الأصحاح الأول – تفسير إنجيل يوحنا – القمص تادرس يعقوب ملطي

هذا الفصل هو جزء من كتاب: تفسير إنجيل يوحنا – القمص تادرس يعقوب ملطي.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

مقدمة في الإنجيل بحسب يوحنا

الإنجيل بحسب ما كتبه القديس يوحنا سفر يناسب الكل، البسطاء والعلماء. كلماته بسيطة للغاية، يقرأه البسطاء فيجدون نفوسهم قريبة منه فيرتاحون، ويغوص فيه أصحاب الخبرات الروحية دون أن ينتهوا إلى سبر غوره.

إنجيل يوحنا والكنيسة الأولى.

سحب الإنجيل بحسب يوحنا قلب الكنيسة الأولى ليرفعه إلى الأسرار الإلهية الفائقة، بوحي الروح القدس، بأسلوبٍ روحيٍ جذَّاب، بعيدًا عن المصطلحات الفلسفية الصعبة ولغة اللاهوت الجافة.

فيما يلي بعض تعليقات آباء الكنيسة عنه:

يمكننا أن نتجاسر فنقول أن الأناجيل هي بكر كل الكتب المقدسة، أما بين الأناجيل فإنجيل يوحنا هو البكر. لا يدرك معناه من لم يتكئ على صدر يسوع (يو 23: 13) ويستلم مريم من يسوع أمًا له أيضًا (يو 27: 19)؛ مثل هذا يكون يوحنا آخر، ويظهر له يسوع ذاته كما فعل مع يوحنا. فإذ لم يكن ابن لمريم سوى يسوع، وذلك بالنسبة لمن يقدمون رأيًا صادقًا فيها، وقد قال يسوع لأمه: "هوذا ابنك" (يو ١٩: ٢٦)، ولم يقل: "هذا هو أيضًا ابنك". كأنه يقول: "هوذا يسوع الذي ولدتيه". فإنه بالحق كل إنسان صار كاملاً، لا يحيا هو بل يحيا المسيح فيه (٢ كو ٤: ٧). وإذ يحيا المسيح فيه، يُقال لمريم عنه: "هوذا ابنك" المسيح.

العلامة أوريجينوس.

هؤلاء جميعًا (الإنجيليون متى ومرقس ولوقا) ارتفعوا قليلاً عن الأمور التي على الأرض، أي عن تلك الأمور التي صنعها ربنا يسوع المسيح على الأرض، أما عن لاهوته فتحدثوا القليل عنه. كانوا أشبه بأناسٍ ساروا معه على الأرض، وبقي النسر، أي يوحنا، الكارز بالحقائق السامية، والمتأمل بنظرة ثاقبة نحو النور الداخلي الأبدي...

مع هذا فإننا نحن الذين نزحف على الأرض ضعفاء، ونسلك بين البشر بصعوبة، نتجاسر لنتمسك بهذه الأمور ونتفهمها، حاسبين أنفسنا كما لو كنا قد أدركناها عندما نتأمل فيها، أو نتحدث عنها.

القديس أغسطينوس.

أما يوحنا المبارك... نراه برغبةٍ ناريةٍ وعقلٍ يرغب في الأمور التي تعلو العقل الإنساني، تجاسر واقترب لكي يشرح الميلاد الفائق الذي لا يُمكن الإحاطة به، أي ميلاد اللَّه الكلمة. فهو يعلم أن "مجد اللَّه إخفاء الأمور" (أم 2: 25)، والكرامة التي تليق باللَّه تفوق فهمنا وإدراكنا، ومن الصعب أن يدرك أحد أو يشرح صفات الطبيعة الإلهية.

القديس كيرلس الكبير.

يحقق إنجيل يوحنا بصورة خاصة "ملء" الكتاب المقدس بعينه، وكأنه "مركز" سرّ الكتاب.

يشبه الأب مكسيموس المعترف الكتاب المقدس بالكنيسة المقدسة، وإنجيل يوحنا قدس الأقداس فيها، فيه ندخل إلى أعماق مقدسات الكتاب، ونتعرف على أسراره، ونخترق الحجاب.

بحق يدعوه القديس اكليمنضس السكندري "الإنجيل الروحي"، لأنه يدخل بالنفس إلى التعرف على الأمجاد التي أعدت لها خلال محبة الله الآب، وعمل المسيح الخلاصي، وتعزيات الروح القدس. يرى أن إنجيل يوحنا بمثابة الروح، والأناجيل الثلاثة الأخرى بمثابة الجسد. قدمت الأخيرة الحقائق والوقائع الملموسة في حياة السيد المسيح وخدمته وعمله الخلاصي. وجاء إنجيل يوحنا يفسر ما وراء هذه الأحداث، ويكشف عن أعماقها ومفاهيمها. جاء السفر متناغمًا مع قول السيد المسيح: "ليعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يو 8: 5).

هو الإنجيل الروحي إذ يرفع المؤمن إلى عالم الروح، ولا يسمح لمؤمنيه أن يبقوا على مستوى المادة، فإذ أشبع الجموع بالخبز فرحوا (26: 6)، أما هو فدعاهم إلى الطعام الأبدي (27: 6).

في حديثه مع نيقوديموس عن الولادة الجديدة كان فكر نيقوديموس المعلم في إسرائيل حبيس أحشاء أمه، أما السيد المسيح فرفعه لينظر بعيني قلبه أن "المولود من الروح هو روح" (1: 3 - 6).

وفي حديثه مع المرأة السامرية كان فكرها حبيس الدلو المادي وبئر يعقوب وماشيته، فرفع قلبها إلى الينبوع الإلهي حيث يقدم لها ماءً يفجر في داخلها ينابيع مياه حيّة تجري للحياة الأبدية.

إذ بدأ القديس يوحنا الذهبي الفم يعظ على إنجيل يوحنا، تحدث عن القديس يوحنا الإنجيلي وهو يقدم إنجيله مقارنًا بينه وبين الخطباء والممثلين كيف يجتذبون الجماهير بفن الخطابة واستخدام الموسيقى وارتداء قناعات جذابة، أما القديس يوحنا فيتقدم كما على منصة السماء، ليحدث أناسًا صار منهم كثيرون أشبه بالملائكة، ويشتهي أن يصير بقية المستمعين هكذا. إنه لا يستخدم سوي نعمة الله، يتحدث وهو في صحبة السمائيين، مقدمًا لهم رسالة المسيح المفرحة.

يتقدم أمامنا الآن هذا الرجل: ابن الرعد، حبيب المسيح، عمود الكنائس في كل العالم، الذي يمسك بمفاتيح السماء، الذي شرب كأس المسيح، واعتمد بمعموديته، الذي اتكأ بكل ثقة على صدر سيده… دخل مرتديًا ثوب الجمال غير المدرك. فإنه سيظهر أمامنا مرتديًا المسيح (رو 13: 14؛ غلا 3: 27)، منتعلاً في قدميه الجميلتين باستعداد إنجيل السلام (أف 6: 15)، ومتمنطقًا بمنطقة ليست حول خصره بل حول منطقتيه، ليست من جلد قرمزي، ولا مكسوة في الخارج من ذهب، بل منسوجة ومصنوعة من الحق نفسه. الآن يظهر أمامنا لا ليقوم بدور تمثيلي، وإنما برأس دون قناع يعلن الحق مكشوفًا. إنه لا يجعل جمهور المستمعين له يصدقونه بل بالأحرى بالمحفل والنظرات والصوت يحقق رسالته دون أدوات موسيقية مثل القيثارة أو ما يشبهها، إنما يستخدم لسانه، ناطقًا بصوت أعذب من أية قيثارة أو أداة موسيقية وأكثر نفعًا. منصته هي السماء كلها، ومسرحه هو العالم المسكون كله، وفرقته هي كل الملائكة، أما عن المستمعين فهم بشر صار منهم كثيرون ملائكة أو يود أن يصيروا هكذا. فإنه لن يستطيع أن ينصت إليه بانسجام حقيقي إلا الذين صاروا هكذا، مظهرين ذلك بأعمالهم. أما البقية فإنهم كأطفال صغار يسمعون ولا يفهمون… إنهم في طرب ولهو، يعيشون فقط من أجل الثروة والسلطة واللذات الحسية. ما يسمعونه هو حق، ولكنهم في أعمالهم لا يبرزون ما هو عظيم ونبيل خلال إسراعهم نحو الطين لعمل قرميد (طوب).

لم يعد بعد صياد السمك ابن زبدي، بل ذاك الذي يعرف "أعماق الله" (1 كو 2: 10الروح القدس، أقصد أنه يضرب على هذه القيثارة، لذلك ليتنا ننصت إليه، فإنه لا يتحدث معنا بشيء قط كإنسانٍ، إنما ما يقوله سيقوله من أعماق الروح، من الخفيات التي لم يعرفها حتى الملائكة قبل حدوثها، فقد تعلموها بواسطة صوت يوحنا معنا، وبواسطتنا، الأمور التي نحن نعرفها. هذا أيضا أعلنه رسول آخر، قائلاً: "لكي يعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة" (أف 3: 10). فإن كان الرؤساء والسلاطين والشاروبيم والسيرافيم تعلموا هذا الأمور من الكنيسة، فواضح جدًا أنهم كانوا مشتاقين جدًًا للإصغاء إلى هذا التعليم. في هذا ننال كرامة ليست بقليلة، أن الملائكة تعلموا هذه الأمور التي لم يكونوا يعرفوها قبلاً.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

كاتبه.

كلمة "يوحنا" تعني: "يهوه حنان".

هو ابن زبدي من بيت صيدا في الجليل، دعاه السيد المسيح مع أخيه الأكبر يعقوب الذي قتله هيرودس أغريباس الأول سنة 44م.

يبدو أنه كان على جانب من الثراء، إذ كان والده يستخدم أجرى في سفنه (مر 10: 1)، وكان يوحنا معروفًا لدى رئيس الكهنة (يو 16: 18). وكانت أمه سالومي سيدة فاضلة تقية تتبع السيد المسيح على الدوام (لو 3: 8)، اشتركت مع النساء اللواتي اشترين حنوطًا كثير الثمن لتكفين السيد المسيح، وهي على الأرجح أخت مريم أم يسوع (يو 25: 19).

اتخذ مهنة صيد السمك حرفة، وكان هو وأخوه شريكي سمعان في الصيد (لو 10: 5)، وقد اختار السيد المسيح سمعان وأندراوس ويوحنا ويعقوب كأول تلاميذ له. وإذ كان يوحنا وأخوه حادي الطبع دعاهما "بوانرجس"، أي "ابني الرعد" (مر 17: 3). وقد صار يوحنا رسول الحب، رقيقًا للغاية؛ جاء إنجيله ورسائله ورؤياه تدور حول "الحب". وبقى يكرز بالحب حتى شيخوخته، وكما يقول القديس جيروم في تفسيره الرسالة إلى أهل غلاطية كان تلاميذه يحملونه على أذرعهم ويذهبون به إلى المنبر لينطق بالكلمات: "يا أولادي أحبوا بعضكم بعضًا. هذه وصية الرب، إذا عملتم بها وحدها فهذا يكفيكم". دُعي "التلميذ الذي كان الرب يحبه" (يو 20: 21).

يقول القديس إيرينيؤس إن يوحنا كان في الخامسة والعشرين من عمره حين دعاه السيد المسيح للعمل.

يعتبر مع بطرس ويعقوب من التلاميذ الأخصاء الذين انفردوا مع السيد المسيح في كثير من المواقف، مثل التجلي (مت 1: 17)، وعند إقامة ابنة يايرس (مر 37: 5)، وفي بستان جثسيماني (مت 37: 26)، وعندما تنبأ عن خراب الهيكل وأورشليم (مر 13: 3). أمره السيد المسيح مع بطرس أن يعدا الفصح له ولتلاميذه (لو 8: 22).

انفرد باتكائه على صدر السيد المسيح (لو 23: 13)، وقد رافق السيد حتى الصليب حيث تسلم منه القديسة مريم أمًا له (يو 20: 19 - 27).

بعد صعود السيد اشترك مع القديس بطرس في إقامة الأعرج الذي كان عند باب الهيكل المُلقب بالجميل (أع 1: 3 - 6)، وفي الذهاب إلى السامرة لوضع اليد على المؤمنين ليحل الروح القدس عليهم (أع 14: 8 - 17).

حسبه الرسول بولس أحد أعمدة الكنيسة (أع 6: 15؛ غل 9: 2).

كرز في آسيا الصغرى، لاسيما في أفسس، وعُذب في أيام دومتيانوس، ونُفي إلى جزيرة بطمس، حيث تمتع برؤيا يوم الرب "سفر الرؤيا"، وبقي في منفاه حتى تنيح. يقول القديس جيروم أن الرسول يوحنا انتقل في العام الـ 68 بعد صعود الرب. وبذلك يكون الرسول قد عاش عامين أم أكثر في القرن الثاني للميلاد. ومعنى هذا أنه عاش إلى ما يقرب المائة عام، حيث أن كان أصغر من الرب بقليل. ويرى البعض أنه تنيح حوالي سنة 98م في حكم تراجان (98 - 117م).

يروي لنا يوسابيوس القيصري في كتابه "تاريخ الكنيسة" قصة عن القديس يوحنا الرسول في شيخوخته تكشف عن مدى تقديره العجيب لخلاص النفس البشرية وبحثه عنها؛ وقد رواها نقلا عن القديس اكليمنضس السكندري في كتابه "من هو الغني الذي يخلص؟".

جاء عن القديس يوحنا أنه بعد عودته من جزيرة بطمس إلى مدينة أفسس تجوّل في بعض المناطق الوثنية المجاورة، لإقامة أساقفة في بعض الأماكن وتدبير أمور الكنائس، وإذ بلغ مدينة ليست ببعيدة (غالبًا أزمير) سلم أسقفها شابًا وثنيًا قَبِل الإيمان وكان مملوءً غيرة، مؤكدًا عليه أن هذا الشاب هو وديعة بين يديه. وبالفعل اهتم به الأسقف حتى نال سرّ المعمودية. لكن بعض الشبان الفاسدين اجتمعوا به، وأفسدوا حياته في ترفٍ وبذخٍ، وإذ احتاجوا إلى مالٍ صاروا يسرقون، فكان يشترك معهم. انحدر الشاب من جريمة إلى أخرى حتى كوَّن عصابة تحت قيادته يسلبون وينهبون ويسفكون الدماء. وإذ عاد القديس يوحنا إلى المدينة يسأل الأسقف عن الشاب أجابه: "لقد مات... مات عن اللَّه، لأنه عاد إلى شره، وأصبح خليعًا، وأخيرًا صار لصًا، وعوضًا عن الكنيسة صار يلازم الجبال مع عصابة تماثله". لم يحتمل القديس ذلك، بل طلب فرسًا امتطاه رغم شيخوخته، وانطلق إلى الموضع حيث أسره اللصوص، وأتوا به إلى رئيسهم، الذي لما رآه اعتراه الخجل وحاول الهرب. صار القديس يجري وراءه صارخًا: "لماذا تهرب مني؟ أنا أبوك يا ابني، وأنا أعزل، طاعن في السن، وإن لزم الأمر فإنني مستعد أن احتمل الموت عنك، كما احتمل الرب الموت عنا. لأجلك أبذل حياتي. قف، آمن، فإن المسيح أرسلني إليك". للحال خجل الشاب ووقف مطرقًا رأسه نحو الأرض، يبسط ذراعيه في رعدة، وكان يبكي بمرارة. فرح به القديس جدًا، ورجع به إلى الكنيسة، ولم يترك المدينة حتى اطمأن عليه.

يروي القديس يوحنا كاسيان القصة التالية: "بينما كان الإنجيلي المبارك ذات يوم يداعب صقرًا، إذا بشاب أقبل عليه عائدًا من الصيد. فتعجب الشاب وسأل الرسول كيف أن رجلاً عظيمًا مثله يقضي وقته على هذا الحال. وحينئذ سأله الرسول:" ما هذا الذي في يدك؟ "فقال الشاب:" إنه قوس ". قال الرسول:" ولماذا هو غير مشدود؟ "فأجاب:" لأنني لو جعلته مشدودًا على الدوام يفقد مرونته، وهي التي أحتاج إليها حين أطلق السهم ". فقال الشيخ:" إذن لا تغضب على يا صديقي الشاب لأني في بعض الأحيان أحل أوتار نفسي، وإلا فقدت قوتها وخانتني في اللحظة التي أحتاج أن أستعملها ".

يحدثنا أيضًا المؤرخ يوسابيوس عن مدى حرصه على الإيمان المستقيم من البدع نقلاً عما جاء عنه في كتابات القديس إيرينيؤس أسقف ليون أن الرسول دخل مرة إلى الحمام ليستحم، وإذ عرف أن المبتدع كيرنثوس (نادى بأن مملكة المسيح أرضية؛ إذ كان محبًا للولائم والعلاقات الدنسة الجسدية) هناك قفز فزعًا، وخرج مسرعًا، لأنه لم يطقْ البقاء معه تحت سقفٍ واحدٍ، ونصح مرافقيه أن يقتدوا به، قائلاً: "لنهرب لئلا يسقط الحمام، لأن كيرنثوس عدو الحق بداخله".

يحدثنا أيضًا المؤرخ يوسابيوس على لسان أبولونيوس الذي يظن أنه كان أسقفًا على أفسس أن الإنجيلي يوحنا أقام ميتًا في أفسس بمعونة الله.

يروي لنا العلامة ترتليان أن الإنجيلي يوحنا اُلقي في قزانٍ به زيت مغلي والرب نجاه.

مكان كتابته وتاريخ الكتابة.

حسب شهادة القديس إيرينيؤس أسقف ليون (حوالي سنة 177 - 200م)، وهو تلميذ القديس بوليكربوس، سلّم القديس يوحنا إنجيله لأساقفة آسيا حيث كان مقيمًا معهم إلى عهد الإمبراطور تراجان، وأنه قام بنشره في أفسس.

وقد بقي تقليد الكنيسة في الشرق والغرب يأخذ بهذا الرأي دون اعتراض يُذكر. لكن جاء بعض النقاد المحدثين يشككون في نسبة السفر للقديس يوحنا، وبالتالي تشككوا في مكان كتابته وتاريخه.

أما من جهة مكان الكتابة فظن البعض أنه كُتب في إنطاكيا أو سوريا، يعتمدون في ذلك على ما جاء في أعمال أغناطيوس Acts of Ignatius، (وهو مُستند لا يُعرف تاريخه)، بأن يوحنا كان مرتبطًا بأنطاكيا. يُرد على ذلك بأن يوحنا كان في أنطاكيا زمانًا ثم ذهب إلى أفسس واستقر هناك.

ينسب بعض النقاد السِفر إلى الإسكندرية، حجتهم في هذا أن أقدم مخطوطة للسِفر وُجدت في مصر. وأن السفر يحمل طابعًا هيلينيًا يناسب فكر الإسكندرية المتأثرة بفيلون Philo اليهودي الرمزي السكندري. يُرد على ذلك أن مناخ مصر العلمي جعلها تقتنيه في وقت مبكر وتحتفظ به، ويكون له دوره في حياة كنيستها وآبائها، لكن ليس بالضرورة أن يكون قد كُتب في مصر.

أما من جهة اعتراض البعض على كتابته في أفسس، فقد قام الاعتراض على أساسين:

أولاً: أكّد كثير من النقاد المحدثين خلال النصف الأول من القرن العشرين أن أسلوب السِفر غنوسي هيليني، وهو أسلوب لا يوافق القرن الأول الميلادي بل القرن الثاني. لذلك أصروا على أنه حتى وإن كانت أصوله من وضع يوحنا، فإنه قد أُعيد كتابته في القرن الثاني بيدٍ غنوسية في أنطاكية أو الإسكندرية. وجاء اكتشاف مخطوطات البحر الميت سنة 1947م وأيضًا المكتبة الغنوسية الكاملة التي اُكتشفت في تاريخ مقارب بنجع حمادى بصعيد مصر يؤكدان عكس ما أصرّ عليه النقاد. فتراجع الدارسون وشعروا بصدق التقليد الكنسي، وتيقّن غالبيتهم أنه من وضع القرن الأول، غالبًا بيد القديس يوحنا في أفسس. الأمر الذي نعود إليه عند حديثنا عن "إنجيل يوحنا والغنوسية".

ثانيًا: حاول بعض النقاد التشكيك في كتابة هذا السِفر بواسطة القديس يوحنا في أفسس بدعوى أن القديس قد استشهد مع أخيه يعقوب على يديّ هيرودس أغريباس الأول سنة 44م في أورشليم، مُقدمين بعض الدلائل التي يمكن الرد عليها:

1. جاء في مرقس39: 10 أن يعقوب ويوحنا يشربان الكأس التي يشربها ربنا يسوع، قائلين بأن هذا يعني أن يوحنا كان يجب أن يستشهد مع أخيه، وإلا كان القديس مرقس قد التزم بتغيير النص. ويُرد على ذلك بأن القديس مرقس مُلتزم بكتابة نص كلمات السيد المسيح تمامًا، وليس من حقه تغيير النص، تاركًا للقارئ التفسير. فإن الكأس التي قصدها الرب كانت نبوة عن الآلام التي احتملها التلميذان، وليس بالضرورة البلوغ حتى الاستشهاد بسفك الدم. هذا ولو أن هيرودس قتل الأخوين معًا لما اكتفى لوقا (كاتب سفر الأعمال) بذكر قتل يعقوب وحده، وإنما كان قد ذكر الأخوين معًا، "فقتل يعقوب أخا يوحنا بالسيف، وإذ رأى أن ذلك يُرضي اليهود عاد فقبض على بطرس أيضًا" (أع 2: 12، 3).

2. اعتمدوا على عبارة موجزة وردت في كتابات كاتبين متأخرين هما فيلبس الصيدي Philip of Side من القرن الخامس، وجورج همرتوليس George Hamartolus من القرن التاسع، فيها نسبا لبابياس أن يوحنا ويعقوب قتلهما اليهود. ويرد على ذلك بأن ما ورد في هذا الشأن لا يُمكن أخذه بجدية إذ عُرف عن الكاتبين أنهما غير مدققين كمؤرخين. ويقول C. K. Barrett أن إيرينيؤس ويوسابيوس عرفا كتابات بابياس ولم يذكرا شيئًا عن استشهاد يوحنا. ومما يشكك في الأمر أن فيلبس لقب يوحنا باللاهوتي بينما لم يكن هذا اللقب قد عُرف به القديس يوحنا في أيام بابياس (القرن الثاني)؛ أما جورج فلم يأخذ ما كتبه عن بابياس في هذا الشأن بجدية، إذ عاد فتحدث عن القديس يوحنا أنه رقد بسلام (دون استشهاد).

3. جاء في أعمال الشهداء السرياني (سنة 411) تذكار القديسين يوحنا ويعقوب في نفس اليوم، أي 27 ديسمبر، كرسولين في أورشليم، كما جاء في تقويم قرطاجنّة (حوالي 505م) تذكار يوحنا المعمدان ويعقوب في نفس اليوم (27 ديسمبر)، فحسب بعض الدارسين أن التقويم أخطأ في تلقيبه بالمعمدان، كما جاء في عظة للأب أفراهات أن الذين استشهدوا من الرسل غير اسطفانوس وبطرس وبولس هما اثنان يوحنا ويعقوب.

يرد على ذلك بأنه في كل هذه حدث لبس بين القديسين يوحنا المعمدان ويوحنا الرسول. أما الدلائل الإيجابية على أن الرسول يوحنا لم يستشهد مع أخيه فهي:

1. ذُكر القديس يوحنا بين أعمدة الكنيسة في غلاطية 9: 2، وكان ذلك بعد سنة 44م.

2. جاءت اكتشافات علماء الآثار النمساويين لمقبرة القديس يوحنا بأفسس تسند الفكر الكنسي التقليدي.

3. جاء عن بوليقراطيس Polycrates أسقف أفسس أنه كتب إلى فيكتورينوس أسقف روما حوالي سنة 190م، يؤكد أن الرسول يوحنا عاش في أفسس وتنيح فيها.

أما من جهة تاريخ كتابة السفر فبحسب الفكر الكنسي كان في أواخر حياة القديس يوحنا. هذا وواضح من السفر أنه كُتب بعد خراب هيكل اليهود في أورشليم عام 70م (راجع يو 19: 2، 20؛ 21: 4)؛ وربما بعد طرد المؤمنين من مجامع اليهود، الأمر الذي تم حوالي سنة 85م حتى سنة 90م (راجع يو 22: 9؛ 2: 16).

غاية الكتابة.

1. يذكر لنا الإنجيلي غاية كتابته للسفر قائلاً: "لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن اللَّه، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه" (31: 20). ويلاحظ في هذا النص الإنجيلي الآتي:

أ. جاءت كلمة "تؤمنوا" في اليونانية pioteonte وذلك في النسخ السينائية والفاتيكانية وKoredethi في صيغة الحاضر لا الماضي، لتعني أن الإنجيل كتب لتثبيت إيمان قائم فعلاً. فهو لم يقدم إيمانًا جديدًا، إنما أراد تثبيت إيمان الكنيسة الذي تعيشه حتى لا ينحرف أحد عنه.

ب. موضوع الإيمان أن يسوع هو المسيح، وأنه ابن اللَّه. وكما يقول W. C. Van Unnik أن كلمة "المسيح" لا تعنى لقبًا مجردًا، إنما تعنى بالضرورة "الواحد الممسوح"، "الملك الممسوح"، الأمر الذي كان اليهود يدركونه دون الأمم، أما كلمة "ابن اللَّه" فيدركها بالأكثر العالم الهيليني. على أي الأحوال ارتباط اللقبين معًا كان ضروريًا لتثبيت إيمان من كانوا من أصلٍ يهوديٍ أو أمميٍ، إذ يدرك كل مؤمن أن يسوع هذا هو موضوع كل النبوات القديمة، وهو ابن اللَّه الواحد معه في ذات الجوهر، قادر على تقديم الخلاص وتجديد الخلقة.

هذا وقد لاحظ الدارسون أن كلمة "المسيا" قدمت في هذا الإنجيل وحده دون ترجمة بل كما هي، وكأن القديس يوحنا أراد أن يؤكد أن اللقب هنا إنما عني ما فهمه اليهود. لذا نجده يقدم لنا حديث فيلبس لنثنائيل: "وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء" (45: 1)؛ ودعوة أندراوس لأخيه سمعان بطرس: "قد وجدنا مسيا، الذي تفسيره المسيح" (41: 1). هذه هي صورة ربنا يسوع في هذا الإنجيل منذ بدايته، صورة مسيانية.

هذه الصورة عن يسوع بكونه المسيا الملك الذي طال انتظار اليهود لمجيئه أكدها الإنجيلي في أكثر من موضع. ففي دخول السيد أورشليم "كانوا يصرخون: أوصنا، مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل... هذا الأمور لم يفهمها تلاميذه أولاً؛ ولكن لما تمجد يسوع حينئذ تذكروا أن هذه كانت مكتوبة عنه" (13: 12 - 16). وأمام بيلاطس اعترف السيد بمملكته (33: 18 - 37)؛ وقد دين كملكٍٍ لليهود (3: 19، 12 - 15، 19، 20). القديس يوحنا وحده هو الذي أخبرنا أن الجموع طلبته لتقيمه ملكًا فانسحب من وسطهم (15: 6)، لأن فهمهم للملك المسياني مختلف عن قصده هو.

هذه الصورة التي قدمها الإنجيلي يوحنا عن ربنا يسوع بكونه "المسيا الملك" الذي طال انتظار اليهود لمجيئه، جعلت بعض الدارسين ينادون بأن يوحنا كرجل يهودي كان مرّ النفس بسبب العداوة التي أظهرها اليهود نحو يسوع. هذا ما نادى به لورد شارنوود Lord Charnwood سنة 1925، غير أن بعض الدارسين مثل ف. تيلور فيرى أن هذا الهدف لم يكن رئيسيًا، إنما كان القديس يوحنا مرّ النفس من نحو كل من حمل عداوة ليسوع سواء كان يهوديًا أو غير يهودي. ودارسون آخرون مثل J. A. T. Robinson نادوا بأن الرسول قصد المسيحيين الذين من أصل هيليني ولم يوجه إنجيله لليهود.

ج. غاية هذا السفر تأكيد لاهوت السيد المسيح، بكونه ابن اللَّه الوحيد الجنس، لكن لا لمناقشات نظرية أو مجادلات فلسفية، وإنما للتمتع بالحياة باسمه. إيماننا بلاهوته يمس حياتنا وخلاصنا نفسه، لذلك جاءت أول عظة بين أيدينا بعد كتابة العهد الجديد تبدأ بالكلمات: [يليق بنا أيها الاخوة أن نفكر في يسوع المسيح بكونه اللَّه، ديان الأحياء والأموات. يلزمنا ألا نقلل من شأن خلاصنا، لأننا عندما نقلل من (السيد المسيح) إنما نتقبل منه القليل.].

كأن هذا السفر جاء يعلن بأكثر وضوحٍ وإفاضة ما قدمه لنا الإنجيليون الآخرون، معلنًا لنا الجانب اللاهوتي. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [إن أحدًا من هؤلاء لم يعلن لنا لاهوته بوضوح كما فعل يوحنا، إذ خلاله يقول: "أنا هو نور العالم"، "أنا هو الطريق والحق والحياة"، "أنا هو القيامة"، "أنا هو الباب"، "أنا هو الراعي الصالح"، وفي الرؤيا: "أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية، الأول والآخر".].

بمعنى آخر، قدم لنا هذا السفر علاقة الابن الأزلية مع الآب، ومعنى هذه العلاقة الفريدة في حياة المؤمنين، ودورها في خلاصهم. أراد الإنجيلي بالكشف عن شخصية السيد المسيح كابن اللَّه الوحيد أن نؤمن به فنخلص، ونحيا أبديًا. وقد أبرز الإنجيلي أن معاصري السيد المسيح أنفسهم لم يدركوا كمال حقيقته كما ينبغي ولا مغزى كلماته وتصرفاته الفائقة للعقل. أقرباؤه حسب الجسد مثل أمه وأخوته (أبناء خالته)، وأصدقاؤه، ومعلمو اليهود، والكهنة، وأيضًا المرأة السامرية، وبيلاطس بنطس... هؤلاء جميعًا لم يدركوا كلماته وذهلوا أمام تصرفاته.

أتجاسر فأقول يا اخوتي أن يوحنا نفسه لم يتحدث في الأمر كما هو، إنما قدر استطاعته فقط. لأنه كان إنسانًا يتحدث عن اللَّه، حقًا مُوحى إليه من اللَّه، لكنه لا يزال إنسانًا.

القديس أغسطينوس.

د - حافظ الله على حياة هذا الرسول ولم يسمح باستشهاده مبكرًا مع بقية التلاميذ ليقدم للكنيسة الصبية الحق في شيء من الإيضاح (إنجيل يوحنا)، ويدخل بها إلى يوم الرب لتعاين السماء المفتوحة (سفر الرؤيا).

ألا ترون أنه ليس بدون سبب أقول إن هذا الإنجيلي يتحدث إلينا من السماء؟ انظروا فقط في البداية عينها كيف يسحب بها النفس، ويهبها أجنحة، ويرفع معه ذهن السامعين. فيقيمها فوق كل الأشياء المحسوسة، أعلى من الأرض والسماء، ويمسك بيدها، ويقودها إلى أعلى من الملائكة أنفسهم والشاروبيم والسيرافيم والعروش والسلاطين والقوات، وفي كلمة يحثها على القيام برحلة تسمو فوق كل المخلوقات.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

كان بولس سماءً عندما قال: "محادثتنا في السماء" (في 20: 3). يعقوب ويوحنا كانا سماوات، ولذا دعيا ابنيّ الرعد (مر 17: 3)، وكان يوحنا كمن هو السماء فرأى الكلمة عند اللَّه.

القديس أمبروسيوس.

عاش القديس يوحنا حتى نهاية القرن الأول، كآخر من رقد بين تلاميذ السيد المسيح ورسله. وقد عاصر الجيل الجديد من المسيحيين، فكان هو - إن صح التعبير - حلقة الوصل بين العصر الرسولي وبدء عصر ما بعد الرسل. لقد أراد أن يقدم الكلمة الرسولية النهائية عن شخص المسيا، وأن يحفظ الكنيسة من تسلل بعض الأفكار الخاطئة.

يرى بعض الدارسين أن الإنجيلي قصد مواجهة بعض الحركات الغنوسية مثل الدوناتست (الدوسيتيون) Docetism، إذ نادى هؤلاء باستحالة أن يأخذ الكلمة الإلهي جسدًا حقيقيًا، لأن المادة في نظرهم شرّ. لذلك أكد الرسول في إنجيله أن يسوع وهو ابن اللَّه بالحقيقة قد تجسد أيضًا حقيقة، ولم يكن خيالاً، إذ يقول: "الكلمة صار جسدًا". ما كان يمكننا أن نتمتع بالخلاص ما لم يحمل طبيعتنا فيه، ويشاركنا حياتنا الواقعية. لقد أبرز الإنجيلي السيد المسيح في عرس قانا الجليل وهو يقوم بدور خادم الجماعة. لقد حوَّل الماء خمرًا، وهو عمل فيه خلق، لكنه قام به خلال الخدمة المتواضعة غير منتظرٍ أن يأخذ المتكأ الأول. وعلى بئر سوخار ظهر متعبًا وعطشانًا، وعند قبر لعازر تأثر جدًا بعمقٍ وبكى، وفي العلية غسل أقدام التلاميذ، وعلى الصليب عطش.

غاية هذا السفر الربط بين يسوع التاريخي والمسيح الحاضر في كنيسته. محولاً الأحداث التي تمت في حياة ربنا يسوع للإعلان عن شخصه بكونه رب المجد العامل في كنيسته.

أهداف أخرى للسفر.

يرى البعض أنه قامت خمس نظريات خاصة بغاية هذا السفر، وهم:

1. انطلاق المؤمن بالإيمان بالسيد المسيح ابن الله المتجسد إلى عربون الحياة الأبدية والتمتع بالسماويات كما أوضح الإنجيلي نفسه (يو 20: 30 - 31). هذا ما تحدثنا عنه قبلاً.

2. الرد على الهرطقات والبدع المعاصرة واليهود المقاومين، والدفاع عن الإيمان المسيحي. وسنتحدث عن هذه النظرية فيما بعد.

3. نظرية تكميل ما ورد في الأناجيل الثلاثة الإزائية الأخرى. وقد مال إليها يوسابيوس القيصري والقديس جيروم. يصعب القول أن هذا هو ما هدف إليه الإنجيلي. حقًا لقد أمدنا بإعلان الروح القدس بأحاديث وحوار للسيد المسيح مع بعض الشخصيات والجماعات تكشف لنا عن شخص السيد المسيح وعمله الخلاصي وإمكانياته الإلهية التي قدمها لنا وهباته الفائقة وإرساله روحه القدوس وسكنى الثالوث القدوس فينا. قدم لنا فيضًا من اللاهوت الحي العملي الرائع، ومعرفة لاهوتية كاملة.

يوجد تقليد قديم يقول إن القديس يوحنا كتب إنجيله بناء على طلب أساقفة آسيا الصغرى شركائه في الخدمة، إذ يقول القديس أكليمنضس الإسكندري (حوالي سنة 190م): [إن يوحنا، آخر الكل، إذ أدرك الحقائق الخارجية التي كشفتها الأناجيل (الأخرى)، حثه تلاميذه كما أوحى إليه الروح ليكتب إنجيلاً روحيًا.] كأن تلاميذه وشركاءه في الخدمة بآسيا سألوه أن يسجل لهم تفسيرًا لاهوتيًا لما سبق فكتبه الإنجيليون الآخرون تاريخيًا. هذا وإن كان كل إنجيلي سجل سفره بالروح القدس ليحمل فكرًا لاهوتيًا متمايزًا ومتكاملاً مع الأناجيل الأخرى.

4. مال القديس أكليمنضس السكندري إلى ما يدعوه البعض بنظرية التعليم، حيث يقدم السيد المسيح المعلم. هذه حقيقة لكنه ليس بالمعلم الذي يقدم معلومات خارجية، إنما الذي يضم تلاميذه إليه كأعضاء جسده، يختبرون حياته كحياةٍ لهم.

5. نظرية مواجهة الفلسفات المعاصرة للتوفيق بين الفلسفة والإيمان المسيحي. لسنا نظن أن هذا هو الهدف من وحي الروح القدس لهذا السفر، إنما غايته تقديم الحق الإنجيلي الإلهي. لا يعني أن هذا الحق يرفض ويقاوم كل الفلسفات، إنما يغربلها ويرفض ما فيها من باطل. وقد انبرت مدرسة الإسكندرية، خاصة في عصر القديس اكليمنضس السكندري تكشف عن إمكانية التزاوج بين الإيمان الحي والفلسفة بما فيها من حقٍ وليس بما أفسده الإنسان من أوهامٍ وخيالاتٍ.

الرد على الهرطقات والبدع المعاصرة واليهود المقاومين.

يرى بعض آباء الكنيسة مثل القديس إيرينيئوس أسقف ليون والقديس جيروم وفيكتورينوس من بيتَّاو Victorinus of Pattau وغيرهم أن غاية هذا السفر هو الرد على الهرطقات والبدع المعاصرة في أيامه واليهود المقاومين للكنيسة.

يقول فيكتورينوس من بيتَّاو في أواخر القرن الثالث وبدء القرن الرابع: [كتب يوحنا الرسول إنجيله بعد سفر الرؤيا، وذلك بعد أن نشر كل من الهراطقة فالنتينوس وكيرنثوس وإبيون وآخرون من مدرسة الشيطان تعاليمهم في كافة أنحاء المسكونة، مما اضطر الأساقفة الذين في البلاد المجاورة أن يجتمعوا إلى القديس يوحنا واضطروه أن يكتب إنجيل شهادته].

حقًا لقد قام الرسول بالدفاع عن الإيمان المسيحي في مواجهة عدة جماعات مقاومة للكنيسة، لكن السفر في جوهره هو عطية الروح القدس الذي أوحى للإنجيلي أن يكشف عن الحق الإلهي الذي يمس خلاصنا، ولا يقف عند الجانب السلبي.

ومما لا شك فيه أن هذا السفر يبقى دومُا مصدرًا حيَّا تنهل منه الكنيسة في دحض البدع عبر العصور. ففي رد القديس إيرينيئوس على الهرطقات اقتبس أكثر من 100 شاهدًا منه. وأيضًا كلٍ من هيبوليتس والقديس أثناسيوس الرسولي والقديس كيرلس الكبير، كما استخدمه كثيرًا القديس اكليمنضس السكندري.

أولاً: الرد على اليهود المقاومين.

وقد ظهرت مقاومتهم لشخصه في الأناجيل الثلاثة السابقة. استخدم كلمة "اليهود" 70 مرة في هذا السفر مقابل 5 أو 6 مرات في كل سفر من الأناجيل الإزائية. يستخدمها بمعانٍ كثيرة، منها:

بمعنى وطني لا ديني، كما في الحوار مع المرأة السامرية (9: 4).

بمعنى السلطات الدينية، خاصة سلطات أورشليم المقاومة للسيد المسيح (22: 9؛ 3: 18؛ 13: 8).

يميز الإنجيل بين كلمتي اليهود وإسرائيل، فالأخيرة إيجابية تدل على ميراث العهد القديم الحقيقي. فقد جاء يوحنا المعمدان يعمد بالماء حتى يظهر يسوع لإسرائيل (31: 1). ووصف نثنائيل أنه إسرائيلي لا غش فيه (47: 1). حينما يتحدث عن أعياد اليهود وعاداتهم (6: 2، 13؛ 2: 7) لا نجد ما يشير إلى الازدراء.

قاوم اليهود السيد المسيح: "أنت تلميذ ذاك، أما نحن فتلاميذ موسى" (28: 9)، وأرادوا قتله، فحسبهم السيد "أولاد إبليس" (44: 8 - 47)، لأنهم يريدون أن يمارسوا عمل أبيهم القتّال منذ البدء.

إنهم ينكرون أنه المسيا ابن الله السماوي (18: 5؛ 40: 8 - 49). دبروا المؤامرات لقتله (10: 30 ـ 39؛ 11: 8 ـ50)، وحرموا من يعترف به أنه المسيا من المجمع (22: 9؛ 42: 12).

أيضًا الأبيونيون وهم جماعة من المؤمنين من أصل يهودي اعتبروا التمسك بالفروض اليهودية وطقوس الآباء ضرورة يلتزم بها المسيحيون. وفي حماسهم الزائد لموسى والأنبياء اعتبروا أن السيد المسيح مجرد ابن لداود بدون وجودٍ له قبل التجسد، ومجرد نبي ممتاز كانوا ينتظرونه، ودعوا أنفسهم الأبيونيين من الكلمة العبرانية ebyon ومعناها "فقير".

في هذا السفر أوضح:

ليس من وجه للمقارنة بين موسى مستلم الناموس والمسيح واهب النعمة والحق (17: 1). قدم الأول المن، وأما الثاني فهو نفسه خبز الحياة (32: 6).

نهاية الطقوس اليهودية (2: 1 ـ 10).

عدم ارتباط العبادة بالهيكل (2: 1 ـ 10).

اليهود المقاومون ليسوا أبناء إبراهيم، بل أبناء إبليس (8: 39 ـ 44).

لن يلتقي اليهود المقاومون بموسى كشركاء في المجد، بل سيدينهم (45: 5).

ثانيًا: المتشيعون ليوحنا المعمدان.

يرى البعض أن بعض تلاميذه كوّنوا جماعة تعظم يوحنا المعمدان على حساب شخص ربنا يسوع المسيح. كانوا يحسبونه أعظم من المسيح، لأنه جاء قبله، ولأنه عمده. جاء في "التعارفات Recognitions" المنسوب لإكليمنضس أنهم يدَّعون أن معلمهم هو المعمدان وليس يسوع. هؤلاء عاشوا في العالم المسيحي وعارضوا المسيحية. وكان لهم تأثيرهم، خاصة في أفسس (أع 19: 1 ـ 8).

يرى أصحاب هذا الرأي (أن السفر قد كُتب لمقاومة المتشيعين ليوحنا المعمدان) أن الإنجيلي قد أكد أن يسـوع المسيح وليس يوحنا المعمدان هو نور العالم (8: 1 - 9). وأنه جاء بعده، لكنه هو سابق له، وأعظم منه (30: 1) مع تأكيد أن يسوع وليس يوحنا هو المسيح (20: 1؛ 28: 3). وأن يوحنا المعمدان جاء شاهدًا ليسوع ينبغي أن الأخير يزيد والأول ينقص (30: 3).

أكد القديس يوحنا بشهادة يوحنا المعمدان نفسه عن عظمة المسيح: فالمعمدان ليس بالنور بل هو شاهد للنور (1: 6ـ 8)، وأنه ليس بالعريس بل صديقه (2: 28ـ30)، ليس بحامل خطايا العالم، إنما المسيح وحده هو حمل الله الذي يحمل خطية العالم (29: 1).

حقًا لقد أعلن هذا الإنجيلي مشاعر السيد المسيح العميقة أكثر من بقية الأناجيل، وظهر ذلك بقوة في صلاته الوداعية في الإصحاح السابع عشر حيث صلى بصوتٍ عالٍ. بهذا يقدم لنا الإنجيلي صورة السيد المسيح الفائق الإدراك، والتي لا يمكن التعبير عنها، إذ يدخل بنا إلى كمال أسرار اللاهوت فنقف خاشعين، وإلى كمال ناسوته فنقف مذهولين!

لم يتجاهل القديس يوحنا الإنجيلي عظمة يوحنا المعمدان، فهو مُرسل من قبل اللَّه (6: 1)، وهو السراج المنير الساطع (35: 5).

ثالثًا: الرد على بعض أصحاب البدع.

جاء في كتاب "ضد الهرطقات" للقديس إيرينيؤس، وهو من رجال القرن الثاني، أن إنجيل يوحنا كُتب ضد كيرنثوس. وهو صاحب نزعة غنوصية، من آسيا الصغرى. في رأي القديس إيرينيؤس أن كيرنثوس ادعى بأن يسوع هو ابن ليوسف، وأن المسيح عنصر سماوي حلّ على يسوع في وقت العماد وتركه بعد موته. كما ادعى أن الخلق قد تم بواسطة قوة خلاّقة لا بواسطة اللَّه.

إذ يذكر القديس إيرينيؤس أسقف ليون أبيون مع كيرنثوس، لذا ظن القديس جيروم أن إنجيل يوحنا جاء ردًا على أبيون وأتباعه، وهي شيعة مسيحية متهودة.

قيل أيضًا أنه موجه ضد الدوسيتيين Docetists الظاهرين، القائلين بالخيالية في جسد الرب. وهو يدعون أن يسوع المسيح لم يأتِ حقًا بالجسد. فجسده ليس جسدًا حقيقيًا بل ظاهرًا أو غازيًا أو أثيريًا. يبدو كأنه إنسان، وبهذا كان تألمه وموته ظاهريين.

رابعًا: نداء إلى المسيحيين الذين من أصل يهودي في الشتات.

يشير مرتين إلى الذين آمنوا بالسيد المسيح ولم تكن لهم الشجاعة أن يعلنوا إيمانهم خوفًا من الطرد من مجمع السنهدرين. الأولى في 42: 12 إذ "آمن به كثيرون من الرؤساء أيضًا غير أنهم لسبب الفريسيين لم يعترفوا به لئلا يصيروا خارج المجمع". والثانية في 38: 19 "ثم أن يوسف الذي من الرامة وهو تلميذ يسوع، ولكن خفية لسبب الخوف من اليهود سأل بيلاطس أن يأخذ جسد يسوع".

خامسًا: مساندة المسيحيين في العالم أيا كان أصلهم.

جاء يسوع إلى العالم ليكون نورًا لكل إنسان (9: 1)، وهو حمل اللَّه الذي يحمل خطية العالم (29: 1)، جاء ليخلص العالم (16: 3). متى ارتفع على الصليب يجذب إليه كل إنسانٍ (32: 12). فهو مسيح العالم. في استهزاء قال اليهود إنه ربما يذهب إلى الشتات لكي يعلم اليونانيين (35: 7)، فتنبأوا عن عمله بين الأمم وهم لا يدرون، كما نسمع عن بعض اليونانيين الذين قالوا لفيلبس: "يا سيد، نريد أن نرى يسوع" (20: 12 - 21). وفي حديثه عن عمله كراعٍ صالحٍ يؤكد أن له خرافًا ليست من هذا القطيع يجعلها جزءً من رعية واحدة لراعٍ واحدٍ (16: 10). وفي 35: 4 نرى السيد المسيح قد جاء ليس لفداء الأمة اليهودية وحدها بل ليجمع أبناء اللَّه المشتتين ويوّحدهم. لقد تعرف بعض السامريين عليه، وعرفوا أنه مخلص العالم (42: 4)، وقد رأى السيد حقول السامرة قد ابيضّت للحصاد (35: 4).

إنجيل يوحنا والأناجيل الثلاثة الإزائية Synoptic Gospels.

إن كان الإنجيل بحسب يوحنا يختلف عن الأناجيل المتشابهة أو الإزائية (متى ومرقس ولوقا) Synoptic Gospels، لكننا لا نستطيع أن نبتره عنها تمامًا، إذ يفترض معرفة الإنجيلي يوحنا للأناجيل الثلاثة السابق كتابتها أو على الأقل للتقليد الذي اعتمدوا عليه.

كان الرأي الكنسي الأول يمثله قول القديس اكليمنضس الإسكندري، وهو أن القديس يوحنا أراد أن يقدم تفسيرًا روحيًا للأناجيل الثلاثة السابقة له. هذا الرأي ساد عبر العصور ولازال يقبله كثير من الدارسين، وإن كان بعض النقاد المحدثين يرون أنه لا علاقة بين هذا السفر والأناجيل الثلاثة لا بالإيجابية ولا بالسلبية، ورأى بعضهم أن يوحنا عرف مرقس ولوقا دون متى.

ويلاحظ في هذا السفر أنه يفترض في القارئ معرفته للأناجيل الثلاثة الأخرى؛ نذكر على سبيل المثال في يو 40: 1 يقدم لنا أندراوس هكذا: "كان أندراوس أخو بطرس..."، دون أن يشير قبلاً إلى القديس بطرس. وفي 67: 6 يفترض في القارئ أنه يعرف الاثنى عشر تلميذًا. وفي 32: 1 - 34 إذ يسجل لنا شهادة يوحنا المعمدان عن السيد، يفترض في القارئ معرفته عن عماد السيد بواسطة يوحنا دون الإشارة إليه.

يعتبر البعض الأناجيل الثلاثة أشبه برحلة السيد المسيح من الجليل إلى أورشليم، فتركز على صعوده الأخير إلى المدينة المقدسة حيث قدم نفسه ذبيحة الفصح الفريدة. أما إنجيل يوحنا فيتحدث عن مناسبات عديدة أقام فيها السيد المسيح في أورشليم، ويذكر عيد الفصح في ثلاث سنوات متوالية، وفي ليلة الفصح الأخير مات المسيح "حمل اللَّه" ليُقدم احتفالاً جديدًا للعالم كله يملأه ببهجة قيامته التي صار تذكارها هو "عيد الفصح المسيحي".

سجل لنا القديس يوحنا الحبيب بإعلان الروح القدس هذا السفر بعد كتابة الأناجيل الإزائية الثلاثة، سجله للكنيسة الجامعة موضحًا شخص المخلص بكونه الكلمة الأزلي الإلهي، ابن اللَّه مخلص العالم.

بسبب حسن يبدأ الإنجيلي يوحنا قصته من الوجود الأزلي. بينما يبدأ متى بعلاقة (المسيح) بالملك هيرودس، ولوقا بطيباريوس قيصر، ومرقس بمعمودية يوحنا، يترك هذا الرسول كل هذه الأمور ليعبر فوق كل زمن وكل عصر.

