي سَوْدَاءَ (داكنة اللون) لأَنَّ الشَّمْسَ قَدْ لَوَّحَتْنِي" [٦].

كان يليق باليهود أن يسندوا الأمم ويكرزوا لهم بالصليب، لكن عوض الكرازة وقفوا يعيرونهم بالسواد الذي لحق بهم بسبب الوثنية، أما الأمم فأجابوا بأن سوادهم ليس طبيعيًا، جبلوا عليه، إنما هي نتيجة ما عانوه إذ "نزلوا" تحت الشمس فلوحتهم. ويعلق العلامة أوريجينوس على ذلك بقوله[38]: [صارت سوداء لأنها نزلت، لكنها حالما بدأت ترتفع "طالعة من البرية" (نش ٨: ٥) مستندة على ابن أختها (الذي جاء مولودًا من جماعة اليهود)، لا تسمح بشيء يفصلها عنه، تصير بيضاء وجميلة. فإن سوادها يتبدد تمامًا وتضيء بأشعة النور المحيط بها. هكذا تعتذر (كنيسة الأمم) لبنات أورشليم عن سوادها قائلة: لا تحسبن يا بنات أورشليم أن السواد المرتسم على وجهي طبيعي، لكن لتفهمن أنه قد حدث بسبب تجاهل شمس العدل ليّ. فإن "شمس العدل" لم يصوب أشعته عليّ مباشرة، لأنه وجدني غير مستقيمة. أننيّ شعب الأمم الذي لم يتطلع إلي شمس العدل ولا وقفت أمام الرب (لو ٢١: ٣٦)... فإنني إذ لم أؤمن في القديم أختارك الله ونلت أنت رحمة واهتم بك "شمس العدل" بينما تجاهلني أنا، ولوحني بسبب عصياني وعدم إيماني. أما الآن فإنك إذ صرت غير مؤمنة وعاصية، صار ليّ رجاء أن يتطلع "شمس العدل" إليّ أنا فأجد رحمة!].

لعل هذا يوضح قول الرسول بولس: "أن القساوة قد حصلت جزئيًا لأسرائيل إلى أن يدخل ملء الأمم... فإنه كما كنتم أنتم مرة لا تطيعون الله ولكن الآن رحمتم بعصيان هؤلاء" (رو ١١: ٢٥، ٣٠). ففي القديم كان الأمم مثقلين بشمس التجارب، محرومين من شمس العدل، فأعطيت الفرصة لإسرائيل أن يُختاروا وينعم عليهم بالرحمة، أما الآن إذ رفض اليهود شمس العدل وسقطوا تحت شمس العصيان وعدم الإيمان، تمتعت كنيسة الأمم بالمسيح شمس العدل. لقد زال سوادها القديم بإشراق شمس العدل عليها! ولم تعد شمس الخطية تقوى عليها، كقول المرتل "لا تحرقك الشمس بالنهار ولا القمر بالليل" (مز ١٢٠: ٦).

الحرب الداخلية:

إذ التقت الكنيسة بعريسها المتألم، جذبها إليه فدخلت حجاله وفرحت به، أرواها بمحبته اللانهائية، ففاحت رائحته الذكية، مقدسًا كل أعماقها وأحاسيسها، نازعًا عنها ظلمة الخطية وسواد الشر، عاكسًا جماله عليها، لهذا لا تطيق قوات الظلمة إلاَّ أن تثور ضد العروس.

في هذا تقول العروس:

"بَنُو أُمِّي غَضِبُو عَلَيَّ جَعَلُونِي نَاطُورَةَ (حارسة) الْكُرُومِ،.

أَمَّا كَرْمِي فَلَمْ أَنْطُرْهُ "[٦].

من هم بنو أمها؟ وما هو سرّ غضبهم عليها؟

وما هو الكرم الذي تحرسه العروس وكرمها الذي لا تحفظه؟

1. يرى العلامة أوريجينوس أن الترجمة الدقيقة للنص هي: "بنو أمي حاربوا في" وليس ضدي. هنا "بنو أمها" هم الرسل الذين هم من جماعة اليهود، إذ الأمم واليهود من أم واحدة. هؤلاء الرسل لم يكفوا عن أثارة حرب عنيفة داخل الأمم حتى يهدموا كل أبراج الباطل ويحطموا حصون التعاليم الوثنية الخاطئة ويغلبوا كل شر، فيقيموا من الأمم الوثنيين "حارسة لكرم الرب" وحافظة للناموس والأنبياء، أما "كرمها الخاص" أي تعاليمها الوثنية فلا تعود تحفظها أو تهتم بها.

2. وللعلامة أوريجينوس رأي آخر وهو أن الملائكة هم "بنو أمها"، فقد صار البشر والملائكة منتمين إلى أم واحدة، صار الكل أعضاء في كنيسة المسيح. هؤلاء الملائكة يسندوننا ويحاربون عنا ومعنا، إذ يرسلهم الرب لعوننا في الحرب الداخلية ضد الخطية، حتى تقدر النفس أن ترعى كرم الرب الذي هو "القلب" وتتخلى عن كرمها الذاتي أو أعمال إنسانها القديم، فلا تعود تحتفظ بها بل تتخلى عنها[39].

3. هناك تفسير ثالث وهو أن "بني الأم" تُشير إلى "الأنا" أو "الذات" إذ "أعداء الإنسان أهل بيته" (مت ١٠: ٣٦). الذات البشرية هي عدو يثور ضد عمل المسيح فينا. خلال هذه الحرب يهتم المؤمن بكروم الآخرين وينشغل في كبرياء بمظاهر الخدمة والكرازة دون أن يهتم بكرمه الداخلي أو حياته الداخلية.

العدد 7

2 المسيا الراعي

إذا تحدثت الكنيسة عن عريسها "المسيا المتألم"، فرأت في آلامه جاذبية حتى انسحبت كثيرات معها إليه، هاج العدو عليها. لهذا تستنجد الكنيسة بالعريس نفسه بكونه "الراعي الصالح"، الذي يدخل إلى حياتها ويرعاها بنفسه، أنها تناجيه، قائلة:

"أَخْبِرْنِي يَا مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي، أَيْنَ تَرْعَى؟ أَيْنَ تُرْبِضُ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ؟" [7].

في وسط مرارة قلبها بسبب شدة حرب العدو ضدها تشعر النفس البشرية بعذوبة عناية الله راعيها، فتدعوه "يا من تحبه نفسي". وكأنها تقول مع القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [هذا هو الاسم الذي أدعوك به (يا من تحبه نفسي)، لأن اسمك فوق كل الأشياء، وهو غير مدرك حتى بالنسبة لكل الخلائق العاقلة. هذا الاسم يعلن عن صلاحك، ويجذب نفسي إليك. كيف أقدر ألا أحبك، يا من أحببتني هكذا وأنا سوداء (نش ١: ٤)، فبذلت حياتك من أجل القطيع الذي هو موضوع رعايتك؟! [40].].

موضوع الرعاية:

إنها تسأل الراعي الذي أحبته من كل القلب والنفس عن موضع راحته، لتستريح معه وبه... تسأله الطريق حتى لا تسلك حسب أهوائها الشخصية.

في القديم إذ اشتدت شمس التجارب على داود النبي التجأ إلى بيت الله بكونه الموضع الذي فيه يرعى الله ويربض عند الظهيرة، إذ قال:

"إِنْ نَزَلَ عَلَيَّ جَيْشٌ لاَ يَخَافُ قَلْبِي،.

إِنْ قَامَتْ عَلَيَّ حَرْبٌ، فَفِي ذَلِكَ أَنَا مُطْمَئِنٌّ.

وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي،.

لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ وَأَتَفَرَّسَ فِي هَيْكَلِهِ،.

أَنَّهُ يُخَبِّئُنِي فِي مَظَلَّتِهِ فِي يَوْمِ الشَّرِّ،.

يَسْتُرُنِي بِسِتْرِ خَيْمَتِهِ،.

عَلَى صَخْرَةٍ يَرْفَعُنِي.

وَالآنَ يَرْتَفِعُ رَأْسِي عَلَى أَعْدَائِي حَوْلِي، فَأَذْبَحُ فِي خَيْمَتِهِ ذَبَائِحَ الْهُتَافِ أُغَنِّي وَأُرَنِّمُ لِلرَّبِّ "(مز ٢٧: 1–٦).

حقًا، ما أحوجنا أن يمسك الراعي نفسه بأيدينا ويدخل بنا إلى كنيسته، موضع راحته، مرعى الخلاص... هناك نلتقي بالسيد المسيح نفسه سرّ راحتنا وسلامنا، وننعم بمواهب روحه القدوس الذي يعزينا. في بيته نلنا البنوة لله خلال المعمودية، وقبلنا روحه القدوس، ساكنًا فينا خلال سرّ الميرون. في بيته نجد غفران الخطايا وننتعش بالذبيحة المحيية، جسد ابن الله ودمه المبذولان من أجلنا... في بيته نجلس تحت ظلال صليبه، سرّ مصالحتنا مع الله وسلامنا الداخلي. متى قسى العدو الحرب ضدنا، ومتى ثارت الخطية داخلنا، نجري إلى بيته بدموع التوبة فنجد الراعي نفسه يبحث عنا، وروحه القدوس يشتهي تقديسنا!

الظهيرة:

لماذا اختارت العروس أن تلتقي بعريسها الراعي في وقت الظهيرة، قائلة "أَيْنَ تُرْبِضُ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ؟".

إن كنا نلتقي بالراعي الصالح في كنيسته الواحدة الممتدة عبر العصور إنما تدخل إليه لنراه متجليًا فيها كشمس الظهيرة... فلا يعرف أعضاؤها الظلمة أو الظلال، بل يعيشون على الدوام في ذروة نور راعيهم، يستنيرون به فيصيرون بدورهم نورًا للعالم. في هذا يقول الحكيم: "أما سبيل الصديقين فكنور مشرق يتزايد وينير إلى النهار الكامل، أما طريق الأشرار فكالظلام" (أم ٤: ١٨ - ١٩).

يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص[41]: [إنك تجعلني أربض في الظهيرة... في النور لا يعرف ظلاً، إذ لا يجد ظل في الظهيرة حيث تكون الشمس عمودية علينا.].

لا يمكن لأحد أن يتأهل لراحة الظهيرة ما لم يكن ابن النهار والنور... تقول العروس: "أرني كيف أربض؟ عرفني طريق راحة الظهيرة لئلا أضل عن قيادتك الأمينة، ويصيبني جهل للحق، الأمر الذي يصيب القطعان المضادة لقطيعك!".

ويقول القديس أغسطينوس[42]: [ماذا تعني الظهيرة؟ حرارة شديدة وضياء عظيم! إذًا، أنيّ أتعرف عليك يا من حكماؤك هم حارين في الروح، مضيئين في التعليم.].

ويرى العلامة أوريجينوس في الظهيرة رمزًا لكمال بهاء الله، فالعروس تُريد أن تلتصق بالرب في ملء عظمته، إذ تناجيه هكذا، قائلة: "يحلو ليّ أن أبحث عنك في هذا الوقت بالذات، فلا أجد في طلبك مساءً أو عندما ترعى في الصباح، أو عند مغيب الشمس، إنما أبحث عنك في هذا الوقت... في وسط النهار حيث تكون أنت في ملء نورك... في ضياء عظمتك!".

وللعلامة أوريجينوس تفسير آخر لكلمة "الظهيرة"، ألا وهو إدراك كمال معرفة أسرار كلمة الله، إذ يقول[43]: [ما تدعوه بالظهيرة يُشير إلى مواضع القلب الخفية، حيث تقتفي النفس أثر نور معرفة كلمة الله الأكثر وضوحًا، لأن الظهيرة هي الوقت الذي تكون فيه الشمس في ذروتها. لذلك إذ يظهر السيد المسيح – شمس العدل – أسرار قوته العالية والسامية لكنيسته يُعرفها مواضع مراعيه المفرحة وأماكن راحته عند الظهيرة. فالكنيسة في البداية إذ تتعلم الأمور "الأولية" تتقبل منه أشعة المعرفة الخفية، لذا يقول النبي: "يعينها الله عند إقبال الصباح" (مز ٤٥: ٦)، أما الآن وهي تبحث عن الأمور الأكثر كمالاً ونشتاق إلى أشياء أكثر علوًا، فأنها تطلب نور المعرفة الذي للظهيرة.].

لقاء مع الراعي عند الظهيرة:

تُريد الكنيسة أن تلتقي بعريسها وقد الظهيرة، لأن لهذا الوقت ذكريات فعالة في حياتها، نذكر على سبيل المثال:

1. في وقت الظهيرة ظهر الرب لإبراهيم ومعه ملاكان، وبشره هو وسارة امرأته أنه يقيم لهما نسلاً، يكون بركة لأمم كثيرة (تك ١٨)... يقيم لهما من مستودع سارة الذي في حكم الموت ومن شيخوخة إبراهيم حياة جديدة. هذا هو ما تطلبه الكنيسة من راعيها وقت الظهيرة، أن تلتقي به محوط بملائكته، تدخل معه في شركة الأمجاد السمائية، ليهبها اسحاقها الداخلي، أي يهبها "الحياة الجديدة"، يقيم فينا هذه الحياة رغم ما كنا فيه... إننا تحت حكم الموت وبلا ثمر، وكما اختبر إبراهيم وسارة "قوة القيامة"، إذ أقام لهما الرب من موتهما حياة، هكذا نطلب من راعينا أن نختبر على الدوام قوة القيامة فينا.

كما التقى إبراهيم أب الآباء بالله وقت الظهيرة خارج الخيمة، هكذا يلتزم أولاد إبراهيم الذين يعملون أعمال إبراهيم (يو ٨: ٣٩)، أي أن يخرجوا خارج حدود خيمة الجسد الوقتية طاردين عنهم بالروح القدس كل فكر جسداني وشهوة جسدية حتى ينعموا برؤية الله والتمتع برعايته.

2. وفي وقت الظهيرة التقى يوسف بأخيه الأصغر بنيامين، فحنت أحشاؤه إليه، ولم يقدر إلاَّ أن يدخل المخدع ويبكي (تك ٤٣). هذه هي صورة اللقاء التي نشتهيها حيث يلتقي الراعي الحقيقي البكر بيسوع المسيح بنا نحن اخوته الأصاغر، يرانا فتحن أحشاؤه علينا، ويدعونا "بنيامين" أي "أبناء اليمين".