لماذا بينما بدأ الإنجيليون الآخرون بالحديث عن التدبير... أشار يوحنا إلى ذلك باختصار مؤخرًا: "الكلمة صار جسدًا" (14). ترك الحديث عن بقية الأمور: الحبل به، وميلاده، ونشأته، ونموه، متحدثًا معنا في الحال عن ميلاده الأزلي؟... لكي ينزع عن الذين يرغبون في أن يُغرموا بالأرض هذا الأمر، ويجتذبهم نحو السماء. لهذا بسبب حسن يبدأ قصته من فوق ومن الوجود الأزلي. بينما دخل متى إلى الحديث ذاكرًا الملك هيرودس، ولوقا طيباريوس قيصر، ومرقس معمودية يوحنا، ترك هذا الإنجيلي كل هذه الأمور وارتفع فوق كل زمن وكل عصر وسحب فكر سامعيه إلى "البدء" حتى لا يسمح للفكر أن يلتصق بأية نقطة، ولا يرتبط بحدودٍ معينة كما فعل الإنجيليون، إذ ارتبطوا بهيرودس وطيباريوس ويوحنا. وما نشير إليه هو أن ما يستحق العجب أن يوحنا الذي كرّس نفسه لهذا التعليم العلوي لم يتجاهل تدبير (الخلاص)، كما أن الإنجيليين الآخرين لم يقفوا عند الارتباط بهذه الحدود ولا صمتوا عن كيانه قبل العصور. فإنه بسبب صالح الروح الواحد هو الذي حرك هذه النفوس جميعًا. ولذلك اظهروا اتفاقًا عظيمًا في روايتهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

يوحنا الإنجيلي، بين زملائه وأصحابه الإنجيليين الآخرين تقبَّل هذه الهبة الخاصة من الرب. إذ اتكأ على صدره في العيد، إشارة إلى شربه أسرارًا أعمق، وذلك من قلب (الرب) العميق. فصار ينطق بهذه الأمور الخاصة بابن اللَّه، التي قد تثور في أذهان الصغار المتيقظة، ولكنها لم تقدر أن تشبعها إذ هي عاجزة عن استيعابها. بينما بالنسبة لأذهان من هم أكثر نموًا، الذين بلغوا نوعًا من الرجولة الداخلية، فتعطيهم هذه الكلمات ما يختبرونه ويقتاتون به.

في الأناجيل الأربعة أو بالأحرى في الأربعة كتب للإنجيل الواحد ليس عن غير استحقاق يشبه القديس يوحنا الرسول بخصوص فهمه الروحي بالنسر. لقد ارتفع بكرازته أعلى وأكثر سموًا من الثلاثة الآخرين، وبارتفاعه هذا أراد أن يرفع قلوبنا أيضًا. لأن الثلاثة إنجيليين الثلاثة ساروا مع الرب على الأرض كما مع إنسانٍ، أما عن لاهوته فتحدثوا القليل عنه. أما هذا الإنجيلي فإنه كمن استهان بالسير على الأرض، كما في مقدمة مقاله، فرعد علينا، وحلّق بنا ليس فقط فوق الأرض بل وفوق كل محيط الهواء والسماء، بل وفوق كل جيش الملائكة وكل نظام القوات غير المنظورة، وبلغ إلى ذاك الذي "به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان".

القديس أغسطينوس.

لم يشترك مع الأناجيل الثلاثة إلا في:

* عماد السيد المسيح (بالتلميح) 32: 1 - 34؛

* تطهير الهيكل 13: 2 - 16؛

* إشباع الجموع 1: 6 - 13؛

* المشي على المياه 16: 6 - 21؛

* سكب الطيب في بيت عنيا 1: 12 - 8؛

* دخول المسيح أورشليم منتصرًا 12: 12 - 19؛

* إعلان الخيانة 21: 13 - 30؛

* آلامه وقيامته، قدمت بطريقة خاصة.

هذا ولم يذكر الإنجيلي يوحنا سوى سبع آيات فقط، اختارها من بين الآيات والعجائب التي بلا حصر. وقد جاءت هذه الآيات أو المعجزات جديدة لم يذكرها غيره من الإنجيليين، سوى إشباع الجماهير التي سجلها كمقدمة لحديثه الصريح عن الإفخارستيا، والسير على المياه.

ذكر الإنجيلي يوحنا حوادث وأحاديث لم يذكرها غيره من الإنجيليين، فجاء جديدًا على مسامعنا. لم يكرر ما جاء قبلاً مثل ميلاد السيد المسيح، نسبه، التجربة، الموعظة على جبل، التجلي، الأمثال، العشاء الأخير، الآلام في جثسيماني، الصعود الخ. مكتفيًا أحيانًا بالتلميح.

إنجيل يوحنا بين اللاهوت والتاريخ.

بلا شك أن إنجيل يوحنا له طابع متميز عن بقية الأناجيل، فإن كانت الأخيرة قد سجلها الوحي الإلهي بغرض تاريخي مع اهتمام كل إنجيل بالكشف عن أحد جوانب السيد المسيح، فإن هذا الإنجيل يغلب عليه الطابع اللاهوتي، وإن كان في عرض تاريخي أيضًا.

في إنجيل مرقس يذكر رحلة واحدة من الجليل إلى أورشليم (مر 1: 10)، أما في يوحنا فيذكر ثلاث رحلات (يو 13: 2؛ 1: 5؛ 10: 7). في إنجيل مرقس يأتي تطهير الهيكل في أواخر السفر (مر 15: 11)، أما في يوحنا فيأتي في قرب بدايته (يو 13: 2 الخ).

لقد ركز الإنجيلى يوحنا على شخص السيد المسيح ليعلن أنه كلمة اللَّه الذي فوق الزمن وقد خضع للزمن، وصار له موضع في تاريخ البشرية. حقًا لم يُقصد بالإنجيل أن يستعرض تاريخ حياة السيد، بل أبرز حقيقته بكونه اللوغس "الكلمة الإلهى"، النور، الحق، الحياة، القيامة الخ. وكأن هذا السفر أراد تأكيد أن التمتع بملكوت اللَّه الداخلي إنما هو تعرُف على شخص المسيا المخلص، وإدراك أسراره عاملة فينا. من أجل هذا خضع للزمن، إذ "صار الكلمة جسدًا" (14: 1).

إن كنا نحن كبشرٍ نحمل جسدًا يخضع للزمن، فبخضوع السيد المسيح بإرادته للزمن واقتحامه تاريخنا خلال تجسده لم يحطم الزمن بل أعطاه قدسية خاصة. ولعله لهذا السبب نجد الرسول يوحنا يهتم بالتدقيق في الحديث عن الأزمنة والأوقات، إذ يقول:

"وكان نحو الساعة العاشرة" (39: 1)؛

"كان نحو السادسة" (6: 4؛ 14: 19)؛

"في ست وأربعين سنة بُني هذا الهيكل" (20: 2)؛

"وكان شتاء" (23: 10)؛

"وكان ليلاً" (30: 13)؛

ولعل اهتمام الرسول بتحديد الأزمنة تأكيد أن السيد المسيح قد حمل جسدًا حقيقيًا، ودخل في التاريخ البشري، ولم يكن جسده خيالاً كما ادعى البعض مثل الدوناتست.

إذ يسبح القديس يوحنا في اللاهوتيات، بكونه اللاهوتي الأول، يشرح لنا قصد اللَّه و "تدبيره” (باليونانية eikos ecomomia، eikos أي بيت؛ وnomos أي قانون أو ناموس):" الحكمة بنت لها بيتًا "(أم 1: 9). فالحكمة هي المسيح، وأول بيت لها هو العذراء مريم التي بتجسده منها جاء المسيح إلى العالم. والعذراء صورة الكنيسة التي هي أيضًا بيت اللَّه (1 كو 9: 3 - 17).

تزايد الاهتمام بالجانب التاريخي.

إن كان بعض الدارسين المحدثين أرادوا تفسير إنجيل يوحنا من الجانب اللاهوتي البحت، متجنبين قيمته التاريخية، لكنهم وجدوا أنفسهم أمام هذه الحقيقة: أن هذا اللاهوت سُجَل في قالب تاريخي. لذلك نما الاتجاه نحو الاهتمام بالجانب التاريخي والاجتماعي والجغرافي لهذا السفر خاصة في الأحداث التي وردت في هذا السـفر وحده دون بقية الأناجيل، من ذلك دراسات كل من Albright وHiggins وLeal وPallard وStauffer وغيرهم. هؤلاء ركزوا على الآتي:

1 - ما جاء في الاصحاح الرابع بخصوص السامريين، وفكرهم اللاهوتي، وممارستهم للعبادة على جبل جرزيم، وموقع بئر يعقوب بدقة.

2 - في الاصحاح الخامس نجد معلومات دقيقة عن بركة بيت حسدا، من جهة اسمها وموقعها وأبنيتها.

3 - مقالات لاهوتية خاصة بعيد الفصح (إصحاح 6)، وعيد المظال (ص 7، 8)، تقدم لنا معلومات دقيقة عن الاحتفالات الخاصة بالأعياد وقراءات المجمع اليهودي في أثنائها.

4 - تفاصيل خاصة بأورشليم، مثل الإشارة إلى بركة سلوام (7: 9)، وإلى رواق سليمان كملجأ في الشتاء (22: 10 - 23)، وإلى الممر الحجري في بلاط بيلاطس (13: 19). بمعنى آخر يمكننا القول إن هذا السفر قدم لنا معرفة دقيقة خاصة بفلسطين قبل دمار أورشليم سنة 70م وتحطيم معالمها.

سماته.

1 - إنجيل القداسة الإلهية.

يكشف لنا هذا السفر عن قداسة اللَّه بطريقة رائعة مفرحة. فكلمة قداسة في اليونانية ayios تعني "لا أرضي". فالقداسة اسم يخص اللَّه، ليُعلن لنا ما هو فوق إدراكنا، وقد ارتبطت قداسة اللَّه قديمًا بالخوف:

"فارتعد كل الشعب الذي في المحلة... وارتجف كل الجبل جدًا" (خر 12: 19 - 25).

"أما وجهي فلا تستطيع أن تراه، لأنه لا يراني إنسان ويعيش" (خر 20: 23).

"ويلي قد هلكت، لأني رجل دنس الشفتين... وقد رأت عيناي الملك رب الجنود" (إش 5: 6).

يكشف إنجيل يوحنا العهد الجديد في أعماقه حين نزل السماوي إلى الأرضيين، وأعلن قداسته مقرونًا بالمجد لا بالرعد: "حلّ بيننا ورأينا مجده" (14: 1).

2 - إنجيل الإيمان العامل بالمحبة Redemptive love، واهب الحياة.

اتسم هذا السفر بوجود مصطلحات معينة متكررة تختلف عما وردت في الأناجيل الأخرى. ولعل من أهم الكلمات التي تكررت فيه هي: يؤمن (98 مرة)، يعرف (55 مرة)، يحيا (55 مرة)، يحب (20 مرة)، يشهد (21 مرة). تكرار هذه الكلمات لم يأتِ مصادفة أو بدون حكمة، فقد أراد الوحي الإلهي أن يكشف عن غاية هذا السفر، ألا وهو الإيمان القائم على المعرفة الروحية، لكي يحيا الإنسان بروح الحب.

فإن كانت كلمة "يؤمن" قد تكررت 98 مرة في السفر كله، فإنها تكررت 74 مرة في الإثني عشر إصحاحًا الأولى، هذه الإصحاحات التي تُدعى "كتاب الآيات أو المعجزات"، شملت سبع آيات صنعها السيد المسيح. وكأن غاية هذه الآيات هي "الإيمان" بكونه سرّ حياتنا وخلاصنا. ويلاحظ أن الكلمة: "يؤمن" جاءت في هذا السفر 39 مرة لتعني ليس مجرد تصديق أقوال السيد، وإنما إعطاء الإنسان ذاته للًّه أو تحركه عمليًا نحوه كما جاء في 11: 12 "لأن كثيرين من اليهود كانوا بسببه يذهبون ويؤمنون بيسوع". وربما جاءت الكلمة عن أصل عبري يعني أن الشخص يسلم نفسه بثقة للغير.

تكررت أيضًا كلمة "يعرف"، ليؤكد الرسول أن الإيمان وهو يحمل معنى التسليم مع الثقة في اللَّه، هو تسليم النفس العاقلة التي تتقبل حب اللَّه، وتتعرف على أسراره، فترتمي في أحضانه. الإيمان لا يتقبله الأغبياء، ولا يعني الجهالة، بل يسير جنبًا إلى جنب مع المعرفة الحقيقية، خاصة التي يعلنها اللَّه نفسه ليتقبلها العقل، وإن كانت فائقة عن قدراته، لكنها ليست متعارضة معه أو مناقضة له.

المعرفة هنا لا تعني مجرد الإدراك الذهني النظري، إنما تعني الاتحاد الكامل في الحق والحب، أو شركة الحياة، الأمر الذي أوضحه الإنجيلي في رسالته الأولى: "الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به، لكي يكون لكم أيضًا شركة معنا، وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح" (1 يو 3: 1).

أما غاية المعرفة فهي "الشركة مع اللَّه" ليمارس حياته فينا، فنحمل طبيعة محبته. هذا هو الحب الخلاصي الذي يسكبه فينا لنختبره ونعيشه. جاء الإنجيل يعلن لنا: "هكذا أحب اللَّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (16: 3). هذا الحب الخلاصي قدمه الابن، إذ يقول: "وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلى الجميع" (32: 12). "أما يسوع... وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب، إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى" (1: 13). الإيمان بالصليب ينير بصيرتنا، فنتعرف على اللَّه، بكونه محب البشر الباذل، لذا يؤكد السيد: "متى رفعتم ابن الإنسان، فحينئذ تفهمون إني أنا هو" (28: 8). نعرفه أنه اللَّه الكائن، الذي يحب خليقته حتى النهاية.

هكذا يرتبط الإيمان بالمعرفة والحب ليحيا الإنسان بالإيمان الحي خلال المعرفة الروحية، ممارسًا طبيعة الحب.

الحب الخلاصي الذي نتذوقه فنتجاوب مع اللَّه بالحب، إنما ينبع عن طبيعة الحب الأزلية التي بين الآب والابن (35: 3؛ 9: 15). وخلاله نمارس حبنا أيضًا لبعضنا البعض (14: 13).

كأن الإنجيلي يوحنا، وهو رسول الحب، يحدثنا عن:

- حب الآب للسيد المسيح.

- حب الآب للبشرية خلال بذل ابنه وحيد الجنس.

- حب السيد المسيح الخلاصي للبشر، خاصة في حديثة الوداعي.

- حبنا للَّه.

- حبنا لبعضنا البعض كعلامة شركتنا في الحب الإلهي.

3 - إنجيل الحق.

جاءت كلمة "الحق" 25 مرة في هذا السفر. و "الحق" هنا يختلف عما يعنيه الغنوسيون أو الهيلّينيون، إذ هو ليس ثمرة فكر بشري بحت، أو فلسفة إنسانية يتعرف عليها، وإنما "الحق الإنجيلي" يعني الآتي:

أولاً: الكلمة الإلهي نفسه الذي يحرر النفس من ظلمة الخطية: "وتعرفون الحق، والحق يحرركم" (32: 8). الكلمة الإلهي الذي فيه نتقدس، كما جاء في صلاته الوداعية: "قدسهم في حقك، كلامك هو حق" (17: 17).

ثانيًا: يُعلن لنا إلهيًا، إذ يقول السيد المسيح: "الذي من اللَّه يسمع كلام اللَّه، لذلك أنتم لستم تسمعون لأنكم لستم من اللَّه" (47: 8). "وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم ما قلته لكم" (26: 14).

ثالثًا: الحق هو حياة تُعاش وتُمارس: "وأما من يفعل الحق، فُيقبل إلى النور، لكي تظهر أنها باللَّه معمولة" (21: 3). "سالكين في الحق" (2 يو 4).

4 - إنجيل الروح.

يرتفع بنا الإنجيلي إلى اللاهوتيات لنتعرف على أسرارها فنعيشها ونختبرها، فالحاجة هنا لا إلى مجادلات فكرية بشرية وفلسفية، وإنما إلى الروح القدس الذي ينير لنا البصيرة الداخلية. فإن كان الروح هو الذي يوحي للرسول بما يكتب، يطلب من قارئيه أن يتمتعوا بعمل الروح، فيدركوا أسرار الكتابة، ويتعرفوا خلال الأحداث على العمل الإلهي الخلاصي.

لم يدرك التلاميذ بالروح كلمات السيد المسيح حتى تمجد، إذ يقول: "قال لهم انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه... فلما قام من الأموات تذكر تلاميذه أنه قال هذا، فآمنوا بالكتاب والكلام الذي قاله يسوع" (19: 2، 22). "وهذه الأمور لم يفهمها تلاميذه أولاً ولكن لما تمجد يسوع حينئذ تذكروا أن هذه كانت مكتوبة عنه" (16: 12). "لأنهم لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من الأموات" (9: 20).

لقد سمعوا كلمات السيد ورأوا الأحداث، لكنهم كانوا في حاجة أن يفتح الروح بصيرتهم الداخلية ليدركوا ويؤمنوا؛ لهذا أكد الإنجيلي أن الرؤية الجسدية وحدها لا تكفي، إنما يلزم الإيمان الذي يفتح البصيرة للرؤية الداخلية:

"فقال لهم يسوع... إنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون" (36: 6).

"لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (40: 6).

"لأنك رأيتني يا توما آمنت، طوبى للذين آمنوا ولم يروا" (29: 20).

"وخرج دم وماء، والذي عاين شهد، وشهادته حق، وهو يعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا أنتم" (34: 19، 35).

"دخل أيضًا التلميذ الآخر الذي جاء أولاً إلى القبر ورأى فآمن" (8: 20).

يوضح الإنجيل أنه يوجد من يرى بعيني جسده، ولا يرى ببصيرته الداخلية: "فقال يسوع: أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون، ويعمى الذين يبصرون". إذ بالإيمان أبصر الأمم الذين لم يبصروه حسب الجسد، بينما أصيب قادة اليهود بالعمى مع أنهم أبصروه بأعينهم الجسدية.

وما نقوله عن الرؤية الجسدية والروحية هكذا أيضًا بالنسبة للسماع. إذ يوجد من يسمع الصوت بأذنيه ولا تنفتح أذناه الداخليتان، كما قيل: "فجاء صوت من السماء: مجدت وأمجد أيضًا، فالجمع الذي كان واقفًا وسمع قال: قد حدث رعد..." (28: 12 - 29).

كلمات يوحنا هي كلا شيء بالنسبة للذين لا يرغبون في التحرر من هذه الحياة البهيمية، كما أن أمور هذا العالم لا تفيده في شيءٍ. الرعد يذهل نفوسنا، إذ يصدر صوتًا بلا معنى، أما صوت هذا الرجل فلا يربك أحدًا من المؤمنين، بل بالأحرى يهدئ من متاعبهم وارتباكهم. إنه يذهل الشياطين فقط وعبيدهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

5 - إنجيل الشهادة للسيد المسيح.

الشهادة للسيد المسيح تمثل بلا شك عصب الحياة الرسولية، وقد جاء القديس يوحنا في إنجيله يعلن الشهادة للسيد بكونه "المسيا ابن اللَّه"، قدمها بما يناسب العقلية اليهودية الناموسية، فقدم لنا عدة شهادات متباينة:

1. شهادة الناموس له، موضحًا أن فيه قد تمت الكتب والنبوات، خاصة في قصة آلامه (38: 12؛ 18: 13؛ 25: 15؛ 12: 17؛ 9: 18؛ 24: 9؛ 24: 19، 36). يطالبنا السيد المسيح نفسه بتفتيش الكتب (39: 5).

ب. شهادة يوحنا المعمدان (7: 1، 15، 19 الخ؛ 26: 3 الخ؛ 53: 5 الخ).

ج. شهادة المرأة السامرية (39: 4).

د. شهادة الجموع له (17: 12).

ه. إذ يعلن السيد أن الإنسان لا يشهد لنفسه، أوضح أن الآب يشهد له خلال الأعمال (31: 5 - 36، 17: 8 الخ؛ 37: 10؛ 10: 14 الخ).

و. شهادة الروح القدس عنه (26: 15 الخ).

ز. شهادة التلاميذ له (27: 15).

وإنني أترك الحديث عن الشهادة لبنوة السيد المسيح للآب وتأكيد لاهوته لصُلب شرح الإنجيل منعًا من التكرار وتحاشيًا للإطالة، إذ يعتبر هذا الموضوع في صلب الإنجيل نفسه افتتح به الإنجيلي السفر وختمه به، موضحًا العلاقة الأزلية بين الآب والابن، الأمر الذي أثار اليهود وأرادوا رجم السيد (18: 5).

ويلاحظ أن القديس يوحنا الحبيب يُسقط على الأشخاص نور السيد المسيح وينسبهم إليه، فيدعو القديسة مريم: "أم يسوع"، ويدعو نفسه: "التلميذ الذي كان يسوع يحبه". وكأن القديسين يحملون أسماءً هي عبارة عن نسبهم إلى السيد المسيح.

6 - إنجيل الوصية الجديدة أو إنجيل المحبة.

إن كان هذا السفر لم يقدم لنا الموعظة على الجبل، ولا أمثال السيد المسيح ولا شرائع خاصة به، لكنه قدم وصية جديدة ركز عليها، هذه الوصية ليست دستور قوانين أو شرائع code of laws وإنما طريق محبة way of love؛ ليست ثقلاً يلتزم به الإنسان، بل شركة في طبيعة المسيح محب البشر، إذ يقول: "وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضًا؛ كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضًا بعضكم بعضًا، بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضنًا لبعض" (34: 13، 35).

تكلم كثيرًا عن علاقة الرب بالكنيسة والعالم أنها علاقة محبة. فالاتحاد بالكنيسة يشبه اقتران العروسين. فلقد قال عنه المعمدان أنه عريس الكنيسة "من له العروس فهو العريس... إذًا فرحي هذا قد كمل" (يو 25: 3 - 28). كما أكد النمو بأكل جسده: "أنا هو خبز الحياة. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد" (48: 6 - 51). لقد شبَّه نفسه بالراعي (11: 10)، وأيضًا بالبواب (3: 10)، والباب (7: 1). ثم اعتبر نفسه الكرمة والكنيسة الأغصان (إصحاح 15).

وصف هذا الإنجيل كاتبه بأنه كان يتكئ على صدر الرب، وكان الرب يحبه. ووصف الرب يشارك الناس ظروفهم كما في العرس بقانا الجليل (يو 2)، وفي الأحزان مثلما بكى عند قبر لعازر (يو 11). وحين يضعف إيمان البعض مثلما حدث مع توما فيثبت إيمانه (27: 20 - 28) ومع بطرس حين يسقط فيشجعه على عدم التراجع ويسنده بالحديث عن المحبة (15: 21 - 18). ويصدر حديثه الوداعي للتلاميذ بقوله إنه "أحب خاصته الذين في العالم. أحبهم إلى المنتهى" (1: 13) ولا غرو فهو الذي بذل ذاته عنا، "لأنه هكذا أحب اللَّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد كي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (16: 3).

هذا ولم يذكر إنجيل يوحنا مثلاً صريحًا سوى في حديثه عن الراعي الصالح (يو 10).

7 - مسيح الشباب المفرح.

افتتح خدمته بحضور عرس في قانا الجليل، فهو صديق الشباب، ومصدر فرحهم. لم يذكر معلمنا يوحنا اسمي العروسين اللذين حضر السيد المسيح عرسهما وصنع أول معجزة (يو 2)، غالبًا ما كان أحد أقرباء يسوع المسيح حسب الجسد، لذا دُعي مع أمه للحضور.

8 - إنجيل أحاديث للسيد المسيح.

جاءت غالبيتها خلال أسئلة أو اعتراضات وجهت إليه، خلالها كشف السيد عن حقيقة نفسه وعن أعماله، نذكر على سبيل المثال:

* نثنائيل: "من أين تعرفني؟" (48: 1).

* اليهود: "أية آية ترينا حتى تفعل هذا؟" (18: 2).

* نيقوديموس: "كيف يمكن أن يكون هذا؟" (9: 3).

* السامرية: "كيف تطلب مني لتشرب، وأنت يهودي، وأنا امرأة سامرية؟" (9: 4).

* اليهود: "كيف يقدر أن يعطينا جسده لنأكل؟" (52: 6).

* في عيد المظال: "كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلم؟" (15: 7).

* الجمع: "بك شيطان؛ من يطلب أن يقتلك؟" (20: 7).

* الكتبة والفريسيون: "يا معلم، هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل، وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه تُرجم، فماذا تقول أنت؟" (5: 8).

* اليهود: "إننا ذرية ابراهيم ولم نُستعبد لأحد قط، كيف تقول أنت إنكم تصيرون أحرارًا؟" (23: 8).

"ألسنا نقول حسنًا إنك سامري وبك شيطان؟" (48: 8).

"ألعلك أعظم من أبينا ابراهيم الذي مات، والأنبيـاء ماتوا، من تجعل نفسك؟" (53: 8).

"ليس لك خمسون سنة بعد، أفرأيت إبراهيم؟" (57: 8).

* التلاميذ: "يا معلم، من أخطأ هذا أم أبواه حتى وُلد أعمى؟" (1: 9).

هكذا سار السفر في غايته يحمل أسئلة أو اعتراضات والرب يجيب ويعلن أسراره!

حوى السفر عدة أحاديث عامة أو موجهة لاشخاص:

1 - المعمودية والميلاد الجديد (3: 1 - 21).

2 - الحياة الأبدية (4: 5 - 21).

3 - مصدر الحياة الأبدية (5: 19 - 47).

4 - خبز الحياة (6: 29 - 59).

5 - معلم الحق (7: 14 - 29).

6 - نور العالم (8: 12 - 20).

7 - المسيح المصلوب غاية الإيمان (8: 21 - 30).

8 - المحرر الروحي (8: 31 - 59).

9 - الراعي الصالح (10: 1 - 18) ,.

10 - وحدة اللاهوت (22: 10 - 38).

11 - مخلص العالم (20: 12 - 36).

كما قدم أحاديث وداعية لتلاميذه:

12 - موته عن كل البشرية (12: 20 - 36).

13 - التقديس والتكريس (31: 13 - 31: 14).

14 - الاتحاد مع المسيح (1: 15 - 27).

15 - الروح المعزي (1: 16 - 33).

9 - إنجيل ليتورجي.

إنجيل يوحنا أكثر الأناجيل "ليتورجية"، أي إعلان حضور السيد المسيح سريًا، فيعلن عن حضوره في عرس قانا الجليل لا كمدعو فحسب، وإنما كسرّ فرح خفي بتحويل الماء إلى خمرٍ، ويتحدث عن حضوره السري خلال حديثه مع نيقوديموس ليلاً عن سرّ المعمودية، كذلك في شفائه مفلوج بيت حسدا.

ما أن أسلم السيد المسيح الروح حتى طعنه واحد من العسكر في جنبه بحربة وللوقت خرج دم وماء (34: 19)، دم الإفخارستيا وماء العماد. وكأنها لحظات ولادة الكنيسة، فقد وُلدت حواء الجديدة من جنب آدم الثاني.

جاءت الأحداث والأحاديث المسيانية في السفر لها طابع ليتورجي سرائري كنسي، مثل حوار السيد المسيح مع نيقوديموس عن الولادة الجديدة أو المعمودية (يو 3)، كما تحدث مع الجمهور حديثًا أفخارستيًا (يو 6).

10 - إنجيل القوة والحركة.

يتميز إنجيل يوحنا بالحركة "الديناميكية" الجلية، فيقدم لنا حركة الخليقة نحو الآب في المسيح. "يسوع وهو عالم... أنه من عند اللَّه خرج وإلى اللَّه يمضي" (13: 1، 3). إنها حركة فصحية حقيقية خلالها يُصعد السيد المسيح المؤمنين إلى حضن الآب بالصليب. يقول السيد المسيح: "إبراهيم أبوكم ابتهج بأن يرى يومي، فرأى وفرح" (56: 8).

إن كان إنجيل مرقس يشَّبه بالأسد حيث يفرح المؤمنون مع السمائيين بتسبيح الظفر كأسودٍ غالبة، وإنجيل لوقا يشَّبه بوجه الثور مقدمين حياتهم ذبيحة حب للَّه في المسيح الذبيحة الحقيقية، وإنجيل متى بوجه إنسانٍ، فإن إنجيل يوحنا يشَّبه بالنسر الذي يحلق بنا في اللاهوتيات، ويرتقي بنا إلى السماء عينها لنعرف أسرار اللَّه الفائقة، قائلين: "رأينا مجده!" (14: 1).

11 - اهتمامه بأرقام معينة.

كمثال رقم 3، إذ نجده:

* يحدثنا عن ذهاب السيد المسيح إلى الجليل ثلاث مرات؛

* ويختار في الجليل ثلاث معجزات؛

* كما ذهب إلى اليهودية ثلاث مرات؛

* ويُجري السيد بها ثلاث معجزات؛

* يسجل لنا من كلمات السيد المسيح السبع على الصليب ثلاث كلمات؛

* ويُقدم لنا ثلاثة ظهورات للسيد المسيح بعد قيامته.

واهتم أيضًا برقم 7، إذ نجده:

* يأتي بسبعة شهود للسيد المسيح (راجع إنجيل شهادة للسيد المسيح

* ويختار في كل السفر سبع معجزات أو آيات صنعها السيد المسيح.

* وترد فيه كلمة "اليوم الأخير" سبع مرات.

12 - أسلوبه إعجازي مطلق.

يجد المؤمن في الإنجيل بحسب القديس يوحنا متعة خاصة، فهو ذروة الوحيّ الإنجيلي، أسلوبه إعجازي مطلق بكونه السهل الممتنع، مادته هو "المسيح" نفسه بكونه "كلمة اللَّه" الذي يرفع النفس لتكتشف الأسرار الإلهية فيه كما بدون وسيط.

عاش القديس يوحنا هذا الإنجيل أكثر من نصف قرنٍ بعد صعود السيد المسيح يتأمله بالروح القدس الذي وعد به السيد: "لأنه ماكث معكم ويكون فيكم... يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم" (17: 14، 26)، "يرشدكم إلى جميع الحق" (13: 16). تحولت خبرته الشخصية مع السيد المسيح أثناء وجوده على الأرض، ودالته لديه إلى انطلاقة بالروح القدس لتهيم نفسه في السماوات، تنعم بالسيد المسيح محبوبها الممجد. لذا كتب بالروح هذا السفر ليرفع كل نفس إلى ذات الخبرة.

13 - آخر ما كُتب من أسفار الكتاب المقدس.

قلنا أن هذا الإنجيل جاء متمايزًا عن الأناجيل الإزائية Synoptic Gospel، بكونه قد كُتب في أواخر القرن الأول، غالبًا آخر ما كُتب من أسفار الكتاب المقدس، فجاء لا ليكرر ما ورد في الأسفار الأخرى بل ليكملها، لهذا جاء يحمل السمات التالية:

بينما اهتمت الأناجيل المؤتلفة بخدمة السيد المسيح في الجليل ولم تتعرض إلا لرحلةٍ واحدةٍ له في أورشليم في الأسبوع الأخير من حياته على الأرض، اهتم هذا الإنجيل بالأكثر بخدمة السيد المسيح في اليهودية وأورشليم والهيكل، لهذا دُعي البعض الأناجيل الأولى بالجليلية، أما إنجيل يوحنا فيُدعى "الإنجيل الأورشليمي".

قدمت لنا الأناجيل الأولى معاملات السيد المسيح وأحاديثه مع عامة الشعب بلغة البساطة، أما الإنجيل الأورشليمي فإهتم بالأكثر بمعاملات السيد المسيح مع علماء اليهود وزعمائهم وأحاديثه معهم أكثر من أحاديثه مع العامة. لهذا ادعى بعض الدارسين أن مسيح الأناجيل المؤتلفة يكاد يكون غير مسيح الإنجيل الأورشليمي. لكن الحقيقة أنه السيد المسيح الذي يخاطب جماهير الشعب بلغة شعبية تعتمد على الأمثال من واقع حياتهم هو نفسه يخاطب العلماء بلغة أخرى، إذ يُعلن عن ذاته وعن الآب صراحة، حتى قال التلاميذ: "الآن تتكلم علانية ولست تقول مثلاً واحدًا" (29: 16).

14 - وحدة فنية وزمنية معًا.

يمثل إنجيل يوحنا وحدة فنية وزمنية معًا بطريقة فريدة ورائعة. ففيه ترتبط موعظة السيد وأحاديثه بالأحداث ربطًا زمانيًا ومكانيًا وموضوعيًا. يضم هذا الإنجيل سبع معجزات ترتبط بسبعة أحاديث تكشف عن شخص السيد المسيح وأسراره الإلهية.

15 - استخدام طريقة المقابلة.

اتسم الإنجيل بحسب يوحنا باستخدامه طريقة المقابلة، نذكر على سبيل المثال:

أُفتتح سفر التكوين بالعبارة: "في البدء خلق اللَّه السموات والأرض"، وأُفتتح الإنجيل هكذا: "في البدء كان الكلمة... به كان كل شيء".

تمت الخليقة في 6 أيام، وبدأ تجديد الخليقة في اليوم السادس من بدء شهادة يوحنا عنه (19: 1 - 1: 2) إلى دخوله العرس، وتحويل ماء حياتنا إلى خمر محبته.

نجد مقابلة بين نيقوديموس رئيس اليهود المتردد (ص3) والسامرية غريبة الجنس الشاهدة له لتجتذب المدينة كلها (ص4).

عند حديثه عن تناول جسده المقدس نفر منه كثيرون (66: 6)، يقابل هذا تعلق تلاميذه به بالأكثر، إذ يقول القديس بطرس: "يا رب إلى من نذهب، كلام الحياة الأبدية عندك؟ ونحن قد آمنا وعرفنا أنك أنت المسيح ابن اللَّه الحيً" (68: 6، 69).

عند تفتيح عيني المولود أعمى (ص 9) اجتمع الفريسيون معًا لمقاومة السيد، معلنين أنه رجل خاطئ (24: 9)، بينما وقف الأعمى يشهد له أمامهم ويحاجهم. لذا قال السيد: "لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم، حتى يبصر الذين لا يُبصرون، ويعمى الذين يُبصرون" (39: 9).

16 - تنوع في الأسلوب.

من جهة الأسلوب حمل هذا السفر تنوعًا في الأسلوب، كأن يستخدم أحيانًا الرمزية، وأحيانًا الأسلوب القصصي، وأيضًا الحوار الجدلي، والخطابة، والأسلوب الباطني (الصوفي)، والتعليمي... بتناسقٍ وتناغمٍ مع وحدة اللغة مما يدل على أن الكاتب واحد.

من العلامات المميزة لإنجيل يوحنا لغته، فبينما يتكرر تعبير "ملكوت اللَّه" و "ملكوت السماوات" في الأناجيل الإزائية، لا نجده في هذا السفر إلا مرتين. وعلى العكس يتكرر هنا تعبير "أنا هو..." بينما لا نجده في الأناجيل الإزائية.

إنجيل يوحنا والعهد القديم.

يعتبر إنجيل يوحنا أقل الأناجيل اقتباسًا من عبارات العهد القديم بطريقة مباشرة، ففي النص اليوناني: "Nestle Greek Text" نجد فقط 14 عبارة مقتبسة، وفي نص "Westcott - Hort" نجد إشارة إلى 27 عبارة في إنجيل يوحنا مقتبسة عن العهد القديم، يقابلها 70 في مرقس، 109 في لوقا، 124 في متى. مع هذا يرى كثير من الباحثين الارتباط الشديد بين إنجيل يوحنا والعهد القديم، إذ قدم لنا السيد المسيح بكونه المسيا، العبد المتألم، ملك إسرائيل، النبي، الأمر الذي يُطابق الصورة التي قدمها لنا العهد القديم.

يقول Donald Guthrie إن التركيز الشديد الذي وُجه نحو مدى أثر الهيلينية على إنجيل يوحنا جعل دراسة أفكار العهد القديم في هذا السفر لم تستوفِ حقها. ففي الحقيقة قدم لنا الإنجيل شخص يسوع المسيح كجزءٍ من التاريخ اليهودي. وحينما رفضه اليهود، إنما رفضوا شخصًا ينتمي إليهم: "إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله" (11: 1). جاء إلى الهيكل، ومارس سلطانه الذي من حقه، إذ "صنع سوطًا من حبال وطرد الجميع من الهيكل؛ الغنم والبقر..." (15: 2) الخ. لقد أدرك نيقوديموس وهو رئيس لليهود حق السيد كمعلم (1: 3، 2)، وقد حسب السيد نفسه من بين اليهود الذين لديهم سرّ الخلاص، قائلاً للسامرية: "أما نحن، فنسجد لما نعلم، لأن الخلاص من اليهود" (22: 4).

يرى بعض الدارسين أن أسفار العهد القديم، خاصة سفريّ التكوين والخروج وراء هذا السفر، خلال العبور من الحرف إلى الروح، ومن الظل والرمز إلى الحق:

1. يفتتح سفر التكوين بالحديث عن اللَّه كخالق، أوجد العالم كله من أجل محبته للإنسان، ويفتتح إنجيل يوحنا بالحديث عن كلمة اللَّه (اللوغوس) الذي به كان كل شيء. هو الخالق ومُجدد الخليقة، ينير كل إنسانٍ ببهائه.

2. أبرز إنجيل يوحنا الصراع بين السيد المسيح وإبليس الذي كان قتَّالاً للناس منذ البدء (تك 3، يو 44: 8)؛ أعطانا الغلبة عليه، قائلاً: "الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجًا" (31: 12)، فقد جاء من هو من نسل المرأة ليسحق رأس الحية (تك 15: 3).

3. في سفر الخروج كان تابوت العهد يمثل مقدسًا ليسكن اللَّه في وسطهم، وجاء إنجيل يوحنا يُعلن مجد ابن اللَّه المتجسد الحال في وسطنا (14: 1).

4. الحيَّة النحاسية الشافية (عد4: 21 - 9) رمز للسيد المسيح مخلصنا (يو 14: 3).

5. المن السماوي (خر 16) رمز لجسده المبذول (يو 25: 6 - 58).

6. الصخرة واهبة الماء (خر1: 17 - 7) رمز للسيد المسيح القائل: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب" (37: 7).

7. عمود النار الذي كان يضيء لهم (خر21: 13 - 22) يشير إلى القائل: "أنا هو نور العالم" (12: 8؛ راجع 35: 12).

8. في سفر الخروج أعلن اللَّه ذاته لموسى قائلاً: "أنا هو"، أو "أهيه الذي أهيه" (14: 3)، وجاء السيد المسيح في إنجيل يوحنا يؤكد "" أنا هو "أكثر من مرة.

9. احتل الفصح مركز الصدارة في سفر الخروج (ص 12)، خلاله عبر شعب إسرائيل من مصر حيث العبودية لينطلقوا نحو أرض الموعد. وقد جاء إنجيل يوحنا يكشف لنا عن العبور الحقيقي. إنه عبور من هذا العالم إلى الآب (1: 13، 28: 16).

ذكر الإنجيلي أعياد الفصح الثلاثة التي أقيمت أثناء خدمة السيد المسيح، وبدون ذكرها هنا لما استطعنا معرفة مدة إقامته على الأرض نحو ثلاث سنوات ونصف بعد الثلاثين السابقة لعماده.

في العيد الأول (13: 2 الخ) قام بتطهير الهيكل، معلنًا غيرته عليه، مؤكدًا لهم أنه يُقيم الهيكل من جديد في ثلاثة أيام (خلال قيامة هيكل جسده).

في العيد الثاني (4: 6 الخ) أعلن عن تقديم جسده المبذول مأكلاً حقًا للتمتع بالحياة الأبدية.

في العيد الثالث (31: 12) جاءت ساعته ليتمجد خلال ارتفاعه على الصليب فيهب مؤمنيه حياة أبدية.

10. أعطى مفاهيم جديدة للعهد القديم، فإذ كان اليهود يعتزّون بأنهم أبناء إبراهيم صاحب العهد، وحافظو الشريعة خاصة يوم السبت. أوضح لهم أنه هو الابن الوحيد الجنس واهب البنوة الحقيقية، وأنه هو رب السبت؛ أما هم فليسوا أبناء إبراهيم بل أبناء إبليس بسبب جحودهم ورغبتهم في قتله، وأنهم ليسوا حافظي السبت بل موسى نفسه يشكوهم (45: 5).

11. حث السيد المسيح اليهود على قراءة العهد القديم، ليُدركوا أنها تشهد له، إذ يقول: "فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي تشهد لي، ولا تريدون أن تأتوا إلىّ لتكون لكم حياة" (39: 5، 40). لقد أكد لهم أن من يُصدق موسى يُصدقه هو، لأن موسى كتب عنه (46: 5)، وهو بهذا يعني بوضوح الاستمرارية بين العهدين.

12. في وضوح أظهر هذا الإنجيل أن ما تحقق بالسيد المسيح من أحداث تمس خلاصنا سبق فأنبأ عنها أنبياء العهد القديم، مثل:

دخول السيد المسيح أورشليم منتصرًا (14: 12).

جحْد اليهود له (38: 12، 40).

عدم كسر ساقيّ السيد (36: 19).

رؤية إبراهيم يومه وتهليله (56: 8).

رؤية إشعياء لمجده (41: 12).

نبوة إشعياء عن يوحنا السابق (23: 1).

يقول Guthrie: [إن استخدام ربنا للعهد القديم وتعليقات الإنجيل تفترض أن الكتاب المقدس كله يشير إلى المسيح، فهو متمم للقديم؛ الحقيقة التي نسترشد بها في تفسيرنا مفاهيم الإنجيل.].

إنجيل يوحنا والغنوسية.

مجرد نظرة سريعة على إنجيل يوحنا تكشف لنا عن سمة مختلفة تمامًا عن بقية الأناجيل. وإن كان قد قدم حياة السيد المسيح في فلسطين، وأوضح أن فيه قد تحققت نبوات العهد القديم، لكن إلى وقت قريب كان النقاد المحدثون يحسبون أن شخصية السيد المسيح كما عرضها هذا الإنجيل أقرب إلى الجو الهيليني الغنوسي منه إلى مسيح الأناجيل الأخرى. وإن كانت هذه النظرة قد تغيرت تمامًا لدى كثير من الدارسين كما سنرى.

ظن بعض النقاد أن الغنوسية التي تشدد على المعرفة الباطنية كطريق للخلاص لها تأثيرها على كاتب السفر. غير أن الغنوسية ظهرت في القرن الثاني الميلادي، بينما سُجل السفر في نهاية القرن الأول. قد يعترض البعض بأن جذور الغنوسية بدأت في الوثنية واليهودية مبكرًا جدًا، وقبلها بعض المسيحيين بطريق أو آخر منذ القرن الأول.

على أي الأحوال جاء الإنجيل يحارب الأفكار الغنوسية التي تنكر حقيقة بشرية المسيح وآلامه. ففي يو34: 19 طعنه أحد الجنود بحربة في جنبه فخرج للحال دم وماء. أية واقعية لبشريته مثل هذه الواقعة؟ كما قال أيضًا: "الكلمة صار جسدًا" (يو14: 1). وفي رسالتيه الأولى (2: 4 - 3) والثانية (ع7) أن من لا يعترفون بيسوع الذي جاء في الجسد فهم مضلّون وليسوا من اللَّه.

يدعي بعض الدارسين أننا لا نجد في هذا السفر مسيح الأناجيل الأخرى حيث الأمثال والتعاليم السلوكية البسيطة، إنما نجد رموزًا وتعاريف معينة: مثل أنا هو الخبز، أنا هو النور، الباب، الراعي، الحق، الحياة، الطريق، الكرمة، كما نجد أسماء مثل "اللوغوس"، "الحق"، "المعرفة". مع استخدام الثنائية مثل: النور والظلمة، الحق والباطل، الروح والجسد... هذا كله دفع الدارسين للقول بأن السيد المسيح في هذا الإنجيل كأنما يسير في العالم الهيليني في القرن الثاني، أو أن الكاتب يحمل فكرًا غنوسيُا.

حقًا إن يسوع بحسب إنجيل يوحنا يُقدم نفسه بالعبارة الخشوعية القدسية المتكررة: "أنا هو". جاء إلى عالم ظلمة يكره النور، ودخل عالم الباطل بكونه الحق، وعالم الكراهية والبغضة بكونه الحب؛ بحضرته ميّز البشرية إلى فريقين: فريق يقبل النور وآخر يهرب من النور، الأول يؤمن بالحق والآخر يرفضه. لكن هذا الفكر يختلف عن الثنائية الغنوسية، إذ لم يُقدم إنجيل يوحنا فكرًا خاصًا بأصل النور وأصل الظلمة، وهذا ما كان يشغل بال الغنوسيين.

كان يمكن لهذه الدراسات أن تبقى عقبة تشكك بعض البسطاء في قانونية هذا السفر، ونسبه للقديس يوحنا الإنجيلي، لكن اللَّه أراد أن يحوّل هذه الدراسات إلى تثبيت المؤمنين بالأكثر خلال اكتشافين هامين في حوالي سنة 1947.

أولاً: ظهور مخطوطات البحر الميت، والتي تُسمى مخطوطات قمران التي قدمت للعالم مكتبة عن الجماعة الأسينية كشفت عن حقبة زمنية من حوالي سنة 140ق. م إلى 68م. هذه المستندات أظهرت أن الأفكار والتعبيرات التي وردت في إنجيل يوحنا هي فلسطينية ترجع إلى القرن الأول الميلادي.

ثانيًا: اكتشاف مكتبة كاملة غنوسية في منطقة نجع حمّادي بصعيد مصر، قدم للعالم الغنوسية من مصادرها الرئيسية لأول مرة، بعد أن كنا نتعرف عليها خلال كتابات الآباء المقاومين لها، ونسمع عن أسماء كتبها دون وجود نصوصها كاملة. هذا الاكتشاف عرّفنا الفارق الشاسع بين عالم الغنوسية وإنجيل يوحنا، والتمييز القاطع بينهما، إذ لم يعد هناك بعد أي شك بأن الإنجيل اعتمد على مصادر غنوسية، بل ظهر أن ما جاء في السفر من كلمات غنوسية هي يهودية فلسطينية بحتة اُستخدمت في القرن الأول.

قام بعض الدارسين مثل Quispel وBarret وBraun بدراسات مقارنة بين إنجيل يوحنا والمخطوطات الغنوسية التي وُجدت في نجع حمّادي مثل "إنجيل الحق" (يرجع لسنة 140م)، "إنجيل توما"، من جهة الأفكار والتعبيرات، فخرجوا بالنتائج التالية:

  1. أنه يستحيل وضع إنجيل يوحنا وسط الأعمال الغنوسية التي وُجدت بنجع حمّادي، لكن يمكن القول بأن الأعمال الغنوسية استخدمت إنجيل يوحنا في القرن الثاني وقدمت أفكارًا غير ما وردت بالإنجيل.
  1. هناك تمايز قوي بين الإنجيل وهذه الأعمال من جهة الأفكار ومن جهة التعبيرات.
  1. توجد بعض تعبيرات مشتركة بين الإنجيل وهذه الأعمال، لكن الإنجيل قدمها بمفهومٍ معين والأعمال الغنوسية قدمتها بمفاهيم أخرى وباستعمالات مختلفة تمامًا.

هذا بالنسبة للعلاقة بين إنجيل يوحنا وبين الأعمال الغنوسية المسيحية (الهرطوقية). لكن ربما نتساءل: هل يمكن أن يكون هذا الإنجيل قد فتح الباب للغنوسية؟ أو أعدّ الطريق لها؟

يرى بعض الدارسين أن الغنوسيين يمكن أن يكونوا قد تأثروا باليهودية خلال إساءة فهم بعض نصوص العهد القديم وليس إنجيل يوحنا، فإن كان إنجيل يوحنا قد ميّز بين النور والظلمة لكنه لم يُقدم فكرًا خاصًا بأصل النور وأصل الظلمة.

ركّز إنجيل يوحنا على "الإيمان"، وحسب "المعرفة" هبة إلهية تُقدم خلال الإعلان الإلهي، الأمر الذي يتنافى مع الفكر الغنوسي.

إنجيل يوحنا والهيلينيّة.

أُتهم القديس يوحنا - أو كاتب السفر - أنه قام بتقديم مسحة هيلينية للمسيحية حتى يمكن للعقل الهيليني أن يتقبلها، مقدمين في ذلك دليلاً وهو استخدامه لتعبير "الكلمة" أو "اللوغوس" نقلاً عن الفلسفة اليونانية.

يُرد على ذلك بأن القديس يوحنا لم يستخدم هذا التعبير كما جاء في الفلسفات اليونانية أو في الغنوسية أو كما جاء عند فيلون (مفكر يهودي إسكندري قدم الفكر اليهودي بطريقة هيلينية رمزية)، وإنما حمل مفهومًا كتابيًا، على ضوء ما جاء في العهد القديم عن "الحكمة" التي خرجت إلى البشرية لتقيمهم مسكنًا إلهيًا، كما يقول سفر الأمثال:

"الحكمة تنادي في الخارج، في الشوارع تُعطي صوتها"؛

"الحكمة بنت بيتها، نحتت أعمدتها السبعة" (1: 9).

"اللوغوس" في الفكر الهيليني يمثل العقل المدبّر الكامن في الكون، وهو أول الخليقة، أما القديس يوحنا فيحدثنا عن "اللوغوس" بكونه نطق اللَّه الذاتي، فهو الابن الوحيد، من ذات الآب وفي ذاته، وليس خارجًا عنه، بل هو واحد معه في الجوهر. لا نجد في الفكر الهيليني كلمة اللَّه متجسدًا يحلّ بين البشر الذي يعلن لهم أسراره الإلهية، هذا تمايز بين "الكلمة" في الفكر الهيليني و "الكلمة" في الإنجيل.

إذا دققنا في "اللوغوس" كما أعلنه القديس يوحنا في إنجيله نجده مرادفًا للحكمة كما جاء في العهد القديم:

ا. أزلي (أم 22: 8؛ ابن سيراخ 9: 24؛ حك 5: 9) (راجع يو1: 1).

ب. قائم في السموات، ينزل إلى الأرض، ليسكن وسط إسرائيل (أم 31: 8؛ باروخ 37: 3؛ ابن سيراخ8: 14) (يو 14: 1؛ 41: 3؛ 38: 6؛ 28: 16).

ج. فيض مجد القدير (حك 25: 7) (يو 14: 1؛ 15: 8؛ 4: 11؛ 5: 17).

د. يعلم الناس الإلهيات (حك 16: 9)، وما يُرضي اللَّه (حك 4: 8)، ويقودهم إلى الحياة (أم 25: 8، ابن سيراخ 12: 4) (يو 19: 3؛ 40: 7؛ 19: 14).