3. عند الظهيرة سخر إيليا بكهنة البعل، قائلاً: "أدعوا بصوتِ عال لأنه إله العله مستغرق أو في خلوة أو في سفر أو لعله نائم فيتنبه" (١ مل ١٨: ٢٧)، هكذا تُريد الكنيسة أن تقترب من راعيها وقت الظهيرة لتراه إيليا الحقيقي، أي "إلهي" [44] الذي يسخر من إبليس وكل جنوده... وقد تحقق ذلك حيث ارتفع المسيا على الصليب في الظهيرة ليسحق الشيطان وكل جنوده، معطيًا إيانا سلطانًا أن ندوسه تحت أقدامنا.

4. في وقت الظهيرة أعلن الراعي الحقيقي يسوع المسيح ذاته لشاول الطرسوسي الذي كرس طاقاته لإباده أسم يسوع (أع ٢٢: ٩)، فاكتشف شاول حقيقة الراعي الحيّ الذي لا يموت، وتحولت حياته إلى إناء مختار يشهد باسم يسوع المسيح بين أمم كثيرة. هذه هي رعاية المسيا أن يحول المضطهدين إلى كارزين وخدام للكلمة.

5. أخيرًا، فإن تعبير العروس "أَيْنَ تُرْبِضُ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ"، يُذكرنا بنبوة أبينا يعقوب ليهوذا، قائلاً: "يهوذا جرو أسد... جثا وربض كأسد... من ينهضه؟ لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب" (تك ٤٩: ٩، ١٠). تحققت هذه النبوة حين ربض الأسد الخارج من سبط يهوذا ونام على الصليب وقت الساعة السادسة لا ليستريح بل ليرعى بالحب البشرية، مقدمًا دمه فدية وخلاصًا.

مراع غريبة:

تسأل الكنيسة راعيها: "أَيْنَ تَرْعَى؟ أَيْنَ تُرْبِضُ؟... لَئِلاَ أَكُونُ خَفيفَة[45] مُقَنَّعَةٍ عِنْدَ قُطْعَانِ أَصْحَابِكَ؟" [٧].

يعلق العلامة أوريجينوس على هذه العبارة هكذا: [إنها تشتاق أن تتعلم الطريق الذي يلزمها أن تسير فيه، لئلا بسبب عدم معرفتها لمنحنياته تعرج إلى قطعان أصحابه... فيراها كثيرون غيره. وكأنها تقول: أُريد ألا يراني أحد غيرك أنت وحدك. أود أن أعرف الطريق الذي يحضرني إليك... ولا يدخل أحد بيننا.].

إنها تُريد أن تعرف الطريق الحقيقي فتنعم برعاية المسيح، لئلا تصير "خفيفة"، تهزها رياح التعاليم الغريبة، فترتمي عند قطعان الرعاة الذين يعملون لحسابهم الخاص وليس لحساب السيد المسيح. بهذا تصير "مُقنعة"، يحجب وجهها خلف القناع بدلاً من أن تلتقي براعيها بوجه مكشوف بمعنى آخر تُحرم من كونها العروس المتحدة بعريسها دون وجود حجاب يحجز بينهما.

ويرى القديس چيروم أن القناع هنا يُشير إلى "برقع الشريعة القديمة" [46]، فإنه إذ تلتقي العروس براعيها عند الصليب وقت الظهيرة لا تعود تلبس قناعًا، إذ أنشق الحجاب وزال عهد الظلال، ودخلنا في عهد جديد فيه نلتقي مع الله بوجه مكشوف، أي بدالة الحب البنوي أو الحب الزوجي. لا نعود نحتاج إلى برقع نضعه على وجهنا مثل موسى، بل ندخل إلى أسرار الله، ونكون في حضرته متحدين معه.

العدد 8

طريق الرعاية

يجب الراعي كنيسته هكذا:

"أِنْ لَمْ تَعْرِفِي (نفسك) أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ،.

فَاخْرُجِي عَلَى آثَارِ الْغَنَمِ،.

وَأرْعَى جِدَاءَكِ عِنْدَ مَسَاكِنِ الرُّعَاةِ "[8].

إذ سألته عن الطريق الخاص به حتى لا تصير خفيفة ومقنعة، تنحرف إلى قطعان الأصحاب، أوضح لها الراعي معالم الطريق في نقط ثلاث:

1. تتعرف أولاً على نفسها، وتدرك الطبيعة الجديدة التي وُهبت لها خلال رعايته.

2. تخرج عن الانعزالية والذاتية، ممتثلة بالآباء القديسين.

3. تشهد للراعي أمام الجداء لتدخل بهم إلى موضع رعايته.

1. يسألها الراعي الصالح أولاً أن تتعرف على ذاتها، أي تبدأ بالداخل، لتدرك أن الله قد خلقها على صورته ومثاله بلا عيب، وقد زينها بالجمال الفريد "الجميلة بين النساء"، وقد دفع الثمن في رعايته لها خلال الصليب.

بهذا يدفع الراعي بأولاده إلى روح الرجاء، فيؤكد للنفس البشرية أنها حتى إن لم تعرف هي ذاتها، فهو يعرفها تمامًا أنها "الفريدة في الجمال"، إذ صارت مسكنًا لروحه القدوس وقد لبست المسيح نفسه، وتهيأت به لتكون عروسه الأبدية.

إذًا، ليفحص المؤمن أعماقه وليدرك الطبيعة الجديدة التي وُهبت له في المعمودية، وليعلم أنه، في عيني الراعي السماوي، جميل بين الخليقة كلها.

2. يأمرها أيضًا بالخروج (اخرجي)، فأنها لا تقدر أن تصير "جميلة بين النساء" أن لم تخرج مع راعيها خارج المحلة لتحمل عاره (عب ١٣: ١٣). لتخرج من الأنا أو الذات البشرية، وتصلب مع عريسها، فتحيا فيه وبه، وكأنه ينصحها بل يأمرها هكذا: "إن أردتي رعايتي فاخرجي عن ذاتك وتعالي إلى صليبي".

في خروجها تخرج مع الرأس نفسه الراعي المصلوب، ومع بقية أعضاء الجسد "على آثار الغنم"، سواء مع الآباء القديسين السابقين أو مع المجاهدين. لهذا ينصحنا الرسول أيضًا: "انظروا إلى نهاية سيرتهم وتمثلوا بإيمانهم" (عب ١٣: ٧). أن كنا نخاف الصليب، فلننظر كيف خرج آباؤنا القديسين إلى الصليب فتقدسوا وتجملوا.

3. إذ تعرف النفس مركزها الجديد كعروس جميلة وتتمثل بالآباء القديسين، حاملة عار الصليب خارج المحلة، أي خارج الذات البشرية يلزمها أن تعمل... تشهد للراعي أمام الجداء. هكذا لا تعيش في سلبية، بل يحترق قلبها من أجل الخطاة كقول المرتل: "الكآبة ملكتني من أجل الخطاة الذين حادوا عن ناموسك"، حتى تدخل بهم إلى "مسكن الرعاة"، أي إلى كنيسة المسيح التي يقطن بها الرعاة.

العدد 9

دعوة للجهاد والعمل

إذ تلتزم الكنيسة وهي تحت رعاية المسيا المخلص أن تحمل مسئولية الشهادة العملية لخلاصه فتدخل بالجداء إلى الحظيرة ليصيروا خراف المسيح يطلب منها أن تعمل بروح القوة التي لا تعرف الخوف، وروح الوحدة بغير انقسام، قائلاً لها:

"لَقَدْ شَبَّهْتُكِ يَا حَبِيبَتِي (صاحبتي) بِفَرَسي[47] فِي مَرْكَبَاتِ فِرْعَوْنَ" [٩].

1. هنا نلاحظ دعوته لها؟ "فرسي"، بصيغه الجمع فإذا تدخل النفس تحت رعاية السيد المسيح وتحمل مسئولية الشهادة لصليبه تلتزم بالعمل بروح الوحدة مع بقية الخيل، تعمل في موكب المسيح الواحد! في جهادها الروحي كما في كرازتها ترتبط بكل أعضاء جسد المسيح، تقتفي أثار الآباء الأولين (أخرجي على آثار الغنم)، وتهتم بالأجيال المقبلة (أرعي جداءك)، وتنضم في العمل مع المجاهدين إذ تسير كأحد الفرسان التي في موكب المسيح يسوع ربنا. وكأن سرّ القوة في حياة المؤمن أنه وقد ارتبط بالمسيح رأس الكنيسة الواحدة يرتبط بالكنيسة كلها الممتدة منذ آدم إلى آخر الدهور، يعمل مع بقية الأعضاء بروح واحد.

2. بدعوته لها "فرسي" يعلن ملكية الكنيسة للسيد المسيح. هذا هو سرّ قوتها، أنها قد صارت في ملكيته، اقتناها بدمه، ويقودها بنفسه، تعمل لحساب ملكوته، لهذا رأى القديس يوحنا اللاهوتي الكنيسة كفرس الرب الأبيض "والجالس عليه معه قوس، وقد أعطي إكليلاً، وخرج غالبًا ولكي يغلب" (رؤ ٦: ٢). كل نصرة لنا إنما هي باسمه ولحسابه.

ومن اعتزاز الرب بكنسيته التي يقودها كفرس لقب بـ "الجالس على الفرس" (رؤ ١٩: ١٩، ٢١).

3. يمتاز الخيل بالقوة والقدرة على دخول المعارك بسرعة بغير خوف، فقد قيل عنها: "هل أنت تعطي الفرس قوته وتكسو عنقه عُرْفاً؟!. أتوثبه كجرادة؟؟... أيخرج للقاء الأسلحة؟ يضحك على الخوف ولا يرتاع ولا يرجع عن السيف" (أي ٣٩: ١٩–٢١). وتحدث زكريا النبي عن قوة بيت يهوذا هكذا: "أن رب الجنود قد تعهد قطيعه بيت يهوذا، وجعلهم كفرس جلاله في القتال" (زك ١٠: ٣). ورأى الرسول بولس نفسه أحد هذه الفرس في مركبة الخلاص، فقال: "شكرًا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" (١ كو ١٥: ٥٧).

4. يُشير الخيل إلى قوة الله السماوية أو العلوية، ففي سفر حبقوق يقول النبي "جَلاَلُهُ غَطَّى السَّمَوَاتِ... وَقَفَ وَقَاسَى الأَرْضَ... هَلْ عَلَى الأَنْهَارِ حَمِىَ يَا رَبُّ هَلْ عَلَى الأَنْهَارِ غَضَبُكَ أَوْ عَلَى الْبَحْرِ سَخَطُكَ حَتَّى أَنَّكَ رَكِبْتَ خَيْلَكَ، مَرْكَبَاتِكَ مَرْكَبَاتِ الْخَلاَصِ" (حب ٣–٨). وعندما رأى خادم اليشع النبي الجيش محيط بالمدينة اضطرب، لكن اليشع طلب من الرب أن ينفتح عيني الغلام، "فأبصر وإذا الجبل مملوء خيلاً ومركبات نار حول اليشع" (٢ مل ٦: ٨)... الخ.

أما قوله هنا "في مركبات فرعون" ربنا يؤكد أنه وإن صار المؤمنون خيلاً للرب يحملون السمة السماوية لكنهم "مركبات فرعون" أي يعيشون على الأرض (في مصر)، وقد عرفت مصر بجودة خيلها (١ مل ١٠: ٢٨ - ٢٩).

ويرى العلامة أوريجينوس[48] في القول "مركبات فرعون" إعلان عن استحقاقها الذاتي أن تغرق في البحر الأحمر، لكنها إذ تدخل مياه المعمودية تخرج طاهرة ومقدسة فتصير فرسًا بيضاء!

الأعداد 10-12

ثمار الرعاية:

إذ تم لقاء الراعي مع كنيسته فأعلن لها حقيقة مركزها الجديد، أنها "جميلة بين النساء" وطالبها بالجهاد كأحد فرسه في مركبات الخلاص، بدأ يعلن لها ثمر هذا العمل في حياتها، قائلاً لها:

"مَا أَجْمَلَ خَدَّيْكِ بِسُمُوطٍ (كحمامة) [49]،.

وَعُنُقَكِ بِقَلاَئِدَ!

نَضَْعُ لَكِ سَلاَسِلَ مِنْ ذَهَبٍ مَعَ جُامَانٍ مِنْ فِضَّةٍ.

مَا دَامَ الْمَلِكُ فِي مَجْلِسِهِ (على مائدته) "[١٠–١٢].

يمكننا أن نلخص ثمار الرعاية في الآتي:

1. يصير لها خدي الحمامة، أي تحمل روح الاتضاع مع العفة.

2. يتزين عنقها بروح الطاعة وخدمة الآخرين.

3. تتمتع بشبه الذهب ومرصعات الفضة، أي الناموس والشريعة، حتى تتمتع بالذهب ذاته أي "إنجيل النعمة" أو "الحياة السماوية".

1. خدي حمامة:

لقد تزين خدي الكنيسة بالسموط أي صفوف الجواهر، إذ حملت في داخلها الروح القدس الذي يملأ حياتها الداخلية، انعكس هذا على وجهها، فحمل ثمر الروح الذي هو الحب والفرح والسلام وطول الأناة واللطف والصلاح والإيمان والتعفف (غل ٥: ٢٢).

جاءت الترجمة السبعينية "ما أجمل خديك كحمامة"... وكأن سرّ جمال وجه الكنيسة هو تمتعها بثمار الروح القدس الذي يظهر على شكل حمامة.

ويعلق العلامة أوريجينوس على هذا النص قائلاً[50]: [إنه لم يقل: "ما أجمل خديك"، بل يقول: "ما أجمل ما صار إليه خديك". لقد أراد أن يوضح بأنهما لم يكونا قبلاً جميلين هكذا، أنما صار لها هذا الجمال بعد أن تقبلت (الكنيسة) قبلات العريس، وبعد أن جاءها ذاك الذي تحدث قلبلاً بالأنبياء. لقد طهر هذه الكنيسة لنفسه في جرن المياه، وجعلها بلا غضن أو دنس وأعطاها أن تعرف نفسها، بهذا صار خديها جميلين، فإن العفة والفضيلة والبتولية – الأمور التي لم تكن لها قبلاً – قد انتشرت فيها بجمال لذيذ خلال الكنيسة.].

يُشير خد الحمامة إلى الوداعة والطهارة، فمن جهة الوداعة يوصينا السيد: "كونوا بسطاء كالحمام" (مت ١٠: ١٦)، أي لا تحملوا مكر العالم ودهاءه، وأما من جهة الطهارة، فإن هذا النوع من الحمام Turtle - dove الوارد في هذه العبارة يقول عنه العلامة أوريجينوس له طبيعة عجيبة، إن مات أحد الزوجين لا يقبل الطرف الآخر عوضًا عن المفقود...