ه. ينطق بصيغة المتكلم "أنا" (أم 8، ابن سيراخ 24).

ز. ينادي الإنسان ويخرج إليه (أم 1: 8، حك 16: 6) (يو 14: 5؛ 35: 9). ويدعو تلاميذه "أبنائي" (أم 32: 8؛ ابن سيراخ 18: 6) (يو 33: 13).

إنجيل يوحنا والسيد المسيح.

للأسف انهمك كثير من النُقاد المحدثين في الكشف عن مدى ارتباط هذا السفر بالفكر الهيليني واللغة والثقافة الهيلينية، حتى ظن البعض أن الكاتب لا يمكن أن يكون يهوديًا. غير أن دراسة هذا السفر في علاقته بالسيد المسيح تكشف عن الإنجيلي وقد انشغل بالكشف عن شخص ربنا يسوع المسيح:

أولاً: بكونه ملك اليهود، الملك الروحي، المسيَّأ الذي ترقبه الأنبياء وانشغل به العهد القديم.

"يا معلم أنت ابن اللَّه، أنت ملك إسرائيل" (49: 1)؛

"مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل" (13: 12)؛

"قال له: أنت ملك اليهود… أفأنت ملك؟ فأجـاب يسوع: أنت تقول إني ملك" (33: 18 - 37)؛

"كل من يجعل نفسه ملكًا يُقاوم قيصر" (12: 19)؛

"أأصلب ملككم؟!" (15: 19)؛

"كان مكتوبًا: يسوع الناصري ملك اليهود" (19: 19).

ثانيًا: جاء السفر يؤكد أن يسوع هو المسيّا 21 مرة، بينما في إنجيل متى 19 مرة؛ فما نطق به السيد وما فعله إنما يحقق الرجاء المسياني لشعب اللَّه:

جاء يُطهّر هيكله بأورشليم (13: 2 - 22)؛

هو ذاك "الذي كتب عنه موسى والأنبياء" (45: 1؛ تث 18: 18

الذي تحقق فيه قول إشعياء (5: 35، 6) حيث فتح أعين العميان (6: 9)، وجعل الصُم يسمعون والعرج يمشون الخ.

واهب الحرية (36: 8؛ إش 1: 61)؛

النور الحقيقي الذي يُشرق على الجالسين في الظلمة (5: 1، 9؛ 12: 8؛ 46: 12؛ إش 1: 9؛ 1: 60)؛

ينبوع الحياة الحيّة يُعطى لارتواء شعبه (37: 7 الخ؛ ص4، خر 1: 17 - 7؛ إش 1: 55؛ 11: 58).

الملك الراعي الذي يفتقد شعبه بنفسه (ص 10؛ حز 34

ديّان الأحياء والأموات، وهو لقب يهودي خاص باللَّه (يو 11

السِفر في مجمله يكاد يردد ما قالته المرأة السامرية: "أنا أعلم أن مسيّا الذي يُقال له المسيح يأتي... ألعل هذا هو المسيح؟!" (25: 4، 29).

ثالثًا: اتسم هذا السِفر بدعوة السيد المسيح نفسه: "أنا هو"، أو تقديم ذاته للبشرية. فإن "أنا هو" في العهد القديم تُشير إلى اللَّه الواحد العامل المخلص (خر 14: 3؛ 2: 10؛ إش 8: 42؛ 10: 43 - 11؛ حز 7: 6) لذا جاءت كلمات السيد المتكررة في هذا السفر "أنا هو" تُعلن شخصه الإلهي كمصدر الخلاص:

"أنا هو خبز الحياة" (35: 6)؛

"أنا هو نور العالم" (12: 8؛ 5: 9)؛

"أنا هو الشاهد لنفسي" (18: 8)؛

"أنا باب الخراف" (7: 10)؛

"أنا هو الراعي الصالح" (11: 10، 14)؛

"أنا الكرمة الحقيقية" (1: 15، 5)؛

"إني ملك" (37: 18).

رابعًا: الخط الواضح في هذا الإنجيل منذ بدايته حتى نهايته هو تقديم السيد المسيح بكونه الملكوت بعينه، فلم يأتِ بذكر الملكوت إلا مرتين (3: 3 - 5؛ 36: 18) لكنه يُعلن عنه خلال تمتعنا بالمسيح نفسه ملكوتنا الأبدي.

"كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية" (40: 6)؛

"ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي" (6: 14)؛

"الذي رآني فقد رأى الآب" (9: 14 الخ.).

هذا الخط الواضح في كل السفر قدمته الأناجيل الأخرى كنتيجة نهائية ظهرت في أواخر أيام السيد المسيح على الأرض.

خامسًا: لم يُقدم السيد المسيح كمشرّع لوصايا أو طقوس قدر ما قدم شخصه كسرّ حياة. السيد المسيح هو "الحياة" (6: 14؛ 4: 1)؛ يُعلن لقطيعه سرّ مجيئه: "أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة، وليكون لهم أفضل" (10: 10)، "إني أنا حيّ، فأنتم ستحيون" (19: 14). وقد أكّد لمرثا: "أنا هو القيامة والحياة" (25: 11)، جاء ليغرسنا فيه كأغصان في الكرمة، فنحمل حياته فينا (1: 15 - 8).

يتحقق تمتعنا بالسيد المسيح "الحياة" خلال التغيير الكامل لطبيعتنا في سرّ المعمودية (3: 3 - 8)، واتحادنا معه وثبوتنا فيه في سرّ الأفخارستيا (52: 6 - 58)، ونوالنا المغفرة المستمرة في سرّ التوبة (23: 20). هذه جميعها تحققت بقوة الصليب واستحقاقات الدم.

سادسًا: مع كل اصحاح يقدم لنا القديس يوحنا شخص يسوع المسيح من زاوية معينة تمس خلاصنا وتشبع كل احتياجاتنا.

من إنجيل يوحنا نتفهم ربنا يسوع المسيح من جهة لاهوته خالق كل الخليقة؛ ومن جهة ناسوته لأجل إصلاح الخليقة الساقطة.

القديس أغسطينوس.

من هو يسوع؟

يو 1: الكلمة الإلهي المتجسد، واهب سلطان البنوة لله.

يو2: ابن الإنسان صاحب السلطان الإلهي، مفرح النفوس ومجددها.

يو3: المعلم الإلهي القدير، واهب الميلاد الجديد.

يو4: رابح النفوس العجيب.

يو5: الطبيب العظيم.

يو6: خبز الحياة.

يو7: ماء الحياة.

يو8: نور العالم.

يو9: واهب الاستنارة.

يو10: الراعي الصالح.

يو11: واهب الحياة والقيامة.

يو12: ملك إسرائيل.

يو13: غاسل الأرجل.

يو14: المعزي السماوي.

يو15: الكرمة الحقيقية.

يو16: مُرسل الروح القدس.

يو17: رئيس الكهنة العظيم.

يو18: المسيا المتألم.

يو19: الملك المرفوض.

يو20: غالب الموت.

يو 21: مقيم النفوس الساقطة ورافعها إلى السماء.

لا تظن (في فهمك لأسرار الثالوث) أنك تفعل شيئًا فوق طاقة الإنسان. فإن الإنجيلي يوحنا نفسه فعل ذلك.

لقد حلق فيما وراء الجسد، وراء الأرض التي وطأ عليها، وراء البحار التي تطلع إليها، وراء الهواء الذي تطير فيه الطيور، وراء الشمس والقمر والكواكب، وراء كل الأرواح غير المنظورة، وراء ذهنه، وذلك بذات نفسه العاقلة، بسموه فوق كل هذه سكب نفسه عاليًا أينما وجد.

القديس أغسطينوس.

إنجيل يوحنا والآب.

إن كان السيد المسيح هو مركز هذا السفر، فقد أكّد الإنجيلي أنه هو كلمة اللَّه الأزلي. جاء إلينا يُعلن لنا عن ذاته ليُمارس العمل المسياني لحسابنا، مقدمًا لنا الخلاص (47: 20)، واهبًا إيّانا الحياة (10: 10)، بكونه من فوق وفوق الكل (3: 3). لكن الإنجيلي أكّد دور الآب حتى لا نسقط فيما سقط فيه الغنوسيون، فالابن الواحد مع أبيه بكونه كلمته وابنه في نفس الوقت قد أرسله الآب (36: 5؛ 57: 6؛ 42: 11؛ 21: 20). جاء يُعلن كلماته (34: 3؛ 29: 6؛ 3: 17)، ويمارس أعماله (36: 10). من يراه يرى الآب، ومن يؤمن به ينظر الآب (23: 5 الخ؛ 44: 12 الخ، 9: 14).

إن كان هذا السفر هو إنجيل المسيّا كلمة اللَّه المخلص، فهو واحد مع أبيه يتمم إرادة الآب التي هي واحدة مع إرادته. هذا ما سنلاحظه بأكثر توسع خلال دراستنا للسفر.

يوحنا مثل نسر يحلق عاليًا ويبلغ إلى الآب نفسه ويقول: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند اللَّه، وكان الكلمة اللَّه" (1)... شرح الكاتب البتول أسرارًا لم يستطع المتزوجون أن يقوموا بها.

القديس جيروم.

إنجيل يوحنا والروح القدس.

يسمى البعض هذا السفر: "إنجيل الروح القدس"، فقد جاء الحديث عن الروح القدس خلال السفر واضحًا وبقوة.

في حوار السيد المسيح مع نيقوديموس تحدث السيد عن دور الروح القدس في الولادة الجديدة (ص 3). لقد أوضح الرب الفارق بين الولادة الطبيعية (الجسدية) والولادة الروحية، وكان يصعب حتى على هذا المعلم اليهودي نيقوديموس أن يتفهم عمل الروح القدس، فقدم له السيد مثلاً ملموسًا مشبهًا الروح بالريح التي "تهب حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب، هكذا كل من وُلد من الروح" (8: 3).

حديث السيد هنا عن الميلاد بالروح القدس يعتبر أحد معالم إنجيل يوحنا الرئيسية. وقد جاء منسجمًا مع السفر ككل، فإننا لن ندرك لاهوت السيد المسيح بدون الروح القدس، ولا أن نمارس العبادة للَّه بالروح والحق (24: 4) من عندياتنا، وإنما بروح الرب الساكن فينا.

لقد رأى السيد المسيح الجماهير تمارس العيد بطقوسه دون الشبع الروحي الداخلي، لذا وقف في اليوم الأخير من العيد يَعد بتقديم روحه القدوس كمياه حيّة تنفجر في داخل المؤمنين (37: 7 - 39).

وفي حديثه الوداعي (ص14 - 17) لم يجد السيد المسيح ما يقدمه لتعزية تلاميذه قبيل تسليمه سوى الوعد بالروح القدس، بكونه الباراقليط المعزي الذي سلمه السيد المسيح لكنيسته، ليعمل فيها ويُشكّلها على الدوام، فتصير على مثال عريسها:

بكونه المحامي Advocate [الترجمة الحرفية للكلمة اليونانية: باراقليط]، هو روح الحق الذي يشهد للسيد المسيح، لا بالكلام النظري، وإنما بكونه يُشكِّل طبيعتنا على صورة السيد المسيح ومثاله.

هو المتحدث في غياب رب المجد يسوع جسديًا (بصعوده إلى السماء)؛ يعلّم التلاميذ ويقودهم ويرشدهم إلى كل الحق ويشهد خلالهم (26: 14؛ 13: 16 الخ).

هو المعزّي (6: 16 الخ.) وسط حملنا صليب رب المجد يسوع.

إنجيل يوحنا والكنيسة.

يرى كثير من الدارسين أن الأناجيل المقدسة السابقة قُدمت للعالم، سواء اليهودي أو الروماني أو اليوناني، ليتعرف على السيد المسيح بكونه الملك الروحي والخادم الحقيقي والصديق الفريد لكل البشر، فيتقبل الكل الإيمان به، وينعمون بعمله الخلاصي، فيرتفعون من العبودية إلى البنوة للَّه. أما إنجيل يوحنا فكُتب في النهاية للكنيسة، لذا دُعي "إنجيل الكنيسة"، يقدم لنا "مسيح الكنيسة"، بالرغم من عدم استخدامه لتعبير "الكنيسة".

كأن الفكرة اللاهوتية الرئيسية هنا هي الربط بين السيد المسيح التاريخي كما ظهر في حياته على الأرض، وبين مسيح الكنيسة الحال فيها ليعمل فيها. بمعنى آخر، إن كان السيد المسيح "كلمة اللَّه المتجسد" هو مركز الإنجيل، فإن كنيسته بكرازتها وعبادتها خاصة الأسرار الكنسية تحتل مركزًا رئيسيًا فيه، إذ يحدثنا عن:

1. إرساليتها (يو31: 4 الخ؛ 20: 12 الخ).

2. عبادتها "بالروح والحق"، حيث أُنتزع المجد عن هيكل أورشليم ليُعلن خلال كنيسة المسيح المصلوب القائم من الأموات (14: 1، 51؛ 13: 2 الخ؛ 19: 4 الخ).

3. من جهة أسرار الكنيسة، نجد القديس يوحنا يعطي أهمية خاصة بالحديث عن الأسرار الكنسية مثل المعمودية والأفخارستيا والكهنوت:

  1. قدم معمودية يوحنا كشهادة للمسيح (8: 1) وطريق تمهيدي لمعمودية المسيح بالروح القدس (15: 1، 23: 25).
  1. في عرس قانا الجليل (1: 2 - 12)، كان تحويل ماء التطهير اليهودي إلى خمر علامة مسيانية أن ساعته قد جاءت (4: 2)، وربما يشير إلى الإفخارستيا.
  1. تحدث مع نيقوديموس صراحة عن سرّ المعمودية (1: 3 - 7).
  1. قدم لنا الإنجيلي في صراحة حديثه عن الافخارستيا (22: 6 - 59). وفي إشباع الجماهير (1: 6 - 13) نرى السيد المسيح مشبع مؤمنيه خلال سرَّ الإفخارستيا في كنيسته.
  1. ربما أعلن عن سرّ العماد خلال شفاء مفلوج بيت حسدا (1: 5 - 14) حيث تُشفى الطبيعة البشرية، وخلال تفتيح عيني المولود أعمى (1: 9 - 7) بغسله في بركة سلوام التي تعني المُرسل.
  1. نزول الدم والماء من جنب السيد المسيح المصلوب (34: 19) يشير إلى وحدة السرّين، أي المعمودية والأفخارستيا، وتكاملهما.
  1. تحدث عن سرّ الكهنوت (20: 22 - 23).

4. في الأناجيل السابقة تُقسَّم البشرية إلى صالحين وأشرار، أما هنا فيكتب عن "مسيح الكنيسة"، مميزًا بين مؤمنين وغير مؤمنين. بالإيمان لا نُدان (18: 3)، بل ننال الحياة الأبدية (36: 3)، وننتقل من الموت إلى الحيـاة، لكنه ليس الإيمان النظري المجرد (34: 13، 35)، بل الإيمان الحي المرتبط بالحب وحفظ وصايا الرب (14: 21 - 24).

5. الوعد بالروح القدس في حديث السيد المسيح الوداعي، بكونه معزي الكنيسة وشفيعها والقائد لها (ص14 - 17).

6. قدم المسيح نفسه تكرارًا "أنا هو"، بكونه موضوع حياة ومجد ورجاء في الحياة العتيدة، كما في حياة كنيسته الحاضرة.

إنجيل يوحنا وجامعية الكنيسة.

إذ كُتب هذا السفر للكنيسة في العالم كله، حمل فكر "الكنيسة الجامعة"، ولم يحدّها بجماعة اليهود. يظهر هذا الفكر واضحًا خلال السفر كله، إذ نجد على سبيل المثال:

1. يقدم المسيح بكونه:

"حمل اللَّه الذي يرفع خطية العالم" (29: 1).

"كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتيًا إلى العالم" (9: 1).

"وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد اللَّه، أي المؤمنون باسمه" (12: 1).

"هكذا أحب اللَّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (16: 3).

"وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليّ الجميع" (32: 12).

"أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة، وليس عن الأمة فقط، بل ليجمع أبناء اللَّه المتفرقين إلى واحد" (51: 11، 52).

"لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني: أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (40: 6).

"لي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة، ينبغي أن آتي بتلك أيضًا، فتسمع صوتي، وتكون رعيّة واحدة وراعٍ واحدٍ" (16: 10).

"لست أسأل من أجل هؤلاء فقط، بل أيضًا من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم، ليكون الجميع واحدًا" (20: 17، 21).

"طوبى للذين آمنوا ولم يروا" (19: 20).

2. ظهرت جامعية الكنيسة من رفض اليهودية، وطن المسيح، لمخلصها، ورغبتها في قتله (3: 4، 44، 1: 7 - 8؛ 7: 11 - 16). لقد صارت أورشليم عاصمة إسرائيل ومدينة المسيّا (12: 12 - 19)، مدينة عدم سلام (19: 1 الخ، 23: 5). الرب يرفض هيكلها (59: 8)، وينطلق من أسوارها إلى الجلجثة (17: 19).

3. عوض "هيكل أورشليم" بيت أبيه (16: 2) المجيد (14: 12)، والذي يأتي منه الخلاص (22: 4)، يعلن مجد هيكل جسده (23: 2 الخ) المقدم سرّ قيامة لكل البشرية.

4. تحول المدينة الهرطوقية "السامرة" إلى موضع للعبادة بالروح والحق (4: 23 الخ).

5. الحقول المبيضة للحصاد تشير إلى الحصاد المقبل، رمز العالم غير اليهودي.

6. إذ يكتب الإنجيلي للكل حتى غير اليهود يقدم تفسيرًا للكلمات: Rabbi 38: 1، مسيا (41: 1)، قيافا (42: 1). كما يوضح طرق اليهود في التطهير (6: 2)، وفي الدفن (40: 9)، وعلاقتهم بالسامريين (9: 4)، والفصح كعيدٍ يهودي (4: 6). نجده أيضًا يقدم شرحًا جغرافيًا لبيت حسدا (2: 5) وبلاط بيلاطس بنطس الذي يدعى بالعبرانية جباثا (13: 19)... هذا كله يكشف أنه يكتب للناطقين باليونانية في أفسس سواء كانوا من أصل يهودي أو أممي، مؤمنًا بالكنيسة الجامعة التي لا تحد بالشعب اليهودي.

إنجيل يوحنا والحياة الإنقضائية (الأخروية).

بينما توجه الأناجيل الإزائية إلى ملكوت الله الذي يتحقق بالأكثر في الأيام الأخيرة حيث مجيء المسيح الثاني القريب، إذا بالإنجيلي يوحنا يؤكد أن المؤمن يدخل إلى الحياة الأبدية خلال حياته اليومية.

لم يصف لنا هذا الإنجيل انقضاء الدهر ونهاية العالم، أو مجيء السيد المسيح الأخير للدينونة، لكنه كشف عن الحياة الإنقضائية خلال العمل الخلاصي الذي نتمتع به بالصليب، فنتذوق الحياة الأبدية خلال عربونها هنا، ونختبر أمجادها كحياة تمارس هنا:

  1. إعلانه عن مجد المسيح (1: 14؛ 2: 11؛ 11: 4، 40)، إنما يدخل بالكنيسة إلى تذوق عربون الحياة الأبدية التي فيها نرى السيد في كمال مجده ونتعرف على أسراره.
  1. الخلاص في حقيقته هو ارتفاع فوق الزمن، وغلبة على الموت، خلال الإيمان العامل، إذ يقول: "الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة" (24: 5).
  1. تتحقق الحياة الإنقضائية بالنسبة لنا خلال ما نلمسه من الآتي:

أ - أن رئيس هذا العالم قد دين (18: 3، 19).

ب - أن رئيس هذا العالم يطرح خارجًا (31: 12؛ 33: 16).

  1. يعلن الإنجيلي أن ملء الزمان قد جاء والتاريخ قد تم خلال موت السيد المسيح على الصليب.

من يتذوق "إنجيل يوحنا" يجد نفسه قد ارتفع إلى الحياة الإنقضائية فعلاً - خلال عربونها - فيشاهد في أعماقه المسيح الممجد، ويختبر الغلبة الحقيقية على الموت كما على محبة هذا العالم، وعلى عدو الخير إبليس الذي تسلط على العالم زمانًا، والآن قُيّد وطرح خارجًا، ليس له موضع في داخلنا. صليب ربنا يسوع المسيح دخل بنا إلى هذه الخبرة السماوية الحية.

ألا ترون أنه ليس بدون سبب يتحدث هذا الإنجيلي إلينا من السماء؟ انظروا كيف أنه منذ البادية يسحب نفوسنا ويهبها أجنحة ويصعد بأذهان سامعيه معه. إذ يصعد بها إلى ما هو أعلي من كل المحسوسات، أعلي من الأرض والسماء، ويمسك بيدها ويقودها فوق الملائكة أنفسهم، فوق الشاروبيم والسيرافيم، فوق العروش والرؤساء والسلاطين؛ وفي اختصار يقودها إلى رحلة تعبر فوق كل المخلوقات.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

ظنC. H. Dodd أن يوحنا أراد تصحيح مفهوم النظرة الكنسية الاسخاتولوجية (الإنقضائية)، فقدم "إسخاتولوجي محقق realized eschatology"، بمعنى أن الاسخاتولوجي هو حقيقة حاضرة أكثر منه مجرد رجاء مستقبلي. لكن الدارسين رفضوا هذا كغاية رئيسية للإنجيل، خاصة وأن السفر مع تقديمه للحياة الأخروية كحياة تُختبر في الحاضر خلال عربونها لم يتجاهل الحياة الأبدية الأخروية المستقبلية (25: 5 - 29)، إنما يسير الاتجاهان جنبًا إلى جنب.

إنجيل يوحنا والآيات.

نجد في الأناجيل السابقة فيضًا من الآيات التي صنعها السيد المسيح، خلالها يعلن حنانه الإلهي ومحبته الفائقة للبشر، والرسول هنا بالرغم من معرفته لآياتٍ كثيرة صنعها رب المجد لكنه انتقى منها سبع آيات (والبعض يعتبرها ثمان آيات) ليعرضها في إنجيله، فنتقبل الإيمان بالسيد المسيح. إذ يقول: "وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب، وأما هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن اللَّه، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياه باسمه" (30: 20، 31). "وأشياء أُخر كثيرة صنعها يسوع إن كُتبت واحدة واحدة، فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة" (25: 21).

واضح إذن أن السيد قدم آيات ليدخل بنا إلى الإيمان، فننعم بالحياة الأبدية، الأمر الذي لمسه نيقوديموس، فقال: "ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن اللَّه معه" (2: 3). كما أكد السيد المسيح نفسه: "لا تؤمنون إن لم تروا آيات وعجائب" (48: 4). فقد أشهد هذه الآيات ضد الجاحدين، قائلاً: "لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالاً لم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطية" (24: 15).

لقد أدرك رؤساء الكهنة والفريسيون دور هذه الآيات في حياة الناس، إذ قالوا: "ماذا نصنع، فإن هذه الإنسان يعمل آيات كثيرة، إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به؟!" (47: 11، 48).

المعنى

المعجزة

تجديد الطبيعة البشرية واتسامها بالفرح الأبدي.

1 - تحويل الماء خمرًا 1: 2 - 11.

الإيمان شرط الحياة الأبدية.

2 - شفاء ابن الغني 47: 4 - 54.

قوة الحياة الجديدة.

3 - شفاء مفلوج بيت حسدا 1: 5 - 9.

المسيح الخبز الحي.

4 - إشباع الجموع 14: 6 - 1 (مـت 13: 14 - 21؛ مر 32: 6 - 44؛ لو 10: 9 - 17).

المسيح قائدنا في الطريق الملوكي.

5 - المشي على المياه 15: 6 - 21 (مت 22: 14 - 36، مر 45: 6 - 56).

المسيح نور الحياة.

6 - شفاء المولود أعمى 1: 9 - 41.

المسيح قيامتنا غالب الموت.

7 - إقامة لعازر 1: 11 - 44.

الشركة الكاملة في الحياة الجديدة.

8 - صيد السمك 1: 21 - 14.

قانونية السفر.

قبلت الكنيسة الجامعة هذا الإنجيل سفرًا قانونيًا منذ البداية ولم يلحق ذلك أدنى شك. فقد جاءت الشهادات الكنسية، حتى من الهراطقة والوثنيين تنسب السفر للقديس يوحنا الرسول، منذ بدء القرن الثاني، أي بعد كتابته بفترة وجيزة، ولم يشذ عن ذلك سوى جماعة الألوجين "Algi" كما أشار القديس أبيفانيوس، الذين رفضوا السفر لتعارضه مع عقيدتهم في اللوغوس Logos. ولا يُعرف إن كان الألوجيون هؤلاء هم جماعة أم مجرد شخص، لكن على أي الأحوال لم يكن لهم صوت مسموع في العالم أو في الكنيسة.

أولاً: شهادة الكنيسة الجامعة والهراطقة.

جاء إنجيل يوحنا ضمن المخطوطات اليونانية القديمة الخاصة بالعهد الجديد كالنسختين السينائية والفاتيكانية، المنسوختين عن أقدم منهما. كما جاءت المخطوطات الخاصة بالترجمة للعهد الجديد والتي ترجع أحيانًا للقرن الثاني أو الثالث مثل السريانية واللاتينية تضم هذا السفر. أما عن شهادة آباء الكنيسة الأولي، فلا نجد بينهم صوتًا يتشكك في قانونيته أو نسبته لغير القديس يوحنا، نذكر على سبيل المثال:

القديس إيرينيؤس أسقف ليون في القرن الثاني، بنى دفاعه ضد الغنوسيين على إنجيل يوحنا، وشهد أن الأناجيل القانونية أربعة، كما شهد أن القديس يوحنا قام بنشره في أفسس.

اقتطف بعض الآباء عبارات مباشرة من هذا السفر، أو استخدموها دون ذكر النص، كما جاء في رسالة برناباس، كتاب الراعي لهرماس، وفي بابياس، واكليمنضس الروماني، والقديس يوستين الشهيد، وثاوفيلس الأنطاكي، والقديس أغناطيوس الأنطاكي، والقديس بوليكربس، والعلامة ترتليان، والعلامة أوريجينوس، والقديس اكليمنضس الإسكندري.

جاءت شهادة وثيقة موراتورى Muratorian Canon في القرن الثاني (حوالي 170 - 200 م) عن كاتب السفر أنه القديس يوحنا، لها قوتها.

اقتبس تاتيان تلميذ القديس يوستين الكثير من هذا السفر، وبدأ عمله "الدياتسرون Diatessaron" بافتتاحية إنجيل يوحنا.

اقتبس منه الكثير من الهراطقة مثل هيراكليون ومعلمه فالنتينوس وباسيليدس (سنة 125 م)، وأيضًا الكتابات الغنوسية مثل إنجيل الحق.

ثانيًا: شهادة الوثنيين.

استمد الفيلسوف الوثني صلسس، عدو المسيحية، في كتابه ضدها حوالي سنة 178م المادة التي هاجم بها من الأناجيل الأربعة، ويذكر تفاصيل لم ترد إلا في إنجيل يوحنا.

اعتراضات على نسبته للقديس يوحنا.

ناقش كثير من النقاد والدارسين موضوع نسبة هذا السفر للقديس يوحنا بن زبدي، وقدموا نظريات كثيرة ومعقدة، إذ حاول البعض نسبة هذا السفر للكنيسة الرسولية ككل وليس لشخصٍ معينٍ، وافترض البعض أن السفر بصورته هذه من وضع كاتب في القرن الثاني كما لاحظنا في تعليقنا على مدى ارتباط السفر بالغنوسية، وحاول البعض تأكيد أن الكاتب ليس يهوديًا. وقد قدم لنا E. Haenchen ملخصًا للمشاكل النقدية الخاصة بهذا الأمر منذ عام 1929 حتى الخمسينات.

فيما يلي موجز للرد على المعترضين على نسبة هذا السفر للقديس يوحنا:

تلميحات في السفر عن شخصية كاتبه.

إن كان الإنجيلي لم يذكر اسمه في السفر، لكنه قدم تلميحات عن شخصيته منها يمكن التعرف عليه، ألا وهى:

أ - انه شاهد عيان.

في مقدمة السفر يقول الإنجيلي: "رأينا مجده" (14: 1). حاول البعض تفسير صيغة الجمع "رأينا" بمعنى أنه يقصد المسيحيين جميعًا، وليس الكاتب، فتكون الرؤيا هنا بالمعنى الروحي لا المادي، بهذا يكون كاتب السفر هو "الكنيسة الرسولية" وليس شاهد عيان. هذا الفكر لم يقبله كثير من الدارسين، خاصة وأن الفعل اليوناني يعني الرؤيا الجسدية لا الروحية، حتى وإن فسرت بالرؤيا الروحية. في أكثر من موضع يؤكد أنه شاهد عيان يكتب ما هو حق:

"الذي عاين شهد وشهادته حق، وهو يعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا أنتم" (19: 35).

"هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا، ونعلم أن شهادته حق" (21: 24).

واضح أن كاتب السفر "تلميذ"، "شاهد عيان"، هذا ينطبق على القديس يوحنا، الذي حمل ذات اللهجة في مقدمة رسالته الأولى: "الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه، ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة، فإن الحياة أُظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية…" (1 يو 1).

ب. التلميذ المحبوب.

من الشهادات الداخلية في السفر أن الكاتب هو القديس يوحنا تلقيب نفسه في تواضعٍ، بعدم ذكر اسمه: "التلميذ الذي كان يسوع يحبه" (20: 21، 26: 19). حاول البعض النقاد المحدثين التشكيك في هذا الأمر، وقد اختلفوا في تحديد شخصية هذا التلميذ، إذ قيل:

  1. الشاب الغنى، الذي قيل عنه إن يسوع نظر إليه وأحبه (مر 21: 10). وإذ ليس لدينا أية أدلة إنجيلية أو تقليدية أنه عاد وآمن بعد تركه للسيد المسيح، يُحسب هذا الرأي بلا قيمة.
  1. نثنائيل: يُرد على ذلك أننا لا نعرف عنه إلا القليل، هذا ومن جانب آخر حين تحدث عنه الإنجيلي ذكره بالاسم (2: 21) في نفس الإصحاح الذي قيل فيه: "التلميذ الذي كان يسوع يحبه" (20: 21). فما قيل أخيرًا قُصد به تمييزه عن نثنائيل.
  1. لعازر، إذ أرسلت أختاه إلى رب المجد تقولان: "يا سـيد هوذا الذي تحبه مريض" (3: 11). يرد على ذلك بأن لعازر لم يكن مع السيد المسيح في العلية ليتكئ على صدره، إذ قيل: "ونظر التلميذ الذي كان يسوع يحبه يتبعه، وهو أيضًا الذي اتكأ على صدره وقت العشاء" (20: 21). واضح من الأناجيل الثلاثة الأخرى أن السيد انفرد برسالة وقت العشاء. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الإنجيلي قد كرر اسمه في الإصحاحين 11، 12، فلماذا يعود ويخفي اسمه؟!
  1. رأى البعض أن هذا اللقب لا يعني شخصًا معينًا بل يحمل رمزًا، وبهذا يكون الكاتب للسفر هو الكنيسة كجماعة وليس فردًا. هذا الفكر غير مُشبِع ويصعب قبوله، وإذ يجعل من هذا التلميذ ليس شخصية تاريخية شاهدة عيان، الأمر الذي يتنافى مع ما قدمه السفر عنه.

هذا عن الاعتراضات أما الدلائل الإيجابية على أن التلميذ الذي كان يسوع يحبه هو القديس يوحنا فهي:

  1. جاءت كتابات آباء الكنيسة منذ القرن الثاني تتحدث عن التلميذ الذي كان يسوع يحبه أنه يوحنا بن زبدي، كأمرٍ لا يحتاج إلى تساؤل، وأنه هو واضع السفر، وقد لاحظ M. F. Wiles أن العلامة أوريجينوس والقديس يوحنا الذهبي الفم وجدا في هذا الوصف: "التلميذ الذي كان يسوع يحبه" مفتاحًا للكشف عن غاية السفر.
  1. أنه أحد تلاميذ السيد المسيح كما يشهد السفر نفسه ملقبًا إياه "التلميذ" (20: 21)، خاصة وأنه اتكأ على صدر السيد المسيح وقت العشاء (20: 21).
  1. يرى بعض الدارسين أنه أحد ثلاثة من التلاميذ الذين كانوا من خاصة السيد، رافقوه دون البقية في مواقف كثيرة، ولما كان يعقوب قد استشهد في سنه 44 م، يبقى بطرس ويوحنا، وإذ قيل عنه أنه كان في رفقة بطرس (2: 20 الخ.) إذن لن يكون إلا يوحنا.
  1. ذُكر القديس يوحنا بالاسم في الأناجيل الأخرى: مرتين في متى، 9 في مرقس، 6 في لوقا، ولم يذكر بالاسم قط في هذا السفر. واضح إذن أنه شخص يوحنا، وقد امتنع عن ذكر اسمه من قبيل التواضع.
  1. كان هذا التلميذ ملاصقًا للقديس بطرس كما جاء في (7: 21؛ 2: 20). المرة الوحيدة التي ظهر فيها في هذا السفر دون بطرس الرسول هي عندما تسّلم من السيد المسيح المصلوب والدته أمًا له (26: 19)، فمن هو هذا التلميذ المرافق للقديس بطرس؟ بلا شك هو يوحنا بن زبدي، إذ وُجد معه ومع يعقوب دون سائر التلاميذ في مواضع كثيرة كما سبق فرأينا (راجع مر 37: 5؛ 2: 9؛ 33: 14). اختارهما السيد المسيح ليعدا له الفصح (لو 8: 22). وكانا ملازمين بعضهما البعض حتى بعد قيامة السيد المسيح (أع 1: 3؛ 13: 4). أُشير إليهما في أع 14: 8 كمندوبين مُرسلين من أورشليم إلى السامرة. إذ أشار الرسول بولس إلى أعمدة الكنيسة ذكر يعقوب وصفا (بطرس) ويوحنا (غلا 9: 2). هذه دلائل على أن التلميذ الذي كان يسوع يحبه، وكان مرافقًا للقديس بطرس هو القديس يوحنا.
  1. لاحظ بعض الدارسين أن هذا السفر حين تحدث عن القديس يوحنا المعمدان، اكتفى بذكر اسمه "يوحنا" دون ذكر أي لقب آخر له، وهذا يسند بقوة الفكر الكنسي بأن الكاتب هو القديس يوحنا بن زبدي، الذي أصرّ ألا يذكر اسمه في السفر فلم يجد حاجة ليميز بين نفسه وبين يوحنا المعمدان بلقبٍ معين.

ج - الخلفية الفلسطينية.

يتساءل البعض، إن كان الكاتب يوحنا بن زبدي، فهل يحمل السفر دلائل على أن الكاتب يهودي عاش في فلسطين، وكان شاهد عيان للسيد المسيح، أم أنه أحد رجال القرن الثاني من أنطاكية أو الإسكندرية؟

جاءت إجابة الدارسين أن السفر يحمل دلائل كثيرة وشهادات على أن كاتبه عاش في فلسطين في القرن الأول، وأنه يهودي، منها:

  1. معرفته للعادات والتقاليد اليهودية.

كثيرًا ما يقدم لنا تفاصيل دقيقة عن الحياة اليهودية وتقاليدها في فترة ما قبل خراب أورشليم، مثل:

  1. طقوس التطهير (6: 2).
  1. طقوس عيد المظال (37: 7؛ 12: 8 (الإنارة)).
  1. التطهير في عيد الفصح (28: 18؛ 31: 19 - 42).
  1. تعاليم اليهود الخاصة بهم، كالشريعة الخاصة بالسبت (10: 5؛ 21: 7 - 23، 14: 9 الخ.).
  1. معرفته انتظار اليهود لنبي بروح إيليا (19: 1 - 28)، وإدراكهم أن المسيح يبقى إلى الأبد (34: 12).
  1. معرفته للتاريخ اليهودي.

يعرف بوجه الدقة السنوات التي تم فيها بناء الهيكل (20: 2)، والعداوة التي كانت قائمة بين اليهود والسامريين (9: 4)، وأن رئيس الكهنة عن نفس السنة التي صُلب فيها السيد (49: 11، 13: 18 الخ) هو قيافا وحماه هو حنَّان.

  1. معرفته لجغرافية فلسطين.

للكاتب معرفة دقيقة بفلسطين، فيعرف الاسم العبراني لبركة بجوار باب الضأن، ويعرف أن لها خمسة أروقة. يعرف وجود قريتين باسم "بيت عنيا" (12: 1؛ 28: 1)، و "عين نون" بقرب ساليم (23: 3)، وأن بحر الجليل هو بحيرة طبرية (4: 21)، ومدينة أفرايم بالقرب من البرية (54: 11).

  1. حمل طابع اللغة العبرية.

وإن كان قد كتب إنجيله باليونانية لكنه حمل طابع اللغة العبرية. إذ لا يقدر الكاتب أن يتخلص من لغته الأصلية. يظهر ذلك في الألفاظ التي استخدمها والعبارات نفسها، واهتمامه بالأرقام.

  1. ذكره تفاصيل لم ترد في الأناجيل الثلاثة الأخرى، لا يذكرها إلا من كان شاهد عيان وتعرّف على الأشخاص بأسمائهم، مثل:
  1. الحديث التفصيلي مع نيقوديموس (ص3).
  1. الحديث مع مريم ومرثا (ص11).
  1. حديثه عن ملخس (10: 18).
  1. الحديث مع حنَّان وقيافا (19: 18 - 32).
  1. الحديث مع النسوة عند القبر (15: 20 - 17).
  1. الحديث مع القديسة مريم عند تسليمها له عند الصليب (26: 19، 27).
  1. الحديث مع بطرس ويوحنا نفسه بعد القيامة (5: 21 - 23).

أيضًا سجل تفاصيل دقيقة للأحداث لا يكتبها إلا من كان شاهد عيان، كذكر عدد الأجران أنها ستة (6: 2)، وانطلاق التلاميذ بعيدًا عن البر نحو مائتي ذراع (21: 8)، وكان عدد السمك مئة وثلاثًا وخمسين (11: 21). وأيضًا ذكره أن الخبز كان من الشعير (9: 6)، وأن الرائحة ملأت البيت (3: 12)، وتأثر الجند عند القبض على السيد (6: 18)، ووزن الحنوط التي استخدمت في التكفين (39: 19).

وصفه بدقة انفعالات التلاميذ (11: 2 الخ؛ 27: 4؛ 19: 6؛ 16: 12؛ 22: 13 الخ) وتأثر السيد المسيح (11: 2، 24، 15: 6، 61، 1: 13) ….

هذه وغيرها من تفاصيل كثيرة تؤكد أنه كان شاهد عيان لما كتبه في السفر.

الإنجيل بحسب يوحنا وصياد السمك.

يعترض بعض الدارسين على نسبة هذا السفر للقديس يوحنا بالقول: هل من المعقول أن يكتب صيّاد أمي مثل هذا الإنجيل، وهو من أرفع ما كتب الفلاسفة الصوفيون، بإعجاز من "السهل الممتنع" الذي لا مثيل له!

يُرد على ذلك:

أولاً: إن كان الرسول أميًا، فإننا نؤمن بأن الكتاب المقدس كله مُوحى به من الروح القدس (2 بط 21: 1)، الذي وإن كان لا يفقد العنصر الإنساني لكنه يقدسه ويرفعه ويهبه إمكانيات فائقة، ويحوط به كي لا يخطئ.

ثانيًا: أن القديس يوحنا الرسول كان بالحق أهلاً لكتابة هذا "الإنجيل الروحي" الفائق، من جهة:

  1. لم يكن أميًا كما ظن كثيرون، إذ لم يكن مجرد صيّاد سمك، لكنه كان تاجر سمك ولدى والده أجراء يعملون لحسابه. كإنسان غني، في ذلك الحين، فالاحتمال الأكبر أنه كان محبًا للعلم والمعرفة، وكعادة اليهود يمارسون حرفة معينة كصيد السمك، إذ كان لكل يهودي حرفته، كما كان شاول الطرسوسي يمارس حرفة صنع الخيام (أع 3: 18).
  1. نحن نعلم أن كلمة الله مقدمة للبشرية كلها للمبتدئين كما للكاملين، كما يظهر من كلمات الرسول بولس: "نتكلم بحكمة بين الكاملين" (1 كو 6: 2)، "وأما الطعام القوي فللبالغين" (عب 14: 5). إن كان الإنجيليون الثلاثة القديسون متى ومرقس ولوقا قدّموا كلمة الله للبسطاء، يمكننا القول بأن الإنجيلي يوحنا أحد الثلاثة المقربين للسيد الذين اختارهم ليصحبوه في الأحداث الجسام التي تكشف عن سرّ شخصيته وسرّ رسالته، التلميذ الذي "كان يسوع يحبه"، الذي تمتع بالاتكاء على صدر الرب (20: 21) أن يختص بالكتابة للكاملين. كأن الأناجيل الثلاثة الأولى تمثل الدعوة الأولى لقبول الإيمان بالسيد المسيح بكونه المسيا المخلص، خادم البشرية، وصديقها الإلهي، أما هذا الإنجيل فيمثل التعليم التكميلي للبالغين في الإيمان. إنه "الإنجيل الروحي" مُُقدم للمؤمنين الذين تأصلوا في المسيحية، يرتفع بهم لينعموا بالأسرار الإلهية الفائقة.

ثالثًا: رأينا مدى ارتباط هذا السفر بالعهد القديم، فقد أبرز أنه حمل الله الحقيقي، لا الفصح الرمزي، فيه تحققت النبوات. كما أبرز حوار السيد المسيح مع اليهود ليعلن عن نفسه انه أعظم من إبراهيم وموسى... هذا يناسب يوحنا كرجلٍ يهودي دخل إلى الأسرار الإلهية، مشتاقًا أن يتمتع كل يهودي كما كل أممي بمن هو "موضوع النبوات".

رابعًا: رأينا أيضًا أن هذا السفر لا يحمل غنوسية هيلينية كما ادّعى كثير من الدارسين قبل اكتشاف المكتبة الغنوسية بنجع حمادي، إنما في أسلوبه يتشابه مع كتابات الجماعة الأسينية Essene أو رهبان أهل قمران اليهود كما كشفت ذلك مخطوطاتهم التي ظهرت إلى النور حوالي عام 1947. هذا يناسب شخصية القديس يوحنا الرسول الذي تتلمذ على يدي القديس يوحنا المعمدان ساكن البرية، وقد عرف الكثير عنهم بحكم الجوار. كان الأسينيون يتطلعون إلى الدين بنظرة روحية صوفية (باطنيّة mystical) رمزية أكثر منها حسية، تدور حياتهم حول الصراع بين النور والظلمة، وبين الحق والباطل... وكأن القديس يوحنا جاء يعلن لهم أنه قد وجد من يحقق لهم شهوة قلوبهم، لا من يدخل بهم إلى معرفة النور والحق، وإنما يقدم نفسه لهم بكونه "النور الحقيقي"، و "الحق"، خلاله نستنير وننعم بالحق!

أقسامه.

اتفق الدارسون على أن هذا السفر يمتاز بتقسيمه الدقيق الهادف، وإن كانوا قد اختلفوا فيما بينهم بخصوص التقسيم، نذكر على سبيل المثال التقسيم الذي رآه D. Mollat، وهو أن السفر بعد المقدمة ينقسم إلى تسعة أقسام حسب الليتورجيات الخاصة بالأعياد اليهودية الرئيسية:

أ - مقدمة السفر ص 1: 1 - 18.

ب - الأقسام التسعة.

  1. الأسبوع الأول من الخدمة المسيانية ص 19: 1 - ص 11: 2.
  1. الفصح الأول ص 12: 2 - ص4.
  1. السبت ص 5.
  1. الفصح الثاني ص 6.
  1. عيد المظال ص 7 - ص 10: 21.
  1. عيد التجديد ص 22: 10 - ص 54: 11.
  1. الفصح الثالث ص 55: 11 - ص 42: 19.
  1. القيامة ص 20.
  1. ظهورات المسيح المقام ص 21.

غير أن التقسيم السائد بالأكثر هو الذي رآه A. Feuillet، C. H. Dodd، R. E. Brown، وهو عبارة عن قسمين رئيسيين مع مقدمة وخاتمة:

أ - المقدمة ص 1: 1 - 18.

ب - كتاب الآيات ص 19: 1 - ص 12.

ج - كتاب الآلام ص 13 - ص 20.

د - الخاتمة ص 21.

يرى Feuillet أن السفر في مجمله يحمل أمرين، هما إعلان السيد المسيح، واحتماله الآلام حتى الموت من أجل هذا الإعلان، بهذا يمكن تقسيم السفر هكذا:

الكتاب الأول: كتاب الآيات.

  1. إقامة عهد جديد بالمعمودية وإرسال الروح القدس ص 19: 1 - ص 42: 4.
  1. إعلانه عن نفسه أنه مع الآب مصدر الحياة ص 43: 4 - ص 47: 5.

وأنه خبز الحياة ص 6.

وأنه نور العالم ص 7 - 12.

الكتاب الثاني: كتاب الآلام.

  1. إعلانه عن نفسه لتلاميذه بالحب والتعزية والاتحاد ص 13 - ص 17.
  1. الآلام طريق تأسيس الكنيسة ص 18 - ص 19.
  1. القيامة وارتباطها بحلول الروح القدس ص 20، 21.

يمكننا تقديم التقسيم التالي لتسهيل الدراسة:

أولاً: مقدمة: الكلمة المتجسد ص 1: 1 - 18.

ثانيًا: آياته وأعماله تعلن عن لاهوته ص 19: 1 - ص 12.

ثالثًا: إعلانه عن ذاته لخاصته ص 13 - ص 17.

رابعًا: ابن الله الذبيح ص 18 - ص 19.

خامسًا: قيامته تشهد للاهوته ص20.

سادسًا: خاتمة ص 21.

من وحي إنجيل يوحنا.

هب لي أن أُحلّق مع نسورك في سمائك!

اسمح لي مع حبيبك يوحنا أن أتكئ على صدرك،.

وأرافقك حتى الصليب.

وأتسلّم منك أمك أمًا لي.

نعم، هب لي جناحيّ الروح فأصير معه كالنسر،.

أطير في سمائك، فأتمتع بشركة أمجادك.

أعيش مع ملائكتك،.

فأتعرف على أسرارك الإلهية خبزًا سماويًا مشبعًا لأعماقي!

هب لي أن أنطلق بفكري إلى الأزلية،.

هذه التي لن يدركها كائن سماوي أو أرضي.

أقف لأتمتع بسرّ ولادتك الأزلية،.

تشرق عليّ يا كلمة اللَّه مع أبيك وروحك القدوس،.

فتمتلئ نفسي من بهاء الثالوث.

أطأ ظلمة العالم حتى قدميّ،.

وأحلق في هذا البهاء العجيب!

تجسدت من أجلي يا من وهبتني الحياة،.

وأنرت عليّ فلا أعود بعد أُحسب من هذا العالم،.

بل أتمتع بالبنوة الإلهية بنعمتك،.

أصير ابنًا للَّه، فلا يجد العالم له موضعًا في داخلي!

ليحملني روحك القدوس إلى أسرار إنجيلك.

أراك ملكًا معلقًا على الصليب!

لست أطلبك لتملك كما طلبتك بقية الجماهير،.

وإنما تُقيم عرش ملكك في أعماقي فأعتزّ به.

لن أدخل بعد في مجادلات فلسفية،.

فقد عرفتك أنت المسيح الملك واهب الملوكية.

أراك ملك الملوك تهب الحياة الملوكية.

أنت حمل اللَّه حامل خطايا العالم!

ارتفعت على الصليب، فصالحتنا مع أبيك.

اجتذبتنا إليك، لنحمل برَّك عِوض خطايانا.

بسطت يديك، لتضم اليهود والسامريّين والأمم معًا فيك.

بصليبك سكبت الحب فينا، يا أيها الحب الحقيقي،.

صرنا أيقونة لك لن نقدر أن نفارق الحب ولا هو يفارقنا.

نلنا شركة طبيعتك، فجرى الحب في عروقنا.

لن تستطيع الكراهية أو الحقد أو الحسد أن يتسلل إلينا.

هب لي مع عروسيّ قانا الجليل أن أشرب خمر حبك.

هب لي مع نيقوديموس أن اكتشف سرّ الميلاد الجديد.

هب لي مع السامرية أن أشرب من ينابيع روحك القدوس.

هب لي مع المولود أعمى البصيرة فأراك داخلي.

هب لي مع مريض حسدا أن أثبّ متهللاً،.

أذهب إلى بيتي الحقيقي، أحضانك الإلهية.

لأسمعك وأنت تكشف لي عن ذاتك.

لكلمتيك "أنا هو" عذوبة خاصة، فأنت يهوه الكائن فيّ!

حسب وعودك اسمعني صوتك، قائلاً:

أنا هو الخبز السماوي، من يأكلني يتمتع بالوليمة الأبدية.

أنا هو الحياة، بدوني لا وجود لك.

أنا هو نور العالم، أشرق عليك فتختبر نور الأبدية.

أنا هو الحق، أدخل بك إلى الأسرار الإلهية.

أنا هو القيامة، لن يقدر الموت أن يسبيك بعد!

أنا هو الباب، أدخل بك فيّ لتبلغ إلى أحضاني.

أنا هو الراعي الصالح، أحملك على منكبيّ بكل ضعفاتك!

أنا هو الكرمة الحقيقية، لتثبت فيّ وأثبت فيك!

اسمح لي أن أرافقك في العُليّة، كما في بستان جثسيماني،.

وانطلق معك حيث تُحاكم وتُصلب،.

واجلس عند القبر أترقب قيامتك.

لتُظهر ذاتك لي، وتُشرق بقيامتك في داخلي!

نعم أبقى كل أيام غربتي أتأمل كل لحظة من لحظات عملك العجيب.

تبقى هذه الأحداث موضوع تسبيحي مع كل صفوف السمائيين.

لك المجد يا أيها الحب الحق، والحق واهب الحب والحرية!

الباب الأول: الكلمة المتجسد ص 1.

الباب الثاني: آياته وأعماله تعلن عن لاهوته ص 2 - ص 12.

الباب الثالث: إعلانه عن ذاته لخاصته ص 13 - ص 17.