يعلق العلامة أوريجينوس على هذا النص، قائلاً: [ينطبق رمز الحمامة Turtle - dove على الكنيسة تمامًا، أما لأنها لا تعرف أن تتحد مع آخر غير المسيح، أو لأن طيران الحمام يرمز للعفة والوداعة.].

2. العنق المزين بقلائد:

عنق الإنسان – بغير زينة – غالبًا ما يُشير إلى غلاظة الطبع البشري، أما وقد تزين بمواهب الروح القدس فيصير رمزًا للجمال الروحي والرقة في احتمال الآخرين... هذه هي القلائد (الكردان أو العقد) الكنيسة! فقد كان عنقنا يحمل عارًا وخزيًا بسبب عصياننا وكبريائنا. أما الآن فصار يحمل نير المسيح، ويقبل طاعته، فصار له الجمال الروحي الفائق.

3. الذهب والفضة:

جاء في الترجمة السبعينية: "نصنع لك شبه ذهب مع مرصعات من الفضة، ما دام الملك على مائدته". فالكنيسة في العهد القديم لم يكن لها ذهب بل شبه الذهب ومرصعات من الفضة، أما وقد اتكأ الملك على مائدته صار لعروسه "الذهب".

إذ اتكأ الرب الملك على صليبه صار لنا "الذهب" أي "الحياة السماوية" بعد أن كنا نعيش قبلاً في شبه السماويات، "شبه الذهب"، خلال الرموز والظلال (غلا ٣: ١٩؛ عب ١٠: ١؛ ١ كو ١٠: ١١).

ويرى بعض الآباء أن كنيسة العهد القديم كانت تتمتع بشبه الذهب مع مرصعات الفضة، أي تتمتع بالناموس والأنبياء حيث كانت عفة الزيجة والترمل هي دستور الحياة، أما وقد جاء الملك البتول واتكأ على مائدته بعث في أعضاء جسده أمكانية "حياة البتولية" التي هي "شريعة السماء"، حيث هناك لا يزوجون ولا يتزوجون.

3 المسيا الملك

أما وقد شبه العريس كنيسته بفرسه في مركبات الخلاص، يقودها بنفسه، ويجتاز بها إلى ملكوته، فإن الكنيسة أيضًا تتطلع إليه كملك حارب عنها واتحد بها ليقيمها ملكة تجلس عن يمينه.

ناردين الملكة:

"مَا دَامَ الْمَلِكُ متكئًا على مائدته أَفَاحَ نَارِدِينِي رَائِحَتَهُ" [١٢].

إذ ملك ربنا يسوع المسيح بالصليب، ساكبًا حياته من أجلها، تقدمت الملكة إليه ترد الحب بالحب، فتقدم حياتها ناردينًا خالصًا، تسكبه عليه، فتفوح رائحته حيثما يكرز بالإنجيل.

على مائدة الرب أو مذبحه يلتقي الملك بالملكة، فتُقدم الملكة ذبيحة الملك نفسه، رائحة ذكية مقبولة لدى الآب، وتُحسب ذبيحته ذبيحتها، ورائحته ناردينها! لأن كل ما قدمه الملك على الصليب إنما قدمه باسم الكنيسة ولحسابها. لهذا أُعطى للملكة أي الكنيسة أن تُقدم ذات ذبيحته، كرائحة ناردين حب الملك للملكة وحب الملكة للملك.

هكذا يتطلع القديس أغسطينوس إلى ذبيحة الملك، فيراها بعينها ذبيحة الملكة، إذ يقول[51]:

[أنتم فوق المائدة! أنتم داخل الكأس!

هذا ما تقدمه الكنيسة خلال سرّ المذبح! وإذ هي ترفع القرابين لله تقدم نفسها له قربانًا!

هذه الذبيحة العظيمة القدر، السامية، هي نحن أنفسنا!].

يقول أيضًا[52]: [ما دامت الكنيسة هي جسد ذاك الذي هو الرأس فإنها تتعلم أن تقدم نفسها (تقدمة) خلاله.].

هكذا ما دام الملك متكئًا على مائدته، تجتمع به الملكة، فتظهر فيها رائحة معرفته (٢ كو ٢: ١٥)، تُقدم ناردين حبها له، وتبذل حياتها من أجله، كما بذل حياته عنها... فتدخل معه إلى المرّ، قائلة:

العدد 13

"صُرَّةُ الْمُرِّ حَبِيبِي (ابن أختي) لِيّ. بَيْنَ ثَدْيَيَّ يَبِيتُ" [١٣].

إن كان قد تألم لأجلها ومات فإنها تتقدم إليه بالمرّ الذي يُستخدم في دهن المسحة وفي الأطياب... تدخل معه إلى القبر تحمل المرّ لتكفين جسده.

لقد أدركت الملكة أن عريسها هو الملك "قاهر الموت" لا يستطيع القبر أن يمسك به ولا أبواب الهاوية أن تحجبه... عرفته أنه "القيامة" واهب الحياة، فأعدت له مرًّا في داخلها حتى يدخل إليها في قلبها، الذي صار قبرًا جديدًا... هناك بين ثدييها يبيت ليدخل إلى قبره المقدس، حيث لا تشتم فيه رائحة موت، بل ناردين ومرّ، ويتحول القبر إلى هيكل مقدس، يعلن الله فيه ويسكن.

ويلاحظ في هذه الدعوة التي توجهها الملكة للملك الآتي:

1. لا تُقدم الملكة المرّ بأية طريقة كانت وإنما تحزمه وتغلق عليه "صرة المرّ"، وكما يقول العلامة أوريجينوس[53]: [بهذا لا تتشتت رائحة المرّ خارجًا، بل تبقى في الداخل فتكون رائحته أطيب وأقوى، عندئذ يقطن الملك في قلبها حيث يجد راحته، ويسكن في حضنها.].

2. استخدمت الملكة عبارة "صرة المرّ حبيبي ليّ"، لأنه بحسب الشريعة كل شيء غير مربوط أو مغلق يكون دنسًا (عد ١٩: ١٥)، والنفس التي تلمس ما هو دنس تتدنس. أما يسوع فليس فيه عيب قط، بل كل ما فيه طاهر ونقي... تتلامس معه النفس فتتقدس.

ويرى العلامة أوريجينوس أن عبارة "صرة نقطة المرّ" تُشير إلى تعاليم الكنيسة الخاصة بالتجسد الإلهي، التعاليم التي تربط بالحق وتحزمه، فلا يتسرب إليها هرطقات. أما النفس التي تلمس الهرطقات – التعاليم غير المربوطة – فتصير دنسة.

3. يرى العلامة أوريجينوس أن التعبير هو "صرة نقطة المرّ"... فإن الله الكلمة غير المحدود صار بتجسده "كنقطة"، مخليًا ذاته حاملاً طبيعتنا.

4. يرى العلامة أوريجينوس أيضًا أن كلمة "حبيبي" هنا هي "ابن أخي" أو ابن أختي My Nephew، ولما كان المتحدث هنا هو كنيسة الأمم، فإن جماعة الأمم تمثل أختها البكر في التعرف على الله، وقد جاء السيد المسيح من اليهود حسب الجسد (رد ٩: ٣–٥). فتقول الملكة "صرة نقطة المرّ ابن أختي ليّ" إنما يُشير إلى ميلاد السيد المسيح حسب الجسد.