الباب الرابع: ابن الله الذبيح ص 18 - ص 19.

الباب الخامس: قيامته تشهد للاهوته ص20.

الباب السادس: خاتمة ص 21.

الباب الأول.

الكلمة المتجسد واهب النعمة.

والشهود له.

ص 1.

الكلمة المتجسد واهب النعمة ع 1 - 18.

شهود للكلمة المتجسد ع 19 - 51.

ملحق للإصحاح الأول عن النعمة الإلهية.

الأصحاح الأول

الكلمة المتجسد.

في دهشة تقف النفس لتشهد في سكون عميق الإنجيلي القديس يوحنا الحبيب وقد صار أشبه بنسرٍ طائرٍ، يحلق لا في جو السماء المنظورة، بل في جو الإلهيات التي لا يُنطق بها. إنه كمن يدعونا أن نعبر معه إلى ما وراء الزمن لنرى كلمة الله الذي لا يفارق العقل الإلهي، والعقل الذي لن ينفصل عن كلمته؛ الابن الوحيد الجنس الواحد مع أبيه في ذات الجوهر. إنه يدعونا لنرى ونلمس واهب الحياة ومصدر النور، خالق الزمن، ومُوجد كل خليقة في السماء وعلى الأرض وكأنه لا يشغله أمر ما سوى الإنسان محبوبه الفريد!

بإعلان الروح القدس لا يسجل لنا الإنجيلي كتابًا مجردًا، بل يحملنا إلى حقائق إلهية تمس كياننا ومستقبلنا الأبدي ومجدنا، نغرف من فيض الحب الإلهي الذي لا يُعبر عنه بلسان بشري.

الشهادة للسيد المسيح.

في هذا الاصحاح يتحدث القديس يوحنا عن لاهوت السيد المسيح فيقدم لنا شهادته هو (1 - 5؛ 10 - 14؛ 16 - 18)، وشهادة القديس يوحنا المعمدان (6 - 9؛ 15؛ 19 - 37)، وإعلان السيد المسيح نفسه لأندراوس (38 - 42)، ولفيلبس (43 - 51)، وشهادتهما له.

1. شخص يسوع المسيح بكونه اللوغوس الأزلي الواحد في الجوهر مع الآب والأقنوم المتمايز عنه (1 - 2). هو واهب الحياة والنور، وفيه ننال سلطان التبني للآب (3 - 13).

2. يفتتح معلمنا يوحنا البشير السفر بتقديم الكلمة الإلهي كمصدر النعم الإلهية، خاصة نعمة الخلق ونعمة البنوة لله مع فيضٍ من النعم "نعمة فوق نعمة" (16 - 18)، يتحدث عنها بفيض في الاصحاحات التالية.

3. شهادة القديس يوحنا المعمدان أمام إسرائيل الرسمي: "كهنة ولاويين" الذين جاءوا يقدمون له ثلاثة أسئلة، وكانت إجابته عليهم مختصرة للغاية. شهادة تمثل مجابهة علنية بينه وبينهم. إجابته تتلخص في أنه ليس له اسم، إنما هو مجرد "صوت صارخ" أمام المسيح (19 - 28).

4. شهادة القديس يوحنا المعمدان أمام تلاميذه (29 - 37) حيث يبادر بالكلام ويسهب فيه. لأنه يتحدث مع البقية التي تنبأ عنها إشعياء النبي: "ترجع البقية، بقية يعقوب إلى الله القدير" (إش 21: 10). يتحدث القديس يوحنا المعمدان مع إسرائيل الجديد الذين يؤمنون بالسيد المسيح، ليدخل بهم إلى العهد الجديد. يؤكد لهم أن المسيّا يأتي لا في صورة ملوكية مجيدة كما يظن اليهود بل كمتألم ومخذول، مجده الحب وحمل خطايا العالم (36).

5. تبعية تلاميذ القديس يوحنا المعدان للسيد المسيح، حيث يتم لقاء حقيقي شخصي وعميق يؤول إلى تغيير كامل للحياة كما للكيان والاسم. فنرى السيد المسيح يدخل إلى صميم نفس سمعان، ويحتل أعماقها، ليحوله إلى بطرس الرسول؛ فيغير اسمه ورسالته وحياته وكيانه كله (42).

6. دعوة السيد المسيح لبقية تلاميذه في الجليل منذ البداية. يعلن الإنجيلي عن رؤية السرّ الأخروي المخفي، حيث يؤكد انفتاح السماء وصعود الملائكة ونزولهم على شخص السيد المسيح (50 - 51).

1. الكلمة الإلهي 1 - 13.

2. الكلمة صار جسدًا 14 - 18.

3. شهادة يوحنا المعمدان له 19 - 34.

4. شهادة تلاميذه الأولين له 35 - 53.

الأعداد 1-13

1. الكلمة الإلهي

يبدأ الإنجيل بحسب القديس يوحنا بافتتاحية أو مقدمة تختلف عن افتتاحية بقية الأناجيل الإزائية. افتتاحية مرقس الرسول تقدم وصفُا للقديس يوحنا المعمدان وعمله كملاكٍ يهيئ الطريق أمام السيد المسيح الذي طالما اشتهى الآباء والأنبياء أن يروا يوم مجيئه. وافتتاحية متى البشير تقدم تسلسل يسوع المسيح عن إبراهيم، وقصة ميلاده بكونه الملك الفريد الذي جاء ليقيم مملكة داود الساقطة، ويجعل من مؤمنيه شعبًا ملوكًيا. ويفتتح لوقا الرسول إنجيله بمقدمة أدبية رسمية (1: 1 - 4)، يتبعها عرض لميلاد المعمدان ثم ميلاد يسوع المسيح الذي يشبع بحبه الباذل وصداقته الفريدة كل قلبٍ، ويملأ كل فراغ في الداخل. أما يوحنا فيبدأ بالكشف عن شخص ربنا يسوع قبل التجسد بكونه الكلمة الأزلي، لكي نتخطى كل زمن وننطلق إلى حضن الآب الأزلي، فنتعرف على خطة الله من نحونا ومشيئته لخلاصنا ومجدنا الأبدي. يعرفنا على ذاك الذي نشاركه مجده ونعيش معه إلى الأبد. أبرزت المقدمة (1 - 18) ما ورد في السفر ككل أن اللَّه يعلن عن نفسه خلال كلماته (1 - 13) كما خلال أعماله (2 - 5)، وأخيرًا خلال التجسد الإلهي لمجد الآب (14 - 18).

كُتبت الافتتاحية في أغلبها كقطعة شعرية متميزة من جهة الأسلوب والمفردات عن بقية السفر مما جعل بعض الدارسين يتساءلون إن كانت هذه الافتتاحية هي لحن كنسي اقتبسه الرسول، أو إضافة قدّمها الرسول بعد أن كتب بقية السفر كملخص يكشف عن هدف السفر ويفسر معناه. أو هي مقدمة كتبها ليُعلن عن موضوع كتابته مقدمًا. لكن الحقيقة هي أن غاية الافتتاحية أن تقدم للقارئ شخص يسوع المسيح موضوع السفر، بكونه الكلمة الأزلي، العامل مع الآب في الخليقة. بكونه اللَّه نفسه يعلن عن الآب، ويقدمه لنا كما يقدم نفسه لنا. إنه حكمة اللَّه المتحدث معنا، والذي يقدم ذاته كلمة اللَّه لكي نقتنيه سرّ حياة أبدية. إنه حياة الكل، ونور كل إنسان. هذا الأزلي صار جسدًا وعاش كإنسانٍ، رفضه خاصته اليهود بالرغم من شهادة القديس يوحنا المعمدان له. لكن وُجدت بقية أمينة قبلته فصاروا أبناء الله وأعضاء في العائلة الإلهية.

في كل صباح نتغنى بهذه المقدمة وما يليها (يو1: 1 - 17)، لكي ما ندرك أن بدايتنا اليومية الجديدة مصدرها الالتقاء بذاك الذي وحده يرفعنا إلى ما فوق الزمن ليدخل بنا إلى حضن أبيه، دون أن يحتقر الزمن أو يستخف به، بل يقدسه كطريق للعبور إلى ما وراء الزمن. في صلاة باكر نتذكر أن مسيحنا المخلص هو الألفا والأومجا، البداية والنهاية، فنتمتع ببداية مقدسة ونهاية مجيدة.

يقول القديس أغسطينوس أن صديقه سمبليشيوس Simplicius أخبره بأن فيلسوفًا أفلاطونيًا قال بأن هذه العبارات التي جاءت في بداية إنجيل يوحنا تستحق أن تُكتب بحروفٍ من ذهبٍ.

وذكر متى هنري عن فرنسيس جوني Francis Junius الذي فقد كل القيم الدينية في شبابه، وقد استعادها بنعمة اللَّه خلال قراءته لهذه الأعداد عن غير قصدٍ منه، قدمها له والده. شعر بقوتها وسلطانها عليه فقضى يومه كله لا يُدرك أين هو ولا ما كان يفعله، وكان جسمه مرتعبًا. وكان ذلك اليوم هو بداية حياته الروحية.

تقدم لنا العبارات (1 - 13) ثمان حقائق عظمى عن شخص ربنا يسوع المسيح، وهي:

أ - كان ولا يزال الأزلي: "في البدء كان الكلمة" (1).

ب - كان ولا يزال الأقنوم المتمايز عن أبيه: "وكان عند اللَّه" (1).

ج - كان الكلمة ولا يزال هو اللَّه (2).

د - هو شريك مع الآب في الأزلية (2).

ه - هو خالق المسكونة (3).

و - هو مصدر كل حياة ونور (4، 5، 9).

ز - الإله الذي يعلن عن ذاته للعالم الساقط (10).

خ - دخل إلى عالم الإنسان، وخاصته لم تقبله (11)، أما الذين قبلوه فنالوا ميلادًا جديدًا (12 - 13).

اللوغوس.

جاء في النسخة الكلدانية Chaldee في إعادة صياغة العهد القديم دعوة المسيّا بكلمة Memra أي "كلمة يهوه"، وأن الكثير من الأمور الواردة في العهد القديم التي تحققت بالرب إنما تمت بكلمة الرب. وأيضًا تعلم اليهود بوجه عام أن "كلمة اللَّه" كانت مع اللَّه.

تُستخدم كلمة "لوغوس" بمعنيين:

الكلمة التي يُحبل بها endiathetas Logos، أي الفكر الذي تحبل به النفس، خلاله تتحقق كل الأعمال، وهي واحدة مع النفس. لذلك لاق بالأقنوم الثاني أن يُحسب كلمة اللَّه، مولودًا من الآب بكونه الحكمة الأساسي الأزلي؛ ليس شيء أكثر يقينًا من أننا نفكر، وليس شيء أكثر غموضًا من معرفة كيف نفكر.

الكلمة المنطوق بها Logos prophorika، التي هي الكلام، وهو الإشارة الطبيعية لما في الذهن. هكذا المسيح هو الكلمة التي تحدث به الآب في آخر الأيام (عب 2: 1)، ويوجهنا لكي نسمع له (مت 5: 17). خبرنا عن ذهن الآب كما يخبرنا الكلام عما في فكر الإنسان. إنه الكلمة الذي يحدثنا بما للآب، إذ هو الحق والآمين، والشاهد الصادق للذهن الإلهي. هنا يختلف عن يوحنا المعمدان الذي هو "صوت صارخ" وليس الكلمة الإلهي.

يقارن القديس أغسطينوس بين الخبز الذي يشبع البطن والكلمة التي تشبع الذهن. فإنه إن قدم خبزًا للشعب لا يستطيع أن يقدم ذات الخبزة لكل الحاضرين، أما الكلمة فيقدمها للكل، وتستقبلها أذهان جميع الشعب بالكامل. حقًا عجيبة هي كلمة الإنسان يقدمها ليسمعها الكل بلا نقص فكم تكون كلمة الله الخالق؟

إن كنت أود أن أطعمكم فلا أملأ أذهانكم بل بطونكم، وأقدم لكم خبزًا لأشبعها بها، أما تقسمون الخبز فيما بينكم؟ هل يمكن لخبزي أن يأتي إلى كل واحدٍ منكم؟ فإن ناله أحد لا ينال البقية شيئًا. لكن الآن انظروا، فإني أتحدث وأنتم جميعًا تستقبلون الكلمة. لا، ليس فقط جميعكم تستقبلونها، وإنما أيضًا الكل يستقبلون الكلمة بالكامل. يا لعجب كلمتي! فماذا عن كلمة الله؟! استمعوا أيضًا، إني أتحدث ما أنطق به فيأتي إليكم الكلام ولا يفارقني. يبلغ إليكم ولا ينفصل عني. قبل أن أتكلم كنت أملك الكلمة ولم تكن لديكم. لقد تكلمت وبدأتم تنالونها دون أن أفقد شيئًا منها. يا لعجب كلمتي! فماذا تكون إذن كلمة الله؟!

القديس أغسطينوس.

يا لكم من أغبياء، تتحدثون كمن لا يميزون بين الكلمة المنطوق بها والكلمة الإلهي، الثابت سرمديًّا، مولود من الآب؛ أقول أنه مولود وليس فقط منطوق به. الذي لا يوجد فيه مقاطع كلمات، بل كمال اللاهوت السرمدي، والحياة التي بلا نهاية (كو19: 1؛ 9: 2؛ 4: 3؛ يو4: 1؛ 26: 5؛ 25: 11؛ 6: 14؛ رؤ18: 1).

القديس أمبروسيوس.

"في البدء كان الكلمة،.

والكلمة كان عند اللَّه،.

كان الكلمة اللَّه "(1).

جاءت هذه العبارة في ثلاثة مقاطع موزونة موسيقيًا في اللغة العبرية، حيث يتكرر في الثلاثة الاسم "الكلمة" والفعل "كان". هنا الفعل يدل على الكينونة الدائمة القائمة في البدء لا على الزمن. في هذه المقاطع: كان الكلمة في البدء، وكان مع الله، وكان هو الله.

"في البدء": بدأ سفر التكوين بعبارة "في البدء خلق اللَّه"، أي أنه يتكلم عن بداية المخلوقات، أي بدء الزمن بالخلقة. أما البدء في إنجيل يوحنا فهو ما قبل الخلق والزمن والتاريخ، حيث لم يوجد سوي الله الكائن بذاته. يبدأ ببداية الكينونة "في البدء كان الكلمة" أي أن الكلمة أزلي هو بدأ بما لا بداية له. وقد كرر الرسول هذا الفكر حين قال الرب لليهود: "أنا من البدء ما أكلمكم أيضًا به" (يو 25: 8)، أي أنا الكائن المتكلم في الأصل أو منذ الأزل. جاء أيضًا في بداية رسالته الأولى: "الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا" (1 يو 1: 1). وقد قال أيضًا للجموع: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يري يومي فرأي وفرح... قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (56: 8، 58).

قدم العلامة أوريجينوس معانً كثيرة لكلمة "البدء"، كما ميز بين البدء في علاقته بالخالق، والبدء في علاقته بالخليقة. إنه البدء بكونه حكمة الله وقوة الله (١ كو ١: ٢٤).

يؤكد الرسول أن الكلمة هو "في البدء"، ليس فقط قبل التجسد بل قبل كل الأزمنة. جاء العالم إلى الوجود بخلقه من البدء، أما الكلمة فكان موجودًا في البدء، أي قبل الأزمنة. لقد عبر المرتل عن أزلية اللَّه أنه قبل وجود الجبال (مز 2: 90؛ أم 23: 8).

إنه مع اللَّه، فلا يظن أحد أن الإيمان بالكلمة يسحبه عن اللَّه، وكان الكلمة عند اللَّه إذ لا ينفصل عنه قط، من ذات جوهره (عب 3: 1). وهو موضوع سروره (يو 5: 17)، ابن محبته (أم 30: 8).

يتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم لماذا لم يبدأ الإنجيلي بالحديث عن الآب، بل بدأه بالابن الوحيد الجنس، ولماذا لم يبدأ بدعوته الابن الوحيد الجنس بل الكلمة. ويجيب على ذلك بأنه بدأ بالإعلان عن شخص السيد المسيح بكونه "الكلمة" المتجسد، ليتحدث بفيض فيما بعد أنه "ابن اللَّه". لقب "الكلمة" يؤكد الوحدة، ولقب "الابن الوحيد الجنس" يؤكد التمايز، لذا فاللقبان مكملان لبعضهما البعض. ويقدم لنا القديس يوحنا الذهبي الفم تبريرًا لذلك بقوله أن الإنسان غالبًا ما يفصل بين الأب والابن. فيظن أن بميلاد الابن حدث في الله تغيير، فصار الآب، ولم يكن قبل الولادة هكذا، إذ نظن أن الولادة حسية مثلما يحدث في الخليقة، وأنها لم تتم أزليًا. فلو أن الإنجيلي بدأ بالحديث عنه أنه "ابن اللَّه" لدخل الشك لدى البعض أنهما إلهان منفصلان. لذا بدأ باللقب "الكلمة" الذي لا يتخيل الإنسان أنه منفصل عن اللَّه.

يدعوه "الكلمة" لأنه يستعد للتعليم بأن هذا الكلمة هو ابن اللَّه الوحيد، فلا يظن أحد أنه ولادته حسّية. فبإعطائه لقب "الكلمة" ينزع مقدمًا ما يتعرض له الشخص من وهمٍ شرير ويزيله عنه. لقد أظهر أن الابن من الآب، وأنه ولد دون ألم (تغيير).

لئلا يظن أحد عند سماعه "في البدء" أنه ليس بمولود أيضًا، عالج هذا في الحال بقوله أنه كان "عند اللَّه" قبل أن يعلن أنه هو اللَّه. وهو يمنع أي أحد من افتراض أن الكلمة بسيطة كما لو كانت مجرد كلمة منطوقة أو مدركة، مضيفًا إليها أداة التعريف... إنه لم يقل "كان في اللَّه" بل "عند اللَّه" معلنًا سرمديته كأقنوم. بعد ذلك يعلن عنها بأكثر وضوح مضيفًا أيضًا "والكلمة كان اللَّه".

لم يدعه "كلمة" بل أضاف أداة التعرف ليميزه عن البقية (كلمة الإنسان).

القديس يوحنا الذهبي الفم.

هذا التعبير "في البدء كان" لا يعلن سوى الوجود being الدائم، وأنه وجود مطلق.

"كان اللوغوس" لأن كلمة "وجود being" تستخدم للإنسان لتمييز الوقت الحاضر وحده، وأما بخصوص الله فتشير إلى السرمدية. لذلك عندما يستخدم "كان" بخصوص طبيعتنا تعني الماضي، وعندما تستخدم بخصوص الله تعلن عن السرمدية.

هذا (الكلمة) هو جوهر إلهي حاصل في أقنوم بارز من أبيه خالٍ من انقسام عارض. وحتى لا تظن أن لاهوت الابن أدنى، وضع للحال الدلائل المُعرفة للاهوته فقال: "وكان الكلمة الله".

القديس يوحنا الذهبي الفم.

إذ هو مولود فبسببٍ حسنٍ لم يجزم يوحنا أو غيره، سواء كان رسولاً أو نبيًا، أنه مخلوق. فإن هذا الذي تحدث عن نفسه بتواضع هكذا خلال تنازله لم يرد أن يقف صامتًا في هذا الأمر... لقد نطق بكلمات متواضعة (يو 5: 30؛ 12: 49)... لكنه لو كان مخلوقًا لتحدث قائلاً: "لا تظنوا إني مولود من الآب، بل أنا مخلوق غير مولود، ولست شريكًا في جوهره". لكن إذ هذا أمره، فعلى العكس نطق بكلمات تلزم البشر حتى بغير إرادتهم أو رغبتهم أن يقبلوا الفكر الآخر. كقوله: "أنا في الآب والآب فيّ" (يو 14: 11)، "أنا معكم زمانًا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس؟ الذي رآني فقد رأى الآب" (يو 14: 9)، وأيضًا: "لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب" (يو 5: 23)، "لأنه كما أن الآب يقيم الموتى ويحيي، كذلك الابن أيضًا يحي من يشاء" (يو 5: 21). "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (يو 5: 17). "كما أن الآب يعرفني وأنا أعرف الآب" (يو 10: 15). "وأنا والآب واحد" (يو 10: 30).

أصابت الدهشة إشعياء النبي عندما قال: "وميلاده من يخبر به؟ لأن حياته رُفعت من الأرض" (إش 8: 53). حقًا لقد رفع من الأرض تمامًا كل آثار الميلاد الأزلي، لأنه يفوق الإدراك. وإذا كان فوق الإدراك فكيف يمكن أن نقول أنه مخلوق، لأننا نستطيع أن نحدد بوضوح زمن بداية المخلوقات وكيفية وجودها، أما البدء فنعجز عن تحديد زمن بدايته.

في هذا "البدء Archi" الذي هو فوق الكل وعلى الكل "كان الكلمة"، ليس من الطبائع المخلوقة التي تحت قدمي البدء، وإنما عاليًا عنها جميعًا، لأنه "في البدء"، أي من ذات الطبيعة والكائن دائمًا مع الآب له طبيعة الذي ولده... منه ومعه له السيادة archi على الكل.

القديس كيرلس الكبير.

بالقول "في البدء كان"، وليس "بعد البدء" يعني أنه لم يكن بدء بدون اللوغوس، وبإعلانه "كان اللوغوس عند الله" يعني غياب أية شائبة في علاقة الابن بالآب، لأن اللوغوس يفكر فيه ككل مع كيان الله ككل.

خشي الإنجيلي من أذهاننا التي ينقصها التمرن، ولا يثق في آذاننا ليقدم لقب "الآب"، لئلا يتصور الجسداني في فكرة وجود أم أيضًا. ولم يذكر في إعلانه "الابن" حتى لا يجعل أحد اللاهوت بشريًا بنوعٍ من الهوى. لهذا دعاه اللوغوس، فكما أن كلمتك تصدر عن ذهنك دون تدخل لهوى، هكذا أيضًا عند سماعك "الكلمة" لا تفهم ذلك عن شيءٍ صدر بهوى.

أولئك الذين يقدمون لنا أية أفكار صالحة عن مثل هذه الأسرار، هم غير قادرين حقًا على التعبير عن الطبيعة الإلهية.

أنهم يتكلمون بالأحرى عن بهاء مجد اللّه ورسم جوهره (عب 3: 1)، صورة اللّه، وفي البدء كان الكلمة والكلمة كان اللّه (يو1: 1). كل هذه التعبيرات تبدو لنا نحن الذين لم نرَ الطبيعة الإلهية مثل الذهب من هذا الكنز. ولكن بالنسبة لهؤلاء القادرين على رؤية الحقيقة، فإنها شبه الذهب وليست ذهبًا لامعًا، إنها ذهب مع جمان من فضة (نش 1: 11). إن الفضة كما يقول الكتاب: "لسان الصديق فضة مختارة (أم 20: 10)".

هنا نتكشف أن الطبيعة الإلهية تتجاوز كل مفهوم نحاول أن ندركه.

فهمنا للطبيعة الإلهية يشبه ما نهدف إليه. إن أحدًا ما لم يرها ولا يستطيع أن يراها، ولكن خلال مرآة ولغز (1 كو 12: 13).

إنها تعطينا انعكاسًا لما نفكر فيه، أي انعكاس موجود في الروح بصورة معينة.

كل كلمة تمثل هذه المفاهيم تشبه نقطة ينقصها أن تمتد، حيث إنها قاصرة عن التعبير عما في العقل...

وكل كلمة تقال كمحاولة للتعبير عن اللّه تبدو مثل نقطة صغيرة غير قادرة للامتداد لتتناسب مع الغرض، إذ تقاد خلال مثل هذه المفاهيم لإدراك ما لا يمكن إدراكه سوى خلال الإيمان بها أن تقيم ذاتيًا طبيعة تفوق كل ذكاء.

القديس غريغوريوس النيسي.

يُدعى الكلمة والابن وقوة اللَّه وحكمة اللَّه. الكلمة لأنه بلا عيب، والقوة لأنه كامل، والابن لأنه مولود من الآب، والحكمة لأنه واحد مع الآب في السرمدية، واحد في اللاهوت. ليس أن الآب أقنوم واحد مع الابن. إذ يوجد تمايز واضح بين الآب والابن يأتي من الولادة، هكذا المسيح هو إله من إله، خالد من خالد، كامل من كامل.

القديس أمبروسيوس.

يوجد الله الواحد الذي أعلن عن نفسه بيسوع المسيح ابنه، الذي هو كلمته (اللوغوس)، ليس منطوقا به بل جوهري. لأنه ليس صوتًا لأداة نطق بل أقنوم مولود بالقوة الإلهية.

القديس أغناطيوس.

كانت كلمة "لوغوس" معروفة لدي اليهود والأمم، عرفها هيرقليتس Heracllitus حوالي 500 ق. م بأنها العقل الجامع الذي يحكم العالم ويخترقه، وقد تبناه الرواقيون وأشاعوه. وفي اليهودية الهلينية "اللوغوس" هو أقنوم مستقل، تطورت فكرته ليكون مصاحبًا للحكمة (صوفيا) (الحكمة 9: 1، 2؛ 18: 15). إذ ربط فيلون السكندري بين تعبيرات فلسفية ومفاهيم كتابية قال أن اللوغوس هو نموذج إلهي جاء العالم صورة له.

"لوغوس" في اليونانية لها معان كثيرة. فهي تعني الكلمة والعقل والتقدير وعلة الأشياء الفردية التي عليها تقوم. بكل هذه جميعًا نحن نعلن عن المسيح.

القديس جيروم.

لكننا نعلم أن المسيح لم يُولد كمثل كلمة منطوق بها، بل هو الكلمة الكائن الجوهري الحي، لا يُنطق بشفتين ولا ينتشر متبددًا، بل هو مولود من الآب أبديًا، لا يُوصف في الجوهر. إذ "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند اللَّه، وكان الكلمة اللَّه". إنه جالس عن يمين اللَّه، الكلمة يفهم إرادة الآب، خالد، كل الأشياء كائنة بأمره.

الكلمة نزل وصعد، أما الكلمة التي ننطق نحن بها فإنها تنزل ولا تصعد.

ينطق "الكلمة" قائلاً: "أنا أتكلم بما رأيت عند أبي" (يو 38: 8).

للكلمة سلطان، يملك على كل شيء، إذ أعطى الآب كل شيء للابن (مت 27: 11، يو 22: 5).

القديس كيرلس الأورشليمي.

إن كان قد وُجد وقت لم يكن فيه الابن، يكون الأب نورًا قاتمًا. فإنه كيف لا يكون نورًا قاتمًا إن كان ليس له بهاء؟ فالآب موجود دائمًا، والابن موجود دائًمًا... البهاء يتولد من النور، ومع ذلك فالبهاء أزلي مع النور الذي يلده. النور دائم والبهاء دائم. النور يولد بهاءه، لكن هل وُجد بدون بهائه؟... لتقبلوا أن الله يلد ابنه السرمدي.

القديس أغسطينوس.

يفهم "عند" هنا "معه أزليا"، أي أن الكلمة مع الآب شريك معه في أزليته دون انفصال.

"والكلمة كان عند الله"؛ لهذا فهو أزلي كالآب نفسه، لأنه لم يكن الآب بدون الكلمة، بل كان الله (الكلمة) مع الله، كل في أقنومه الخاص.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

يؤكد القديس أمبروسيوس مساواة الكلمة للآب من أن الإنجيلي أورد الكلمة قبل الآب، ولو أن الآب أعظم من جهة طبيعة اللاهوت لما تجاسر وفعل هذا. وأيضًا بولس الرسول ذكر نعمة المسيح قبل محبة الآب (2 كو 4: 13). [ترتيب الكلمات (الخاصة بالثالوث) غالبًا ما تتغير لذا لاق ألا تتساءل عن الترتيب والدرجات. ففي اللَّه الآب والابن ولا يوجد فصل في وحدة اللاهوت.

عالج القديس يوحنا الذهبي الفم اعتراض الأريوسيين على مساواة الابن أو الكلمة للآب بدعوى أنه جاءت الكلمة "اللَّه" هنا بدون أداة التعريف: "وكان الكلمة إلهًا". وهو ذات الفكر الذي يقتبسه شهود يهوه حاليًا. وقد فنّد القديس هذه الحجة موضحًا أن الكتاب المقدس أشار أحيانًا إلى الآب والروح القدس دون ربط اسميهما بأداة التعريف، بل وأحيانًا أشار إلى الابن والكلمة أنه اللَّه مرتبطًا بأداة التعريف. هذا وأنه في ذات الموضع هنا ينسب للكلمة سمات خاصة باللَّه بكونه الأزلي، والخالق وواهب الحياة والإنارة. فلو أنه أقل من اللَّه لكان قد تحدث صراحة عن ذلك حتى لا يحدث لبس.

إنه لم يستخدم تعبيرًا يشير إلى وجود حدود إذ لم يقل: "له بداية" بل "في البدء". بفعل "كان" يحملكم إلى فكرة أن الابن بلا بداية. ربما يقول أحد: "لاحظ أن الآب قد أضيف إليه أداة التعرف (اللَّه)، أما الابن فبدونها" إله ". ماذا إذن عندما يقول الرسول:" الإله العظيم ومخلصنا يسوع "(تي 2: 13). مرة أخرى:" الذي فوق الكل إله (الله) "(رو9: 5

حقًا إنه يشير هنا إلى الابن دون أداة التعريف، لكنه يفعل نفس الشيء مع الآب أيضًا، على الأقل في الرسالة إلى أهل فيلبي (2: 6) حيث يقول: "الذي في شكل إله لم يُحسب خلسة أن يكون معادلاً للَّه"، وأيضًا في الرسالة إلى أهل رومية: (نعمة لكم وسلام من اللَّه (دون التعريف) أبينا والرب يسوع المسيح "(رو 1: 7)... وأيضًا عند الحديث عن الآب يقول: اللَّه (إله) هو روح" (يو 4: 24)، فليس لأن أداة التعريف لم ترتبط بكلمة "روح" ننفي طبيعة اللَّه الروحية. هكذا هنا وإن كانت أداة التعريف لم تلحق بالابن، فالابن بسبب هذا ليس بأقل من اللَّه.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

"هذا كان في البدء عند اللَّه" (2).

قول يوحنا عن السيد المسيح "هذا كان في البدء عند الله" أظهر لنا اتفاقه مع أبيه في أزليته. فإذا سمعت في وصف الوحيد أنه "كان في البدء" فافهم أنه كان قبل الخلائق العقلية كلها وقبل كل الدهور.

لم يكن الآب قط بدون الكلمة، بل كان اللَّه دائمًا مع اللَّه، ولكن كل واحد في أقنومه اللائق به.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

"والكلمة كان عند اللَّه": الآب والابن ليسا واحدًا في الأقنوم، بل كل منهما أقنوم يمكن رؤيته في الآخر بسبب وحدة الجوهر، لأنه إله من إله، الابن من الآب.

"هذا كان في البدء عند اللَّه"، أي الابن، الذي هو مع الآب، والمولود من جوهره، فالابن الوحيد هو الذي يشار إليه بكلمة "هذا".

القديس كيرلس الكبير.

يمكن أيضًا للوغوس أن يكون "ابن الله" إذ هو يخبر بأسرار أبيه الذي هو "العقل"، مقابل (analogous) للابن أنه يُدعى "الكلمة". فكما أن الكلمة فينا هي رسول لما يدركه العقل هكذا كلمة الله، إذ هو يعرف الآب يعلن عن ذاك الذي يعرفه، إذ لا تستطيع خليقة أن تدخل في علاقة معه دون إرشاد. لا يعرف أحد الآب إلاَّ الابن ومن يعلن له الابن عنه (راجع مت ١١: ٢٧). وبكونه الكلمة فهو رسول المشورة العظيم الذي على كتفه تستريح السلطة (إش ٩: ٥ LXX)، وقد صار ملكًا إذ احتمل الصليب. وقد جاء في سفر الرؤيا أن الكلمة الأمين والحق ركب على فرس أبيض (رؤ ١٩: ١١)، وفي رأيي لكي يوضح الصوت الذي يقوده (يمتطيه) كلمة الحق، ويأتي لكي يقطن فينا.

العلامة أوريجينوس.

يقول العلامة أوريجينوس أن أنبياء العهد القديم تمتعوا بكلمة الرب التي صارت لهم (هو ١: ١؛ إش ٢: ١؛ إر ١٤: ١). فقيل "قول (كلمة) الرب الذي صار إلى هوشع بن بئيري" (هو ١: ١). كلمة هوشع معناها "المخَلِّص" وبئيري معناها "الآبار"، فإن كل من تمتع بالخلاص هو ابن الآبار التي تفيض من أعماق حكمة الله. فهو ابن الحكمة، وكما جاء في الكتاب المقدس "الحكمة تبررت من بنيها" (راجع لو ٧: ٣٥؛ مت ١١: ١٩). أما بالنسبة للآب فقد قيل: "وكان الكلمة عند الله" ولم يقل: "الكلمة صار إلى الآب"، إذ الكلمة أزلي مع الآب.

على أي الأحوال صار الكلمة إلى البشر الذين لم يستطيعوا قبلاً أن يتقبلوا رحلة ابن الله الذي هو الكلمة. من الجانب الآخر، لم يأتِ الكلمة لكي يصير عند الله كما لو لم يكن الكلمة قبلاً عند الله؛ وإنما لأنه هو مع الآب على الدوام؛ قيل: "والكلمة كان عند الله" (يو ١: ١)، إذ لم يأت ليصير مع الله.

نفس الفعل "كان" يشير إلى الكلمة عندما كان في البدء، وحين كان مع الله. إنه لم ينفصل عن البدء، ولا يفارق الآب. مرة أخرى إنه لم يأتِ ليصير في البدء كمن هو ليس في البدء، ولا عبر من عدم وجود مع الله لكي يصير معه. فإنه قبل كل زمان منذ الأزل "في البدء كان الكلمة، وكان الكلمة عند الله".

يضيف أنه بمجيئه إلى الأنبياء ينيرهم بنور المعرفة، ويجعلهم يرون الأمور التي لم يدركوها قبل مجيئهم كمن يرونها بأعينهم. أما بكونه عند الله، والكلمة هو الله إذ هو عنده.

العلامة أوريجينوس.

"كل شيء به كان،.

وبغيره لم يكن شيء مما كان "(3).

قدم الإنجيلي الكلمة بكونه "الخالق" إذ به كان كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان. لم يقدم هذا إلا بعد الحديث عن العلاقة الأزلية بين الآب والكلمة. فالآب والابن (أو الكلمة) مع الروح القدس فيه التقاء ذاتي داخلي، كلي الحب والحياة. هذه الطبيعة الإلهية التي تفيض حبًا ليست في حاجة إلى الخليقة السماوية أو الأرضية لتحقق الحب عمليًا. الحب عامل بين الأقانيم الإلهية أزليًا، وقد جاءت الخلقة من فيض الحب الإلهي، لا كضرورة لتحقيق حب الله بل ثمرة هذا الحب. وما نقوله عن الخلقة نكرره عن الخلاص بكونه الخلقة الجديدة.

الكلمة الأزلي هو الخالق والمخلص، يحقق مشيئة الآب، التي هي واحدة مع مشيئة الابن.

بقوله "كل شيء به كان"؛ فرز نفسه من كل الخلائق السماوية والبشرية والمادية، فهو خالق كل أحد وكل شيء أينما وجد.

يقصد بـ "به كان" أنه به قد صار إلى الوجود، أو خلق كل شيء. فعل "كان" هنا في اليونانية مختلف عما ورد بخصوص الكلمة، هنا يعني الخلق، وهناك الكينونة الذاتية.

وجاء الحرف "به" يحمل معنى بواسطته ومن خلاله وفيه، فقد خلق وبقي مدبرًا لخليقته معتنيًا بها وحافظًا لها. هذا ما عبر عنه الرسول بولس: "فإن فيه خلق الكل"... به وله قد خلق... وفيه يقوم الكل "(كو1: 16 - 17)." حامل كل الأشياء بكلمة قدرته "(عب 1: 3)." لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد "(أع 17: 28).

يري القديس يوحنا الذهبي الفم أن الإنجيلي يركز على وحدة العمل الخاص بالخلقة بين الكلمة والآب، لإظهار لاهوت الكلمة ومساواته للآب. بالقول: "وبغيره لم يكن شيء مما كان" يؤكد أن دور الكلمة في الخلق أساسي، بدونه استحالة تحقيق الخلقة أو استمرارها.

عندما تحدث موسى النبي عن بدء الخليقة: "في البدء خلق اللَّه السماوات والأرض" خشي لئلا يظن أحد أن الأرض أزلية فأكد أن لها بداية، وأنها من إبداع الخالق. فلو أن الكلمة مخلوق لالتزم الإنجيلي بتأكيد خلقته، لا بالحديث عنه كخالق للكل.

من هو هذا الذي يسقط في هذا الخطأ، إذ يعلن عمن يخلق ويصنع كل الأشياء أنه مخلوق؟ إني أسأل: هل خلق الرب نفسه؟... من يفكر هذا؟ إن اللَّه خلق كل شيء في حكمة (مز 24: 104). إن كان الأمر هكذا، فكيف نفترض أن الحكمة قد خُلقت في نفسها؟

القديس أمبروسيوس.

إن كنت تظن أن تعبير "به" هو علامة على أنه أقل، إذ تجعل من المسيح أداة للخلقة، اسمع (داود) قائلاً: "في البدء يا رب أسست الأرض والسماء عمل يديك" (مز 101 (102): 25). ما قاله عن الآب كخالق يقوله بخصوص الابن، الأمر الذي ما كان يقوله ما لم يحسبه الخالق، وليس مساعدًا لآخر. إن كان تعبير "به" يستخدم هنا أنه ليس لسبب سوى أنه لا يشك أحد في أن الابن غير مولود. بخصوص لقب الخالق ليس هو بأقل من الآب في شيء. اسمع ما يقوله بنفسه: لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحي كذلك الابن أيضا يحي من يشاء "(يو 5: 21).

ألا ترون أنه بهذه الإضافة: "وبغيره لم يكن شيء مما كان" قد عالج كل الصعاب المحدقة، لأن القول: "وبغيره لم يكن شيء مما كان" ثم يضيف "به كان كل شيء"، فإنه يضم الأشياء التي يمكن إدراكها بالعقل (أي التي في العالم غير المنظور) لكنها لا تضم الروح (القدس)...

لئلا يقول أحد: "إن كان كل شيءٍ به كان، فالروح أيضا كان مخلوقًا". أجيبه: "إنني أجزمت أن ما خُلق إنما خلق به، سواء كان غير منظور أو غير مادي، أو في السماء. لهذا لم أقل بطريقة مطلقة" كل شيءٍ "بل قال:" كل شيء كان "، أي المخلوقات، وأما الروح فهو غير مخلوق. أترون دقة تعليمه... لقد استبعد الروح القدس عن كل الخليقة.

بنفس الروح إذ استمد بولس ذات النعمة قال: "به خلق الكل" (كو 1: 16). لاحظوا هنا الدقة عينها. فإن ذات الروح (القدس) هو حرك هذه النفس أيضًا. فلا يوجد أي استثناء من المخلوقات من كونها أعمال الله... "سواء كان عروشًا أم سلاطين، أم رؤساء أم قوات". فإن تعبير "سواء" يضم الكل، مظهرًا لنا أنه ليس شيء آخر إلا هذا أن "به كان كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان".

القديس يوحنا الذهبي الفم.

هل يمكن أن يكون الكلمة من صنع اللَّه؟ لا، لأنه هو أيضًا عند اللَّه في البدء. هل الأشياء التي خلقها اللَّه غير التي خلقها الكلمة؟ لا، لأن كل شيء به كان. بأية وسيلة خلقت بواسطته؟ لأنه فيه كانت الحياة، وقبل خلقتها كانت الحياة موجودة. ما قد خُلق ليس بالحياة، بل خلقت بحكمة اللَّه، وقبل خلقتها كانت الحياة. ما قد خلق يعبر ويزول، وأما ما في الحكمة لا يمكن أن يعبر.

إن قلت: "كل شيء" ففي هذا لا تكذب، لأن هذا الكلمة يُدعي حكمة الله. ولدينا المكتوب: "خلقت كل شيء في الحكمة" (مز ١٠٤: ٢٤).

القديس أغسطينوس.

تتمعن العروس بتأمل في يد العريس التي تمثل قدرته على العمل "حبيبي مد يده من الكوّة" (نش 5: 4) لا تتمكن الطبيعة البشرية من احتواء الطبيعة الإلهية الغير محدودة. تقول العروس: "فأنّت على أحشائي" (نش 5: 4)... تتعجب كل نفس بما لها من قدرة للفهم بالأعمال المبهرة ليد اللّه التي تفوق قدرات الإنسان، لأن الطبيعة الإلهية التي تعمل هذه العجائب لا يمكن فهمها أو احتوائها. فكل مخلوق حي هو من عمل هذه اليد التي ظهرت في الكوّة. لذلك يصرخ يوحنا في إنجيله قائلاً: "كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو3: 1). ويعبر النبي إشعياء عن نفس الفكرة، فيسمى اليد قوة اللّه للعمل: "كل هذه صنعتها يدي، فكانت كل هذه يقول الرب" (إش 2: 66). لا يتمكن عقل الإنسان من فهم هذا الإنجاز: جمال السماء بما فيها من نجوم والشمس وعجائب الخليقة الأخرى. غير أن قلب الإنسان يخاف من قوة اللّه. فإذا كان الإنسان لا يفهم كل أعمال اللّه، فكيف يتمكن من فهم اللّه الذي يعلو على ما في الخليقة؟

دعونا نعيد هذه الآية حتى نستفيد مما سقناه ونجعله يتمشى مع كلمات الوصيفات: "ما حبيبك من حبيب، أيتها الجميلة بين النساء؟ ما حبيبك من حبيب حتى تحلفينا هكذا؟" (نش 5: 9).

دعينا نستمع بانتباه بعدما رُفعت براقعنا، ونلتفت إلى الحق بعيون نفوسنا.

كيف تصف العروس لوصيفاتها ذاك الذي تبحث عنه؟

كيف تصف العروس هيئة من ترغبه في كلمات؟

كيف تُحضر العذارى من لا يعرفونه؟ المسيح غير مخلوق وأيضا مخلوق: ونعلم أن الغير مخلوق هو أبدى وموجود قبل إنشاء العالم، وهو خالق الكل. وعلى الجانب الآخر يرشدنا الجزء المخلوق، لأنه تكوّن حسب جسدنا الوضيع (في 21: 3). ويمكننا فهم الكلمات بطريقة أفضل إذا فحصناها حسب ما جاء بالكتاب المقدس. نحن نعرف أنه في البدء كان الكلمة وأنه كان دائما مع اللّه وأن الكلمة لم يُخلق، وبدونه لم يكن شيء مما كان (يو 1: 1 - 3). والكلمة كان مع اللّه وكان الكلمة اللّه، وبه كان كل شيء. وُلد المسيح، أي أنه أخذ جسدًا وحلّ بيننا. وأظهر تجسده عظمته بوضوح، أنه اللّه، الابن الوحيد للّه الذي هو في حضن الآب، ظهر في الجسد، وقال عنه يوحنا: "والكلمة صار جسدًا وحل بيننا ورأينا مجده كما لوحيد من الآب مملوءًا نعمة وحقًا" (يو 14: 1).

القديس غريغوريوس النيسي.

"كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان". لأننا نؤمن أن كل شيء قد خُلق بواسطة الابن لا نستطيع أن نحسبه كواحدٍ من الكل (المخلوقات)، بل هو غيّرها تمامًا، لأنه ليس ضمن الطبائع المخلوقة، بل نعترف أنه وحده بالطبيعة الإله الحق.

لم ينل قوة من آخر لكي يُخلق، وإنما هو قوة اللَّه الآب، الابن الوحيد، الذي يعمل كل شيء مع الآب والروح القدس. لأن كل شيء من الآب بالابن، لأنه لو خلق الابن منفصلاً عن الآب لما استطاع الابن أن يقول: "أنا في الآب والآب فيّ" (يو10: 14).

القديس كيرلس الكبير.

يقول القديس أغسطينوس] أن البعض مثل اتباع ماني يحسبون الشيطان خالقًا لبعض الكائنات كالذباب. ويرد القديس على هؤلاء بأن اللَّه خالق كل شيء، ويستخدم حتى الكائنات التي تبدو تافهة ومضرة لصالح الإنسان، لتنزع عنه كبرياءه. [لتعلموا يا اخوة أنه من أجل ترويض كبريائنا خُلقت هذه الأشياء لكي تسبب لنا متاعب، فقد استطاع اللَّه أن يحط من كبرياء شعب فرعون لا بالدببة والأسود والحيات بل أرسل عليهم ذبابًا وضفادع، ليخضع كبرياءهم بأتفه المخلوقات].

"فيه كانت الحياة،.

والحياة كانت نور الناس "(4).

يميز الإنجيلي بين "الحياة" الخالقة "والحياة" الزمنية المخلوقة. فيتحدث عن أقنوم الكلمة ليس بكونه حيًا فحسب لكنه "الحياة". وكما يقول السيد المسيح عن نفسه أنه بمولده الأزلي "له الحياة في ذاته" (يو5: 26). فهو جوهر الحياة التي لا تُدرك، لذلك يقول الإنجيلي: "الحياة أظهرت" (1 يو 1: 2)، وذلك خلال التجسد.

هذه الحياة الخالقة تهب حياة للغير، "لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي، كذلك الابن أيضا يحي من يشاء" (يو 5: 21). فهو ليس فيه حياة، لكنه هو الحياة في ذاتها، لهذا "به كان كل شيء". قيل: "تحب الرب إلهك وتسمع لصوته، وتلتصق به، لأنه هو حياتك" (تث 30: 20). ويرنم المرتل: "لأن عندك ينبوع الحياة، وبنورك نعاين النور" (مز 36: 9).

"والحياة كانت نور الناس" (4)، فإذ نقتنيه بكونه حياتنا نستنير، فندرك أن حياتنا الزمنية على الأرض هبة إلهية تدفعنا للانجذاب نحو "الحياة الأبدية"، حيث بهاء المجد الأبدي. نتمتع في السماء بمعرفة كاملة للسيد المسيح ورؤيته وكمال الاتحاد معه والثبوت فيه، فتكون له "الحياة الأبدية". "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يو 17: 3).

كما أن الكلمة هو الحياة الخالقة واهبة الحياة المخلوقة، هكذا هو النور الجوهري الخاص بالطبيعة الإلهية والذي لا يُدني منه، يشرق علينا بنعمته فنصير نورُا يعكس بهاء نوره أينما حللنا. عندما أعلن السيد نفسه لشاول الطرسوسي، قال شاول: "أبرق حولي من السماء نور عظيم، فسقطت على الأرض" (أع22: 7).

يدعوه كلاً من "النور" و "الحياة". فإنه يهبنا النور مجانًا، هذا الذي يصدر عن المعرفة، والحياة التي تتبعه. في اختصار لا يكفي اسم واحد ولا اثنان أو ثلاثة أو أكثر أن يعلمنا ما يخص اللَّه. يلزمنا أن نكون مستعدين أن ندرك سماته الغامضة بوسائل كثيرة.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيد المسيح بكونه الحياة، أو مصدر الحياة، لا يمكن إلا أن يكون أزليًا، وإلا فمن وهب الحياة إن كان هو نفسه غير موجود في وقتٍ ما؟

هو الحياة... التي بلا بداية ولا نهاية، فإنها بهذا تكون بالحقيقة الحياة كما يلزم. فإنه إن كان يوجد وقت ما لم تكن فيه الحياة، فكيف يمكنها أن تكون حياة للآخرين إن كانت هي نفسها غير موجودة؟!.

يقول يوحنا عن المسيح: "فيه كانت الحياة"، فكما أن الآب يمتلك الحياة في ذاته، هكذا أعطى الابن أن يمتلك الحياة في ذاته.

لم يقل يوحنا: "والحياة كانت نور اليهود"، لكنه قال بطريقة جامعة: "والحياة كانت نور الناس"، لأن النور لم يكن لليهود وحدهم وإنما مقدم للجميع عامة، فقد جاءوا إلى هذه المعرفة بعينها، إذ أن هذا النور وُضع مشاعًا للكل.

وإن سألت: ولأي سبب لم يضف "الملائكة" للناس لكنه قال: "والحياة كانت نور الناس"؟ نقول: لأن مقاله في الوقت الحاضر مُقدم لطبيعة البشر، لهم قد جاء يحمل الأخبار السارة للعطايا الصالحة.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

ليس شيء مخلوق صُنع بدونه، لأنه هو الحياة التي جعلت الخليقة ممكنة.

القديس هيلاري أسقف بواتييه.

"فيه كانت الحياة": إنه يمنح الخليقة نعمة الوجود، يعطي أيضًا نعمة البقاء، ويمنح من عنده الأبدية للكائنات التي بطبيعتها ليست أبدية. فيصبح بذلك هو الحياة لكل من جاء إلى الوجود، لكي يبقى في الحياة حسب حدود طبيعته.

لو كان الابن ليس من جوهر الآب بل هو من خارجه لصار خاضعًا للآب كالمخلوقات، فكيف إذن يحيي كل الأشياء، وهو من بين الأشياء المخلوقة؟... كيف نفهم كلمات الرسول بولس الخاصة بطبيعة اللَّه: "الذي يُحي الكل" (1 تي 13: 6) لو كان الابن مخلوقًا، وهو قادر على أن يحي الكل، لأصبحت الخليقة قادرة على أن تحيي نفسها، وليست محتاجة بالمرة للَّه، ولم يعد في الطبيعة الإلهية ما يميزها عن المخلوقات، ولأصبحت مثل اللَّه قادرة على أن تفعل ما يفعله اللَّه.

إذا لم يكن الابن من جوهر اللَّه الآب... فكيف يمكن للمرتل وهو يرى أنه لأمر عجيب يستحق الإعجاب في ذلك الذي هو بالطبيعة اللَّه: "بنورك نعاين النور" (مز9: 36)، وإذا كان الابن كمخلوقٍ ينير كل الأشياء المخلوقة؟ إذن الخليقة تنير نفسها ولا تحتاج لنور اللَّه خالقها.

القديس كيرلس الكبير.

من يريد أن يقتني هذا الكلمة، من يريد أن يكون له الكلمة، لا يبحث عن شيء خارج عنه ليقدمه، بل يقدم نفسه. وإذ يفعل ذلك لا يفقد ذاته كمن يفقد الثمن عندما يشتري شيئًا.

من يقتني الكلمة فليقدم نفسه؛ هذا هو ثمن الكلمة. وكما قيل أن الذي يعطي لا يخسر نفسه، بل يقتني الكلمة الذي يهب ذاته له، كما يربح نفسه أيضًا في الكلمة واهب ذاته.

نقرأ في الكتاب المقدس عن الحكمة: "إنها بهاء النور السرمدي". مرة أخرى نقرأ: "مرآة عظمة الله التي بلا عيب" (حك ٧: ٢٦)... من هذا لنأخذ تماثلاً فنجد مشاركة بين أمرين معاصرين منها ندرك المشاركة في السرمدية. النار تبعث النور، والنور يبعث النار. فإن سألنا أيهما من الآخر. كل يوم ونحن نشعل شمعة نتذكر أمرًا غير منظور ولا موصوف، أن الشمعة كما لو كانت في فهمنا يجب أن تُنار في ليل هذا العالم... قدم لي نارًا بلا بهاء، فأصدق أن الآب كان بدون الابن.

القديس أغسطينوس.

يرى العلامة أوريجينوس أن المسيح جاء روحيًا قبل مجيئه جسديًا. جاء في العهد القديم إلى الكاملين الذين صاروا ناضجين وليسوا أطفالاً في عهدة معلمين ومربين، إذ بلغوا إلى ملء زمانهم الروحي (غلا٤: ٤)، مثل الآباء البطاركة والأنبياء الذين تأملوا مجد المسيح. وكما افتقد المسيح الكاملين قبل رحلته المنظورة حسب الجسد هكذا لا يفتقد الذين بقوا أطفالاً بعد مجيئه ولا يريدون النضوج.

إن فهمنا أن "فيه كانت الحياة" ذاك القائل: "أنا هو الحياة" (يو ١١: ٢٥)، نقول ليس أحد خارج الإيمان بالمسيح هو حي، لكن كل الذين لا يعيشون لله هم أموات. حياتهم هي حياة للخطية وليس للعقل (اللوغوس)، أو أقول إنها حياة الموت.

لنتطلع أولاً إلى العبارة: "إنه ليس إله أموات بل إله أحياء" (مر ١٢: ٢٧)، التي تعادل القول: "ليس إله خطاة بل إله قديسين"... إنه إله الآباء وكل القديسين. لا يجد أحد تسجيلاً في أي موضع أن الله إله أي أحد شرير. لذلك إن كان هو إله القديسين وقد قيل أنه إله الأحياء، فالقديسون هم أحياء، والأحياء هم قديسون. ليس قديس خارجًا عن الأحياء، ولا يُدعى أحد حيًا إن لم يكن له مع حياته حقيقة أنه قديس.

إن كانت الحياة تعادل "نور الناس"، فإنه ليس أحد في الظلمة هو حي، وليس أحد حي هو في الظلمة، بل كل من هو حي هو أيضًا في النور، وكل من في النور هو حي. لهذا فإن من هو حي وحده هو ابن النور، وابن النور هو ذاك الذي تشرق أعماله أمام الناس (مت ٥: ١٦).

يقول بولس أنه كان قبلاً "ظلمة والآن نور في الرب" (١ كو ٢: ١٤ - ١٥). هكذا يمكن للظلمة أن تتحول إلى نور. إنه ليس من الصعوبة لمن يدرك إمكانية كل إنسان أن يتغير إلى ما هو أسوأ أو ما هو أفضل.

إنه يمكن لمن يملك نور الناس ويشترك في أشعته أن يحقق أعمال النور ويعرف نور المعرفة (هو ١٠: ١٢ LXX) لأنه مستنير. لكن يلزمنا أيضًا أن نأخذ بعين الاعتبار الحالة التي للضد، أي أن كل من الأعمال الشريرة والمدعوة معرفة ليست حسب الحق، هذه تملك أسس الظلمة.

العلامة أوريجينوس.

هذا النوع من النور لا يخص الحواس بل العقل، ينير النفس ذاتها. وإذ يقول المسيح نفسه فيما بعد: "لا يقدر أحد أن يقبل إليّ إن لم يجتذبه الآب" (يو 5: 44)، فإنه يسبق الرسول في هذا الموضع ويقدم اعتراضًا معلنًا أنه هو (الابن) الذي "ينير" [9]، فإنكم وإن سمعتم قولاً كهذا عن الآب فلا تظنوا أن هذا يخص الآب وحده، وإنما يخص الابن أيضًا. إنه يقول: "كل ما هو للآب فهو لي" (يـو 15: 16).

"والنور يضيء في الظلمة" (5). يدعو الموت والخطأ ظلمة. فإن النور موضوع الحواس لا يشرق في الظلمة بل خارجًا عنها؛ أما كرازة المسيح فتشرق في وسط الخطأ المسيطر فتبدده. باحتماله الموت غلب الموت، وشفى الذين أُمسكوا فعلاً فيه. هكذا لا يقدر الموت أن يغلبها ولا الخطأ، لأنها بهية في كل موضع، ومشرقة بقوته اللائقة به.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

نور الأذهان أسمى من الأذهان ويتعدى كل الأذهان. هذه هي الحياة التي بها كان كل شيء.

لا تكونوا أيها البشر في الظلمة، في عدم الإيمان، في الظلم، في الشر، في السلب، في الطمع محبين للعالم، فإن هذه في الظلمة. النور ليس غائبًا، بل أنتم الغائبون عن النور.

القديس أغسطينوس.

"والنور يضيء في الظلمة،.

والظلمة لم تدركه "(5).

عمل الكلمة "شمس البر" أن يشرق بنوره على العالم، لكنه لا يلزم الذين في الظلمة أن يقبلوا نوره. الإنسان الذي يرفض النور، ويتمسك بالظلمة، يصير ظلمة لا تُدرك النور ولا تطيقه. كما إن الذي يقبل النور يصير نورًا للعالم ولا يطيق الظلمة.

إن كان الكلمة المتجسد هو "النور الحقيقي"، فإن إبليس باعتزاله مصدر النور صار "ظلمة" يبذل كل الجهد ليجتذب البشرية نحو مملكته، فيحمل سلطانًا عليهم. لهذا دعاه السيد المسيح "سلطان الظلمة" (لو 22: 53).

تقوم مملكة الظلمة على غياب النور الحقيقي، حيث تنفصل عن الكلمة الإلهي، فلا تكون لها "الحياة" ولا "النور" ولا "الحق" ولا "السلام"، بل لها أعمال الظلمة من موت روحي وبطلان وكذب وبغضة وانشقاقات وفساد الخ.

لا تدرك الظلمة النور ولا تطيقه، لذا تأخذ موقف العداوة منه لعلها تحجز النور عنه. وقد ظنت الظلمة إنها قادرة أن تطفئ شمس البرّ بصلبه، ولم تدرك أنه بالصليب حطمت نفسها، ليشرق شمس البرّ على الجالسين في الظلمة. "الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا؛ الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور" (إش 9: 2).

"الظلمة" هي الطبيعة التي تحتاج إلى استنارة، أي الطبيعة المخلوقة... يعلن أن الخليقة العاقلة بدون الطبيعة الإلهية هي ظلمة، وهي عاجزة عن أن تلد شيئًا من نفسها وبقدراتها.

يشرق الكلمة على كل الأشياء القادرة أن تستقبل إشعاعه وإنارته.

الابن الكلمة غير معروف عند الظلمة، لأن المخلوق العاقل على الأرض، أي الإنسان، عبَدَ المخلوق دون الخالق (رو 25: 1). إنه لم يدرك النور، لأنه لم يعرف الخالق.

القديس كيرلس الكبير.

النور يضيء في الظلمة، في هذه الحياة وفي الجسد، والظلمة تطارده، لكنها لن تهزمه. أقصد أن القوة المضادة تثب في عارها ضد آدم المنظور لكنها تصطدم بالله فتنهزم، حتى إذ ننزع الظلمة نقترب إلى النور، عندئذ نصير نورًا كاملاً، أبناء النور الكامل.

القديس غريغوريوس اللاهوتي.

يقول: "الظلمة لم تدركه"، إذ من المستحيل أن يوجد المسيح مقهورًا، ولا يمكن أن يسكن في النفوس التي لا تريد أن تستنير. لكن لا تضطربوا إن النور لا يضم الكل، فإنه لا يحل بالقسر والإلزام بل برضى الشخص وقبوله يحضرنا الله إليه. لا تغلقوا أبوابكم في وجه هذا النور، فتتمتعون بسعادة عظيمة. لكن هذا النور يحل بالإيمان. وإذ يحل ينير بفيضٍ على من يقبله. وإن سلكتم الحياة الطاهرة اللائقة بالنور يبقي ساكنًا في الداخل بلا توقف، إذ يقول: "إن أحبني أحد يحفظ كلامي وإليه نأتي أنا وأبي، وعنده نصنع منزلاً" (راجع يو 14: 23).

وكما إن الشخص لا يقدر أن يتمتع بنور الشمس ما لم يفتح عينيه، هكذا لا يقدر أحد أن يشترك في هذا النور الأبدي ما لم يفتح عين نفسه ويجعلها حاذقة البصر بكل وسيلة.

كيف يحدث هذا؟ عندما تتطهر النفس من كل الأهواء. فإن الخطية ظلمة، وظلمة عميقة، كما هو واضح من أن الناس يمارسونها لا شعوريًا وخفية. "لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور ولا يأتي إلى النور، لئلا توبخ أعماله" (يو 3: 20) "لأن الأمور الحادثة منهم سرًا ذكرها أيضا قبيح" (أف 5: 12). وكما أنه في الظلمة لا يعرف الشخص صديقًا ولا عدوًا، ولا يقدر أن يدرك أية سمة من سمات الأشياء، هكذا أيضًا في الخطية. فالذي يطمع في ربح أكثر لا يميز بين صديقٍ وعدوٍ، والحاسد يحمل عداوة حتى لمن هو ملتصق به جدًا. وواضع المكائد دومًا في صراع مع الكل على السواء….

في اختصار من يرتكب الخطية ليس بأفضل من السكارى والمجانين. وكما أنه بالليل يبدو لنا الخشب والقصدير والحديد والفضة والذهب والحجارة الكريمة متشابهة بسبب غياب النور الذي به نميز بينهم، هكذا من يسلك حياة فاسدة لا يميز سمو ضبط النفس ولا جمال الفلسفة (الحكمة).

القديس يوحنا الذهبي الفم.

من ينصرف عن النور الحقيقي، أي عن الله، يصير للحال أعمى، ومع هذا لا يشعر بعقوبته وإن كان قد نالها فعلاً.

القديس أغسطينوس.

يعبر عن شوقنا بالمرتل: "ويل لي فقد طالت غربتي عليّ، فأسكن معهم في قيدار، تقوم نفسي برحلة طويلة" (مز5: 120، 6 Vulgate). "قيدار" معناها "ظلمة"، والظلمة تمثل العالم الحاضر، إذ قيل لنا: "النور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه" (5).

القديس جيروم.

"كان إنسان مرسل من اللَّه اسمه يوحنا" (6).

فعل "كان" هنا في اليونانية يعني "صار" على عكس فعل "كان" في الآية 1 "كان الكلمة"، إذ جاء في صيغة فعل الكينونة، بمعني أنه كائن لا زمني.

لم يقل الإنجيلي: "أرسل الله يوحنا المعمدان" بل ركز على الإرسالية ذاتها "إنسان مرسل من الله"، غايتها الشهادة لشخص الكلمة الإلهي بكونه النور المُشرق على الجالسين في الظلمة.

إذا سمعت أن يوحنا مُرسل من الله فلا تظن أنه يتكلم بأقواله، لكنه إنما يتكلم أقوال مرسله، ولهذا ُسمى ملاكًا (ملا 3: 1)، وفضيلة الملاك ألا يقول قولاً من ذاته.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

"هذا جاء للشهادة ليشهد للنور،.

لكي يؤمن الكل بواسطته "(7).

ما يشغل ذهن الإنجيلي يوحنا هو الإعلان عن شخص السيد المسيح، حتى نؤمن به، فنتمتع بالحياة الأبدية نورًا لنا في هذا العالم، ومجدًا في الحياة العتيدة، لذا قدم شهادات كثيرة. فتكرر فعل "يشهد" 33 مرة في هذا السفر، واسم "شهادة" 14 مرة.

أما الشهادة فهي شهادة الآب له (5: 31)، وشهادته لنفسه (8: 14)، وشهادة الروح القدس (15: 26)، وشهادة أعمال المسيح له (5: 36)، وشهادة الآباء والأنبياء (5: 39)، وشهادة يوحنا المعمدان (1: 7)، وشهادة التلاميذ (15: 27)، وأيضا شهدت له السامرية والسامريين (ص4) والمولود اعمي الذي أبصر (ص9)، وبعد قيامته شهد توما له.

يقول العلامة أوريجينوس أن الصوت شهد للكلمة مقدمًا ست شهادات:

١. شهد عن عظمته إذ يأتي بعده مع أنه الأزلي السابق له، وأنه واهب النعم والمخبر عن الآب (يو ١: ١٥ - ١٨). يرى أن هذه العبارات كلها هي شهادة القديس يوحنا السابق وليس كما يظن البعض أن جزءً منها هو شهادة الإنجيلي يوحنا.

٢. شهادته أمام إرسالية الكهنة واللاويين القادمين من أورشليم (يو ١: ١٩ - ٢٧).

٣. للمرة الثالثة يشهد عن عظمة المسيح موضحًا أنه غير مستحق أن يحل سيور حذائه (يو ١: ٢٦ - ٢٧) وهو قائم في وسطهم ولم يعرفوه.

٤. شهادته في اليوم التالي أنه حمل الله الذي يرفع خطية العالم (يو ١: ٢٩).

٥. شهادته له بعد أن رأى الروح نازلاً ومستقرًا عليه (يو ١: ٣٢ - ٣٤).

٦. للمرة السادسة يشهد أمام اثنين من تلاميذه أنه حمل الله (يو ١: ٣٥ - ٣٦).

لعل قائل يقول: ما معنى هذا؟ هل يشهد العبد لسيده؟!... أقول له ما قاله المسيح لليهود: "وأنا لا أقبل شهادة من إنسان" (يو 5: 34). وإن قلت: فإن كان المسيح لا يحتاج إلى هذه الشهادة فلِمَ أرسل الله يوحنا؟! أقول لك: لم يرسل يوحنا لأن المسيح محتاج إلى شهادته، فهذا تجديف خطير. فلماذا إذن؟ يخبرنا يوحنا نفسه، إذ يقول: "لكي يؤمن الكل بواسطته" … لا تظن أن السبب أن يوحنا المعمدان حمل الشهادة لكي يضيف شيئًا إلى الثقة في سيده. لا، وإنما لكي يؤمن أولئك الذين من ذات طبقته (البشر).

القديس يوحنا الذهبي الفم.

لم يفترض الإنجيلي أنه ملتزم بتقديم شهادته وحده عن المخلص، بالرغم من أنها شهادة حقّة، حتى لا يتعدى الناموس (الذين يطالب بشاهدين أو ثلاثة)... خصوصًا وهو يعلن عن أمور تعلو على الإدراك، بل يضم إليه يوحنا المعمدان.

شاع كلام مستتر عند البعض بأن يوحنا المعمدان لم يكن إنسانًا حقيقيًا، بل أحد الملائكة القديسين في السماء، استخدم جسدًا، وأرسله اللَّه لكي يعظ الناس. تعتمد هذه الخرافة على عدم إدراك لما قاله اللَّه: "ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ الطريق أمامك" (مت 10: 11؛ ملا 1: 3). وخطأ هؤلاء الذين ابتعدوا عن الحق هو عدم فهمهم لمعنى كلمة "ملاك". فمعناها خادم أو رسول، دون تحديد لحقيقة جوهر هذا الخادم.

القديس كيرلس الكبير.

"لم يكن هو النور بل ليشهد للنور" (8).

فضل المعمدان أن يعيش في البرية بعيدًا عن ترف المدن، وأعلن عن عزمٍ ثابتٍ في ممارسة الفضيلة، وارتقى إلى قمة البرّ الذي يمكن أن يصل إليه إنسان، مما جعل البعض يندهش من أسلوب حياته، بل أن البعض تخيّلوا أنه هو المسيح... تخيّل البعض أنه هو النور نفسه.

قيل عن يوحنا المعمدان: "أقمته سراجًا لمسيحي" (35: 5). مع أنه يُقال عن القديسين أنهم نور... لكننا لا نجهل النعمة التي نالوها من "النور". لأن النور في السراج، وليس من السراج، ولا نور القديسين هو من القديسين، بل باستنارة الحق صاروا "نورًا في العالم، متمسكين بكلمة الحياة" (في 15: 2 - 16).

القديس كيرلس الكبير.

لم يقل يوحنا البشير هذا بلا سبب، ولا كان قوله باطلاً، لكن إذ تحقق عندنا في أكثر الجهات أن الشاهد أعظم من المشهود له وأكثر منه ثقة، فلكي لا يظن أحد في يوحنا المعمدان هذا التوهم أبطل يوحنا البشير في الحال من بداية قوله هذا التوهم الخبيث واقتلعه من أصله، وأظهر من هو هذا الشاهد، ومن هو ذاك المشهود له، وما هو الفرق بين الشاهد وبين المشهود له.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

هكذا كان يوحنا نورًا، لكنه لم يكن النور الحقيقي، لأنه لو لم يستنر لكان فيه ظلمة، لكنه بالاستنارة صار نورًا.

القديس أغسطينوس.

"كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتيًا إلى العالم" (9).

كان هذا التعبير شائعًا بين معلمي اليهود، أن كل إنسان يُولد يرى النور الذي كان محرومًا منه حين كان في رحم أمه. هنا النور يعني الحياة الجديدة، فالطفل المولود أعمى ويُحسب بمولده أنه قد رأى النور، أي انطلق بميلاده إلى حياة جديدة عما كان عليه قبل مولده. هكذا أشرق السيد المسيح بنور حضرته على عالمٍ جديدٍ يتمتع به كل من يُولد روحيًا.

يرى القديس كيرلس الكبير أن الإيمان هو السراج، وكلمة اللَّه المتجسد هو النور، إذ يقول: [كلمة اللَّه هو موضوع إيماننا، وهو النور. فالسراج هو الإيمان، إذ كان هو النور الحقيقي الذي يضيء لكل إنسانٍ آتيًا إلى العالم (يو 9: 1).].

"الحقيقي" تفيد أنه النور الوحيد القادر أن يكشف عن الحق الكلي، ويخبر عن أسرار الإلهيات، فهو نور كامل دائم لا ينقطع. هذا النور الحقيقي وحده قادر أن يدخل إلى معرفة الآب، الإله الحقيقي (يو 17: 3). يقدم لنا نفسه الحق الإلهي الحقيقي الكامل، والخبز الحقيقي النازل من السماء، والكرمة الحقيقية حيث نتمتع بالاتحاد معه كأغصان فيه، وبه نصير ساجدين حقيقيين نسجد له بالروح والحق.

إنه النور "الذي ينير كل إنسان" [9]، إذ يريد أن الكل يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون، هذا من جانبه، إذ لا يريد أن يحجز نفسه عن أحد، لكنه لا يلزم أحدًا بقبوله.

لم يقل "قد أنار" بل "ينير" إذ يفيد الفعل حالة استمرار دائم، يبقى باب محبته مفتوحًا على الدوام، بل وينزل إلى كل أحدٍ ليدعوه للتمتع بنوره. فمن حق كل إنسان أن يقبله ويتمتع به.

إنه النور الذي من يقبله يتمتع باستنارة إلهية فائقة للعقل، من يرفضه يكون كمن تصيب الشمس عينيه الضعيفتين، فيصير أعمي. "أعمي عيونهم، وأغلظ قلوبهم" (يو 12: 40)؛ وكما قال السيد: "لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم، حتى يبصر الذين لا يبصرون، ويعمي الذين يبصرون" (يو 9: 39).

"آتيا إلى العالم" لا تعود على "كل إنسان" بل على "النور الحقيقي"، إذ جاء الكلمة النور الحقيقي بالتجسد إلى العالم. فالإنارة للبشرية لم تتحقق بإشراقه عليهم من بعيد كما تشرق الشمس على أرضنا، وإنما بحضرته إلى عالمنا وحلوله في وسطنا.

أين هم القائلون إن المسيح ليس إلهًا حقيقيًا؟ لأنه دُعي هنا "النور الحقيقي" والحق بذاته والحياة بذاتها.

إن كان ينير لكل إنسان آتِ إلى العالم، كيف لا يزال عدد كبير لم يستنر بعد؟ لأنه ليس الجميع قد عرفوا سلطان المسيح. كيف إذن يعطي نورًا لكل إنسان؟ إنه يعطي نورًا للكل قدر ما يتقبل الشخص النور فيه. أما الذين لا يرغبون فإنهم يغلقون عيون أذهانهم، ويرفضون أشعة هذا النور، ظلمتهم ليست من طبيعة النور بل من شرهم إذ تحولوا عن النور.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

سنصير كالنور باقترابنا إلى نور المسيح الحقيقي. إن تركنا جو الظلمة هذا الذي للأرض وسكنا في الأعالي، نصير نورًا كما يقول الرب (يو9: 5؛ 9: 1). أشرق النور الحقيقي الذي يضيء في الظلمة ونزل إلينا؛ إلا إذا انتشرت قذارة الخطية على قلوبنا فإنها تعتم بهاء نورنا.

القديس غريغوريوس أسقف نيصص.

من كان أصله العدم لا يملك أن يجود، وإنما ينالون أشعة النور الحقيقي الذي يشع منهم عندما يشتركون في الطبيعة الإلهية (2 بط 4: 1). وعندما يتشبهون بالطبيعة الإلهية يدعون نورًا، ويصيرون نورًا.

إذا كان الابن هو بهاء (إشعاع) مجد اللَّه الآب لذلك فهو النور الحقيقي.

إذا كان عقل الإنسان يُدعى سراجًا، وهو ما يشير إليه المزمور: "أنت تضيء سراجي"، فكيف يُقال عنا أننا نحن نور؟ لأن السراج يحصل على نوره من مصدرٍ آخر. أما إذا كان الابن الوحيد وحده هو الذي ينير الظلمة التي فينا، فهو النور الحقيقي، وأما نحن فلسنا النور الحقيقي نهائيًا.

إذا لم يكن الابن وحده بالحق هو النور، بل هذا يخص المخلوقات أيضًا، فماذا نقول عما كُتب عنا: "ولكنكم أنتم جنس مختار، كهنوت ملوكي، أمة مقدسة، شعب مختار، لكي تختبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب" (1 بط 9: 2). فما هي الظلمة التي فينا؟ أو ما هي الظلمة التي كنا فيها، إن كنا نحن بالحقيقة النور؟

كثيرًا ما أشار الكتاب المقدس إلى السيد المسيح بكونه النور الإلهي أو نور الآب (مز 6: 4؛ 11: 97؛ 15: 89؛ 4: 112؛ إش 1: 60، 6: 42، 5: 2؛ يو 35: 12 - 36؛ 1 يو 9: 2 - 10).

القديس كيرلس الكبير.

لأن هذا النور الذي للشمس المنظورة ينير حتى لأتفه الحيوانات وأصغرها. إذن فالبرّ والحكمة هما النور الحقيقي الذي يتوقف العقل عن أن يراها عندما يسوده ارتباك الغضب كما بسحابة. كما لو أن الشمس نزلت على غضب الإنسان. هكذا أيضًا في هذه السفينة حين يكون المسيح غائبًا، يهتز كل واحد بعواصفه وشروره وشهواته الشريرة.

أشرق الرب يسوع نفسه ببهاء كالشمس. صار ثوبه أبيض كالثلج، أشرق هو نفسه كالشمس، مشيرًا إلى أنه النور الذي يضيء كل إنسانٍ آتٍ إلى العالم. ما هذه الشمس لعيني الجسد، هكذا هو بالنسبة لعيني القلب.

القديس أغسطينوس.

الصديق المضيء يكون في نهارٍ دائمٍ طول حياته، نهار لا تقطعه ظلمة، وهو يسبح اللَّه سبع مرات، لأنه صار مرتفعًا عن هذا العالم الذي خُلق في ستة أيام.

عندما أبلغ فردوس اللَّه، وأتأمل غاية الخلق وحكمة اللَّه، اعترف أن أحكام اللَّه عدل.

القديس ديديموس الضرير.

"كان في العالم،.

وكون العالم به،.

ولم يعرفه العالم "(10).

يا للعجب إنه خالق العالم بقدرته، وقد نزل إليه ليحل في وسطنا، ويبعث بنوره إلينا وفينا، لكن العالم الشرير رفضه، مفضلاً جهالة الظلمة عن معرفة النور.

إن كان الإنسان قد صار ظلمة فهو بلا عذر، وظلمته ليست من صنع خالقه، إنما هي من فعل إرادته الشريرة الرافضة للنور الحقيقي.

يقول يوحنا عن المسيح: "كان في العالم، وكوِّن العالم به". بهذا القول يصعد بك إلى فوق أيضًا، إلى ما قبل الدهور، وجود الوحيد، لأنه من يسمع أن به تكوّن هذا العالم كله فإنه حتى وإن كان فاقدًا الحس جدًا، ولو كان عدوًا، ولو كان محاربًا لمجد الله، فسيضطر أن يعترف به طائعًا.

يقول: "ولم يعرفه العالم" إذ أنه يوجد من انحرفوا عن تمييزهم، وقد صرعوا وجنوا جنونًا في أقصى غايته، ويوجد من عرفوه.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

"والعالم لم يعرفه"، ليس لأنه غير معروف، وإنما لأن العالم ضعيف. فالابن ينير، لكن الخليقة تبعثر النعمة. لقد أعطى الكلمة للخليقة النظر لكي تدركه كإله بالطبيعة، ولكن الخليقة بددت العطية، وجعلت الكائنات حاجزًا يمنعها عن التأمل في اللَّه، فلم تفكر إلا في ذاتها، ودفنت عطية الاستنارة بالإهمال.

العالم في الحقيقة مُتهم بعدم الشكر وعدم إدراك خالقه... هذه الحقيقة يعبر عنها النبي، إذ يترنم بخصوص بني إسرائيل: "ونظرت لكي يثمر عنبًا، ولكنه أثمر عنبًا رديئًا وشوكًا" (إش 4: 5 LXX).

القديس كيرلس الكبير.

ليس العالم الذي خلقه هو الذي لم يعرفه.

ما هو العالم الذي خلقه؟ السماء والأرض.

كيف لم تعرفه السماء هذه التي عند آلامه أظلمت الشمس؟

كيف لم تعرفه الأرض التي تشققت عندما عُلق على الصليب؟

"العالم لم يعرفه"، هذا الذي قيل عن رئيسه: "هوذا رئيس هذا العالم آت، ولا يجد له فيّ شيء" (يو ١٤: ٣٠). يُدعى الأشرار "العالم"؛ يُدعى غير المؤمنين "العالم". أخذوا هذا الاسم من ذاك الذي يحبونه.

بحب الله نصير آلهة، وبحب العالم نصير "العالم". لكن "الله في المسيح مصالحًا العالم لنفسه" (٢ كو ٥: ١٩).

قدمت كل الأشياء من كل الجوانب شهادة له، ولكن من الذين لم يعرفوه؟ أولئك الذين بسبب محبتهم للعالم دُعوا "العالم".

خلق العالم به، السماء والأرض وكل ما فيهما. "العالم لم يعرفه"، محبو العالم، ومحتقرو الله، هذا هو العالم الذي لم يعرفه. فالعالم شرير، لأن الذين يفضلون العالم عن الله هم أشرار.

"والعالم لم يعرفه"، ليس العالم الذي قيل عنه: "الله في المسيح مصالحًا العالم فيه" (٢ كو ٥: ١٩).

يوجد عالم شرير، ويوجد عالم صالح. العالم الشرير هم الأشرار الذين في هذا العالم. والعالم الصالح هم كل الصالحين في العالم. هذا ما نلاحظه كثيرًا في الحقل. فنقول: هذا الحقل مملوء بالحنطة، كما نقول أيضًا، ونقول بالحق: هذا الحقل مملوء قشًا. وأيضًا نقول بالنسبة لشجرةٍ ما أنها مملوءة ثمرًا، ويقول آخر عنها إنها مملوءة أوراقًا. وكلٍ من القائل بأنها مملوءة ثمرًا والقائل مملوءة أوراقًا صادقان. فليس امتلاؤها بالأوراق ينزع امتلاءها بالثمار. ولا امتلاؤها بالثمار ينزع كثرة أوراقها.

العالم شرير لأن سكانه أشرار، كما أن البيت شرير ليس بسبب الحوائط وإنما بسبب سكانه.

القديس أغسطينوس.

"إلى خاصته جاء،.

وخاصته لم تقبله "(11).

خلق الله الإنسان لا ليخدمه، فهو ليس بمحتاج إلى خدمة بشرية، لكنه في حبه الفريد للإنسان يريد أن يجعل منه خاصته وأهل بيته. فقد "سار أخنوخ مع الله ولم يوجد، لأن الله أخذه" (تك 5: 24). بينما لا نعلم كيف أخذه، ولا إلى أين ذهب به، لكنه اختطفه ليكون معه على الدوام كأحد أفراد العائلة الإلهية.

يبرز الله حبه الفائق لمؤمنيه، فينسب نفسه إليهم قائلاً: "أنا إله إبراهيم، وإله اسحق، وإله يعقوب". ويكشف موسى النبي عن هذه العلاقة على مستوي الجماعة حيث يحسب الله شعبه نصيبه الشخصي: "إن قسم الرب هو شعبه، يعقوب جبل نصيبه" (تث 32) "إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعبًا أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض" (تث 7: 6)، وكثيرًا ما أعلن الأنبياء إن الله اقتنى شعبه لنفسه خاصة.

وقد جاء الكلمة المتجسد وسط هذه الخاصة، لكن خاصته لم تقبله. كان الرفض جماعيًا من رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين ورؤساء الشعب بل واشترك معهم أحد التلاميذ. وتحقق القول: "يبغضونني بلا سبب" (مز 39: 19؛ 69: 4). لقد صرخوا: "دمه علينا وعلي أولادنا" (مت 27: 25).

سمع الرب صلوات الأنبياء واهتم الآب ألا يهلك جنسنا، فأرسل ابنه من السماء كشافٍ. يقول أحد الأنبياء: "يأتي بغتة السيد الذي تطلبونه" (ملا 1: 3) إلى أين؟ "إلى هيكله"! يقول نبي آخر عند سماعه هذا: "على جبلٍ عالٍ اصعدي يا مبشرة صهيون... قولي لمدن يهوذا". ماذا أقول؟ "هوذا إلهك. هوذا السيد الرب بقوة يأتي" (إش 9: 40، 10). والرب نفسه يقول: "ها أنا ذا آتٍ وأسكن في وسطكم" (زك 10: 2). لكن الإسرائيليين رفضوا الخلاص، لهذا "جئت لأجمع كل الأمم والألسنة" (إش 18: 66). إذ "جاء إلى خاصته، وخاصته لم تقبله". إنك تجيء، فماذا تهب الأمم؟ "جئت لأجمع كل الأمم والألسنة، وأجعل فيهم آية" (إش 19: 66). لأنه متى عُلقت على الصليب أعطي جميع جنودي ختمًا على جباههم.

القديس كيرلس الأورشليمي.

تأمل قول يوحنا: "إلى خاصته جاء"، ليس لأجل حاجة المسيح، لأنه مستحيل أن تكون الذات الإلهية محتاجة، لكنه جاء من أجل الإحسان إلى خاصته.

وقد جعل يوحنا ملامة هؤلاء اليهود أشد لذعًا عندما قال: "وخاصته لم تقبله"، ومع أن المسيح هو الذي جاء إليهم لمنفعتهم إلا أنهم رفضوه، ولم يفعلوا به هذا الفعل فقط، لكنهم أخرجوه إلى خارج كرمه وقتلوه.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

"وأما كل الذين قبلوه، فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد اللَّه،.

أي المؤمنون باسمه "(12).

إن كان قد جاء إلى خاصته، لكن خاصته لم تقبله، فإنه في وسط هذه الخاصة وجدت قلة قليلة أمينة قبلته. هذه القلة طُردت من المجمع، وحرمت من العبادة في الهيكل، ونُظر إليهم كوثنيين، ليسوا من تلاميذ موسى، ولا هم أبناء لإبراهيم الخ. لم يدرك اليهود أن هذه القلة هي خميرة مقدسة لكنيسة الأبكار في السماء، موضع سرور موسى وتهليل إبراهيم ويعقوب؛ يخدمون الهيكل الجديد، ويتمتعون بمجمع القديسين والسمائيين.

إن كان الرب قد دعي شعبه في القديم "إسرائيل ابني البكر" (خر 4: 22)، فإن هذه الخميرة قد احتلت هذا المركز بصورة فائقة خلال البنوة لله، حيث يصيرون "شركاء الطبيعة الإلهية" (2 بط 1: 4).

لقد تبنى العبيد وجعلهم اخوة؛ فدى المسببين وجعلهم شركاء في الميراث.

إن كانوا أبناء الله، إن كانوا قد خلصوا بنعمة المخلص، إن كانوا قد أُشتروا بدمه الثمين، إن كانوا قد وُلدوا من الماء والروح، إن كانوا قد عُينوا لميراث السماء، فهم بالحق أولاد الله.

"ورثة اللَّه ووارثون مع المسيح". إنه لا يخشى أن يكون معه شركاء في الميراث، لأن ميراثه لا ينقص إن ناله كثيرون. بل يصير الوارثون أنفسهم ميراثًا له، ويصير هو بدوره ميراثهم. اسمع بأية وسيلة صاروا ميراثه: "الرب قال له: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك. اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك" (مز2: 7، 8). اسمع بأية وسيلة يصير هو ميراثهم، يقول في المزامير: "الرب نصيب ميراثي، وكأسي" (مز15: 5). لنقتنيه وليقتنينا. ليقتنينا بكونه الرب، ولنقتنيه بكونه الخلاص والنور. ماذا يعطي للذين يقبلونه؟ "أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد اللَّه، الذين يؤمنون باسمه" كي يلتصقوا بالخشبة ويعبروا البحر.

لا تتعجب يا إنسان أنك تصير ابنًا بالنعمة، أن تولد من اللَّه حسب كلمته. فالكلمة نفسه اختار أولاً أن يولد من إنسان لكي تولد أنت من اللَّه حسب الخلاص، فتقول لنفسك: "ليس بدون سبب أراد اللَّه أن يولد من إنسان، لكن لأنه حسبني ذا أهمية ولكي يجعلني خالدًا، من أجلي ولد كإنسان قابل للموت.

القديس أغسطينوس.

وأيضًا كما أن المسيح ابن حقيقي فإننا نصير أبناء عندما نقبل الروح القدس. يقول الكتاب: "إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف بل أخذتم روح التبني" (رو 15: 8)، وإن كنا بالروح القدس قد صرنا أبناء، فواضح أننا في المسيح دعينا أولاًد اللَّه. "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاًد اللَّه" (يو 12: 1).

القديس أثناسيوس الرسولي.

لكن التبني في قوتنا أي "بإرادتنا"، إذ يقول يوحنا إن كثيرين "قبلوه، فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد اللَّه، أي المؤمنون باسمه". أي لم يكونوا قبل الإيمان أولاد اللُه إنما باختيارهم الإيمان تأهلوا لذلك.

إنه ليس مثلكم أنتم الذين تستنيرون فتصيرون أبناء اللَّه... إذ أنتم أبناء بالتبني كما هو مكتوب: "أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد اللَّه أي المؤمنون باسمه. الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من اللَّه". حقًا إننا نولد من الماء والروح، لكن المسيح لم يولد من الآب هكذا. إذ في وقت عماد خاطبه قائلاً: "هذا هو ابني" (مت 17: 3). لم يقل "صار ابني" بل "هذا هو ابني" معلنًا أنه "ابن" حتى قبل العماد.

القديس كيرلس الأورشليمي.

إن سألت: وما الذي ناله أولئك الذين قبلوا المسيح؟ أجبتك: هو قول يوحنا البشير: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله". ويصف البشير تلك العطايا الصالحة للذين قبلوا المسيح وبيَّنها بألفاظ قليلة بقوله: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله". إن كانوا عبيدًا أو أحرارًا أو وثنيين أو حكماء أو غير حكماء، أو نساءً أو صبيانًا، أو شيوخًا، أو أغنياء، أو فقراء أو رؤساء أو عامة، فكلهم قد تأهلوا لكرامة بعينها، فما الذي يكون معادلاً لهذا التعطف على الناس؟

ومع ذلك فإن النعمة لا ينالها الكل، إنما الذين يريدونها، والمجتهدون في امتلاكها، لأن ذلك في سلطان أولئك وُضع لهم أن يصيروا أولادًا، فإن لم يريدوا فلا تتبعهم النعمة ولا تعمل عملاً يخصها، لأن إعطاء النعمة هو من قبل الله، أما قبول الإيمان فهو للإنسان.

لماذا لم يقل: "جعلهم أبناء الله" بل قال: "أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله"؟ ليظهر أننا محتاجون إلى غيرة عظيمة كي نحفظ صورة البنوة التي انطبعت علينا في العماد، وذلك بأن لا يوجد فينا دنس أو وسخ. وفي نفس الوقت يظهر أنه لا يستطيع أحد أن يأخذ هذا السلطان منا ما لم نحن أولاً نحرم أنفسنا منه… لأنه من وهبنا هذه الكرامة في أيدينا أعظم وأفضل من الكل. وفي نفس الوقت يريد أن يظهر أن النعمة لا تحل على الإنسان بغير إرادته، بل تحل على الذين يرغبون فيها، ويتعبون من أجلها. فإنه في سلطان هؤلاء أن يصيروا أبناءه، حيث أنهم ما لم يختاروا هم ذلك لن تحل النعمة عليهم، ولا يكون لها فاعليتها فيهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

"الذين ولدوا ليس من دماءٍ،.

ولا من مشيئة جسد،.

ولا من مشيئة رجل،.

بل من اللَّه "(13).

كان اليهود يطلبون من الأممي لكي يصير دخيلاً أن يمارس ثلاثة أمور: الختان والعماد وتقديم ذبيحة، بهذا يُحسب أنه وُلد من جديد حيث يصير من شعب الله، له حق التمتع بالعهد الإلهي. أما اليهود في مصر فقد أهملوا الختان، ولم يكن ممكنًا لهم الخلاص من عبودية فرعون والتمتع بالميلاد الجديد ما لم يختتنوا ويقدموا دم الفصح، وكأنه يلزم أن يختلط دمهم بدم الحمل ليتقدسوا ويخلصوا ويصيروا مولودين حديثًا. أما وقد جاء ابن الله الوحيد فقدم البنوة لله خلال الميلاد الروحي بالماء والروح.

كشف الإنجيلي يوحنا عن عمل الكلمة في حياة الناس، فقدمه الخالق الذي به كان كل شيء، ثم أوضح أنه هو "الحياة" واهبة الحياة. هذه الحياة الحقيقية تشرق على الإنسان ليتمتع بالنور الصادر من النور الحقيقي. خلال هذه الاستنارة يتمتع الإنسان بإعلان الله ذاته له فيؤمن، هذا الإيمان يرافقه الميلاد الجديد الروحي من الماء والروح. بهذا الميلاد الجديد الذي من الله الروح نصير باكورة الخليقة الجديدة، وخميرة حية تخمر عجين الأمم. "شاء فولدنا بكلمة الحق، لكي نكون باكورة من خلائقه" (يع 1: 18).

إنه ميلاد جديد في نوعه، فهو ليس ثمرة عناصر طبيعية، لأنه ليس من دمٍ. ولا من نتاج غرائز جسدية، لأنه ليس من مشيئة جسد، ولا يتحقق بخطة بشرية، لأنه ليس من مشيئة رجلٍ، إنما هو ميلاد علوي سماوي من الله. إنه ميلاد من الله، ليس للمصدر الطبيعي "الدم" موضع فيه، متحرر من الغرائز الطبيعية ومن القدرات البشرية ومن التخطيط البشري.

جاءت الصيغة في النص اليوناني لكلمة "دماء" بالجمع وليس بالمفرد، لأنه يقصد دماء الآب والأم، وليس يعني "الدم" اليهودي. إذ كان اليهود يفتخرون أنهم من نسل الآباء البطاركة إبراهيم واسحق ويعقوب، دم الجنس المختار.

هذا الميلاد الجديد هو موضع اعتزاز الإنجيلي يوحنا: "انظروا أية محبة أعطانا الله حتى ندعى أولاد الله!" (1 يو 3: 1). "إن علمتم أنه بار هو، فاعلموا أن كل من يصنع البرّ مولود منه" (1 يو 2: 29). "نعلم أن كل من ولد من الله لا يخطئ، بل المولود من الله يحفظ نفسه والشرير لا يمسه" (1 يو 5: 8).

لقد ولدوا من آدم بالضرورة (وليس لهم اختيار في ذلك)... ويولدوا بالمسيح بإرادتهم وبالنعمة.

لا يُلزم البشر أن يولدوا بالمسيح.

إنهم لم يولدوا من آدم لأنهم رغبوا في ذلك. على أي الأحوال كل الذين ولدوا من آدم هم خطاة بالخطية، وكل الذين ولدوا بالمسيح يتبررون ليس بذواتهم بل فيه...

كان الموت عقوبة الخطايا، وفي الرب كانت هبة الرحمة، وليس عقوبة خطية...

لم تكن فيه أية علة لكي يلزم أن يموت، ومع ذلك مات، أما أنت فلديك علّة فهل ترفض الموت؟...

أنت مت في آدم، قم في المسيح، فالاثنان واجبا الأداء لك.

الآن أنت تؤمن بالمسيح، لا ترتد إلى ما هو واجب خلال آدم.

قيود الخطية لن تلحق بك أبديًا، لأن موت ربك المؤقت ذبح موتك الأبدي. نفس الأمر بالنسبة للنعمة أيها الاخوة، وبالنسبة للحق إذ وُعد بهما وأعلنا عنهما.

إذ ينالوا سلطانًا أن يصيروا أبناء الله يولدون من الله. لاحظوا إذن أنهم يولدون من الله "وليس من دماء" مثل ميلادهم الأول، مثل ذاك المولد البائس يصدر عن البِؤس. أما الذين يولدون من الله ماذا كانوا قبلاً؟ مما قد وُلدوا أولاً؟ من دماء، من ارتباط دم الذكر والأنثى، من الاتحاد الجسدي للذكر والأنثى؛ من هذا ولدوا.

مما يولدون الآن؟ من الله.

الميلاد الأول من الذكر والأنثى، والثاني من الله والكنيسة.

لقد وُلدوا، لكنهم وُلدوا من الله. رحم أمهم هو مياه المعمودية.

لا تظنوا أنه أمر عظيم جدًا أن تصيروا أبناء الله، فإنه من أجلكم صار هو ابن الإنسان ذاك الذي هو ابن الله. إن كان قد صار أقل، ذاك الذي كان أكثر، أفلا يستطيع أن يجعل من هذا الأقل الذي هو نحن أن نصير أمرًا أعظم؟

نزل إلينا، أفما نصعد إليه؟

من أجلنا قبل موتنا، أفما يعطينا حياته؟

من أجلكم احتمل شروركم، أفما يعطيكم أموره الصالحة؟

القديس أغسطينوس.

يفعل ذلك حتى إذا تأملنا مكانة ولادتنا الأولى، ومذلتها الكائنة بالدماء وبمشيئة الجسد، وعرفنا علو مكانة ولادتنا الثانية بالمعمودية وشرف حسبها الكائنة بالنعمة، سنظهر حينئذ حرصنا العظيم، ونتأهل لعطية من ولدنا، ونظهر في المستقبل غيرة عظيمة، فإنه رعبنا لا يكون بسيطًا أن ندنس ذلك الثوب الجميل بإهمالنا بعد ذلك ومعاصينا، فنُطرح خارج حجال العرس الداخلي مثل العذارى الجاهلات، أو مثل ذاك الذي لم يرتدِ ثوب العرس (مت 25: 22).

القديس يوحنا الذهبي الفم.

الأعداد 14-18

2. الكلمة صار جسدًا

سرّ الدهور كلها أن الكلمة الإلهي الأزلي صار جسدًا، إذ اتحد اللاهوت بالناسوت، وصار واحدًا منا. من رآه وتلامس معه رأى مجد الابن الوحيد لأبيه كما شهد القديس يوحنا المعمدان بذلك (15 (، وتمتع بالنعمة والحق (17).

"والكلمة صار جسدًا، وحل بيننا،.

ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب،.

مملوء نعمة وحقًا "(14).

يا له من تقديم رائع لأقنوم الكلمة بكونه مع الآب كائن معه من الأزل، وواحد معه في الجوهر، الخالق لكل ما في السماء وعلي الأرض، واهب الحياة، والنور الحقيقي المشرق على الجالسين في الظلمة، يرفعهم فيه لينالوا نعمة التبني لله الآب. الآن لآخر مرة يذكر الإنجيلي اسم "الكلمة" إذ صار جسدًا، فدخل إلى عالم البشر، لا خلال رؤية أو حلم أو كضيف غريب، وإنما كإنسانٍ حقيقيٍ كاملٍ يعيش وسط اخوته الأصاغر. تجسد ليخفي عظمة بهاء لاهوته التي لا تقدر عين بشرية أن تحدق فيه، لكنه خلال هذا السرّ يفتح باب المعرفة والرؤية ليتمتع المؤمن بالبنوة لله والتعرف على الأسرار الإلهية. إنه لا يريدنا أن نقف عند حجاب الجسد ونتجاهل حقيقته، لذا يقول: "طوبي لمن لا يعثر فيّ" (مت 11: 6).

يشبه القديس يوحنا الذهبي الفم البشرية الساقطة بامرأة زانية، وقد نزل العريس السماوي مختفيًا في الجسد لكي لا تخافه فتهرب منه، بل تلتقي معه وتتمتع بالمصالحة مع الآب، وتقبل الاتحاد مع عريسها السماوي إذ تتعرف على أسراره، وتنطلق معه إلى سمواته.

صار الكلمة إنسانًا ليضم البشر فيه فيتمتعوا بالإعلان الإلهي والمعرفة الإلهية عن اتحاد وقرب واختبار.

من أجلنا أخلى نفسه عن مجده الإلهي المنظور، وكما يقول الرسول بولس: "الذي كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه، أخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس" (في2: 6 - 7).. هذا الإخلاء لم يسبب تغييرًا في خصائص لاهوته، لأن لاهوته المتحد بناسوته لم يمتزج معه، إنما بتأنسه صار الكلمة إنسانًا كاملاً حقيقيًا وهو العلي الإله السماوي. بهذا فتح لنا بابًا إلى الأقداس السماوية. "فإذ لنا أيها الاخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع، طريقًا كرسه لنا حديثًا حيًا بالحجاب، أي جسده" (عب 10: 19 - 20).

"ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب مملوء نعمة وحقًا".

في العبارات السابقة حلق بنا الإنجيلي يوحنا في جو الإلهيات حيث نشعر بالعجز الكامل عن إدراك أسرار الكلمة الإلهي. لكنه لم يتركنا في عجز لئلا نيأس، إذ عاد فأعلن أن هذا الكلمة صار جسدًا، صار قريبًا إلينا جدًا، في متناول يدنا، نراه ونلمسه ونسمعه ونعيش معه، نشاركه حياته.

نتطلع إلى ابن الإنسان فنراه وهو الكلمة الإلهي حمل الصليب فدان الخطية بالجسد، إذ قدمه ذبيحة خطية من أجل خلاص العالم ومجده. نراه على الصليب في ساعة مجده الخفي، حيث حملنا بصليبه إلى حضن أبيه أبناء مقدسين وممجدين، شركاء في الطبيعة الإلهية.

هذا الجسد العجيب المصلوب القائم من الأموات هو سرّ ثبوتنا فيه ومجدنا وحياتنا أبديًا، يقدمه لنا على الدوام خلال سرّ الافخارستيا، خلاصًا من خطايانا وحياة أبدية لمن يتناول منه.

لنصغ أيها المستمعون إلى الأناجيل المقدسة، إلى يوحنا اللاهوتي، إذ يقول: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند اللَّه، وكان الكلمة اللَّه". ويكمل قائلاً: "والكلمة صار جسدًا". لأنه ليس حسنًا أن نتعبد لإنسانٍ عاديٍ، ولا أن نقول إن المسيح إله فقط ناكرين ناسوته. لأنه إن كان المسيح هو اللَّه فهذا حق، لكن إن قلنا إنه لم يأخذ الطبيعة البشرية يصير الخلاص غريبًا عنا.

إذن لنتعبد له بكونه إله مؤمنين بتأنسه، لأنه لا نفع من القول عنه أنه إنسان وليس اللَّه، أو أي خلاص لنا إن رفضنا الاعتراف ببشريته مع ألوهيته؟

لنعترف بحضوره إذ هو ملك وطبيب. لأن يسوع الملك إذ صار طبيبًا اتزر بكتان ناسوتنا، وشفي ما كان مريضًا.

المعلم الكامل للرُضع صار رضيعًا بينهم (رو 20: 2) لكي يعطى حكمة للجهلاء. خبز السماء نزل إلى الأرض لكي يطعم الجياع!

القديس كيرلس الأورشليمي.

إذ أعلن أن الذين يقبلونه يولدون من الله ويصيرون أولاد الله، أضاف العلة والسبب لهذه الكرامة التي لا ينطق بها. ألا وهي: "الكلمة صار جسدًا" (14)، فقد أخذ السيد صورة عبد.

لقد صار ابن الإنسان الذي هو ابن الله، لكي يجعل أبناء البشر أبناء لله.

فانه إذ يجتمع العالي بالأسفل لا تُهان كرامته، بل يرفع المنحط من انحطاطه الدنيء؛ هذا ما حدث مع الرب.

ليس من شيءٍ قد قلل من طبيعته بتنازله، بل رفعنا نحن الذين كنا على الدوام جالسين في الخزي والظلمة، إلى مجد لا ينطق به.

هكذا إن تحدث ملك باهتمامٍ وحنوٍ مع إنسان فقيرٍ وضيعٍ، فإن هذا لا يمثل عارًا على الملك، بل يتطلع الكل إلى الآخر باهتمام وتقدير.