5. لم تقل الملكة "في قلبي يبيت" بل بين ثديي يبيت، ولعل هذا التعبير مأخوذ عن العادة القديمة أن تعلق الزوجة في عنقها سلسلة بها صورة مصغرة لزوجها الغائب علامة حبها وولائها له، إذ تستقر الصورة على صدرها[54].

وكما أن للملك ثديان هما "العهد القديم والعهد الجديد"، بهما تتغذى كنيسته فأن الملكة لها ذات الثديان. فإن كتاب الله إنما هو كتاب الكنيسة، يفرح الرب حين يجد كنيسته تقدم للعالم كلمته غذاء للنفوس. بهذا المفهوم كتب القديس چيروم للراهب باماخيوس Pamachius يشجعه على دراسة الكتاب المقدس قائلاً: [أعطه ثدييك ليرضع من حضنك المثقب، وليسترح في ميراثه (مز ٦٨: ١٢).].

6. أخيرًا تدعوه أن يبيت بين ثدييها وكأنها تقول له مع هوشع النبي: "أنيّ أعزل زناي عن وجهي وفسقي من بين ثديي" (هو ٢: ٢) حتى تجد لك مسكنًا في أيها القدوس. لتدخل وتبت الليل كله، فأنيّ ما دمت في ظلمة هذه الحياة الزمنية أحتاج إليك... لتدخل حتى يفيح نهار الأبدية. لتبت بين ثدييّ، فأخفيك يا إلهي داخلي، لن أخليك، فليس ليّ غيرك!.

العدد 14

الطاقة الفاغية:

"طَاقَةُ فَاغِيَةٍ حَبِيبِي (ابن أختي) لِيّ فِي كُرُومِ عَيْنِ جَدْيٍ" [١٤].

الطاقة الفاغية هي حزمة زهر الحناء، التي تطبق العروس يدها عليها طوال الليلة السابقة لزفافها حتى تصير في الصباح حمراء، ذات رائحة طيبة، وبهذا تتهيأ لعريسها[55]، وقدت أمتازت عين جدي[56] بالحناء الطيبة الرائحة.

إن كان الملك يمسك بصليبه كصولجان ملكه، فإن الملكة تمسك بعريسها في يدها وتطبق عليه فترتسم سماته وعلامة ملكه عليها... أي تحمل اللون الأحمر. إنها لن تكون ملكة ما لم تحمل علامات الصلب والبذل، وتصير حمراء كعريسها. هذا هو سرّ قوتها، وسرّ عرسها وجمالها... لهذا يناجيها الملك قائلاً:

العدد 15

"هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي،.

هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ،.

عَيْنَاكِ حَمَامَتَانِ "[١٥].

سرّ جمالها:

للمرة الثانية يدخل العريس الملك في حوار مع عروسه. في المرة الأولى كان يحثها أن تتعرف على ذاتها وتدرك أنها "الجميلة بين النساء" [٨]، أما الآن فهو يُناجيها مؤكدًا لها: "ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة". وهنا كلمة "حبيبتي" جاءت "القريبة مني My Neighbor" وكأنه يقول لها أن سرّ جمالها هو اقترابها إليه، بعد أن أقترب هو منها ونزل إليها. في هذا يقول القديس مار أفرام السرياني في ليلة عيد الميلاد[57]: [إنها ليلة جميلة، فيها جاء من هو جميل، وجعل الكل جميلاً.] أما تكرار الملك لقوله "ها أنت جميلة" فيؤكد إعجابه بها... هنا يخلط المُلك بالعُرس، والجهاد بالجمال، والتقدير والاحترام بالحب.

العينان الحمامتان:

1. يرى السيد المسيح الملك في الكنيسة جمالاً لا يشيخ، سرّه العينان الحمامتان، فقد حلّ فيها الروح القدس – الذي يظهر على شكل حمامة – ووهبها إستنارة داخلية أو بصيرة روحية.

يقول العلامة أوريجينوس[58]: [تُقارن عيناها بالحمامتين بالتأكيد لأنها قد صارت الآن تفهم الكتب المقدسة حسب الروح وليس حسب الحرف. صارت تدرك الأسرار الروحية في الكتب المقدسة، لأن الحمامة رمز للروح القدس. متى فهمنا الناموس والأنبياء بطريقة روحية يصير لنا العينان الحمامتان. لهذا ففي سفر المزامير اشتاقت نفس ما أن يكون لها جناحي حمامة (مز ٦٧: ١٤)، لعلها تقدر أن تطير إلى فهم الأسرار الروحية وتستقر في ساحات الحكمة.].

مرة أخرى يلخص العلامة أوريجينوس تفسير هذه العبارة، قائلاً: [إنه يقول "عيناك حمامتان" تنظران وتدركان بطريقة روحية.].

مرة ثالثة يؤكد العلامة أوريجينوس أن عيني الحمامة تُشيران إلى القلب العفيف النقي، الذي يستطيع أن يتطلع إلى كلمة الله بفهم روحي، قائلاً: [من له عينا الحمامة يرى الحق ويستحق الرحمة... "يرى ذلك المستقيمون ويفرحون" (مز ١٠٧: ٤٢). من هو هذا الذي يرى الحق إلاَّ صاحب النظرة العفيفة النقية؟ هذا الأمر لا ينطبق على العينين الجسديتين بل على عيني القلب. فلتدخل إلى العمق، ولتبحث بروحك عن عينين أخريتين تستمدان نورهما من وصايا الله... لأن وصية الرب مضيئة تنير العينين (مز ١١٨: ٩). من له العين البسيطة يستطيع أن يدرك الروح النازل من السماء على شكل حمامة....].

يقول أيضًا القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [عندما تكون حدقة عيني الإنسان نقية يمكنك أن تُعاين فيهما وجوه المتطلعين إليهما. هكذا يُمدح جمال عيني العروس بسبب صورة الحمامة (الروح القدس) التي تظهر فيهما، إذ يحملان في داخلهما صورة لما تتطلعان إليه. فالإنسان الذي لا يعود يتطلع إلى الجسد والدم، بل بالحري يشخص إلى حياة الروح كقول الرسول، فيحيا ويسلك بالروح، فبقتله أعمال الجسد بواسطة الروح لا يعود بعد يكون إنسانًا طبيعيًا أو جسدانيًا بل روحيًا تمامًا. من أجل هذا يمدح العريس النفس التي تحررت من الشهوات الجسدية، بقوله أن صورة الحمامة تظهر في عينيها، بمعنى أن انطباعات الحياة الروحية تنير داخل صفاء النفس.].

2. تُشير العينان الحمامتان إلى النفس البسيطة التي سرعان ما تعترف بخطيتها وتأتي إلى الرب في توبة صادقة، كقول النبي حزقيال: "يكونون كالحمام يهدرون كل واحد على إثمه" (حز ٧: ١٦).

3. العينان البسيطتان تُشيران إلى بساطة القلب في التعامل مع الآخرين، كقول الرب "كونوا بسطاء كالحمام". ويعلق القديس أغسطينوس[59] على هذا القول الإلهي هكذا: [لاحظ كيف يحفظ الحمام حياة الحب، فإنه حتى إن تنازع، ففي بساطة لا يفترقون عن بعضهم البعض.].

4. يقول القديس أمبروسيوس أن السيد المسيح يرى كنيسته دائمًا كحمامة، إذ يراها في المعمودية تلبس الثوب الأبيض الذي بلا دنس. تُحطم كل ظلمة في المياه، وتصير عيناها حمامتين لأن الروح القدس ينزل من السماء على شكل حمامة.

5. أخيرًا إذ تصير عينا المؤمن في المعمودية كحمامتين، إنما تصير حياته كلها كحمامة، لأنه "إن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرًا، وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلمًا" (مت ٦: ٢٢ - ٢٣)، هكذا يستنير الجسد كله، ويصير الإنسان كحمامة نوح تنطلق بالروح القدس إلى داخل الفلك، لتكون دومًا في أحضان نوح الحقيقي!

العدد 16

سرّ الوحدة:

إذ صار للنفس عيني حمامة، تتطلع إلى أسرار الله بالروح القدس، وتدرك جمال عريسها، تدخل معه في اتحاد أعمق... إذ تُناجيه، قائلة:

"هَا أَنْتَ جَمِيلٌ يَا حَبِيبِي (ابن أختي) وَحُلْوٌ،.

وَسَرِيرُنَا أَخْضَرُ.

جَوَائِزُ (عوارض) بَيْتِنَا أَرْزٌ،.

وَرَوَافِدُنَا (السقف المائل) سَرْوٌ... "[١٦].

بالروح القدس تطلعت الكنيسة إلى عريسها الملك فرأته بحق جميل في محبته وحلو، وكأنها أدركت أن كل جمال فيها إنما يرجع إليه. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [يبدو أن العروس قد رأت جمال عريسها بأكثر قرب، وأدركت بعينيها اللتين دعيتا "حمامتين" جمال كلمة الله وعذوبته. فإنه بالحق لا يستطيع أحد أن يدرك أو يتعرف على عظمة سمو الكلمة ما لم يتقبل أولاً عيني حمامة، أي ينعم بالإدراك الروحي[60].].

وكان من ثمرة هذا الإدراك الروحي لجمال الملك العريس وعذوبة أعماله الخلاصية أنها دخلت معه في اتحاد أعمق، وهي بعد مرتبطة بالجسد في هذا العالم، فقالت:

"سَرِيرُنَا أَخْضَرُ" [١٦].

ما هو هذا السرير الذي يُنسب للملك والملكة (سريرنا)، إلاَّ الجسد الذي تستريح فيه النفس، والذي يتقبل سكنى الرب فيه؟ فجسدنا لم يعد بعد ثقلاً على النفس ولا مقاومًا لعمل الله، لكنه تقدس وصار هيكلاً للرب تستريح فيه نفوسنا ويفرح به الرب. فيه يلتقي الله بالنفس البشرية وخلاله تنعم نفوسنا بالشركة مع الله، ويكون لها ثمر الروح... لذلك دعي "أخضر" أي مثمر!

في هذا يقول العلامة أوريجينوس[61]: [بالرغم من أن النفس لا تزال في الجسد لكنها تُحسب أهلاً أن تكون في صحبة كلمة الله... فتمتد القوة الإلهية لتهب الجسد صلاحًا، نزرع فيه نعمة الطهارة والعفة وغيرهما من الأعمال الصالحة.].

لا تقل الملكة "سريري" بل "سريرنا" فإن جسدها لم يعد ملكًا لها وحدها، بل ملك للعريس الملك، لذلك دعى الرسول بولس أجسادنا أعضاء المسيح (١ كو ٦: ١٥). لقد حملت أجسادنا انعكاسًا للوحدة الداخلية بين الكلمة الإلهي والنفس.

والسرير الأخضر يعلن أيضًا "سرّ التجسد"، فهو جسد الملك، إذ أخذ الكلمة الإلهي مالنا... أخذ بشريتنا، وحملنا فيه. هكذا نتطلع إلى جسده كسرير لنا، إذ صار لنا فيه راحة، نرى فيه اتحادنا معه! لقد أثمر جسد الرب طاعة للآب عوض عصياننا، ونقاوة عوض نجاستنا، وغلبة على الشيطان وكل جنوده لحسابنا وباسمنا، بل وتعبد للآب باسمنا، مقدمًا ثمارًا جديدة لحساب البشرية!

العدد 17

العاملون في القصر الملكي:

بعد أن تحدثت الملكة عن سرّ اتحادها بالملك، أعلنت مسئولية العاملين في القصر الملكي لحساب هذه الوحدة، فقالت:

"جَوَائِزُ (عوارض) بَيْتِنَا أَرْزٌ،.

وَرَوَافِدُنَا (الأسقف المائلة) سَرْوٌ "[17].

يرى العلامة أوريجينوس أن الروافد أي الأسقف المائلة التي فوق المنزل والتي تحميه من حرارة الشمس والعواصف والأمطار، إنما هم الأساقفة الذين يعملون بروح المسيح وإمكانياته للحفاظ على المؤمنين، أما الجوائز أي العوارض التي خلالها يتماسك القصر كله فهم الكهنة الذين يخدمون لبنيان أولاد الله. إنه يقول: [أظن إذ يُمارس الأساقفة عملهم الأسقفي في الكنيسة بأمانة يليق أن يلقبوا بالروافد التي تحفظ المبنى كله، وتحميه من الأمطار ومن حرارة الشمس. وأظن أن المكان التالي لهم هم الكهنة الذين يدعون بالجوائز.].

ينبغي أن يكون الأسقف من شجر السرو، إذ يمتاز بالآتي:

1. تُعرف شجرة السرو بقوتها العظيمة ورائحتها الجميلة، وكما يقول العلامة أوريجينوس: [في هذا إشارة إلى التزام الأسقف أن تكون له أعمال صالحة ويحمل عبيق نعمة التعليم...]، أي يحمل جانبين: السلوك الروحي المسيحي الحيّ والقدرة على التعليم ونشر رائحة المسيح الذكية، يخدم بحياته وبتعليمه!.

2. يُكنى بأشجار السرو عن القوة والعظمة (٢ مل ١٩: ٢٣؛ إش ١٤: ٨)، ويُقابل اهتزاز أغصانه مع الريح باهتزاز الرماح في الحروب (نا ٢: ٣). كأن الأسقف وهو راع يلزم أن يكون قويًا في روحه وإيمانه يحمل سلطانًا داخليًا بالروح القدس وخلال حياته المقدسة. لأنه إن ضعف أو أضطرب تعثرت الرعية واهتزت وراءه.

3. في بناء هيكل سليمان فرش أرض البيت بأخشاب سرو (١ مل ٦: 15)، وكأن الأسقف وقد أقامه الروح ليكون قائدًا ومدبرًا وراعيًا للشعب يلزم أن يكون متضعًا (مفروشًا في أرض البيت)، يجلس عند أقدام أولاده، يغسل أرجلهم بروح الحب المملوء اتضاعًا! يُقدمه الشعب كرأس يمثل السيد المسيح، أما في قلبه فيرى نفسه في آخر الصفوف يترفق بالضعفاء والمنكسرين والمحتَقَرين... إنه ملتزم أن يَخدِم الكل لا أن يُخدَم من الآخرين.

4. يُستخدم خشب السرو في بناء السفن (حز ٢٧: ٥)، ليعبر بهم خلال بحر هذا العالم إلى الميناء السماوي، كما يستخدم لعمل آلات الطرب (٢ صم ٦: ٥) ليبعث في شعبه روح الفرح والبهجة، ويطفئ عليهم روح الرجاء في المسيح يسوع!