وإذا سمعت أن "الكلمة صار جسدًا" لا تضطرب ولا تسقط، لأن المسيح لم ينتقل من جوهره إلى الجسد، لأن هذه الأفكار فيها كفر وإلحاد، لكن جوهره بقي على ما هو، فاتخذ على هذه الجهة صورة عبد.

وإن سألت: ولِم استعمل البشير كلمة "صار"؟ أجبتك استعملها لكي يسد بها أفواه أصحاب البدع، لأنه إذ يوجد أناس يقولون إن أعمال تدبير ربنا كلها إنما كانت خيالاً وتوهمًا، لذلك وضع البشير قوله "والكلمة صار جسدًا"، وبهذا أبطل من بداية كلامه تجديفهم، وبيّن أنه اتخذ جسدًا حقيقيًا...

القديس يوحنا الذهبي الفم.

"حلّ" أو "سكن" skeenoso باليونانية، وهي تعني إقامة مسكن مؤقت أو خيمة للإيواء. هذا المعنى يناسب ناسوت السيد المسيح، الذي رُمز له بخيمة الاجتماع أو المسكن في العهد القديم. وهو مسكن قابل للموت، لكنه دون أن ينفصل عن لاهوته. كما يُستخدم هذا التعبير في اليونانية عن إقامة مبنى يستخدم في المناسبات والأعياد. فتجسد السيد المسيح حول حياتنا إلى عيدٍ لا ينقطع.

إذ ارتبط قلب الإنسان بالأرض فظن أن سكناه عليها أبديًا، ولم يعد قادرًا على الانطلاق بقلبه وفكره وأحاسيسه خارج حدود الأرض والزمن، أعلن الرب منذ القديم اشتياقه للسكنى في وسطهم، حتى يذوقوا خالق الأرض والسماء، فيشتهون الانطلاق إليه والسكنى معه. ففي أيام موسى "غطت السحابة خيمة الاجتماع، وملأ بهاء الرب المسكن، فلم يقدر موسى أن يدخل خيمة الاجتماع" (خر 40: 34 - 35). وفي عصر الأنبياء يعلن الرب: "ترنمي وافرحي يا بنت صهيون، لأني هأنذا آتي وأسكن في وسطك يقول الرب" (زك 2: 10). وفي أرض السبي حيث فقد الشعب أرض الموعد مسكنًا لهم وعدهم الله، لا أن يردهم فحسب ليسكنوا في كنعان، بل يجعل فيهم مسكنًا مقدسًا له، أفضل من الأرض: "ويكون مسكني فوقهم، وأكون لهم إلهًا، ويكونون لي شعبَا" (حز 37: 27).

يصيرون أشبه بتابوت العهد حيث كان الله يعلن عن حضرته على غطائه بين الشاروبين. أما وقد تجسد الكلمة فصار كمن سكن البشرية باتحاد الكلمة بالناسوت، إذ صارت هيكله الجديد، وحل بيننا لنرى مجده، وننعم بالشركة معه. وهكذا فتح لنا تجسده ينبوعًا من النعم لا ينقطع.

"حل بيننا" حتى نتمكن أن ندنو منه وأن نخاطبه ونتصرف معه بمجاهرة كثيرة.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

إذ حلّ الكلمة بإخلائه وتجسده بيننا إنما لنختبر قبسًا من مجده، فنشتهي التمتع برؤية المجد الإلهي. هذا ما اختبره المعمدان في لحظات عماد السيد المسيح، فانفتحت عيناه على معرفته له بصورة أروع.

وهذا ما اختبره بطرس ويعقوب ويوحنا على جبل طابور حين تجلى السيد المسيح أمامهم. وقد سجل لنا بطرس الرسول تلك الخبرة: "لأننا لم نتبع خرافات مصنعة، إذ عرفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه، بل قد كنا معاينين عظمته، لأنه أخذ من الله الآب كرامة ومجدًا، إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسنى: هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به. ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء، إذ كنا معه في الجبل المقدس" (2 بط 1: 16 - 18).

بالصليب والقيامة أعلن مجد حب الرب الفائق للبشرية وشوقه لإقامة الكل من الأموات. وقد عبر سفر إشعياء عن ذلك في حديثه عن العصر المسياني: "يصير المعوج مستقيمًا، والعراقيب سهلاً، فيعلن مجد الرب، ويراه كل بشر معًا، لأن فم الرب تكلم" (إش 40: 4 - 5).

أعلن هذا المجد الإلهي الذي لابن الله الوحيد، إذ بالتجسد الإلهي تعرفنا على حب الآب الفريد لابنه كمصدر لتمتعنا نحن بالحب الإلهي. إذ "بهذا ظهرت محبة الله فينا أن الله أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به" (1 يو 4: 9).

أعلن مجده إذ قدم لنا ابنه الوحيد مصدر النعم والبركات، لكنها تقدم بروح الحق. يغفر خطايانا، لكنه هو يدفع الثمن. يفتح باب السماء، وهو الذي يقدسنا بروحه القدوس لندخل المقادس الإلهية السماوية، بهذا يربط النعمة بالحق.

ما هذا؟ "رأينا مجده مجدًا كما لوحيدٍ من الآب". ما كان يمكننا أن نراه (المجد) ما لم يُظهر لنا خلال جسد يخفيه ويعيش بيننا...

ولكن ماذا يعني "مجدًا كما لوحيدٍ من الآب"؟ حيث أن كثير من الأنبياء أيضًا قد تمجدوا، مثل موسى وإيليا وإليشع. فإليشع أحاطت به مركبة نارية (2 مل 6: 17)، وإيليا صعد عليها، وبعدهما دانيال والثلاثة فتية وآخرون كثيرون أظهروا عجائب ومُجدوا، وظهرت ملائكة للبشر... بل ظهر لهم حتى الشاروبيم والسيرافيم.

يقودنا الإنجيل بعيدًا عن كل هذه، وعن الخليقة، وبهاء العبيد زملائنا ويضعنا أمام ذروة الأمور الصالحة... السيد نفسه، الملك ذاته، الابن الوحيد الأصيل، رب الكل نفسه، رأينا مجده.

تعبير "كما" لا يعني هنا المشابهة أو المقارنة وإنما لفظة تحقيق وتحديد خالٍ من الشك، كأنه قال: "ورأينا مجده مجدًا كما وجب أن يمتلكه ابن وحيد خالص لإله الخليقة كلها وملكها" 1.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

كل جسدٍ هو عشب، وكل مجدٍ كزهر العشب. العشب يجف والزهر يسقط... "أما كلمة الله فتبقى إلى الأبد" (إش ٤٠: ٦، ٧ LXX؛ ١ بط ١: ٢٤، ٢٥).

لكن لكي يعيننا "الكلمة صار جسدًا وحلَّ بيننا" (يو ١: ١٤).

ماذا يعني "الكلمة صار جسدًا؟ الذهب صار عشبًا. صار عشبًا لكي يحترق. احترق العشب لكن بقي الذهب. في العشب لم يحترق (الذهب)، بل غيَّر العشب. كيف غيره؟ أقامه وأحياه ورفعه إلى السماء، وأقامه عن يمين الآب.

حتى في كونه قد صار ابن الإنسان يختلف عنا كثيرًا. نحن أبناء البشر بشهوة الجسد، هو ابن الإنسان بإيمان بتول.

والدة أي إنسان آخر مهما يكن تحبل باتحاد جسدي؛ وكل أحد يُولد من والدين بشريين: من أبيه وأمه. أما المسيح فوُلد من الروح القدس والعذراء مريم.

جاء إلينا، لكنه لم يفارق ذاته (لاهوته)، نعم من ذاته بكونه الله لن يفارق ذاته، بل أخذ ما هو لطبيعتنا.

جاء إلى ما لم يكن هو عليه، ولم يفقد ما كان عليه.

صار ابن الإنسان، ولم يكف عن أن يبقى ابن الله...

لم يأتِ إلينا كمن يترك الآب. ومن عندنا ذهب لكنه لم يتركنا. وإلينا سيأتي مرة أخرى، لكنه لا يترك الآب.

لكي نقتني (رؤيته) إن كنا لا نقدر بعد أن نرى الله الكلمة، لنسمع "الكلمة صار جسدًا"، ناظرين أننا نحن جسديون، فلنسمع الكلمة المتجسد. فإنه لهذا السبب جاء، ولهذا السبب حمل ضعفنا حتى يمكن أن نقبل كلمات الله القوية الحامل ضعفنا.

بحق قد دُعي "اللبن"، إذ يهب لبنًا للرضع حتى يقدم وجبة الحكمة (اللحم) للناضجين.

لترضع الآن في صبرٍ حتى تُنعش رغبة قلبك المملوءة غيرة...

إذ أن الرضع ليس لهم قوة كافية ليأكلوا لحمًا موضوعًا على المائدة، ماذا تفعل الأم؟ إنها تحول اللحم Incarnat إلى مادة جسمها وتجعل منه لبنًا. إنها تجعل منه ما نستطيع أن نأخذه.

هكذا الكلمة صار جسدًا حتى يمكننا نحن الصغار، الذين بالحق كالرضع بالنسبة للطعام، فننتعش باللبن.

لكن يوجد هنا اختلاف بأن تجعل الأم الطعام يتحول من لحم إلى لبن، والطعام إلى لبن، أما الكلمة الذي سكن بنفسه آخذًا الجسد دون أن يتغير حتى يبدو كنسيجٍ من الاثنين.

أولاً لتدركوا تنازل الله. لتتنازلوا فتكونوا متواضعين لأجل أنفسكم، متطلعين إلى الله الذي تنازل متواضعًا لأجلكم أيضًا وليس لأجل نفسه...

اعترفوا بضعفكم؛ ولترقدوا أمام الطبيب في صبرٍ.

عندما تدركوا تنازله ترتفعوا معه، ليس بأن يرفع نفسه بكونه الكلمة، بل بالأحرى يُدرَكْ منكم أكثر فأكثر...

هو لا يزيد، لكنكم أنتم تتقدمون، فيكون كمن ارتفع معكم...

تطلعوا إلى الشجرة فإنها أولا ضربت جذورها إلى أسفل حتى تنمو إلى فوق. تثبت جذرها السفلي في الأرض لكي ما تمتد بقمتها إلى السماء. هل تبذل جهدًا للنمو إلاَّ من خلال التواضع؟ إذن "ليحلّ المسيح بالإيمان في قلوبكم، وأنتم متأصلون ومتأسسون في المحبة... لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله" (أف ٣: ١٧ - ١٩).

لتؤمن أن في هذا الناسوت أخذ ابن اللَّه طبيعتنا كاملة، أي النفس العاقلة والجسد القابل للموت، بدون خطية. لقد شاركنا ضعفنا، لكنه لم يشاركنه شرنا، حتى بالضعف المشترك معنا يحل رباطات شرنا ويُحضرنا إلى برِّه، شاربًا الموت من كأسنا، ساكبًا الحياة من الذي له.

كان قبل وجود جسده، لقد خلق أمه واختارها هذه التي منها يُجعل به، خلق هذه التي منها يُخلق (حسب الجسد). فلماذا تتعجبون؟ فإني أتحدث إليكم عن الله: "وكان الكلمة الله".

إني أتحدث عن الكلمة، الذي هو ربنا، يحمل شيِئًا ما من التشابه مع كلمة البشر، وإن كانت غير متساوية إلى أبعد الحدود، وليس من وجه للمقارنة. ولكن يوجد شيء ينقل إليكم تلميحًا عن شيءٍ من التشابه. نعم فإن الكلمة التي أنطق بها إليكم كانت في قلبي. لقد جاءت إليكم لكنها لم تفارقني. إنها تبدأ أن تكون فيكم وهي لم تكن فيكم. إنها مستمرة معي عندما خرجت إليكم.

إذن كما أن كلمتي قد جُلبت إلى أجسامكم ولم تفارق قلبي، هكذا الكلمة جاء إلى حواسنا ومع ذلك لم يفارق الآب.

كانت الكلمة معي وجاءت في صوت. كانت كلمة الله مع الآب وجاءت في جسد. لكن هل أستطيع أن أفعل بصوتي ما يستطيع (الله) أن يفعله بجسده؟ فإني لست سيدًا على صوتي عندما يطير. أما هو فليس فقط سيدًا لجسده ليولد ويعيش ويعمل، بل وأيضًا إذ مات أقامه ومجده لدى الآب فهو المركبة الحاملة له والتي بها جاء إلينا.

القديس أغسطينوس.

الكلمة صار جسدًا لكي نعبر نحن من الجسد إلى الكلمة. لم يتوقف الكلمة عن أن يبقى على ما كان عليه (الكلمة)، كما لم تُفقد الطبيعة البشرية التي صارت بالميلاد.

القديس جيروم.

"يوحنا شهد له ونادى قائلاً:

هذا هو الذي قلت عنه أن الذي يأتي بعدي صار قدامي،.

لأنه كان قبلي "(15).

إذ بدأ الإنجيلي يوحنا في الكشف عن عمل كلمة الله المتجسد، قدم شهادة القديس يوحنا المعمدان، الذي جاء متأخرًا عنه، لكنه هو كائن قبله وكما قال السيد المسيح: "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (يو8: 58). ولما كانت هذه الشهادة أساسية، ولها أهميتها القصوى، لذا يقول الإنجيلي: "شهد له ونادى" معبرًا بكلمة "نادى" عن الصراخ بصوتٍ عالٍ للفت النظر إلى ما يعلنه، لأنه يمس حياة البشرية وخلاصها ومجدها.

صراخ الشهادة هذا سبق فقدمته اليصابات والدته حين كان جنينًا في أحشائها وقد تعرف على الكلمة المتجسد في أحشاء القديسة مريم عند زيارتها لأمه. يقول الإنجيلي لوقا: "وامتلأت اليصابات من الروح القدس وصرخت بصوت عظيم، وقالت: مباركة أنتِ في النساء، ومباركة هي ثمرة بطنكِ" (لو 1: 41 - 42).

دُعي يسوع المسيح ابن العلي (لو ١: ٣٢)، بينما دُعي يوحنا نبي العلي (لو ١: ٦٧). كان يوحنا خادمًا للعهد الجديد، أما يسوع المسيح فهو وسيط العهد الجديد. يوحنا كان رجلاً عظيمًا له اسم عظيم ورسالة عظيمة، وهو الذي هيأ الطريق ليسوع المسيح. يوحنا كسائر الأنبياء يجلس عند قدمي الله ليتعلموا أو ينالوا رؤى. أما المسيح فهو في حضن الآب (أف ٣: ١١).

إنه الصوت الذي يدوي في القفر، ليهيئ الطريق ليسوع المسيح (إش ٤٠: ٣٠).

"لأنه كان قبلي" لأنه هو خالقي وموجدي للحياة. هو الأول، وهو لقب خاص بالله "الأول والآخر" (١ كو ١: ١٧)، إنه أزلي (مي ٥: ٢).

يقول يوحنا البشير عن يوحنا المعمدان "يوحنا شهد له ونادى قائلاً"، أي أن يوحنا هتف بمجاهرة وبجرأة خلوًا من انقباض.

ولم يقل يوحنا المعمدان عن المسيح إن هذا هو ابن الله الوحيد، الابن الحقيقي، لكنه قال: "هذا هو الذي قلت عنه أن الذي يأتي بعدي صار قدامي، لأنه كان قبلي"، لأنه على مثال أمهات الطيور، إذ أنها لا تعلم أفراخها في الحال ولا في يومٍ واحدٍ الطيران كله، لكنها تخرجها أحيانًا، وأحيانًا تريحها وفي اليوم التالي تطير معها مسافة أكثر من تلك كثيرًا، وعلى هذا المنهج تقتادها إلى العلو الواجب. على هذا المثال كان يوحنا المعمدان، إذ لم يقتد اليهود في الحال إلى الآراء العالية، لكنه علمهم أن يطيروا ويعلوا من الأرض قليلاً قليلاً.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

"ومن ملئه نحن جميعًا أخذنا،.

ونعمة فوق نعمة "(16).

يرى كل من القديسين كبرلس الكبير ويوحنا الذهبي الفم وأغسطينوس أن الحديث هنا ليس تكملة لشهادة القديس يوحنا المعمدان، وإنما المتحدث هنا هو الإنجيلي يوحنا. يعلن الإنجيلي أن الذي هو مملوء نعمة وحقًا (14) هو سرّ الملء للكنيسة كلها، وينبوع نعم لا ينقطع، فيض حب يتفجر على الدوام. فمن كمال ملئه اللانهائي يفيض على كنيسته ليتمتع كل عضو فيها بالشركة في الطبيعة الإلهية.

هو مصدر كل النعم، يملأ مخازننا (أم ٨: ٢١). نتقبل منه النعم كما تتقبل مجاري المياه الماء من الينبوع مصدر الماء. العطايا الإلهية هي نعم grotius أي مجانية (رو ١٢: ٦)، فإذ يسرَّ الآب به لذا يُسر بنا نحن فيه (أف ١: ٦).

"نعمة فوق نعمة" كل نعمة هي وزنة نتقبلها من الله لنتاجر فيها فنربح وزنة أخرى (١بط ١٤: ١٠).

"نعمة فوق نعمة" أي تبقى نعمة الله تفيض علينا بلا توقف. إذ "ليس بكيل يعطي الله الروح" (يو 3: 35). فإن كان المسيح بكونه الكلمة المتجسد قد "سر (الآب) أن يحل كل الملء" (كو 1: 19)، إذ هو الوحيد الملء الكلي بلا حدود، فإنه يفيض ليملأ الكل حسب قياس كل أحد. هذا ما عبر عنه الرسول: "فإن فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديًا، وأنتم مملوؤون فيه" (كو 2: 9 - 10)، وأيضا "الذي يملأ الكل في الكل" (أف1: 23)، "لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله" (أف 3: 19). هذا هو غاية ما نبلغه في المسح يسوع: "إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله، إلى قياس قامة ملء المسيح" (أف 4: 13).

إن كان هو النور الحقيقي الذي ينير كل إنسانٍ، فهو إذن قد أنار يوحنا أيضًا الذي أقر واعترف بحق "من ملئه أخذنا" (١٦).

بعد قوله: "من ملئه أخذنا" أضاف "نعمة فوق نعمة" (يو 16: 1). لأنه بالنعمة خلص اليهود. يقول الرب: "اخترتكم ليس لأجل كثرة عددكم، وإنما من أجل آبائكم". إن كانوا لم يختاروا بواسطة اللَّه من أجل أعمالهم الصالحة، فواضح أنه بالنعمة نالوا هذه الكرامة. ونحن أيضًا نخلص بالنعمة، لكن ليس بنفس الطريقة، ولا بذات الأهداف، بل بما هو أعظم وأسمى. إذن فالنعمة التي فينا ليست كالنعمة التي لهم. إذ لم يعطَ لنا فقط غفران الخطايا (إذ نحن شركاء معهم لأن الكل أخطأ)، وإنما نلنا أيضًا البرّ والتقديس والبنوة وعطية الروح بصورة أكثر مجدًا، وبفيضٍ.

القديس أغسطينوس.

أؤمن أنه موجود قبلي وأكثر كرامة مني مع الآب. وذلك لأني أنا والأنبياء الذين جاءوا قبلي قد قبلوا نعمة إلهية نبوية كبرى وذلك من ملئه، فإن النعمة التي قبلناها منه تخص حرية الإرادة.

العلامة أوريجينوس.

ماذا يعني: "ومن ملئه نحن أخذنا" (16)؟ … يقول إنه لا يملك العطية بالمشاركة، بل هو نفسه ينبوع ذاته وأصل كل صلاح، الحياة ذاتها، النور ذاته، الحق ذاته، يحتجز في داخله غنى صلاحه، بل يفيض بها على الآخرين، ويبقى بعد هذا الفيض في ملئه، لا ينقص وهو يمد الآخرين، بل على الدوام يفيض ويهب الغير ليشاركوه بركاته، ويبقى في كماله كما هو. ما اقتنيه أنا هو بالمشاركة (أي أقبله من الغير)، لدي نصيب قليل من الكل، كنقطة ماء فقيرة إن قورنت بلجة لا تحد أو بحر بلا حدود. وحتى هذا المثل لا يقدر أن يعبر بالكامل عما نحاول أن نقوله… لنفترض وجود مصدر نار، ومن هذا المصدر أشعلت ربوات المصابيح… ألا تبقي النار كما هي في ملئها حتى بعد أن قدمت ما لها لكل مثل هذا العدد؟ واضح لكل إنسانٍ إن الأمر هكذا.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

لقد أعطى الناموس ذاك الذي أعطى النعمة أيضًا، لكنه أرسل الناموس مع عبيد، ونزل بنفسه ليعطي النعمة.

وبأية وسيلة صار البشر تحت الناموس؟ بعدم تحقيقهم للناموس. لأن من يتمم الناموس لا يسقط تحت الناموس، بل يكون مع الناموس، أما الذي تحت الناموس فلا يقوم، بل يكون تحت ضغط الناموس.

إذ صار كل الناس تحت الناموس صاروا بالناموس مذنبين، لذلك صار الناموس فوق رؤوسهم، يظهر خطاياهم ولا ينزعها.

فالناموس يأمر، وواهب الناموس يظهر حنوًا فيما يأمر به الناموس. وإذ يسعى البشر بقوتهم الذاتية أن يتمموا ما يأمر به الناموس سقطوا بسبب تهورهم وعنادهم الجريء، ليس مع الناموس بل تحت الناموس. صاروا مذنبين، لذلك توسلوا طالبين عون مُسَّلم الناموس، وبسبب الشعور بالذنب الذي جاء بالناموس مرض المتكبرون. وصار مرض المتكبرين اعترافًا للمتواضعين.

الآن يعترف المرضى بالمرض، فليأتِ الطبيب، ليشفي المرضى.

من هو الطبيب؟ ربنا يسوع المسيح.

ماذا تعني "نعمة فوق نعمة"؟ بالإيمان عاد اللَّه مدافعًا لصالحنا، وإذ كنا غير أهلٍ لغفران خطايانا، ولأننا كنا غير مستحقين نلنا نفعًا عظيمًا هكذا، فدعي ذلك نعمة. ما هي النعمة؟ ما يُعطى مجانًا... وإذ تنال إحسانًا من اللَّه بالحياة بالإيمان تتقبل الخلود كمكافأة والحياة الأبدية. وهذه نعمة!

القديس أغسطينوس.

"لأن الناموس بموسى أعطي،.

أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا "(17).

الناموس في ذاته عطية عظيمة، ونعمة مقدمة من الله، لتهيئ لنعمة الإنجيل. لكن لا وجه للمقارنة بين الظل والحقيقة. يقدم فيضًا من النعم: يغني الفقراء بكنوز السماء، ويعتق العبيد من أسر إبليس، ويحمل المؤمنين على الأيدي الإلهية وسط الضيقات، ويهب معرفة مستمرة للأسرار الإلهية، ويهب قوة عوض الضعف، ويسكب مجده في داخلنا عوض الهوان. قدم لنا الناموس بكل وصاياه وفرائضه ونبواته ظلالاً أو شبه السماويات، أما السيد المسيح فدخل بنا إلى عمق الوصية لنتعرف على خالق السماء نفسه المختفي وراءها. حملنا السيد المسيح فيه لنختبر في عبادتنا بالروح القدس السماويات عينها التي جاء منها، فنحيا بحياته السماوية.

يتساءل العلامة أوريجينوس: إن كان يسوع قد أعلن أنه الحق (يو ١٤: ٦)، فكيف به قد صار الحق؟ ويجيب هكذا: ما وهبه الله من نعم في العهد القديم كانت رموزًا لنعمة العهد الجديد التي هي "الحق". لهذا فإن مجد العهد الجديد أعظم (٢ كو ٣: ١٠). صار اكتشاف النعمة في العهد الجديد أوضح، وتوزيعها بأكثر سخاء. وهكذا نلنا نعمة العهد الجديد عوض نعمة العهد القديم، ليس لأنها تناقضها، بل تحققها في كمالها بسخاء، تنميها إلى الكمال وتثبتها فينا. إذ نتغير إلى الصورة الإلهية من مجدٍ إلى مجدٍ، من درجةٍ إلى درجةٍ أعلى (٢ كو ٣: ١٨). النعمة التي نتقبلها أشبه بختم يشَّكلنا لنحمل أيقونة المسيح التي تزداد فينا وضوحًا (رو ٨: ٢٩) وتجعلنا أيقونة السماويات (١ كو ١٥: ٤٩).

بتمتعنا بالمسيح ننال النعمة والحق، إذ هو مصدر النعم وكنز الحكمة يقدم ذاته لنا نعمة وحقًا نتمتع به.

في العهد القديم نلنا الناموس في جوٍ من الرعب (عب ١٢: ١٨)، أما العهد الجديد فنلناه في جوٍ من النعمة. بالعهد الجديد نتمتع بالوعود الإلهية الواردة في العهد القديم خلال جوٍ من الرحمة والحق، حسب الوعد الإلهي.

هكذا مع تمتعنا بالنعمة وتذوقنا لها نعطش بالأكثر إلى فيضٍ جديدٍ من النعمة، فكل نعمة في داخلنا تنادي نعمة، وتجذبها إلى أعماقنا. فتصير أعماقنا هدفًا لفيضٍ لا ينقطع من النعم الإلهية المتناغمة معًا.

أُعطيُ الناموس بواسطة خادم، فجعل الناس مذنبين، وجاء العفو من الإمبراطور، وخلص المذنبين.

القديس أغسطينوس.

على أي الأحوال، يأتي الحق في البشر بيسوع المسيح، كما جاء أن الحق في بولس وفي الرسل بيسوع المسيح. ليس غريبًا أن نقول أنه بالرغم من وجود الحق الواحد، يفيض منه كما لو كان الكثير من الحقوق. على أي الأحوال يعرف داود النبي كثرة من الحقوق truths إذ يقول: "يطلب الرب الحقوق" (مز ٣٠: ٢٤). فإن أب الحق لا يطلب حقًا واحدًا بل حقوقًا كثيرة لكي يخلص الذين يملكونها.

العلامة أوريجينوس.

عظيم هو الفارق بينهما، فمن جانب الكلمتان "قد أُعطي" تُنسب إلى شيء يُخدم حينما يستلمه شخص من آخر يُعطي أمرًا بإعطائه إياه، ومن الجانب الآخر فإن "النعمة والحق قد صارا" تناسب ملكًا له سلطان غافر للخطايا ويقوم بنفسه بتقديم الهبة.

عندما كانت حرب عماليق في جبل سيناء استعانت يدا موسى بهرون وهور الواقفين بجواره (خر 17: 12)، أما عندما جاء المسيح فبسط يديه على الصليب بنفسه. ألا تلاحظون كيف أن الناموس أعطي، أما الحق فجاء؟

القديس يوحنا الذهبي الفم.

"اللَّه لم يره أحد قط،.

الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّر "(18).

ينظر إلى هذه العبارة بأنها ختام مقدمة إنجيل يوحنا، إن جاز لنا ذلك، والتي جاءت تقدم لنا الكلمة الإلهي بكونه الاقنوم الإلهي الواحد مع الآب في الجوهر وقد صار جسدًا من أجلنا. هنا يربط بين هاتين الحقيقتين: إنه الكلمة الأزلي، وأنه صار أنسانًا حقيقيًا من أجل بني البشر.

بكونه الكلمة الحقيقي والابن الوحيد الجنس، فإنه وحده يرى الآب رؤية الواحد معه في ذات الجوهر. لا يضارعه في هذا كائن ما على الأرض أو في السماء. ليس من مجال للمقارنة بينه وبين إبراهيم أب الآباء أو موسى مستلم الشريعة أو غيره من الأنبياء، ولا وجه للمقارنة بينه وبين أية طغمة سماوية.

موسى العظيم في الأنبياء رأى شبه الله (عد ١٢: ٨) لكنه لم يستطع أن يرى وجهه (خر ٣٣: ٢٠).

إنه الابن الوحيد الحقيقي القائم بذاته في حضن الآب، أي في أعماقه لن ينفصل قط عنه، موضع سروره، قادر أن يعلن عنه ويكشف عن أسراره الإلهية وخطته الفائقة. هكذا نلنا في المسيح إعلانًا واضحًا عن الآب الذي لم يره أحد قط. هذه هي النعمة، وهذا هو الحق الإلهي الذي صار لنا في المسيح، وهي "المعرفة".

الله روح، فلا يقدر الجسد على معاينته، لذا تجسد الابن ليهبنا الميلاد الجديد الروحي فنرى ذاك الذي لا يُرى (عب ١١: ٢٧)، ونحيا به. هو وحده يفتح الختوم (رؤ ٥: ٩) لنتعرف على أسرار الله.

"الله لم يره أحد قط".

ماذا عن إعلانات العهد القديم؟ فما الذي نقوله لصوت إشعياء العظيم القائل: رأيت السيد جالسًا على كرسيٍ عالٍ ومرتفعٍ وأذياله تملأ الهيكل "(إش 6: ا)؟

وما الذي نقوله لدانيال الذي قال: "كنت أرى أنه وُضعت عروش وجلس القديم الأيام، لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي وعرشه لهيب نار وبكراته نار متقدة" (دا 7: 9

ويعقوب من هذا المنظر تسلم لقبه، إذ دعي إسرائيل، لأن معنى إسرائيل هو الناظر إلى إلهه (تك 32: 28

وما الذي نقوله لموسى القائل بنفسه للرب: "أرني مجدك" (خر 33: 18

آخرون كثيرون قد أبصروا الله، فما غرض يوحنا من قوله: "الله لم يره أحد قط"؟ غرض يوحنا هنا هو: أن تلك المعاينات كانت مناسبة لنزول الله وظهوره، وليست مناسبة لجوهره، لأنهم لو كانوا قد أبصروا طبيعة الله بعينها لما كانوا أبصروها، لأن طبيعته بسيطة مستحيل أن تكون ذات شكل، فطبيعة الله لا تجلس ولا تقوم ولا تمشي، لأن هذه كلها خواص أجسام.

يعلن القديس يوحنا أن كل هذه كانت أمثلة عن تنازله وليست رؤية الجوهر ذاته.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

رب قائل يعترض: إن كان جوهر اللاهوت لا يقع تحت الحواس، فلماذا نتحدث في هذه الأمور؟

نعم، هل لأني لا أستطيع أن أشرب النهر كله يكون هذا سببًا في ألا أستقي منه باعتدال قدر ما يناسبني؟!

هل لأن عيني تعجزان عن استيعاب أشعة الشمس في كمالها لا أنظر إليها قدر ما احتاج؟!

وإذا دخلت حديقة عظيمة ولم أقدر أن آكل كل ثمارها هل تريد مني أن أخرج منها جائعًا؟!

إذن لأسبح اللٌه خالقنا وأمجده، إذ وُهبت لنا وصية إلهية تقول: "كل نسمة فلتسبح الرب" (مز 6: 5).

إنني أسعى الآن لأقوم بتمجيده دون أن أصفه، عالمًا أنه بالرغم من عجزي عن القيام بتمجيده حسبما يستحق، لكن حتى هذا السعي هو من الأعمال التقوية. ويشجع الرب يسوع ضعفي بقوله: "اللٌه لم يره أحد في أي زمان".

يستحيل علينا أن نتطلع إلى اللٌه بأعين بشرية، لأن غير الجسدي لا يقع تحت الأعين الجسدية. وقد شهد الابن الوحيد، ابن اللٌه نفسه، قائلاً: "اللٌه لم يره أحد في أي زمان". فإن فهم أحد مما ورد في حزقيال أنه رأى اللٌه (حز 28: 1)، فإنه ماذا يقول الكتاب المقدس؟ إنه رأى "شبه مجد اللٌه"، وليس الرب ذاته كما هو في حقيقته بل شبه مجده. فإن كانت رؤية شبه المجد تملأ الأنبياء رعدة، فبالتأكيد إن حاول أحد رؤية اللٌه ذاته يموت، وذلك كالقول: "الإنسان لا يرى وجهي ويعيش" (خر 20: 33 "لا يراني ويعيش"). من أجل هذا فإن اللّه بحنو رحمته بسط السماوات أمام لاهوته لكي لا نهلك. لست أقول هذا من عندي بل هو قول النبي: "ليتك تشق السماوات وتنزل من حضرتك تتزلزل الجبال" (وتذوب إش 1: 64).

لماذا تتعجب من سقوط دانيال عند رؤيته شبه المجد، إن كان دانيال عند رؤيته جبرائيل، الذي هو ليس إلا مجرد خادم اللّه، ارتعب للحال وسقط على وجهه ولم يجسر النبي أن يجيبه بالرغم من أن الملاك نفسه جاء على شبه ابن بشر؟ (راجع دا 9: 10، 16، 18). إن كان ظهور جبرائيل أرعب الأنبياء، فهل يرى الإنسان اللّه كما هو ولا يموت؟!

القديس كيرلس الأورشليمي.

قوله: "الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب" يعني أن سلطان الابن مساو لسلطان الآب، لأن الآب الأزلي ما حاز في حضنه جوهرًا غير جوهره، وهذا القول يدلنا على اتفاق الابن مع أبيه في أزليته.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

الذي يرى هو أيضًا يخبر. لكن لا يخبر بكل عظمة من يراه، ولا بكل ما يعرفه، إنما قدر ما يحتمل القابلون للموت (البشر) أن يقبلوا.

القديس جيروم.

شهود للكلمة المتجسد.

بعد هذا الحديث الرائع عن الكلمة المتجسد واهب النعمة يقدم لنا الإنجيلي في بقية الاصحاح الأول الشهادة لشخص ربنا يسوع المسيح:

في اليوم الأول (19 - 28): يشهد يوحنا المعمدان أمام الكهنة واللاويين.

في اليوم الثاني (29 - 34): يشهد عند رؤيته ليسوع.

في اليوم الثالث (35 - 39): يشهد يوحنا المعمدان أمام تلميذين من تلاميذه.

في اليوم الرابع (40 - 42): يشهد أندراوس أمام سمعان.

في اليوم الخامس (43 - 51): يشهد فيلبس أمام نثنائيل.

في اليوم السادس: الشهادة العملية بتحويل الماء إلى خمر (ص 2).

ويلاحظ في هذه الشهادة خلال الأسبوع الأول غالبًا بعد عودته من البرية بعد التجربة مباشرة الآتي:

أولاً: يماثل ما ورد في بدء الخلقة حيث وُجد العالم في ستة أيام واستراح اللَّه في اليوم السابع، هكذا عند تجديد خلقة الإنسان ينتهي الأسبوع حيث يحوّل السيد المسيح الماء إلى خمر ليجد الكل فرحهم في تجديد حياتهم.

ثانيًا: بدأ سفر التكوين بعبارة: "في البدء خلق اللَّه..." ليشير إلى بدء ما قبل وجود الزمن، حيث لم يكن قد خلق الشمس والقمر والكواكب، فلم يكن بعد أزمنة وفصول وأيام (24 ساعة،) بل هي حقبات زمنية مهما بلغ طولها دُعيت أيامًا. هكذا بدأ إنجيل يوحنا بذات العبارة: "في البدء"، لكنه البدء الأزلي حيث لا بداية له، إنها الأزلية حيث اللوغوس الذي هو واحد مع الآب.

الأعداد 19-34

3. شهادة يوحنا المعمدان له

دُعي القديس يوحنا المعمدان رسولاً أو ملاك الله (ملا ٣: ١). لم يذكر عنه الكتاب أنه صنع معجزة ما، ولا أنه رأى رؤى وإعلانات إلهية، لكنه شهد للحق، وجذب الكثيرين للتوبة بحياته الجادة الصارمة مع طهارة وعفة ووضوح الهدف. كان يشتهي خلاص العالم، ونمو ملكوت الله على الأرض، فشهد للمخلص الملك الحقيقي.

لم يكن النور محتاجًا إلى من يشهد له، فهو شاهد لنفسه بنوره، لكن إذ أغلق الإنسان عينيه وصمم أن يفسد قلبه بالشهوات والعصيان أصيب بعمى، لذلك صار في حاجة إلى من يحثه شاهدًا للنور الحقيقي. كان يوحنا كحارس الليل يعلن أن نور الصباح قد أشرق حتى يستيقظ النائمون ويفتحون أعينهم لمشاهدة النور.

جاء يوحنا يعلن أن المسيا الذي طال انتظار المؤمنين لمجيئه قد جاء فعلاً، مخلصًا لكل العالم، وواهبًا المجد لشعبه إسرائيل الجديد.

السيد المسيح هو النور الحقيقي، أما يوحنا فلم يكن بالنور الباطل أو الغاش، إنما المصباح الحامل لنور المسيح فيه. لم يكن العريس الحقيقي، لكنه ليس بمن يغتصب العروس، إنما صديق العريس الذي يفرح بعرسه واتحاده بالعروس.

تمتع يوحنا بمعرفة أعمق عند عماد السيد المسيح وظهور الثالوث القدوس. أعلن يوحنا عن السيد المسيح أنه حمل اللَّه الذبيح (29؛ خر 12؛ إش 7: 53؛ 1 بط 19: 1).

"وهذه هي شهادة يوحنا.

حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه:

من أنت "(19).

هذه هي المرة الثالثة في هذا الاصحاح يقدم الإنجيلي يوحنا المعمدان شاهدًا (1: 7، 15، 19 - 34). لم يلتفت الإنجيلي إلى شخصية المعمدان، وإنما إلى شهادته، إذ يحصر التقليد الرسولي ظهور السيد المسيح وعمله منذ معمودية المعمدان إلى يوم صعوده (أع 1: 21 - 22؛ 10: 37 - 38؛ 13: 23 - 24).

أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين "(9)؛ جاء تعبير" اليهود "في هذا السفر غالبًا ما يشير إلى مجمع السنهدرين بكونه الهيئة العليا للرئاسة الدينية. فقد شكل المجمع لجنة لتقصي حقيقة شخصية يسوع وتقييم أعماله وشعبيته. وهم في هذا يحسبون أنفسهم أنهم يتممون وصية من صُلب الناموس، مع أنهم كانوا غير مخلصين في أعماقهم. تحقق فيهم القول:: وأما النبي الذي يطغى فيتكلم باسمي كلامًا لم أوصه أن يتكلم به أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى فيموت ذلك النبي" (تث 18: 20).

هؤلاء الكهنة واللاويون المذكورون هنا غالبًا ما كانوا أعضاء في مجمع السنهدرين، على مستوى عالٍ في العلم والثقافة، وأصحاب سلطة ونفوذ. لما كان يوحنا المعمدان نفسه من نسل هرون، إذ كان والده كاهنًا لذا لفحص قضيته وخدمته لاق أن يُرسل إليه كهنة ولاويون (وهم من الكتبة والفريسيين من سبط لاوي، لكنهم ليسوا من عشيرة هرون بالذات).

أرسلوا إليه لا ليتحققوا من رسالته فيتجاوبوا معه، لأنهم يحسبون أنفسهم القادة العظماء للشعب. لكنهم أرادوا التعرف عليه من قبيل حب الاستطلاع، أو من قبيل ممارسة السلطة كأصحاب سلطان يشعرون بالمسئولية أن يكشفوا عن حقيقة شخص مثل هذا للشعب، إن كان ذلك وفقًا لمصالحهم. ولعلهم فعلوا هذا ليجدوا فيه علة، فيكتموا هذا الصوت الذي صدر من مصدر آخر غير السنهدرين صاحب السلطة العليا في الأمور الدينية.

سُئل القديس يوحنا المعمدان من السلطات الدينية اليهودية: "من أنت؟" (19، 22). أوضح أنه ليس المسيا، ولا إيليا (2 مل 11: 2)، ولا النبي المخلص (تث 15: 18). أعلن أنه مجرد "صوت" (إش 40: 3)، يتنبأ عن مجيء المسيا [23]. عندئذ سألته السلطات: "إن كنت لا تحتل مركزًا رسميًا في الخدمة فلماذا تعمد؟" كانت أجابته أن عماده ليس غاية في ذاته، بل تهيئة لعمل روحي أعظم يحققه ذاك الذي يأتي بعده وهو كائن قبله، وأن يوحنا غير مستحق أن ينحني ليحل سيور حذائه.

أرسلوا كهنة ولاويين من أورشليم، وهم أوفر كرامة من غيرهم...

وإن سألت: لماذا سأل اليهود يوحنا المعمدان هذا السؤال: "من أنت؟" أجيبك... لقد ظنوا أن خضوع يوحنا للمسيح شيء لا مبرر له، لأن أمورًا كثيرة كانت تُظهر يوحنا عندهم بهيًا جليلاً، أولها جنسه وجلالته وظهور شرفه، لأنه كان ابنًا لرئيس كهنتهم، ثم طعامه وصعوبة طريقته، وإعراضه عن الممتلكات الإنسانية كلها، ولأنه كان مهوبًا بثوبه ومائدته وسكنه وطعامه بعينه، فقد أقام زمانه السالف في البرية. وجميع ما أبصروه في المسيح كان يخالف ذلك، لأن جنس المسيح كان عندهم حقيرًا، إذ قد هاجموه مرارًا قائلين: "أليس هذا ابن النجار؟ أليست أمه تدعى مريم واخوته يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا" (مت 13: 55)، وكان التعيير يتجه نحو الموضع المظنون أنه وطنه على ما ذكر نثنائيل: "أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟" (يو ا: 46). علاوة على أنه ما كان على حقويه منطقة جلد، ولا كان لباسه من وبر الإبل، ولا أكل عسلاً وجرادًا، لكنه كان تدبير حياته يشبه كل الحاضرين، وقد حضر في مجالس شرب مع أناس أشرار وعشارين ليستميلهم إليه. هذا الذي فعله المسيح لم يفهمه اليهود، فعيروه لأجل هذه الأفعال، وقد قيل: "جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب، فيقولون هوذا إنسان أكول وشريب خمر، محب للعشارين والخطاة، والحكمة تبررت من بنيها" (مت 11: 19).

القديس يوحنا الذهبي الفم.

بينما كان الرعاة يحرسون قطيعهم وجدوا "حمل اللَّه"، الذي جزّته البهية والطاهرة كانت مبللة بندى السماء، بينما كانت كل الأرض بجانبه جافة (قض 37: 6). هذا الذي إذ يُرش دمه على قوائم الأبواب يطرد مُهلك مصر (خر 21: 12 - 23)، وينزع خطايا العالم.

القديس جيروم.

"فاعترف ولم ينكر،.

وأقر أني لست أنا المسيح "(20).

من الجانب السلبي أكّد القديس يوحنا أنه ليس بهذه العظمة، فهو ليس بالمسيح المنتظر. إنه لن يقبل أن يسلب المسيح مركزه أو كرامته. كان يوحنا المعمدان مهوبًا، فظنه البعض أنه المسيا. "وإذ كان الشعب ينتظر والجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنا لعله المسيح…" (لو 3: 15). لهذا أسرع يوحنا يؤكد بطلان الإشاعات، معلنًا أنه ليس المسيح.

كان سمو يوحنا عظيمًا جدًا حتى ظن الناس أنه المسيح، وفي هذا قدم برهانًا على تواضعه، إذ قال إنه ليس المسيح.

بينما كانوا يترجون مجيئه، إذ صار حاضرًا قاوموه وتعثّروا فيه كما بحجر منخفض. إذ كان لا يزال حجرًا صغيرًا، قُطع بالحق من جبل بدون يدين، كما يقول دانيال النبي، أنه رأى حجرًا مقطوعًا من الجبل بدون يدين، كما يقول دانيال النبي، أنه رأى حجرًا مقطوعًا من الجبل بدون يدين (دا 2: 34 - 35)... لم يرَ اليهود العميان الحجر الأسفل، لكن يا لعظم عماهم أنهم لا يرون الجبل.

القديس أغسطينوس.

"فأسالوه: إذًا ماذا؟

إيليا أنت؟

فقال: لست أنا.

ألنبي أنت؟

فأجاب: لا "(21).

أعلن أنه ليس بإيليا النبي، وإن كان قد حمل روحه الناري الذي يهيئ الطريق للمسيا (لو ١: ١٧). لذلك قال السيد المسيح أن إيليا جاء ولم يعرفوه (مت ١٧: ١٢). لكنه ليس إيليا حسبما كان يفكر اليهود. فقد كانوا يتوقعون نزوله بالمركبة النارية التي صعد بها إلى السماء، وأنه يقدم لليهود امتيازات مادية أرضية معينة. وأنه ليس النبي الذي تنبأ عنه موسى النبي (تث ١٨: ١٥، ١٨)، ولا أيضًا كأحد أنبياء العهد القديم الذين انشغلوا بأمور إسرائيل وتصحيح أوضاعهم السياسية.

لو أنه قال: "أنا إيليا" يكون ذلك بمعنى أن المسيح قادم فعلاً في مجيئه الثاني للدينونة، وليس في مجيئه الأول ليُحاكم... لقد جاء كرمزٍ (لو 1: 17) حيث يأتي فيما بعد إيليا بشخصه اللائق به، أما الآن ففي شبهه جاء يوحنا.

القديس أغسطينوس.

لم يقولوا ليوحنا: أنبي أنت؟ أي هل أنت واحد من الأنبياء؟ لكنهم سألوه قائلين "ألنبي أنت؟" بإضافة أداة التعريف. بمعنى هل أنت النبي الذي سبق موسى فأخبر عنه (تث 18: 15)؟ أنكر هذا المعنى، ولم ينكر أنه نبي، لكنه أنكر أنه هو ذاك النبي.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

"فقالوا له: من أنت لنعطي جوابًا للذين أرسلونا؟

ماذا تقول عن نفسك "(22).

سألوه أن يجيبهم من هو لا لكي يؤمنوا به، أو يطلبوا العماد منه، وإنما لمجرد تقديم إجابة لمرسليهم. كانوا يتوقعون منه أن ينالوا إجابة واضحة، خاصة وأنه قد حمل ملامح الجدية والصراحة، وقد كان.

لاحظوا كيف يضغطون عليه بأكثر عنف ليحثوه على الإجابة، مكررين أسئلتهم دون توقف، أما هو فبلطفٍ أزال عنهم المفاهيم الخاطئة بخصوص شخصه، ليقدم لهم ما هو حقيقي.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

"قال: أنا صوت صارخ في البرية،.

قوَّموا طريق الرب كما قال إشعياء النبي "(23).

جاء صريحًا في إجابته فنطق بالحق، موضحًا أنه جاء يتمم ما ورد في الكتب، وأنه يحمل سلطانًا إلهيًا كسابقٍ للمسيح، يهيئ له الطريق.

تحدث القديس يوحنا المعمدان عن نفسه أنه الصوت الصارخ في البرية (إش ٤٠: ٣ - ٤). وحين شهد عن المسيح "صرخ" (١٥). فماذا يعني بالصراخ. إنه لا يعني الصوت الخارجي المرتفع أو الصياح، لكنه يتكلم مع الله والناس بلغة الروح التي يسمعها الله حتى وإن صمت اللسان، والتي تخترق قلوب الناس. لقد اعتمد السيد المسيح نفسه شهادة يوحنا المعمدان أنها حق. إذ يقول: "الذي يشهد لي هو آخر، وأنا أعلم أن شهادته التي يشهدها لي هي حق. أنتم أرسلتم إلى يوحنا فشهد للحق" (يو 5: 32 - 33).

إن كان الصوت العقلي للذين يصلون يلزم ألا يكون عاليًا بمبالغة، إلاَّ أنه ليس ضعيفًا، ويليق بهم ألا يرفعوا صرخة أو صيحة، فإن الله يسمع الذين يصلون هكذا.

إنه يقول لموسى: "لماذا تصرخ إليَّ"؟ (خر ١٤: ١٥) بينما لم يصرخ بصوت عالٍ (إذ لم يُذكر ذلك في سفر الخروج)، وإنما خلال الصلاة صرخ بصوت عالٍ بذاك الصوت الذي يسمعه الله وحده.

ولهذا يقول أيضًا داود: "أنا صرخت إلى الرب بصوتي، والرب سمع لي" (مز ٧٦: ٢).

العلامة أوريجينوس.

يرى العلامة أوريجينوس أن البرية هنا تشير إلى النفوس الرافضة لله وللفضيلة، فقد عرف القديس يوحنا أن يتحدث إلى قلوبهم كما بصرخة الروح.

جاء في الأمثال: "لا تمل يمينًا أو يسارًا" (أم ٤: ٢٧). فمن يميل إلى أحد الجانبين يفقد الاستقامة، ولا يعود يتأهل للرعاية الإلهية عندما يتعدى استقامة الطريق. فإن الرب عادل ويحب العدل، ووجهه يتطلع إلى الاستقامة (مز ١٠: ٧) وما ينظره ينيره.

العلامة أوريجينوس.

إذ قال يوحنا المعمدان في المسيح وصفًا عظيمًا عاليًا التجأ في الحال إلى إشعياء النبي، جاعلاً قوله بهذا الوجه مؤهلاً لتصديقه.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

كما أن الصوت يختلف عن الكلمة (الكلام) عندنا، فأحيانًا يمكن أن يصدر صوت بلا معنى بدون كلام، ويمكن أيضًا أن يُعلن الكلام للذهن دون صوت كما يحدث عندما نتأمل في داخلنا، هكذا يوحنا الذي يشبه الصوت في علاقته بالمسيح الذي هو الكلمة، فهو يختلف عن المخلص الذي من جانب معين هو الكلمة.

العلامة أوريجينوس.

جعل المذيع الناس يقفون خلف الديان، ودعا يوحنا الديان (ليأتي). نعم بالحقيقة يدعو يوحنا البشرية لذاك المتواضع حتى لا يختبروا ما سيكون عليه كديّان ممجد.

القديس أغسطينوس.

تهدى العروس المديح العريس: "حلقه حلاوة وكله مُشتهيات" (نش 16: 5). نفس هذه الكلمات كالآتي: يوجد الحلق أسفل الذقن ويصدر الصوت من القصبة الهوائية والحنجرة بواسطة حركة الهواء. بما أن كلمات العريس لذيذة مثل العسل في حلاوتها، فصوته هو عضو الكلمة. وصوته الذي يصدر من الحلق قد يطلق عليه راعٍ ومُفسر للكلمة التي يتكلمها السيد المسيح. وسوف نتمكن من فهم حلق العريس بهذه الطريقة. عندما سُئل يوحنا المعمدان: من أنت؟ قال: "أنا صوت صارخ في البرية" (يو 23: 1). يقدم الرسول بولس برهانًا على أن السيد المسيح يتكلم بداخله وبواسطته أصبح صوته عذبًا (2 كو 23: 13). قدم جميع الأنبياء أنفسهم كأعضاء الصوت للروح القدس وأصبحت أصواتهم عذبة بتثبيت العسل المقدس في حناجرهم. يأكل الملوك والشعوب العسل لما له من فوائد صحية. ولا يقلل التمتع بأكله الرغبة في الاستزادة منه. لذلك تُسمى العروس عريسها "أنه هو كله المرغوب فيه دائمًا" ويعتبر هذا تعبيرًا عن من تبحث عنه. كم هي نعمة عظيمة لأرجل العريس التي تجعله مرغوبًا فيه بشدة. فأرجله كاملة في كل شيء خيّر وتتكون هيئته وجمالها المرغوب فيه من جميع أعضاؤه. فهو مرغوب فيه ليس فقط من أجل عيونه ويداه وخصلات شعره بل أيضا من أجل قدميه ورجليه وحنجرته. فلكل عضو من الأعضاء أهميته الخاصة ولا يقلل من هذه الأهمية ارتفاع أهمية أحد الأعضاء على الأعضاء الأخرى.

القديس غريغوريوس النيسي.

"وكان المرسلون من الفريسيين" (24).

"فسألوه وقالوا له:

فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟ "(25).

كان العماد شائعًا جدًا بين اليهود حيث كانوا يعمدون الداخلين إلى الإيمان اليهودي لكي يتمتع الدخيل بكمال الحقوق التي للمؤمن. لهذا حمل هذا السؤال خبثا، فقد أرادوا أن يصطادوه. لأنه إذ يعمد اليهود القادمين بالتوبة يكون قد تعامل معهم كمن هم من الأمم الوثنيين. ففي معموديتهم إنكار أنهم شعب مختار طاهر، وكأن عمادهم إهانة إلى قدسية الأمة ككل، وإلى كرامة اليهود كشعب الله المختار، وإلى السلطات الدينية كأنها عاجزة عن تحقيق قدسية الشعب. ومن جانب آخر خشوا إن تكون معموديته مسيانية، خاصة بالمسيا المنتظر، يجريها إنسان ليس عضوًا في الهيئة الكهنوتية أو الفريسية، فيكون كمن سحب سلطانهم واعتزل عنهم.

ألا ترون أنهم ليس بدون سبب أرادوا أن يصلوا به إلى هذا (أن يكف عن العماد أو يدعي أنه هو المسيح)؟ أما لماذا لم يقولوا هذا من البداية فقد خشوا لئلا يكتشفهم كل الناس.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

"أجابهم يوحنا قائلاً:

أنا أعمد بماء،.

ولكن في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه "(26).

بحكمة سماوية وبشهادة حق أعلن لهم: "ما بالكم تنشغلون بمعموديتي؟ إنها كلا شيء إن قورنت بمعمودية تتحقق على الأبواب. معموديتي تهيئة لما هو أعظم: معمودية المسيا المنتظر، وقد جاء الوقت وحلّ بينكم وأنتم لا تعرفونه، وهذه هي خطيتكم. أود ألا تنشغلوا بي ولا بمعموديتي، بل بمن أشهد له ولمعموديته!" هكذا بروح إيليا الناري الذي لم يخشَ آخاب الملك وإيزابيل الشريرة بل أرعب قلبيهما، نطق أيضا يوحنا الجديد أمام اللجنة المرسلة من السنهدرين في شجاعة وجرأة بلا خوف. لم ينطق بكلمة فيها تشامخ، بل بروح التواضع وفي نفس الوقت شهد بروح الحق.

إلى الآن المسيح قائم أقرب إلى الإنسان مما يتصور الإنسان نفسه، لكنه غير قادر على معرفة ذلك. وكما قال القديس أغسطينوس أن السيد المسيح كان في داخله عميقًا أعمق من عمقه، وعاليًا أعلى من علوه، وأنه في غباوته خرج خارجًا يبحث عنه، وهو في داخله.

قال يوحنا المعمدان عن المسيح: "في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه"، لأنه كان لائقًا بالمسيح أن يختلط بالشعب كواحدٍ من كثيرين، إذ يعلمنا في كل موضع طبيعته الخالية من الكبرياء.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

لتظهروا أهلاً أن يكون المسيح في وسطكم.

لأنه حيث يوجد السلام يوجد المسيح، إذ المسيح هو السلام.

وحيث يوجد البرّ يكون المسيح، لأن المسيح هو البرّ.

ليكن في وسطكم لكي تروه، لئلا يُقال لكم أنتم أيضًا: "ولكن في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه" (26). لم يره اليهود هؤلاء الذين لم يؤمنوا به. إننا ننظر إليه بالورع، نتطلع إليه بالإيمان.

ليقف إذن في وسطكم، لكي تنفتح لكم السماوات التي تعلن مجد اللَّه (مز1: 19)، فتعلموا مشيئته، وتعملوا أعماله. من يرى يسوع تنفتح السماوات له كما انفتحت لاستفانوس (أع 56: 7).

القديس أمبروسيوس.

"هو الذي يأتي بعدي الذي صار قدامي،.

الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه "(27).

كأن يوحنا يقول إن المسيح أكرم مني قدرًا وأبهى مكانًا.

لم يعمد يوحنا بالروح لكنه كرز بالمسيح وبالروح... إذ لم يعتمدوا لا باسم المسيح ولا بالإيمان بالروح القدس لم يستطيعوا نوال سرّ العماد.

القديس أمبروسيوس.

كأنه يقول: "لا تبدأوا تظنوا أن كل شيء هو في معموديتي، فلو أنها كاملة، لما قام آخر بعدي ليقدم معمودية مختلفة. معموديتي هي مجرد ظل وصورة. لكن يأتي من يضيف إليها الحقيقة. حتى أن مجيئه نفسه بعدي يُظهر بالأحرى كرامته. لو أن الأولى كاملة لما كان يوجد موضع للأخرى. الذي يأتي بعدي أكثر كرامة وبهاءً... ولكي يظهر عدم إمكانية المقارنة قال:" الذي لست مستحقًا أن أحل سيور حذائه ".

القديس يوحنا الذهبي الفم.

إنه لأمر عظيم أن نحمل حذاء يسوع، ولكنه لأمر عظيم أيضًا أن ننحني إلى أموره الجسدية التي حدثت أسفل (على الأرض)، وذلك لكي نتأمل صورته أسفل وأن نحل كل صعوبة تخص سرّ التجسد، كما لو كانت كل سيور حذائه. إنه لأمر واحد هو رباط الغموض وكأنه مفتاح المعرفة (لو ١١: ٥٢) الواحد. فإنه حتى الأعظم بين مواليد النساء (لو ٧: ٢٨) لم يجد في نفسه الكفاءة أن يحل أو يفتح هذه المصاعب، حيث أن الذي ربط وأغلق وحده يمنح لمن يريد أن يحل ويفتح سير حذائه والأمور المغلقة.

إن كانت العبارة الخاصة بالحذاءين لها معناها الخفي يلزمنا ألا نعبر عن ذلك. أظن أن التجسد، حيث أخذ الابن لحمًا وعظامًا هو أحد الحذاءين، ونزوله إلى بيت الجحيم أينما وُجد، والرحلة بالروح إلى السجن هو الحذاء الآخر. جاء في مز ١٥ عن النزول إلى بيت الجحيم: "لا تترك نفسي في الجحيم" (مز ١٥: ١٠)...

العلامة أوريجينوس.

ليس أحد هو العريس سوى المسيح الذي يقول عنه القديس يوحنا: "من له العروس فهو العريس" (يو 29: 3). لذلك هؤلاء (موسى ويشوع بن نون وغيرهما) خلعوا أحذيتهم، أما حذاؤه فلا يقدر أحد أن يحل سيوره، وكما قال القديس يوحنا: "أنا لست مستحقًا أن أحل سيور حذائه" (27).

القديس أمبروسيوس.

يستعير البابا غريغريوس (الكبير) عن العلامة أوريجينوس فهمه للحذاء أنه يشير إلى الجسد القابل للموت، لأنه مصنوع من جلد الحيوانات بعد ذبحها. وكأن الكلمة بتجسده ارتدى الجسد القابل للموت مخفيًا لاهوته. ولم يكن ممكنًا ليوحنا أن يحل سيوره، أي أن يتعرف بعد على أسراره خلال روح النبوة.

كيف تواضع جدًا! لذلك ارتفع جدًا!، لأن من يتواضع يرتفع (لو 14: 11)... لقد قال: "لا أنا بل هو"، أما هم فقالوا: "نحن". يوحنا غير مستحق أن يحل سيور حذائه. كم كان تواضعه لو أنه قال أنه مستحق لذلك، وأما بقوله: "يأتي بعدي من هو كان قبلي، الذي لست مستحقًا أن أحل سيور حذائه" فقد ظهر تواضعه عظيمًا. عندما يقول أنه غير مستحق لفعل هذا. بالحقيقة كان مملوءً من الروح القدس الذي بهذا عرف كخادم سيده، وتأهل أن يكون صديقًا عوض خادم.

القديس أغسطينوس.

"هذا كان في بيت عبرة في عبر الأردن حيث كان يوحنا يعمد" (28).

"بيت عبرة" أو بيت العبور، وهو عبر الأردن. ويرى البعض أنه في هذا الموضع عبر إسرائيل الأردن متجهين نحو أرض الموعد تحت قيادة يشوع.

ذكر البشير المكان لكي يوضح مجاهرة يوحنا المعمدان النذير العظيم بصوته، لأنه ما شهد بالمسيح في بيت ولا في زاوية، لكنه توجه إلى الأردن وأنذر به في وسط جماعة الناس الحاضرين الذين اعتمدوا منه كلهم، ونادى لديهم بذلك الاعتراف العجيب.

النسخ الأكثر صحة تذكر "بيت عبرة" وليست "بيت عنيا"، لأن بيت عنيا ليست عبر الأردن، ولا في البرية بل بالقرب من أورشليم.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

معنى اسم "بيت عبرة" مناسب لمعمودية ذاك الذي يعد شعبًا للرب، إذ تُترجم "بيت الإعداد". "بيت عنيا" يعني "بيت الطاعة". أي إذن مناسب لذاك الذي أُرسل كملاك أمام وجه المسيح ليعد طريقًا أمامه ليعمد مثلما يكون في "بيت الإعداد".

العلامة أوريجينوس.

"وفي الغد نظر يوحنا يسوع مقبلاً إليه،.

فقال: هوذا حمل اللَّه الذي يرفع خطية العالم ") 29).

في شهادة يوحنا له نلاحظ الآتي:

أنه حمل الله فقد اعتادت البشرية أن تقدم الذبائح لله لمراضاته. أما هنا فالذي يُعد الذبيحة هو الله الآب نفسه الذي يقدم ابنه الوحيد ذبيحة.

أنه ذبيحة كفارة أو ذبيحة إثم، قادرة بالحق أن ترفع الخطايا، وليست ظلاً أو رمزًا كالذبائح الحيوانية.

يمتد عملها إلى البشرية كلها. هذا ما كان غريبًا عن الفكر اليهودي، إذ يقول Yalcut Rubeni على سبيل المثال: سوف يحمل المسيا خطايا الإسرائيليين ". أما أن يمتد إلى العالم كله، فهذا ما لا يقبله اليهود.

هنا هو اللقاء الثاني بين شخص السيد المسيح والسابق له يوحنا المعمدان. أما اللقاء الأول فيرويه لنا لوقا الإنجيلي (لو ١: ٣٩ - ٤١) حيث التقى الجنين الذي في أحشاء القديسة مريم بالجنين في أحشاء القديسة اليصابات. وقد قدم لنا العلامة أوريجينوس نوعًا من المقارنة بين اللقاءين.

أولاً: في اللقاء الأول سكب المسيا وهو جنين في بطن أمه نوعًا من مجده على الجنين يوحنا المعمدان، حتى حمل نوعًا من الشبه، لذلك لم يستطع البعض التمييز بين الأصل والصورة. فحسب البعض يوحنا هو المسيا (يو ١: ٢٠)، وظن آخرون السيد المسيح يوحنا قائمًا من الأموات (لو ٣: ٥؛ مت ١٤: ٢؛ مر ٦: ١٤).

ثانيًا: إن كان المسيح هو الكلمة ويوحنا هو الصوت، فقد كان هذا الصوت عاليًا في أحشاء اليصابات حين امتلأت بالروح القدس عند سماعها تحية مريم، فصرخت بصوتٍ عالٍ وقدمت شهادتها (لو ١: ٤٢). وكما يقول العلامة أوريجينوس [هذا هو السبب الذي لأجله ركض يوحنا وصارت الأم كما لو كانت الفم ونبية عن الابن (الكلمة) عندما صرخت بصوت عالٍ وقالت: "مباركة أنتِ في النساء، ومباركة هي ثمرة بطنكِ" (لو ١: ٤٢)].

يتساءل العلامة أوريجينوس لماذا دُعي المخلص حملاً مع أن ذبائح العهد القديم هي ثلاثة أنواع من الحيوانات ونوعان من الطيور: الثور، الحمل، الماعز، يمامتان، فرخا حمام (لا ٥: ٦ - ٧، ١٨). يجيب على ذلك بأن خروفين حوليين كانا يُقدمان كل يوم دائمًا، واحد كتقدمة صباحية دائمة، والآخر كتقدمة مسائية دائمة. [أية ذبيحة دائمة يمكن أن تكون روحية تقدم للكائن الروحي أفضل من الكلمة في أولويته، الكلمة الذي يُدعى رمزيا "الحمل" الذي أُرسل حتى تستنير النفس (لأن هذه هي الذبيحة الصباحية) وترفع أيضًا في نهاية (المساء) وقت العقل المنشغل بالأمور السماوية؟] هكذا نبدأ فجر حياتنا بذبيحة الحمل لنقضي يومنا كله مشغولين بخلاصه حتى يحل مساء عمرنا، فننعم بذات الذبيحة التي تحملنا إلى يومنا الجديد، الأبدية التي لا تنقطع، فنراه في السماء مع القديس يوحنا الحبيب: "الحمل كأنه مذبوح" (رؤ ٥: ٦).

ماذا يلزمنا أن نفهم، وأية عظمة لحمل الله الذي ذُبح لكي يرفع الخطية ليس عن قليلين بل عن كل العالم (٢٩)، الذي من أجله تألم؟ "لأنه إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا العالم أيضًا" (١ يو ٢: ١ - ٢). إذ هو مخلص كل بشر ولاسيما المؤمنين (١ تي ٤: ١٠). إنه هو الذي محا الصك الذي كان علينا بدمه، ورفعه من الوسط، فلم يعد أثر للخطايا التي وُجدت بل مُحيت، مسمرًا إياها على الصليب، هذا الذي إذ جرد الرئاسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم في الصليب (كو ٢: ١٤ - ١٥). هكذا تعلمنا أن نكون فرحين حينما نتألم في العالم. نتعلم علة فرحنا، وهو أن العالم قد انهزم (يو ١٦: ٣٣). وبالتأكيد خضع لمن غلبه. لهذا كل الأمم تتحرر ممن سيطروا عليهم، وصاروا يخدمونه، إذ ينقذ الفقراء من الجبار وذلك بقوة آلامه، ويخلص المسكين الذي لا معين له (مز ٧٢: ٤ - ٥).

صار حمل الله حملاً صغيرًا بريئًا يُقاد للذبح لكي ينزع خطية العالم (إش ٥٣: ٧؛ يو ١: ٢٩). الذي يهب الكلام (الكلمة) للكل صار مقارنًا بحملٍ صامتٍ أمام جازيه (إش ٥٣: ٧)، لكي نتطهر نحن جميعًا بموته، الذي يُوزع كدواءٍ ضد تأثيرات العدو، وضد خطية الذين يشتاقون إلى قبول الحق. فإن موت المسيح أبطل القوات المقاومة للجنس البشري، وأباد بسلطان لا يوصف الحياة في الخطية في حياة كل مؤمن.

العلامة أوريجينوس.

إذ عمده يوحنا مع كثيرين (آخرين) فلئلا يظن أحد أنه أسرع إلى يوحنا بذات الهدف مثل البقية، أي يعترف بخطايا، ويغتسل في النهر للتوبة، لهذا أعطي ليوحنا الفرصة ليقدم الرأي السليم مرة أخري بالقول: "هوذا حمل الله الذي ينزع خطايا العالم"، فيزيل كل شكٍ.

من الواضح تمامًا أن الذي هو طاهر هكذا حتى يستطيع أن ينزع خطايا الآخرين، لا يأتي لكي يعترف بخطايا، بل ليعطي فرصة لذاك المذيع العجيب أن يعلن ما قاله قبلاً بأكثر تحديد لمن سمعوه قبلاً، كما يسمعه آخرون أيضا.

استخدم كلمة "هوذا" لأن كثيرين بحثوا عنه، لهذا السبب الذي يقوله (يحمل خطاياهم) ولمدة طويلة. لهذا أشار إليه عند حضوره، قائلاً: "هوذا" الذي تبحثون عنهم زمانًا طويلاً، إنه "الحمل".

دعاه حملاً، مُذكرًا اليهود بنبوة إشعياء النبي التي تقول: "ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه، كشاةٍ تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها، فلم يفتح فاه" (إش 53: 7).

ذكرهم بالظل الذي تحت ناموس موسى، لكي يقودهم إلى ما هو أفضل، من الرمز إلى الحقيقة. حمل موسى لم ينزع للحال خطايا أحد، أما هذا فيزيل خطايا كل العالم. كان العالم في خطر الدمار فأسرع إليه وخلصه من غضب الله.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

لا تخجل من صليب مخلصنا بل بالأحرى افتخر به. لأن "كلمة الصليب عند اليهود عثرة، وعند الأمم جهالة"، أما بالنسبة لنا فخلاص (1 كو 2: 1، 3). إنه عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين فهو قوة اللَّه (1 كو 18: 1، 23). لأنه كما سبق أن قلت أنه لم يكن إنسانًا مجردًا ذاك الذي مات عنا، بل هو ابن اللَّه، اللَّه المتأنس.

بالأحرى إن كان الحمل في أيام موسى جعل المُهلك يعبر، أفلا ينزع عنا خطايانا ذاك الذي هو حمل اللَّه الذي يرفع خطايا العالم؟!

دم الخراف غير الناطقة وهب خلاصًا، أليس بالأحرى دم ابن اللَّه الوحيد يخلص؟!

من ينكر قوة المصلوب فليسأل الشياطين!

من لا يؤمن بالكلام فليؤمن بما يرى، فكثيرون صُلبوا في العالم، لكن الشياطين لم تفزع من واحدٍ منهم، لكنها متى رأت مجرد علامة صليب المسيح الذي صُلب عنا يُصعقون، لأن هؤلاء الرجال صُلبوا بسبب آثامهم، أما المسيح فصُلب بسبب آثام الآخرين... "لأنه لم يعمل ظلمًا ولم يكن في فمه غش" (إش 9: 53، 1 بط 22: 2). لم ينطق بهذه العبارة وحده، وإلا لشككنا في أنه منحاز لمعلمه. لكن إشعياء قال أيضًا، ذاك الذي لم يكن حاضرًا معه بالجسد لكنه تنبأ بالروح عن مجيئه بالجسد.

ما بالنا نستشهد بالنبي وحده هنا؟ فها هو بيلاطس نفسه الذي حكم عليه يقول: "لا أجد في هذا الإنسان علة" (لو 23: 14) ولما أسلمه غسل يديه قائلاً: "أنا بريء من دم هذا البار".

هناك شهادة أخرى عن يسوع البار الذي بلا خطية، هي شهادة اللص أول الداخلين الفردوس، إذ بكَّت زميله منتهرًا إياه قائلاً: "أما نحن فبعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلنا، وأما هذا فلم يفعل شيئًا ليس في محله (لو 23: 41)، لأن كلينا تحت قضائه.

القديس كيرلس الأورشليمي.

"الزهور ظهرت في الأرض، بلغ أوان القضب، وصوت اليمامة سمع في أرضنا" (نش 2: 12).

يقول العريس: "انظروا فان المروج مزدهرة بأزهار الفضيلة. هل ترى هذا النقاء في جمال النرجس العبق؟ هل ترى ورد التواضع والبنفسج الذي يمثل رائحة السيد المسيح الذكية؟ لماذا إذن لا تعمل تاجًا من هذه الزهور؟ فهذا هو موسم قضب الزهور. لتعمل فرع تاج لتزين بها نفسك. قد حلّ موسم التقليم. يشهد بذلك صوت اليمامة أي أنه يشبه" صوت صارخ في البرية "(متى 3: 3)، فيوحنا المعمدان هو اليمامة. هو الذي تقدم هذا الربيع المنير الذي أنبت لبنى البشر الزهور الرائعة للقضب، وقدمها لكل من رغب في جمعها. إنه هو الذي بيّن لنا الزهرة التي من أصل يسى (إش 1: 11)،" حمل الله الذي يحمل خطية العالم "(يو 29: 1). وهو الذي أوضح لنا التوبة عن الخطية، والحياة حسب الفضيلة. يقول النص:" سُمع صوت اليمامة في أرضنا "، وهي تنادى:" يا أرض "تنادي هؤلاء الذين أُدينوا لخطيتهم، هؤلاء الذين يطلق عليهم الإنجيل" العشارين والزناة "، سمعوا صوت يوحنا المعمدان، بينما لم تقبل البقية تعاليمه.

"أذهب إلى تل المر وإلى جبل اللبان" (نش 6: 4)...

خلصت الطبيعة البشرية ومن وصمة الخطية بعد أن رفع حمل اللّه خطية العالم وحطم الإثم (يو 29: 1). لذلك يقول النشيد: "كلك جميل يا حبيبتي، ليس فيك عيبة" ويضيف إلى ذلك سرّ الانفعال الذي يرمز إليه المرّ (نش 6: 4)، ثم يذكر خليط الأعشاب العطرة والبخور التي تُشير إلى ألوهية المسيح. أن الذي يشارك المسيح في المرّ سوف يحصل على رائحة الأعشاب العطرة والبخور، لأن الذي يتألم معه سينال معه المجد (رو 17: 8). وعندما يكون في المجد الإلهي سيحصل على الجمال الكامل ويكون بعيدًا جدًا عن كل عيب بغيض بواسطة المسيح ومن خلال المسيح ينفصل عن الخطية. إنه مات وقام من الأموات لأجلنا، وله المجد والقوة الآن وإلى الأبد آمين.

القدديس غريغوريوس النيسي.

"هوذا حمل اللَّه". إنه ليس بفرعٍ ممتدٍ من آدم، إنما استمد منه الجسد ولم يأخذ خطية آدم. إنه لم يأخذ الخطية عليه من العجين الذي لنا، إنما هو الذي ينزع خطايانا.

القديس أغسطينوس.

النزع (للخطية) يعمل في كل واحدٍ في العالم حتى تُمحى الخطية من العالم كله، ويسلم المخلص مملكة معدة (١ كو ١٥: ٢٤) للآب، ليس فيها خطية ما قط، مملكة تسمح بحكم الآب وتأتي بالكل إلى الله بكاملها، فيتحقق القول "يكون الله الكل في الكل" (١ كو ١٥: ٢٨).

نؤمَر بذبح الحمل في العشية (خر 12: 6)، حيث أتى الحمل الحقيقي، مخلصنا، إلى العالم (يو 1: 29) في الساعة الأخيرة (1 يو 2: 18).

كل إنجيل يجلب فرحًا بسبب صالح.

المسيح هو الصلاح الذي كان ينتظره الشعب.

العلامة أوريجينوس.

لنتأمل في نفع الإيمان المستقيم. إنه نافع لي أن أعرف أنه من أجلي احتمل المسيح ضعفاتي، وخضع لعواطف جسدي. ومن أجلي، أقول من أجل كل إنسانٍ، صار خطية ولعنة (2 كو 21: 5؛ غلا 13: 3)، من أجلي وفي تواضع وخضوع. ومن أجلي هو الحمل والكرمة والصخرة (يو 36: 1؛ 1: 15؛ 1 كو4: 10)، والعبد وابن أمة (مر 45: 10؛ يو 4: 13، 5؛ مز 16: 86؛ 14: 116، يو 38: 1)، وغير عارف ليوم الدينونة، من أجلي جهل اليوم والساعة (مت 36: 24).

القديس أمبروسيوس.

ماذا يُقصد بالعالم؟

يميل العلامة أوريجينوس الذي يؤمن بخلاص كل البشرية أن العالم كله سيخلص معتمدًا على قول الرسول بولس: "لأننا قد ألقينا رجاءنا على الله الحي الذي هو مخلص جميع الناس، ولاسيما المؤمنين" (١ تي ٤: ١٠). غير أن الرأي السائد في الكنيسة في أيامه غالبًا ما كان يقصد بالعالم هنا العالم الذي استنار بالمخلص فصار كنيسته المقدسة بدمه. وقد عبر عن ذلك العلامة أوريجينوس بقوله: [يرى البعض أن العالم يعني الكنيسة وحدها، بكونها زينة العالم. إذ قيل أيضًا أنها نور العالم، إذ يقول الكتاب: "أنتم نور العالم" (مت ٥: ١٤). الكنيسة هي زينة العالم حيث أن المسيح الذي هو نور العالم الأول هو زينتها... ليته يُقال عن الكنيسة أنها العالم المستنير بالمخلص].

في تسبحة الملائكة في صلاة (تسبحة) باكر نترنم قائلين: "يا حمل الله، يا حامل خطية العالم ارحمنا". يرى البعض إنها من أقدم التسابيح في الشرق والغرب. ففي الغرب قبيل التناول يرددون: "يا حمل الله الرافع خطية العالم، ارحمنا".

"هذا هو الذي قلت عنه:

يأتي بعدي رجل صار قدامي،.

لأنه كان قبلي "(30).

يكرر المعمدان هذه الشهادة أنه وإن سبق في الزمن مجيئه عن مجيء الكلمة المتجسد إنما ليهيئ الطريق، أما من جهة الوجود، فالكلمة كائن أزلي سابق له، وأعظم منه في الكرامة.

يقول المعمدان: "مجيئي ليس له هدف إلا أن يعلن عن المحسن العام لكل العالم المسكون، وأن يقدم معمودية الماء، أما هذا فيطّهر كل البشرية ويهب طاقة الروح. يأتي بعدي ذاك الذي يظهر أكثر مني بهاءً،" لأنه كان قبلي ".

القديس يوحنا الذهبي الفم.

"وأنا لم أكن أعرفه،.

لكن ليظهر لإسرائيل،.

لذلك جئت أعمد بالماء "(31).

غاية رسالة يوحنا هو تقديم يسوع المسيح لشعب إسرائيل مع أنه لم يكن بعد قد رأى وجهه ولا عرفه، ولم يكن قادرًا أن يصفه سوى أنه حمل الله الذي يرفع خطية العالم.

كانا قريبين حسب الجسد... ولئلا يبدو إنه يقدم مجدًا له بسبب القرابة استمر يقول: "وأنا لم أكن أعرفه".

كيف تكون يا يوحنا شاهدًا مؤهلاً للتصديق، كيف تُعلم أناسًا آخرين إن كنت جاهلاً به؟! إلا أن يوحنا لم يقل: "لم أعرفه"، لكنه قال: "أنا لم أكن أعرفه". وبهذه الشهادة صار مؤهلاً لتصديقه كثيرًا، إلا أنك إن سألته: فكيف عرفته؟ يقول لك: عرفته بنزول الروح عليه...

أما كان يمكن ليوحنا أن ينذر بالمسيح بدون التعميد، ويقتاد الجموع بسهولة؟ فأجيبك: لم يكن ذلك ممكنًا البتة، لأنه لو كان قد نادى وأنذر بدون معمودية لما كان أهل ذلك البلد تقاطروا إليه كلهم على هذا المثال في كثرتهم، ولا عرفوا من المقايسة بينهما سمو أحدهما، إذ أن جموع الشعب خرجت إليه ليس لأنهم سمعوا الأقوال التي قالها، لكنهم خرجوا إليه ليعتمدوا ويعترفوا بخطاياهم، فلما جاءوا إليه علَّمهم وعرَّفهم ما شهد به في وصف المسيح والفرق بين المعمودية التي له والتي للمسيح.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

وإن كان قد عرفه وهو لا يزال في رحم أمه (لو ١: ٤١ - ٤٤) بالتأكيد لم يعرف كل شيء عنه، وربما لم يكن يعرف أنه ذاك "الذي يعمد بالروح القدس ونار". عندما رأى الروح نازلاً ومستقرًا عليه (٣٣).

العلامة أوريجينوس.

"وشهد يوحنا قائلاً:

إني قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء،.

فاستقر عليه "(32).

لا تظن أن هذا تجسد، بل ظهور. لقد جلب المظهر أمامه، حتى بالمظهر يؤمن ذاك الذي لم يرَ الروح. وبالمظهر يعلن أنه شريك مع الآب والابن في كرامة السلطة، عمل واحد في السرّ، عطية واحدة في الغطس.

قال بما يليق: "استقر عليه"، لأن الروح أوحى بالكلام أو العمل للأنبياء كيفما شاء، لكنه مستقر على الدوام في المسيح.

لا تهتز من القول: "عليه" إذ هو يتحدث عن "ابن الإنسان"، إذ اعتمد بكونه ابن الإنسان. فهو ليس عليه حسب اللاهوت، بل فيه، كما أن الآب في الابن والابن في الآب.

القديس أمبروسيوس.

يقول البابا أثناسيوس الرسولي أنه إذ استقر الروح على يسوع [فذلك من أجل تقديسنا حتى ما نشارك مسحته.].

لم يكن ممكنًا أن يصيروا أبناء، لأنهم بالطبيعة مخلوقات، ما لم يتقبلوا روح ذاك الذي بالطبيعة الابن الحقيقي. فلكي يتحقق ذلك "صار الكلمة جسدًا"، لكي ما يجعل الإنسان قادرًا على اللاهوت.

يعمل الآب كل الأشياء بالكلمة في الروح القدس، بهذه الوسيلة تحفظ وحدة الثالوث القدوس.

البابا أثناسيوس الرسولي.

لست أتحدث عن المسيح الذي يسكن الروح فيه، ليس كمن يهب طاقة energoun ouchos، بل كرفيق لذاك الذي له ذات الكرامة.

القديس غريغوريوس النزينزي.

لم يتردد القديس يوحنا الذهبي الفم عن أن يعلن أن يسوع كان مملوءً بالروح، إذ "هو روحي، لأن الروح نفسه شكله (من جهة تأنسه)، إنه كلمة اللَّه كما أنه طاقة الروح".

كان القديس غريغوريوس أسقف نيصص معارضًا للقول بأن الروح عمل في المسيح: "أضيف الإشارة إلى أن المسيح الذي سكن في الروح ليس كمن يعطيه طاقة بل كمن هو رفيق بكونه مساوٍ له في الكرامة. كان يلذ للقديس غريغوريوس أسقف نيصص أن يتحدث عن الروح القدس كرفيق للكلمة المتجسد، ويجعل أعماله مُعلنة.

خصص القديس كيرلس الكبير الأناثيما 9 للتعليم الخاص بحضور الروح القدس في المسيح. لا يحتاج اللَّه الكلمة إلى الشبع خلال الروح، لأنه هو قدوس بالطبيعة. على العكس فإن جسد الكلمة المتجسد صار يستقبل الروح، بكونه هيكل اللاهوت.

إنه آدم الثاني الذي يشبه واحدًا منا، تقبل الروح من الآب، لكي يحفظ طبيعتنا... الروح قد فارقنا بسبب الخطية، وقد صار ذاك الذي لا يعرف خطية يشبه واحدًا منا، حتى يبقى الروح فينا بلا انقطاع.

بسبب الخطية لم يجد الروح راحة في الكائنات البشرية، ولكن إذ صار كلمة اللَّه إنسانًا، فإنه عليه وحده، البكر الثاني للجنس البشري، استقر الروح على الطبيعة البشرية، لكي يستقر أيضًا علينا.

بعد أن صار إنسانًا، كان له أن يقبل الروح، وإذ فعل هذا ولم يعرف خطية أراد الروح أن يسكن فيه ويستقر عليه بكونه بكر الجنس البشري، وأصله الثاني.

إذ كان جسمه كله مملوء بطاقة الروح المحيية، لهذا دعا جسده روحًا، دون أن ينكر أنه جسد.

القديس كيرلس الكبير.

يأتي المسيح؛ والروح يهيئ طريقه. يأتي في الجسد والروح لا ينفصل عنه قط، يعمل عجائب ويمنح أشفية من الروح القدس. الشياطين تخرج بالروح القدس. حضور الروح يفسد الشيطان. غفران الخطايا يعطى بعطية الروح. لقد اغتسلتم وتقدستم... باسم الرب يسوع المسيح وبروح إلهنا "(1 كو 6: 11).

القديس باسيليوس الكبير.

"عيناه كالحمام على مجارى المياه" (نش 5: 12)... يُعبر النص عن الحياة الروحية النقية بالحمام، الذي شاهد شبيهها يوحنا عندما حلَّ الروح القدس على المياه (يو 32: 1)، لذلك فإن الذي يُعيّن بواسطة اللّه كعيون لجسد الكنيسة يجب عليه أن يغسل أي شيء يعوق بصره، لكي يقوم بوظيفة المراقبة والرؤية كما يجب. يقول اللّه أنه لا يوجد نوع واحد من المياه لغسل عيوننا، بل توجد أنواع كثيرة. فتوجد فضائل عديدة تمثل عدة ينابيع لتنقية المياه التي نغسل بها عيوننا لكي تُصبح نقية. والأمثلة على هذه الينابيع لتنقية المياه هي: المثابرة والعمل الدءوب، والتواضع، والصدق، والبر، والحزم والشجاعة، والرغبة في عمل الخير، والبعد عن الشر. تفيض أنواع هذه المياه وغيرها من نبع واحد وهو يضم مجاريها في مجرى واحد وبواسطتها تتنقى العيون من أي إفرازات للانفعالات.

القديس غريغوريوس النيسي.

"وأنا لم أكن أعرفه،.

لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي:

الذي ترى الروح نازلاً ومستقرًا عليه،.

فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس "(33).

يسوع المسيح هو ابن اللُه، ومع هذا لم يكرز قبل العماد بالإنجيل (الذي صُلبه التمتع بالتبني للُه خلال السيد المسيح).

إن كان السيد نفسه قد اتبع هذا الوقت المناسب اللائق، فهل يجوز لنا نحن خدامه أن نخالفه النظام؟! إذ (من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز) عندما "نزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة" (مت 17: 4، لو 22: 3)، لا لكي يراه يسوع فيعرفه، إذ هو يعرفه قبلما يأتي عليه على هيئة جسمية، إنما لكي يراه يوحنا الذي يعمده إذ يقول: "لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي: الذي ترى الروح نازلاً ومستقرًا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس" (يو 23: 1).

إن كنت أنت أيضًا تحمل درعًا قويًا فإن الروح القدس يحل عليك، والآب يكلمك من فوق من الأعالي ليس قائلاً: "هذا هو ابني" بل "الآن صرت ابني"، لأن فعل المضارع في "هذا هو ابني" يخص الابن وحده الذي "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند اللُه وكان الكلمة اللُه" (يو 1: 1)، فهو وحده الذي يقال له: "هو ابني" إذ هو على الدوام ابن اللٌه. أما أنت فيُقال لك: "الآن تكون" إذ لا تحمل بنوة طبيعية بل تتقبلها بالتبني. هو ابن سرمدي، أما أنت فتقبلت النعمة مؤخرًا.

القديس كيرلس الأورشليمي.

ما الذي لم يكن قد عرفه؟ إنها قوة معمودية الرب، فهي لن تنتقل من الرب إلى أي إنسانٍ، بل تتم خدمتها بكل وضوح هكذا. لا تنتقل القوة من الرب إلى أي أحدٍ، يقوم بالخدمة الشخص الصالح أو الشرير. لا ترتد الحمامة عن خدمة (الخادم الشرير) بل تتطلع إلى قوة الرب. أي ضرر يليق بكم من الخادم الشرير ما دام الرب صالح؟

لقد عرف (يوحنا المعمدان) أنه هو الرب، واعترف أنه هو الحق، وأنه (يوحنا) إنسان حق مُرسل من الحق، هذا ما عرفه يوحنا. ولكن ماذا كان في (المسيح) لم يعرفه يوحنا؟ إنه قد حان الوقت أن يحتفظ لنفسه بقوة عماده، ولا يحولها إلى أي خادم... ما الذي لم يكن يعرفه؟ إن سلطان المعمودية العظيم هو للرب وأنه يرده لنفسه سواء وهو حاضر هنا على الأرض أو عند غيابه بالجسد في السماء، وحضور جلاله، لئلا يقول بولس: "معموديتي"، ولئلا يقول بطرس: "معموديتي". انظروا وانتبهوا لكلمات الرسل. لم يقل أحدهم: "معموديتي". مع وجود إنجيل واحد للكل، لكنك تجدهم يقولون: "إنجيلي"، ولا تجدهم يقولون "معموديتي". هذا ما تعلمه يوحنا يا اخوتي. ما تعلمه يوحنا بالحمامة فلنتعلمه نحن أيضًا. لأن الحمامة لم تعلم يوحنا دون تعليم الكنيسة، هذه التي قيل عنها: "واحدة هي حمامتي" (نش 6: 8). ليت الحمامة (الروح القدس) تعلم الحمامة (الكنيسة).

تقول لي: هذا الشخص أو ذاك عمدك، لكن بالحمامة (الروح القدس) يُقال لي ولك: "إنه هو (الرب) الذي يعمدك. من الذي أصدقه: الحدأة أم الحمامة؟

هذا السرّ مقدس جدًا حتى أن خدمة قاتل له لن يفسده.

أي نفع كان في أن تتقبل عماد خادمٍ معين لكي ما لا تزدري من قبول عماد الرب؟...

إن كنت قد جئت إلى الخادم فهل تستنكف من المجيء إلى الرب؟ إن كنت قد قبلت معمودية الخادم، فهل تستنكف من أن تتعمد بواسطة الرب؟

لو أنه كان يجهله تمامًا لما قال له عند مجيئه إلى النهر ليعتمد: "أنا محتاج أن أعتمد منك، فكيف تأتي إليّ؟"... لقد عُرف الرب بواسطة الحمامة، لا لذاك الذي لم يعرفه، بل لذاك الذي عرفه بطريقة ما، ولم يعرفه من جانب آخر. إنه من أجلنا لكي نكتشف ما هو فيه، الأمر الذي لم يعرفه يوحنا وتعلمه بالحمامة.

القديس أغسطينوس.

أظن أننا لا نستطيع أن نكف عن رؤية تلك النار عندما نقرأ أن الرب يسوع يعمد بالروح القدس ونار (33)، كما يقول يوحنا في إنجيله... لذلك يقول إرميا بعد قبوله الروح: "صارت في قلبي كنارٍ حارقة ملتهبة في عظامي، وأنا كحقير لا أحتملها" (إر 9: 20)... ماذا يعني هذا - أعني أن هذه النار تصير ماءً، والماء يستدعي نارًا - إلا تلك النعمة الروحية التي تحرق خطايانا بالنار وتغسلها بالماء؟ فإن الخطية تُغسل وتحترق.

القديس أمبروسيوس.

قَبِلْ العماد من يوحنا لهذا الهدف، وهو إذ يقبل ما هو أقل ممن هو أقل، يحثنا نحن الأقل أن نقبل ما هو أسمى.

لو أن ربنا يسوع المسيح وحده اعتمد بمعمودية يوحنا، لظن البعض أن معمودية يوحنا أعظم من معمودية المسيح. إذ يقولون: إن هذه المعمودية هي الأعظم، لأن المسيح وحده هو الذي تأهل لها. لهذا كمثال للتواضع يقدمه لنا الرب أن ننال خلاص المعمودية.

قبل المسيح ما هو ليس ضروري له، لكنه ضروري لحسابنا نحن.

مرة أخرى لئلا ما تقبله المسيح من يوحنا يُفضل عن عماد المسيح سمح للآخرين أيضًا أن يعتمدوا بواسطة يوحنا. وأما الذين اعتمدوا بواسطة يوحنا فمعموديتهم لم تكن كافية، إذ كان يلزمهم أن يعتمدوا بمعمودية المسيح.

كما كان المسيح هكذا كانت معموديته: معمودية الرب، إلهية لأن الرب هو اللَّه.

القديس أغسطينوس.

"وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن اللَّه" (34).

لما كان يوحنا قد عمد، والمسيح قد عمد، فلكي لا يتوهم متوهم من الحاضرين أن القول الذي قيل من أجل يوحنا، جاء الروح متلافيًا هذا التوهم واستقر على المسيح.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

الأعداد 35-53

4. شهادة تلاميذه الأولين له

- شهادة يوحنا لمسيحانية يسوع (35 - 37) كسبت أندراوس (38 - 40).

- شهادة أندراوس بالتالي كسبت سمعان الذي دعاه يسوع صفا (42).

- دعي فيلبس من بيت صيدا على بحر الجليل، فكسب نثنائيل (45 - 51) الإسرائيلي الذي لا غش فيه.

"وفي الغد أيضا كان يوحنا واقفًا هو واثنان من تلاميذه" (35).

"فنظر إلى يسوع ماشيًا فقال:

هوذا حمل اللَّه "(36).

"نظر إلى يسوع"؛ ما أحوجنا إلى التطلع نحو السيد المسيح لننظره. نتطلع إليه فنراه يتطلع إلينا، مهتمًا بخلاصنا.

لقد شهد يوحنا المعمدان عن المسيح أن هذا هو ابن الله (34)، فلم يصغِ أحدهم إلى قوله ولا سأله، ولا قال له ما بالك تقول هذه الأقوال ولأجل من تقولها. وقال أيضًا هنا: "هوذا حمل الله!"، ولا على هذه الجهة لذع حسهم الزائل، فكانت طبيعتهم عنده طبيعة أرض صلبة ليَّنها بفلاحته، وأنهض تمييزهم الطيني بكلامه، لأنه اجتهد في غرض واحد وهو أن يقدمهم إلى المسيح، ويلصقهم به، لأنه عرف أنهم إذا قبلوا قوله هذا منه لا يحتاجون فيما بعد إلى الشاهد له.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

عندما حان الوقت لكي يرحم اللَّه، جاء الحمل.

أي حمل هذا الذي تخافه الذئاب؟

من أي نوع هذا الحمل الذي عندما يُذبح يُذبح أسدًا؟ لأن الشيطان يُدعى أسدًا، يجول زائرًا يلتمس من يفترسه (1 بط 5: 8). بدم الحمل انهزم الأسد...

إنه لأمر عظيم أن ترى في العالم كله الأسد ينهزم بدم حملٍ؛ وأعضاء المسيح يخلصون من أنياب الأسود، ويرتبطون بجسم المسيح.

يريد المسيح أن يمتلك ما قد اشتراه وحده، ولا يرغب أن يشاركه أحد في الملكية، إنما.

لقد دفع ثمنًا عظيمًا هكذا، لكي يمتلك وحده.

إنك تجعله شريكًا مع الشيطان هذا الذي بعت نفسك إليه.

"ويل لذوي القلبين" (ابن سيراخ 2: 12)، هؤلاء الذين يعطون جزءً من قلوبهم للَّه والآخر لإبليس.

إذ يغضب اللَّه لأن الشيطان صار له نصيب في القلب، يفارق القلب ويمتلك الشيطان على القلب كله. ليس باطلاً يقول الرسول: "لا تعطوا مكانًا لإبليس" (أف 4: 27).

لنعرف إذن أيها الاخوة الحمل، ولندرك ثمننا.

القديس أغسطينوس.

"فسمعه التلميذان يتكلم فتبعا يسوع" (37).

إذ سمعا عن الخلاص التصقا بالمخلص دون تأجيل وبغير حوارٍ. كل لحظة تأجيل تمثل خطرًا على النفس، إذ يليق بها أن تسعى إليه، وتطلبه بلا توانٍ.

كان التلميذان اللذان تبعاه مشتاقين إلى قبول كلمة نعمة من فمه، لا من فم السابق له رقم 2 يشير إلى الحب وكأن التلميذين يشيران إلى كل الذين قبلوا تبعيته بكمالٍ، وهم الذين يكرسون حياتهم بالحب لله والحب للقريب. هذان هما التلميذان اللذان يحملاننا إلى تبعية المسيح الصادقة.

يروي لنا الإنجيلي يوحنا دعوة تلميذين من تلاميذ يوحنا ليتبعاه، وهما أندرواس ويوحنا الإنجيلي نفسه (غالبًا). وقام الأول بدعوة أخيه سمعان بطرس. هؤلاء الثلاثة هم باكورة تلاميذ السيد. هكذا بدأت الكنيسة صغيرة جدًا تضم ثلاثة يتمتعون بالنظر إلى يسوع والملكوت معه.

"فالتفت يسوع ونظرهما يتبعان،.

فقال لهما:

ماذا تطلبان؟

فقالا: ربي، الذي تفسيره يا معلم أين تمكث؟ "(38).

يليق بنا أن نجيب دومًا على سؤال السيد المسيح في كل عمل وفي كل كلمة ننطق بها أو فكر ننشغل به: ماذا تطلب؟ هل نطلب مسيحنا في كل تصرف؟ هل ننشغل باستنارتنا بروحه القدوس؟ هل نشتهي حضن الآب؟ هل نطلب بنياننا ونمونا في المعرفة الصادقة، وتقديسنا المستمر، ومجدنا الداخلي؟ هل نطلب ما لمجد الله وبنيان الكنيسة؟

سؤال السيد المسيح المستمر لكل إنسان: ماذا تطلب؟ هل يطلب ممتلكات العالم وملذاته، أم يطلب مديح الناس والكرامة الباطلة؟ أم أن يمكث مع المسيح أينما وجد؟ لم يكن للسيد موضع يستريح فيه، بل عاش كغريبٍ، هكذا من يطلبه يمكث معه كغريبٍ على الأرض. فلا يكفي أن نطلب من السيد أن نتبعه بين حين وآخر، وإنما يلزمنا أن نمكث معه. كلما اقتربنا إليه نتمتع ببهاء مجده، وننعم بغنى حبه، ونشتهي ألا نفارقه.

إننا في حاجة أن نلتقي به ونمكث معه فنجلس عند قدميه ونرتوي من ينابيع حبه، ونستنير بروحه القدوس فنتعرف على أسراره الخفية غير المنطوق بها. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: "لم يقولا علمنا تعليمًا في الآراء والمعتقدات أو غير ذلك من الأمور الضرورية، لكنهما قالا:" أين تمكث؟ ".

إذ طلبا المكوث معه جاءت الإجابة سريعة أن يأتيا وينظرا في الحال ليمكثا معه دون تأجيل. الوقت الآن مقبول (٢ كو ٦: ٢).

كان ربنا يسوع المسيح يدرك تمامًا ما في قلبيهما أنهما يطلبان أن يتبعاه فلماذا سألهما؟

أولاً: ليهبهما الثقة، فيعلنان رغبتهما، ويظهر مسرته بغيرتهما نحو الخلاص والحياة المقدسة لكي يسندهما.

ثانيًا: ليعلن أنه من جانبه مستعد أن يبدأ معنا رحلة نفوسنا نحو الحق والمجد الأبدي، لكنه لن يبدأ بدون إرادتنا. إنه يقدس الحرية التي وهبنا إياها.

نتعلم أن إلهنا لا يعوق بمواهبه إرادتنا، لكننا إذا بدأنا نحن يعطينا الإرادة عينها (يلهب شوقنا إليه بالأكثر)، ويهبنا أسبابًا كثيرة لخلاصنا.

"ماذا تطلبان؟ … بسؤاله هذا جعلهما أكثر ائتلافا له، ووهبهما جرأة أعظم، وأظهر أنهما مستحقان أن يسمعاه؛ لأنه من المحتمل أنهما كانا خجولين وخائفين، كمن هما ليسا معروفين لديه، وقد سمعا عنه شهادة معلمها له. فلكي ينزع عنهما خجلهما وخوفهما سألهما ولم يدعهما يذهبان معه إلى البيت في صمتٍ… سألهما لكي كما قلت يهب هدوءً لعقليهما اللذين قد ارتبكا بالخجل والقلق، ويهبهما ثقة.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

ثالثًا: يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [أعطاهما من الدالة عنده أكثر قدرًا، وأظهر أنهما مؤهلان للاستماع منه. لأنه كان لائقًا بحالهما أن يخجلا ويرهبا من جهة إنهما لم يعرفاه. فبسؤاله إياهما نزع خجلهما وخوفهما وأوهامهما كلها ولم يتركهما يذهبا إلى المنزل صامتين.].

يقول العلامة أوريجينوس] أنه بعد أن قدم يوحنا المعمدان ست شهادات عن السيد المسيح الكلمة، جاء دور الكلمة نفسه ليشهد عن نفسه أمام تلميذي يوحنا [.

"فقال لهما: تعاليا وانظرا. فأتيا ونظرا أين كان يمكث،.

ومكثا عنده ذلك اليوم، وكان نحو الساعة العاشرة "(39).

يري القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيد المسيح في محبته للتلميذين اللذين تبعاه بعد سماعهما شهادة معلمهما القديس يوحنا المعمدان دخل معهما في حوار في الطريق، حتى يشعرا أنهما ليسا بغريبين عنه، بل صارت لهما معه ألفة، ولكي يمتعهما بصوته الإلهي.

حقا ما أحوجنا أن نسير معه في طريق حياتنا ونطلب أن نسمع صوته الإلهي، ونعطيه الفرصة للحديث معنا، وذلك كما حدث مع تلميذيه وهما في طريقهما إلى عمواس يوم قيامته (لو 24).

يعلن القديس الذهبي الفم على الحوار الوارد مع تلميذي المعمدان بالقول: [ليتنا إذن نتعلم أن نحسب كل الأمور ثانوية بجانب سماعنا لكلمة الله، ولا نحسب وقتًا ما أنه غير مناسب لذلك… ليت الطعام والحمامات وكل أمور هذه الحياة يكون لها زمنها المعين، أما تعليم الفلسفة السماوية فلا يكون لها وقت خاص، بل كل الأوقات مناسبة لها. يقول بولس: "في وقت مناسب وغير مناسب وبخ، انتهر، عظ" (2 تي 4: 2). ويقول أيضا النبي: "في ناموسه يلهج نهارًا وليلاً" (مز 1: 3)].