5. يُستخدم خشب السرو في صنع الرماح (نا ٢: ٣) إذ يلزم بالأسقف أن يحفظ الإيمان ضد كل هرطقة أو بدعة.

6. بسبب شدة أرتفاعه يختاره اللقلق ليبني عشه فيه (مز ١٠٤: ٧)، هكذا يرى كل إنسان – حتى غير المؤمنين – في الأسقف الروحي القلب المرتفع نحو السمويات والفكر المنشغل بالأبديات، فيستريح له في المسيح يسوع.

وما قلناه عن الأسقف نقوله أيضًا عن الكاهن، إذ يقول العلامة أوريجينوس: [بنفس الطريقة قيل عن العوارض أنها من الأرز، لكي يظهر الكهنة مملؤين من كل فضيلة عدم الفساد ويكون لهم رائحة معرفة المسيح]، إذ يمتاز الأرز باستقامته ورائحته الطيبة.

والأرز كان يُستخدم في صنع صواري السفن (حز ٢٧: ٥) ليقودوا الشعب إلى الميناء الإلهي، وفي صنع الآلات الموسيقية، يبعثون بروح الفرح في حياة أولادهم. وقد أستخدم في صنع الجزء الداخلي في هيكل سليمان (١ مل ٦: ٢٠) كما في صنع المذبح (١ مل ٦: ١٨)، ليعلم الكاهن أن رسالته هي بناء بيت الرب الداخلي في القلب فلا يهتم بالمظهر الخارجي أو ينشغل في عمل آخر، وأنه إنما يمثل المذبح، لا عمل له سوى أن يحمل إلى شبعه المسيح الذبيح، ويقدم عنهم تقدمة الصلوات. إنه يشهد للصليب ولا يكف عن الصلاة حتى يدخل بالجميع إلى الحياة الأبدية.


[1] James Hastings: Dictionary of the Bible, N. Y. P. 930.

[2] الترجوم: إذ عاد اليهود من السبي البابلي كانوا غير قادرين على فهم لغة آبائهم العبرية، لهذا كانت فصول الكتاب التي تقرأ في المجامع تترجم شفاها إلى الآرامية، وأخيرًا صارت هناك حاجة إلى ترجمة آرامية مكتوبة دعيت "الترجوم".

[3] المدراش عبارة عن دراسات يهودية في الكتاب المقدس، تشرحه بطريقة وعظية (راجع كتابنا: التقليد والأرثوذكسية، 1979، فصل 8، ص 29.).

[4] القمص عبد المسيح النخيلي: اضواء على سفر النشيد، ص 22، 23.

[5] رؤ 14: 7، 16: 19، 1 تى 15: 6، جا 2: 1، تث 17: 10، تك 35: 9.

[6] Origen Comm. on the Cont. Prol. 1.

[7] للمؤلف: القديسة مريم في المفهوم الارثوذكسي، 1978، ص 50.

[8] Origen: On Cant. , gom. 1. (Ancient Christian Writers, vol. 26. P. 266).

[9] Ibid. P. 267.

[10] Ibid. 267.

[11] J. Daniclou: The Bible & The Lituegy.The New Westminister Dictionary of the Bible.

[12] العلامة أوريجانوس: نشيد الأناشيد، ترجمة الدكتور راغب عبد النور، مجلة الكرازة، سنة 1، عدد2.

[13] Comm. on Cant. , Sermon 1.

[14] للمؤلف: مناظرات يوحنا كاسيان، مناظرة 3.

[15] راجع مت 15: 9، يو 29: 3، أف 23: 5 - 27.

[16] Danielou: The Bible & The Liturgy.للمؤلف: المسيح في سر الأفخاؤستيا، طبعة 1973، ص 188 - 193.

[17] للمؤلف: القديس كيرلس الأورشليمي، مقال 2: 3.

[18] Didymius The Blind: On the Holy Trinity.

[19] St. Greg. Naz.: Oration on the Holy Baptism 46.

[20] Against Jovinianus 1: 30. 31.

[21] Hom. 1: 2. A. C. W. , vol 26, p. 269.

[22] أساء اليهود إستخدام الخمر فوبخهم الله، وأعلن لهم سوء نتائج التلذذ بالخمر (تك ٩: ٢٠؛ أم ٢٣: ٢٩– ٣٥؛ إش ٢٨: ٧؛ هو ٤: ١١) كما حرمت الشريعة على النذير شربها (عد ٦: ٣؛ قض ١٢: ١٤)، ولم تسمح للكاهن أن يشربها عند دخوله لخدمة المقدس (لا ١٠: ٩).

[23] Hom. on 22.

[24] On the Holy Baptism 38.

[25] On Psalm 91 (90): 16.

[26] نقلاً عن القداس الإلهي حيث يطلب الكاهن من الشعب: إرفعوا قلوبكم.

[27] On Psalm 38 (37): 5.

[28] On the Mysteries 6.

[29] On the Holy Spirit 96.

[30] قيدار منطقة صحراوية بسوريا، اسمها يكشف عن سوادها (مز ١٢٠: ٥؛ تك ٢٥: ١٣).

[31] سلما Salma، منطقة ملاصقة لقيدار.

[32] On Psalm 140 (139): 10.

[33] De Myst. 7.

[34] The Holy Spirit 112.

[35] ترجمة الدكتور راغب عبد النور، مجلة الكرازة، السنة الأولى.

[36] Origen: Comm. on Cant. 2: 1.

[37] يرى القدماء أن كلمة "أورشليم" تعني "رؤية السلام أنظر:

[38] Origen: Comm on Cant. 2: 2.

[39] Ibid 2: 3.

[40] Com. on Cant.

[41] Sermon 2.

[42] Sermons on the N. T. Lessons 88: 7.

[43] Com. on Cant. 3: 4.

[44] كلمة إيليا تعني "إلهي".

[45] الترجمه السبعينية.

[46] : Against Jovianianus 1: 30.

[47] الترجمة السبعينية.

[48] Origen: Com. on Cant. 2: 6.

[49] الترجمة السبعينية.

[50] Inid 2: 7.

[51] للمؤلف: المسيح في سرّ الأفخارستيا، ١٩٧٣، ص ١٠٥، ١٠٧.

[52] City of 10: 20.

[53] Com. on Cant. 2: 10.

[54] القمص عبد المسيح النخالي: أضواء على سفر النشيد، ص ٥٨، ٥٩.

[55] لا تزال هذه العادة قائمة في بعض قرى صعيد مصر.

[56] عين جدي هي واحدة على الشاطيء الغربي للبحر الميت، هي مدينة ليهوذا (يش ١٥: ٦٢)، تبعد ٣٥ ميلاً عن أورشليم، يعرف موقعها الآن بتل الجرن.

[57] Hymns on the Nativity 1.

[58] Com. on Cant. 3: 1.

[59] عظات على فصول منتخبة من العهد الجديد ١٤: ٤.

[60] Com. on Cant. 3: 2.

[61] Ibid.

No items found

الأصحاح الثاني الفصل الثاني الخاطب يطلب خطيبته - سفر نشيد الأنشاد - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفاسير سفر نشيد الأنشاد الأصحاح 1
تفاسير سفر نشيد الأنشاد الأصحاح 1