جاء التلميذان إلى السيد المسيح نحو الساعة العاشرة ليمكثا معه حيث كان يمكث. فمن يقبل وصاياه (العشرة) ويعلن شوقه للطاعة يمكث مع مخلصه كل يوم حياته لا يفارقه حتى يأتي يوم لقائه به وجهًا لوجه في الدهر الآتي.

لم يتبعاه بأية طريقة، بل التصقا به.

القديس أغسطينوس.

يرى القديس أغسطينوس أن رقم 10 يشير إلى الناموس حيث الوصايا العشرة. فقد ذهب إلى السيد المسيح بكونه واهب الناموس ومكمله (مت 5: 17)، لكي يتعلما الناموس من واهب الناموس نفسه لأن الرحمة على لسانه (أم 31: 26)، ويكمل قائلاً: [إن كنت لا تقدر أن تتمم الناموس اهرب إلى الرحمة. إن كنت لا تقدر أن تحقق الناموس استخدم ذاك العهد، استخدم الرباط، استخدم الصلوات التي وضعها ونظمها السماوي مختبر الناموس؟].

يرى العلامة أوريجينوس أن السيد المسيح دعا التلميذين للتمتع به وبسكناه خلال حياة العمل مع التأمل. فبقوله: "تعاليا" دعاهما للحياة العاملة، وبقوله "انظرا" دعاهما لربط العمل بالتأمل فيه.

"كان أندراوس أخو سمعان بطرس.

واحدًا من الاثنين اللذين سمعا يوحنا وتبعاه "(40).

كلمة "أندراوس" في اليونانية تعنى "رجولة". إذ يتبع السيد المسيح من كان جادًا في شوقه للتمتع به والحياة معه. وكما يقول المرتل: "ليتشدد وليتشجع قلبك، وانتظر الرب" (مز 14: 27).

لم يعرفنا البشير اسم الآخر، لأنه هو الكاتب لهذه الأقوال.

"هذا وجد أولاً أخاه سمعان فقال له: قد وجدنا مسيا،.

الذي تفسيره المسيح "(41).

بقوله: "وجد" يشير الإنجيلي إلى اهتمام أندراوس بأخيه وبحثه عنه ليشاركه خبرته الجديدة التي تمتع بها بلقائه مع يسوع المسيح. في تواضع قال: "لقد وجدنا مسيا"، إذ لم ينسب هذا الاكتشاف لنفسه وحده بل كان معه آخر. يتحدث بلغة النصرة والاعتزاز بمن وجداه، إذ وجدا اللؤلؤة الكثيرة الثمن، الكنز الحقيقي. لم يردد ما قاله معلمه القديس يوحنا المعمدان: "حمل الله" بل قال كما أعلن عنه الكتاب أيضًا "المسيا"، وهو موضوع شهوة كل يهودي أن يلتقي به.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم في دعوة أندراوس لأخيه سمعان، ودعوة آخرين لبعضهما البعض صورة حية لتحقيق الصداقة في الرب، والتعاون في ملكوت الله. يقول إن الله حين خلق آدم لم يدعه وحيدُا، بل أعطاه زوجة معينة له ليعيشا معًا في رفقة، وإن كانت قد أساءت حواء لهذه الرفقة. أما الإنسان الحكيم فيجد منافع كثيرة في الرفقة، ليس فقط مع زوجته وأولاده، بل ومع اخوته، لذلك يقول النبي: "ما أحسن وأبهج أن يجتمع الاخوة معًا" (مز 133: 1). كما يحثنا الرسول بولس ألا نهمل اجتماعنا معًا (عب 10: 25).

قوله "قد وجدنا" تعبير عن نفس تجاهد من أجل حضرة الرب، وتبحث عن مجيئه من العلا، وتتهلل عندما يتحقق ما تبحث عنه، وتسرع لتهب الآخرين أخبارًا سارة. هذا هو دور الحب الأخوي، خلال الصداقة الطبيعية، وتدبير مخلص، لبسط اليد للغير لتقديم الروحيات.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

دعوة فيلبس ونثنائيل.

"فجاء به إلى يسوع، فنظر إليه يسوع وقال:

أنت سمعان بن يونا، أنت تدعى صفا، الذي تفسيره بطرس "(42).

دُعي فيلبس مباشرة ليس خلال يوحنا المعمدان مثل أندراوس ويوحنا، ولا من خلال أندراوس مثل سمعان بطرس. يستخدم السيد المسيح كل وسيلة لدعوة أولاده.

وجد يسوع فيلبس، كمن كان يفتش عليه ويبحث عنه حتى يجده. ولم يقف الأمر عند الشهادة ليسوع المسيح، بل جاء بأخيه إليه، لكي يتمتع بنفسه بالينبوع، يسمع صوته ويتمتع بأعماله.

دعاه السيد المسيح باسمه وغيَّر اسمه، ليدرك الرسالة التي يلتزم بها كشاهدٍ للإيمان بالمسيح.

دعاه والداه "سمعان" الذي يعنى "مستمع" أو "مطيع". وبالحق بروح الطاعة التقى بالمسيح ليهبه اسمًا آخر: "صفا" أو "بطرس" حيث يتمتع بصخرة الإيمان. أما الصخرة فهي المسيح (1 كو 4: 10) هذا الذي أحبه سمعان بطرس.

لعلك تسأل: ولِمَ عمل المسيح هذا العمل؟ فأجيبك: ليبين أنه هو الذي أعطانا الشريعة العتيقة، وهو الذي أحال فيها الأسماء وقوّمها، وهو الذي سمى إبرام إبراهيم وساراى سارة ويعقوب إسرائيل، وقد وضع لكثيرين أسماءهم منذ مولدهم كما وضع لاسحق وشمشون، ووضع أسماء للذين في نبوة إشعياء وهوشع، ووضع أسماء لأناس بعد الأسماء التي سماهم بها الوالدان.

لقد أخذ كل واحد من أولئك أسماء مختلفة، أما الآن فقد أخذنا كلنا لقبًا واحدًا، وهو ذلك اللقب الأعظم من الأسماء كلها أن نكون مسيحيين وبنين لإلهنا وأصدقاءه وجسده، لأن هذا اللقب أفضل من تلك الألقاب كلها، وفيه كفاية أن ينهضنا ويجعلنا أشد الناس إسراعًا إلى عمل الفضيلة.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

"في الغد أراد يسوع أن يخرج إلى الجليل،.

فوجد فيلبس فقال له:

اتبعني "(43).

ذهب السيد المسيح إلى الجليل ليدعو فيلبس. كلمة "الجليل" تعنى "عمل هجرة" أو "إعلان"، أو "دائرة"، فقد أراد ربنا يسوع أن يظهر التزام تلاميذه بالهجرة من آلام الزمان الحاضر للتمتع بمباهج المجد الأبدي، إذ بهجرة القلب من الارتباك بالأمور الزمنية إلى خبرة سلام السماويات الفائق أو إلى دائرة السماء.

بحسب القديس اكليمنضس الإسكندري كان متداولاً أن هذا التلميذ هو الذي طلب منه الرب أن يتبعه، فطلب منه أن يسمح له أن يذهب ويدفن أباه (مت ٨: ٢١ - ٢٢). وقد وردت كرازته كشماس في أع ٦: ٥. يرى ثيؤدورت أسقف كورش أنه كرز في فريجية (المنطقتين بنفس الاسم). وبحسب يوسابيوس دفن في فريجية باستينيا Phrygia Pacatiana.

"وكان فيلبس من بيت صيدا.

من مدينة أندراوس وبطرس "(44).

"بيت صيدا" أو بيت الصيد، لأن أغلب سكانها كانوا صيادين للسمك. كان هذا الموضع يتسم بالشر (مت ١١: ٢١) لكن وُجد فيه بقية مقدسة للرب، مختارة حسب نعمة الله.

لم يذكر الإنجيلي المدينة اعتباطًا بل تحمل معنى رمزيًا، فبيت صيدا تعني: "بيت الصيادين". بالحق من يقبل دعوة السيد المسيح ليتبعه إنما يصير صيادًا للناس (مت 19: 4). وقد كان أول صيد لفيلبس هو نثنائيل، الذي جاء به إلى يسوع المسيح.

كان الرسول فيلبس من نفس البلدة التي جاء منها أندراوس وبطرس بحسب ما جاء في الإنجيل (يو 44: 1). إني أظن أن فيلبس قد مُجد لأنه كان صديقًا للأخوّين أندراوس وبطرس، أول من كرمهما الإنجيل.

فهم أندراوس سرّ المسيح وتبعه بعدما أشار يوحنا المعمدان إليه قائلاً: "هذا هو حمل اللّه الذي يحمل خطية العالم".

تعلم أندراوس حيث كان يسكن وحمل الأخبار المفرحة من النبوات التي صدرت منذ أمد بعيد إلى أخوه سمعان بطرس. ويلزم أن يسبق السمع الإيمان. لأن الشخص الذي يرتبط من كل قلبه بالحمل يصير مقدسًا بتغيير الاسم: فبدلاً من سمعان ناداه السيد المسيح بطرس، وأصبح اسمه بطرس.

ينطبق تغيير الاسم أيضا على إبراهيم وسارة اللذين مرا في مراحل روحية عديدة ثم استقبلا الوعد بالبركات من اللّه، وأصبح إبراهيم وسارة جدان لأمم كثيرة من خلال تغيير الاسم.

ويشبه ذلك ما حدث ليعقوب الذي صار اسمه إسرائيل بعد مصارعته الطويلة خلال الليل مع الملاك.

ونمى بطرس العظيم بمثل هذه النعمة، بعد ما عرف إيمان أخوه في حمل اللّه ثم اكتمل من خلال الإيمان وأصبح صخرة. لذلك كان فيلبس مستحقا أن يكون رفيقًا لبطرس وأندراوس بعدما وجده يسوع. كما يقول الإنجيل وجد فيلبس الذي صار تابعًا لكلمة اللّه؛ "اتبعني" (يو 43: 1).

وبعد ما امتلأ فيلبس من نور الإيمان، دعا نثنائيل لكي يتقرب من المسيح ويتعرف على سرّ الإيمان ويمتلئ بنوره. فقال له فيلبس: "وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوع ابن يوسف من الناصرة" (يو 45: 1). استقبل نثنائيل رسالة الإنجيل بانتباه ووجد سرّ النبوة عن السيد المسيح صدى في أذنيه. علم أن بيت لحم هي أول مكان لظهور اللّه في الجسد، ولكنه بعد ذلك عاش في الناصرة لذلك سُمى السيد المسيح الناصري.

وقد تبين لنثنائيل من فحص النبوات أن السيد المسيح لابد أن يولد حسب الجسد من نسل داود في بيت لحم، وأن هذا السرّ لابد أن يحدث في مغارة وفيها أقمطة من قماش لكي يلف بها الطفل المولود ومعهم رجل يرعاهم. وكانت الجليل تُعرف حسب الكتاب المقدس بأنها موّطن الأمم (إش 1: 9). لذلك ظهر نور المعرفة لنثنائيل الذي قال: "أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟" (يو 46: 1) ومن هنا ترك نثنائيل شجرة التين التي أخفى ظلها النور، وتمسك بالواحد الذي لعن شجرة التين الغير مثمرة فجفت أوراقها. وشهد كلمة اللّه أن نثنائيل كان إسرائيليًا حقًا لا غش فيه، فلقد أظهر نفسه نقيًا مثل أبينا إبراهيم (تك 27: 25). قال المسيح: "هوذا إسرائيلي حقًا لا غش فيه".

القديس غريغوريوس النيسي.

"فيلبس وجد نثنائيل وقال له:

وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء،.

يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة "(45).

نثنائيل هو نفسه برثلماوس Bartholomew للأسباب التالية:

‌أ. الإنجيليون الذين أشاروا إلى برثلماوس لم يذكروا نثنائيل، والذين ذكروا نثنائيل لم يشيروا إلى برثلماوس.

‌ب. كلمة برثلماوس ليست اسمًا لشخص ما، بل تعني "ابن بطليموس"، وأن اسمه الحقيقي هو نثنائيل.

‌ج. تحدث عنه الإنجيلي يوحنا كواحدٍ من الرسل عندما ذهب مع الرسل للتصيد وظهر لهم السيد المسيح بعد قيامته (يو ٢١: ٢ - ٤).

قول فيلبس يكشف عن غيرته في البحث في الكتاب المقدس خاصة الناموس والأنبياء، حيث ألهب قلبه بالشوق لرؤية "يسوع" أو "المسيا" القادم من بيت داود. أخيرًا قد وجد ذاك الذي يعلن ذاته لطالبيه.

ذكر فيلبس عن السيد المسيح إنه "يسوع" أي "يهوه مخلص"، ليعلن لنثنائيل إنه المخلص الذي طالما تحدث عنه الناموس والأنبياء. أما دعوته "ابن يوسف" فلا يعني إنه من زرعه، وإنما ليؤكد إنه من بيت داود الذي جاء منه يوسف.

"فقال له نثنائيل:

أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟

قال له فيلبس: تعال وانظر "(46).

هذه ليست كلمات غير مؤمن، ولا من يستحق اللوم بل المديح. كيف هذا؟ وبأية كيفية؟ لأن نثنائيل كان يهتم بكتابات الأنبياء أكثر من فيلبس. فقد سمع من الكتب المقدسة أن المسيح يأتي من بيت لحم، من قرية داود... شخصية نثنائيل لا تنخدع بسرعة. لكنه لم يرذل من جاء إليه بل دخل إلى (المسيح) نفسه برغبة عظيمة شعر بها من نحوه. شعر في داخله أن فيلبس ربما أخطأ في الموضع (لا في الشخص).

القديس يوحنا الذهبي الفم.

يرى الأب Bede أن كلمة "ناصرة" تتناسب مع أسرار المسيح، فهي تترجم "عن النقاوة"، أو "زهرته" أو "منفصل". فالرب مخلص العالم هو القدوس الذي بلا دنس، المنعزل عن الخطايا. يقول في نشيد الأناشيد: "أنا زهرة السهل، زنبقة الوادي" (نش 1: 2 LXX) ويقول عنه إشعياء النبي: "ويخرج قضيب من جزع يسى وينبت غصن من أصوله" (1: 11).

"ورأى يسوع نثنائيل مقبلاً إليه فقال عنه:

هوذا إسرائيلي حقًا لا غش فيه "(47).

امتدحه الرب بكونه إسرائيليًا لا غش فيه، أي بالحق جاء من نسل يعقوب الذي يجاهد من أجل الرب، فتأهل أن يُدعى "إسرائيل" (تك 32: 28). بقوله "إسرائيلي حقًا" يعني أنه أهل لأن يكون من نسل يعقوب، ليس فقط يؤمن بإلهه، وإنما أيضًا يتعبد له مجاهدًا بإخلاص وبحق. وبقوله: "لا غش فيه" يعني أنه وسط الفساد الذي اتسم به الشعب في ذلك الوقت احتفظ نثنائيل باخلاصه في إيمانه وحياته، يسلك بالبرّ والاستقامة.

كمن يقول له: "وأنت تحت ظل الخطية أنا اخترتك"، وإذ تذكر نثنائيل أنه كان تحت شجرة التين حين لم يكن أحد هناك عرف لاهوته وأجاب: "أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل". ذاك الذي كان تحت شجرة التين لم يصر شجرة تين جافة، فقد عرف المسيح.

القديس أغسطينوس.

"قال له نثنائيل:

من أين تعرفني؟

أجاب يسوع وقال له:

قبل أن دعاك فيلبس وأنت تحت التينة رأيتك "(48).

ماذا تعنى شجرة التين؟

أولاً: يرى الأب Bede أن شجرة التين أحيانًا تشير إلى عذوبة الحب الإلهي، ولكن إذ أبوانا الأولان صنعا لنفسيهما ثيابًا من أوراق التين صارت شجرة التين تشير إلى الميل للخطية، والتستر عليها عوض العذوبة الإلهية. فإن كان "نثنائيل" معناه "عطية الله"، فقد فسدت العطية بالتجائها وتسترها بالميل نحو الخطية.

ثانيًا: يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الحديث الذي دار بين فيلبس ونثنائيل كان تحت شجرة تين.

في هذا الموضوع تفهم شجرة التين أنها الخطية... فأنتم تعلمون أن الإنسان الأول غطى نفسه بورق التين عندما أخطأ. بهذه الأوراق التي غطيا بهما عُريهما عندما أحمر وجهيهما بسبب خطيتهما (تك ٣: ٧). وما قد صنعه الله لهما كأعضاء جعلوها بالنسبة لهم مجالاً للخزي. لو أن الشر لم يتقدم ما كان العري يسبب عدم حياء.

القديس أغسطينوس.

ليت يسوع يلقي بنظره إليّ وأنا لازلت تحت شجرة التين غير المثمرة، وليت شجرة التين التي لي تأتي بثمر بعد ثلاث سنوات (لو 6: 13 الخ).

القديس أمبروسيوس.

"أجاب نثنائيل وقال له:

يا معلم أنت ابن اللَّه،.

أنت ملك إسرائيل "(49).

إذ تلامس نثنائيل مع شخص ربنا يسوع المسيح دعاه: "معلمًا"، "ابن الله"، و "ملك إسرائيل". إن السيد قد مدحه بأنه إسرائيلي لا غش فيه، فقد انحنى نثنائيل ليقبله ملكًا عليه وعلى كل إسرائيل.

هذا الاعتراف كان كما يقول القديس يوحنا الذهبى الفم ناقصًا. قال: "أنت ملك إسرائيل" ولم يدرك إنه ملك العالم كله ومخلصه، لهذا وإن كان قد نطق بذات كلمات سمعان بطرس: "أنت ابن الله" (مت 16: 16) لم يطَّوبه الرب كما طّوب سمعان بطرس. لم يدرك نثنائيل لاهوت السيد وحقيقة شخصه، بل ظنه معلمًا ساميًا فحسب.

"أجاب يسوع وقال له:

هل آمنت لأني قلت لك إني رأيتك تحت التينة؟

سوف ترى أعظم من هذا "(50).

يرى البعض أن نثنائيل اعتاد مثل بعض الحاخامات أن يجلس تحت شجرة تين في هدوء يقرأ في الكتاب المقدس ويناجي الله، ويطلب خلاص نفسه وخلاص إسرائيل. عينا الله على أولاده، خاصة في جلساتهم الهادئة للتمتع بالتأمل في الله وفي أعماله الخلاصية.

"وقال له:

الحق الحق أقول لكم من الآن ترون السماء مفتوحة،.

وملائكة اللَّه يصعدون وينزلون على ابن الإنسان "(51).

يرى البعض أن هذا التشبيه مأخوذ مما كان متبعًا حين يذهب أمير إلى بلد ما يأتي سفراء بلده ذاهبين إليه وراجعين إلى بلده يحملون إليه ومنه رسائل. هكذا فإن الملائكة السمائيين هم رسل يُرسلون لخدمة ملكهم الذي تنازل وتجسد ليسلك على الأرض كابن الإنسان.

بينما شهد له نثنائيل: "أنت ابن الله؛ أنت ملك إسرائيل") ٤٩ (، إذا به في تواضعه يدعو نفسه ابن الإنسان.

ربما يتحدث هنا عن ظهوره في مجيئه الثاني ليدين العالم.

أرأيت كيف يصعد المسيح بنثنائيل من الأرض قليلاً قليلاً، ويجعله ألا يظنه إنسانًا مجردًا؟ لأن من تخدمه الملائكة وتصعد عليه وتنزل كيف يكون هذا إنسانًا؟ لهذا السبب قال له: "سوف ترى أعظم من هذا") 50 ( ولتأكيد ذلك قدم خدمة الملائكة له.

ما قاله يعنى هذا "هل تحسب يا نثنائيل أنه أمر عظيم بان تعترف بي إني ملك إسرائيل؟ فما الذي تقوله عني إذا رأيت الملائكة صاعدين ونازلين إليَّ؟" بهذه الأقوال حقق المسيح عند نثنائيل أنه رب الملائكة، لأن الملائكة يصعدوا وينزلوا إليه كخدام لابن ملكهم الحقيقي.

حدث ذلك في وقت صلبه وفي وقت قيامته، وعند صعوده، وقبل ذلك حين تقدموا وخدموه (مت 4: 11)، وحين بشروا بمولده لما قالوا: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة" (لو 2: 14)، وعندما جاءوا إلى مريم، وجاءوا إلى يوسف.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

إن كانوا يصعدون وينزلون إليه فهو موجود فوق وهنا في نفس الوقت. فإنه لا يمكن بأية حال أن يصعدوا وينزلوا إليه ما لم يكن موجودًا هناك حيث يصعدون وهنا حيث ينزلون...

لنرى المسيح فوق وأسفل خلال شاول، فقد جاء صوت الرب نفسه من السماء قائلاً: "شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟" (أع ٩: ٤) ماذا؟...

من أين صرخ؟ من السماء، فهو إذن فوق.

ويقول لماذا تضطهدني؟ "فهو أيضًا تحت (لأن بولس لم يصعد إلى السماء ليضطهده).

القديس أغسطينوس.

يرى القديس أغسطينوس أن رؤيتنا للسيد المسيح والملائكة يصعدون وينزلون إليه أعظم من وجودنا تحت ظل شجرة التين أو تحت ظل الموت. أما الملائكة فهم رسل السيد المسيح وتلاميذه. كمثال صعد بولس حين اختطف إلى السماء الثالثة وهو في الجسد أو خارج الجسد لا يعلم، لكنه سمع أمورًا لا يُنطق بها (2 كو 12: 2 - 4). وهو بنفسه نزل حينما لم يتكلم مع أهل كورنثوس كروحيين بل كجسديين كأطفالٍ في المسيح، يطعمهم لبنًا لا لحمًا (1 كو 3: 1 - 2). ذاك الذي صعد إلى السماء الثالثة من أجل المسيح، من أجله نزل إلى الشعب ليتحدث معهم بلغة الأطفال غير الناضجين متشبهًا بالأمهات عند حديثهن مع أطفالهن الصغار. لقد صعد ونزل حيث يقول: "إننا إن صرنا مختلين فللَّه، أو كنا عاقلين فلكم" (2 كو 5: 13).

يقول القديس أغسطينوس: [إن كان الرب نفسه صعد ونزل، فواضح أن الكارزين به يصعدون بالاقتداء به، وينزلون بالكرازة].

ملحق للإصحاح الأول عن.

النعمة الإلهية.

(نعمة فوق نعمة).

يقدم لنا معلمنا يوحنا البشير خلال السفر كله شخص الكلمة الإلهي المتجسد كمصدر فيضٍ من النعم الإلهية بلا توقف، خاصة نعمة الخلق ونعمة البنوة لله مع فيضٍ من النعم. يقول الإنجيلي: "ومن ملئه نحن جميعًا أخذنا، نعمة فوق نعمة، لأن الناموس بموسى أُعطي أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا" (يو١: ١٥ - ١٧). وقد سبق لنا نشر كتاب عن النعمة الإلهية في مدرسة الإسكندرية باللغة الإنجليزية، أرجو أن يسمح لي إلهي بترجمته ونشره. أود هنا أن أقدم عرضًا مبسطًا للنعمة الإلهية.

ماذا تعني النعمة؟

لم يهتم آباء الكنيسة في الشرق بتقديم تعاريف للمصطلحات اللاهوتية سواء للنعمة أو غيرها، بالرغم من الحديث بفيضٍ عن عمل النعمة ودورها في حياة المؤمن منذ خلقته إلى يوم لقائه مع الرب على السحاب.

ما يشغل ذهن الكنيسة، خاصة كنيسة الإسكندرية، هو الخبرة الحية والاتحاد مع الله كعربون للتمتع بالحياة الأبدية. لهذا لا نعجب إن استخدم العلامة أوريجينوس اسم "المسيح" عوض عطاياه أو نعمه، وفي مواضع أخرى يدعو السيد المسيح "ملكوت في شخص"، فإن من ينعم بملكوت الله إنما يتمتع بالكلمة الإلهي نفسه، واهب النعم ومشبع كل الاحتياجات.

حاول بنيامين بريوري Benjamin Drewery أن يقدم تعريفًا للنعمة الإلهية خلال أعمال أوريجينوس العديدة فقال [يمكننا أن نقترح أنه إذا سُئل أوريجينوس عن تقديم تعريف منهجي للنعمة فإنه يجيب بشيء مثل هذا: "النعمة هي قوة الله المجانية، لكنها ليست غير مشروطة، توضع تحت تصرف الإنسان، بواسطتها يترجم الخلاص إلى حياة جديدة تبلغ الذروة، معلنة ومقننة في الكتب المقدسة، بواسطة يسوع المسيح المتجسد، وتصير به مملكته للعالم".

النعمة وكلمة الله.

إذ تغمرنا النعمة الإلهية نسبح في لجة محبة الله الفائقة التي تحصرنا من كل جانب، والتي لا نستطيع أن نحصر طولها وعرضها وعمقها وارتفاعها نتطلع إلى الكتاب المقدس لننهل من الوعود الإلهية الفائقة.

حقًا لقد خلق الله الإنسان ليتحدث الكلمة الإلهي معه وجهًا لوجه. وكان أبوانا الأولان يتمتعان بصوت الله ماشيًا في الجنة (تك 3: 8). أما وقد أعطى الإنسان ظهره لمصدر النعم، لم يتركه الله بل وهبه الناموس ليرتفع به إلى غنى نعمته. وجاء الكتاب المقدس ليس ورقًا وحروفًا مكتوبة بل لقاءً حيًا مع الكلمة الإلهي وراء الحروف.

من يتمتع بنعمة إدراك أسرار الكتاب المقدس يتمتع بالشركة مع الكلمة الإلهي، وتدخل نفسه الفردوس الروحي المشبع.

لا يمكن نوال أمر صالح بعيدًا عن الله، وأما فوق كل شيء فهو فهم الكتب المقدسة الموحى بها.

المعنى الروحي الذي يهبه الناموس لا يدركه الكل، وإنما الذين يُمنحون نعمة الروح القدس في كلمة الحكمة والمعرفة.

ليتنا نحث الله لكي ما كما أن الكلمة تنمو فينا، نتقبل اتساع الفكر في المسيح يسوع، وبهذا يمكننا أن نسمع الكلمات المقدسة.

كثيرون يسعون لتفسير الكتب المقدسة... لكن ليس الكل ينجحون. فإنه نادرًا ما يوجد من له هذه النعمة من الله.

العلامة أوريجينوس.

"حبيبي هو شبيه بالظبي أو بِغُفْرِ الأيائل. هوذا واقف وراء حائطنا، يتطلع من الكوى، يُوَصْوِص من الشبابيك" (نش 9: 2)...

يمكن تفسير معنى هذه الآية كالآتي: لا تكلمني من الآن فصاعدًا برموز الأنبياء والوصايا. وحتى أراك اظهر لي نفسك حتى آتى إلى داخل الصخرة، الإنجيل، وأترك خلفي حائط الوصايا. وحتى أسمعك اجعل صوتك يرن في أذني. فإذا كان صوتك حلوًا جدًا من خلال شبابيك الأنبياء، فكم تكون رؤية وجهك الجميل مُجْلِبةً للحب والسعادة؟

فهمت العروس السرّ في صخرة الإنجيل التي قادها إليها الكلمة بطرق عديدة ومختلفة (عب 11: 1)، بينما كان عند الشبابيك. والآن ترغب العروس في ظهوره في الجسد، حتى يمكن رؤية اللّه في الجسد ويتكلم عن الوعود الإلهية للسعادة الأبدية لكل من يستحقها.

لاحظ توافق كلمات سمعان مع رغبة العروس: "الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عيني قد أبصرتا خلاصك" (لو 29: 2، 30). رأى سمعان مثلما أرادت العروس أن ترى. وهؤلاء الذين استقبلوا صوت المسيح الحلو تعرفوا على نعمة الإنجيل وصرخوا: "يا رب إلى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك" (يو 68: 6).

القديس غريغوريوس النيسي.

نعمة الخلق.

في تفسيرنا لعبارة "نعمة فوق نعمة" رأينا كيف أن الله أب كل البشرية يبسط يديه ليهب من فيض سخائه نعمته لكل بشرٍ. حقًا توجد نعم عامة يشترك فيها كل إنسان، كما توجد نعم خاصة تمتع بها شعب الله قديمًا بالإيمان خلال الناموس الموسوي، وأما ما قدمه الكلمة الإلهي المتجسد خلال صليبه فيفوق كل فكر. إنه كنز من النعم مفتوح لكل إنسان يقبله ويتجاوب معه. ولعل أول نعمة تمتع بها الإنسان هو "الخلق".

اهتم القديس أثناسيوس الرسولي بالحديث عن نعمة الخلق، فقد أوجد الله الإنسان ليس فقط من العدم إلى الوجود، فيشعر أنه مدين له بكل حياته، وإنما أوجده أيضًا حاملاً نعمة صورته. بهذا يتمكن من ممارسة الحياة الفردوسية، وادراك أسرار معرفة الله، والاتصال بالخالق، فيتمثل به، ويراه ويحيا معه خالدًا إلى الأبد. يشرح القديس عمل الكلمة (اللوغوس) الخالق كواهب نعمة التمتع بصورة الله، واعادتها لنا بتجديد طبيعتنا بعد فسادها.

طالما يحفظ الإنسان تلك السمة الإلهية Tautotis، فإنه لا ينعزل قط عن إحساسه بالله، أو يبتعد عن شركة حياة القديسين، بل إذ يستعيد نعمة الله التي وُهبت له، وإذ يمتلك القدرة الخاصة التي من اللوغوس كلمة الآب، فإنه يتهلل فرحًا متحدثًا مع الله، فيحيا الحياة المباركة التي بلا ألم، والخالدة بالحقيقة (عديمة الموت). وإذ لا يعوقه عائق عن المعرفة الإلهية، يتأمل دوما بطهارته صورة الأب، أي في الله اللوغوس، الذي خلق الإنسان على صورته، ويتعجب إذ يدرك تدبير الله للكون بواسطة اللوغوس.

لهذا يسمو فوق كل محسوس وكل رؤية جسدانية، فيرتبط بالحقائق الإلهية والمعقولة في السماوات بقوة الذهن. لأنه حينما لا تتصل أذهان الناس بالأجساد، ولا يوجد شيء مختلط بالأذهان من خارج، والذي ينبع من شهوة تلك الأجساد، بل تسمو (تلك الأذهان) بالتمام وتتكامل في ذاتها، كما خلقت منذ البدء.

وإذ تدع جانبًا كل الأمور الحسية والبشرية فإن الذهن يرتفع إلى عنان السماء.

وإذ يعاين اللوغوس يرى فيه الآب، أب اللوغوس، فيختبر الفرح الغامر عند هذه الرؤيا، ويتجدد باشتياقه إليه.

ويشبه ذلك الأمر حالة الإنسان الأول المخلوق الذي دعي آدم (بحسب اللغة العبرانية)، والذي يقول عنه الكتاب المقدس إنه كان في البدء ذا ذهن مثبت على الله بدالة لا تخزى، وإنه عاش حياة الشركة مع القديسين في تأمل الحقائق المعقولة التي اقتناها في ذاك الموضوع، والذي يسميه القديس موسى بشكل تصويري "الفردوس"، وكانت النفس الطاهرة بالحق قادرة أن ترى الله ذاته الذي ينعكس فيها كمرآة. كما قال الرب نفسه: "طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله".

القديس أثناسيوس الرسولي.

نعمة حرية الإرادة.

أعطى اللّه الطبيعة العاقلة نعمة حرية الإرادة، وأنعم على الإنسان القدرة على تحديد ما يريده حتى يسكن الصلاح في حياتنا، ليس قسرًا ولا لاإراديًا بل نتيجة للاختيار الحر. إن تمتعنا بحرية الإرادة يؤدى بنا إلى اكتشاف حقائق جلية. في طبيعة الأمور إذا ما أساء أحد استخدام مثل هذه الإرادة الحرة فإنه بحسب كلمات الرسول يصير مثل هذا الشخص مخترعًا لأعمال شريرة (رو 30: 1). كل من هو من اللّه يُعد أخًا لنا، أما الذي يرفض الاشتراك في أعمال الصلاح يتم ذلك بكامل إرادته.

القديس غريغوريوس النيسي.

نعمة الناموس.

الناموس، سواء الطبيعي أو الموسوي، في ذاته عطية عظيمة، ونعمة مقدمة من الله، لتهيئ لنعمة الإنجيل، لكن لا وجه للمقارنة بين الظل والحقيقة.

النعمة التي معنا ليست كتلك التي لهم (لليهود)، فإننا لم ننل مجرد غفران الخطايا، بل نلنا البرّ والتقديس والبنوة ونعمة الروح القدس الأكثر بهاءً وبهجة وفيضًا. بهذه النعمة صرنا نشتاق إلى الله، ليس كعبيدٍ بل كأبناء وأصدقاء. عن هذه الحال يقول: "نعمة فوق نعمة". حتى الأمور الخاصة بالناموس هي من النعمة... إذ قَبِلَ البشر الناموس كترفقٍ وعفوٍ ومحبةٍ ونعمةٍ.

كان يوجد تقديس، والآن يوجد التقديس.

كان يوجد عماد والآن العماد.

كانت هناك ذبيحة والآن توجد الذبيحة.

كان يوجد هيكل والآن يوجد الهيكل...

هكذا كانت توجد نعمة والآن توجد النعمة.

لكن الكلمات في الحالة الأولى استُخدمت كرموزٍ، وفي الثانية كحقائق تحمل ذات الصوت ولكن ليس ذات المعنى.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

نعمة إعادة ما فقدناه.

إذ فقد الآن صورة الله صارت حياته جحيمًا لا يُطاق، وتحول الفردوس إلى سجن، وأنبتت له الأرض شوكًا وحسكًا. لم تقف نعمة الله مكتوفة الأيدي مهما كلفها الأمر، حتى وإن كان الثمن تجسد الكلمة وإعلان حبه بقبوله الموت صلبًا حتى يهب الإنسان بهجة القيامة ويتمتع ببرّ المسيح، ويرد روحه القدوس صورة الله فيه.

فما العمل إذن؟ إلى من يمكن اللجوء لاستعادة نوال مثل تلك النعمة، سوى إلى كلمة الله الذي خلق في البدء كل الأشياء من العدم؟ إذ يختص هو وحده بأن يأتي بمن كان في الفساد إلى عدم الفساد وأن يحقق ما يليق بالآب فوق كل شيء، إذ هو كلمة الله الآب الذي فوق الجميع لأنه وحده القادر أن يستعيد للجميع ما كان مفقودًا، وأن يتألم لأجل الجميع، وأن يكون شفيعًا لدي الآب لأجل الكل.

القديس أثناسيوس الرسولي.

نعمة القيامة والغلبة على الموت.

يقول السيد المسيح لمرثا: "أنا هو القيامة"، فإن كان الفساد قد حل بجسد لعازر الميت لمدة أربعة أيام، فهو حال في كل نفسٍ وجسدٍ، قد انتن الإنسان تمامًا بسبب موت الخطية. جاء "القيامة" يهبنا ذاته، فنتمتع بالشركة معه، فيحررنا من سلطان الموت، ولا يقدر الفساد أن يحل بنا. بروح القوة والنصرة ننشد مع الرسول بولس: "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟ أما شوكة الموت فهي الخطية... ولكن شكرًا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" (١ كو ١٥: ٥٥ - ٥٧). هذه هي نعمة القيامة.

لكي يستعيد اللوغوس المتأنس عدم الفساد إلى البشر الذين انحدروا إلى الفساد، فيحيهم من حالة الموت، أخذ جسدهم لنفسه، حتى يبيد الموت ويلاشيه بواسطة نعمة القيامة كما تلتهم النار الهشيم.

لقد مات الموت حقًا... فلم يعد مزعجًا بعد، بل بالأحرى فإن المؤمنين بالمسيح يطأون الموت كأنه عدم، بل أنهم يفضلون الموت عن إنكار إيمانهم بالمسيح. كل هذا لأنهم يعلمون أنهم لا يفنون بالموت، بل يحيون بالقيامة ويصيرون عديمي فساد.

القديس أثناسيوس الرسولي.

نعمة التبني لله الآب.

الكلمة الإلهي هو الابن بالطبيعة، مولود من الآب، نور من نور، فيه ننال نعمة التبني لله الآب:

أمرنا الله أن نعتمد ليس باسم "الخالق والمخلوق"، بل باسم الآب والابن والروح القدس "(مت 28: 19)، لأننا إذ نحن من بين المخلوقات، نصير هكذا (بالمعمودية) مكتملين، وبهذا نصير أبناء.

القديس أثناسيوس الرسولي.

إن كان بينكم من هو عبد للخطية فليستعد بالإيمان استعدادًا تامًا للميلاد الجديد في الحرية والتبني. وبخلعه العبودية لخطاياه المرذولة وارتدائه عبوديته للرب المطوَّبة يصير أهلاً لميراث ملكوت السماوات.

اخلعوا "الإنسان العتيق الفاسد حسب شهوات الغرور" (أف 22: 4) بالاعتراف، حتى تلبسوا الإنسان "الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه" (كو 10: 3).

بالإيمان خذوا "عربون الروح القدس" (2 كو 22: 1) لكي يقبلونكم في المظال الأبدية (راجع لو 9: 16).

تعالوا لتنالوا الختم السري حتى يعرفكم السيد بسهولة، وتكونون محصيين بين قطيع المسيح المقدس الروحاني، ويكون مكانكم عن يمينه، فترثوا الحياة المعدة لكم، أما هؤلاء اللابسون ثوب خطاياهم الدنس فيبقون عن يساره، إذ لم يأتوا بالمسيح إلى نعمة اللٌه في الميلاد الجديد بالمعمودية.

وإنني أعني بالميلاد الجديد ميلادًا روحيًا جديدًا للنفس، فالوالدون المنظورون يلدوننا حسب الجسد، أما أرواحنا فتُولد ميلادًا جديدًا بالإيمان، إذ "الريح تهب حيث تشاء"، عندئذ متى وُجدتم مستحقين تسمعون الصوت القائل: "نعمًا أيها العبد الصالح والأمين" (مت 21: 25)، وذلك إن كان ضميركم غير ملوث بدنس الرياء.

القديس كيرلس الأورشليمي.

نعمة الروح القدس.

كثيرًا ما شغل منظر عماد السيد المسيح قلب القديس كيرلس الكبير، فرأي الكنيسة كلها في المسيح الرأس بكونها جسده، فمع أن الروح القدس هو روحه الذي لا ينفصل عنه، لأنه واحد معه في الجوهر، لكنه حل عليه في العماد، من أجل تمتع الكنيسة به. فنعمة الروح القدس هي عطية واهب العطايا والنعم لكنيسته ولكل عضو فيها. قدم لنا نعمة الروح القدس الذي يبكتنا على الخطية، ويدين عدو الخير الذي يود هلاكنا، ويهبنا برّ المسيح. يقدم لنا الحق، إي السيد المسيح، ويجدد طبيعتنا، ويقودنا في الطريق، الذي هو المسيح، ويوَّحدنا في استحقاقات دم المسيح مع الآب، ويهبنا شركة مع السيد المسيح ومع السمائيين ومع بعضنا البعض.

هكذا أيضًا توضح عبارة داود في مز 44: 7 - 8 أنه ما كان لنا أن نصير شركاء الروح القدس ولا أن نتقدس لو لم يكن اللوغوس المتجسد، الذي هو واهب الروح قد مسح نفسه بالروح لأجلنا، ولهذا فمن المؤكد أننا كنا نحن الذين قبلنا الروح القدس حينما قيل انه مُسح بالجسد. لأن جسده الخاص هو الذي تقدس أولاً، وإذ قيل عنه كإنسان، إن جسده قد نال هذا (الروح)، فلأجل هذا ننال نحن نعمة الروح آخذين إياها "من ملئه".

القديس أثناسيوس الرسولي.

كان سكب للروح علينا، أما للرب يسوع الذي كان في شكل إنسانٍ، فالروح استقر عليه... بخصوصنا فإن سخاء المُعطي يعين بفيضٍ، أما بالنسبة له فيسكن فيه كمال الروح أبديًا. يسكب إذن حسبما يكفينا، وما يسكبه لا ينفصل ولا ينقسم، أما ما هو له فهو وحدة الكمال الذي به ينير بصيرة قلوبنا حسب قدرتنا على الاحتمال. أخيرًا نحن نتقبل حسب ما يتطلبه تقدم ذهننا. من أجل كمال نعمة الروح غير منظور، ولكنه يساهم فينا حسب إمكانية طبيعتنا.

القديس أمبروسيوس.

نعمة الشركة في الطبيعة الإلهية.

إخلاء كلمة الله ذاته ليحمل شكل العبد وهبنا إمكانية المجد الداخلي الفائق، موضع سرور الله، إذ يرى ملكوته قائمًا فينا، وموضع سرور السمائيين، إذ يمجدون الله على غنى هذه النعمة الفائقة.

مع خبرتنا اليومية لهذا المجد الداخلي وسط تيارات العالم المرة يتجلى هذا المجد في أروع صوره يوم لقائنا مع العريس السماوي على السحاب، فنحمل صورته، ونُزف كعروس سماوية، ملكة تجلس عن يمين ملك الملوك. هذه هي نعمة شركة الطبيعة الإلهية العاملة في أعماقنا.

يا للسر العجيب! الرب تنازل، الإنسان ارتفع.

يقول الرسول: "ألا تعلمون أنكم هياكل الله" (١ كو ٣: ١٦). فالغنوصي (المؤمن صاحب المعرفة الروحية الحقيقية) بالتبعية إلهي، وقد صار بالفعل مقدسًا، حاملاً الله، ومحمولاً بالله.

مزارع الله، إذ يمنحنا ميراث الآب العظيم حقًا والإلهي الذي لا يمكن نقله إلى آخر، يؤله الإنسان بتعليم سماوي، ويضع نواميسه في أذهاننا، ويكتبها في قلوبنا.

القديس اكليمنضس السكندري.

صار كلمة الله إنسانًا، لكي تتعلم كيف يصير الإنسان إلهًا.

شاركنا يسوع المسيح بشريتنا لكي يمنحنا فيضًا من غناه.

القديس كيرلس الكبير.

قيل عن المسيح أنه أخذ كإنسان ما كان له دائمًا كإله، حتى إن تلك النعمة، التي وُهبت له يمكن أن ننالها نحن أيضًا، لأن اللوغوس لم ينقص قدره باتخاذه جسدًا حتى يسعى للحصول على نعمة، بل إنه بالأحرى قد ألَّه ذلك الجسد الذي لبسه، بل وأكثر من ذلك، فقد أنعم بهذه النعمة على جنس البشر.

القديس أثناسيوس الرسولي.

لداود الحق أن يصرخ، كإنسانٍ قد تجدد، "وسآتي إلى مذبح الله، إلى الله الذي يعطي فرحًا لشبابي" (مز 43: 4). كما قال قبلاً إنه شاخ وسط أعدائه... وهو يقول هنا إنه قد استعاد الشباب بعد طول شيخوخة وسقوط الإنسان. لأننا قد تجددنا بالتجديد الذي نلناه في المعمودية، وتجددنا خلال سكب الروح القدس، وسنتجدد أيضا بالقيامة، كما يقول في نصٍ آخر: "فيتجدد مثل النسر شبابك" (مز 103: 5) فاعلموا طريقة تجديدنا: "تنضح علَّي بزوفاك فأطهر، تغسلني فأبيَّض أكثر من الثلج" (مز 51: 9) وفي إشعياء: "إن كانت خطاياكم حمراء كالقرمز، تبيض كالثلج" (إش 1: 18) ومن يتغير من الظلمة، ظلمة الخطية، إلى نور الفضيلة وإلى النعمة، إنما قد تجدد فعلاً. لهذا فإن ذاك الذي تلطخ قبلاً بالدنس الأحمق، يشرق الآن بسطوع أكثر بياضًا من الثلج.

القديس أمبروسيوس.

يقول السيد المسيح: "يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا" (مت 37: 23). تتوافق هذه التعبيرات مع ما كنا نفترضه. فإذ قال النص المقدس الموحى به، لأي سبب سري لا نعرفه، أن الطبيعة الإلهية لها أجنحة، لذلك يكون الإنسان الأول الذي خلق على حسب صورة اللّه، شبيهًا له في كل شيء (تك 26: 1). أستنتج من ذلك أن الإنسان الأول خُلق بأجنحة حتى يكون شبيها بالطبيعة الإلهية. ويتضح أن كلمة "أجنحة" يمكن أن ترمز إلى اللّه. فهي قوة اللّه ونعمته وعدم فساده وكل شيءٍ آخر. وامتلك الإنسان جميع هذه الصفات طالما كان على شبه اللّه في كل شيءٍ، ولكن ميلنا إلى الشر سلب منا الأجنحة. (فلم نكن تحت حماية أجنحة اللّه، بل نُزعت منا أجنحتنا الخاصة). لذلك ظهرت لنا نعمة وبركة اللّه، وأنارت عقولنا حتى تنمو لنا أجنحة من خلال الطهارة والبرً بعد أن ننبذ الرغبات الدنيوية ونتجه إلى اللّه بكل قلوبنا.

القديس غريغوريوس النيسي.

نعمة اقتناء حياة المسيح.

بالسخاء ذاك الذي يعطينا أعظم كل العطايا، حياته ذاتها.

القديس اكليمنضس السكندري.

(إذ صار إنسانًا) صرنا الآن قادرين أن نقتنيه، نقتنيه هكذا بالعظمة، وبذات طبيعته التي كان عليها، إن كنا نعد له مكانًا لائقًا في نفوسنا.

المسيح الذي هو كل فضيلة، يأتي ويتكلم على أساس أن ملكوت الله في داخل تلاميذه وليس هو هنا وهناك.

العلامة أوريجينوس.

نعمة رائحة المسيح الذكية.

هكذا تشبَّه بولس العروس بالعريس في فضائله، وصور بعطره الجمال الذي لا يُدنى منه. من ثمار الروح الحب، الفرح، السلام وما شابه ذلك. صنع عطره، واستحق أن يصير "رائحة المسيح الذكية" (2 كو 15: 2). لقد استنشق القديس بولس هذه النعمة الغير مدركة التي تجاوزت كل نعمة، وأعطى نفسه لآخرين كرائحة ذكية ليأخذوا منها على قدر طاقتهم، حسب تدبير كل إنسان. صار بولس الرسول عطرًا، إما لحياة أو لموت، فإنه إذا ما وضعنا العطر ذاته أمام خنفس وأمام حمامة، فلن يكون له تأثير مماثل على الاثنين؛ فبينما تصير الحمامة أكثر قوة حين تستنشقه فإن الخنفس يموت حينذاك. هكذا الحال مع الرائحة المقدسة، مع بولس الرسول العظيم الذي شابه الحمامة.

القديس غريغوريوس النيسي.

نعمة الفضيلة.

بحق يمكن للإنسان أن يصف نفس القديس بولس بكونها حاملة بذار الفضيلة وفردوسًا روحيًا. فقد ترعرعت في داخله النعمة بعمقٍ، كما كان دائمًا يهيئ أعماقه لتنمو النعمة فيها وتزدهر. وحين صار إناءً مختارًا دأب على تنقية نفسه فاستحق أن ينسكب عليه الروح القدس بفيض. هكذا صار لنا مصدر أنهارٍ كثيرة وعجيبة، ليست فقط الأنهار الأربعة التي نبعت في الفردوس، وإنما أنهار أخرى كثيرة تجرى كل يومٍ لكل واحدٍ منا لتروى ليس فقط الأرض، بل نفوس البشر فتجعلها تنبت الفضائل.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

ليعطنا الرب الإله نعمة التواضع التي تقتلع الإنسان من أمراض كثيرة وتحفظه من تجارب كثيرة.

الأب دورثيؤس من غزة.

بنعمة الله، منذ تركت العالم لم انطق بكلمة واحدة ندمت عليها فيما بعد.

الأب بامبو.

ليس شيء من هبات الله للبشرية قُدم على سبيل إيفاء دين بل الكل هو من خلال النعمة.

العلامة أوريجينوس.

نعمة الآب والابن.

تقديم النعمة الإلهية هو عمل إلهي واحد، عمل الثالوث القدوس محب البشر. فالآب يهب نعمته بفيض بالكلمة الإلهي، بكونه قوة الله وحكمته، يقدمها لنا بروحه القدوس بكونه روح القوة والحكمة. فالنعمة الإلهية هي نعمة الآب والابن والروح القدس، عمل واحد للثالوث القدوس.

من المستحيل أن الآب عندما يعطى نعمة، ألا يعطيها بالابن، لأن الابن موجود في الآب، مثلما يوجد الشعاع في الضوء. وذلك ليس كأن الله معوز أو ضعيف، بل كأب "قد أسس الأرض بحكمته" (أم 3: 19)، وصنع كل الأشياء بالكلمة المولود منه، ويختم على الحميم المقدس (المعمودية) بالابن. وأوجد كل الأشياء بواسطة كلمته، اللوغوس الذاتي، وأكمل الحميم المقدس في الابن. وحيث يكون الآب فهناك يكون الابن أيضًا. كما أنه حيث يكون النور هناك يكون الشعاع أيضًا.

ولهذا أيضًا عندما وعد الابن القديسين تكلم هكذا: "إليه نأتي، أنا والآب، وعنده نصنع منزلاَ" (يو 14: 23). وأيضًا "لكي يكونوا هم أيضًا واحدًا فينا... كما إننا نحن واحد" (يو 17: 21، 22). وهذا يعني أن النعمة هي واحدة، وهي معطاة من الآب بالابن، كما يكتب بولس في كل رسائله، "نعمة لكم وسلام أبينا والرب يسوع المسيح". (رو 1: 7، 1 كو 1: 3، أف 1: 2).

لأن هناك نعمة واحدة من الآب في الابن، كما يوجد نور واحد للشمس وشعاعها. وكما تشرق الشمس من خلال الشعاع، هكذا أيضًا وبذات الأسلوب فإن القديس بولس يبعث بتمنياته لأهل تسالونيكي قائلاً: "والله نفسه أبونا والرب يسوع المسيح يهدى طريقنا إليكم" (1 تس 3: 11). ومن ثم يحفظ وحدانية الآب والابن. فلم يقل بولس (إن الله أبانا والرب يسوع المسيح) "يهديان" وكأن النعمة مزدوجة المصدر يعطيها اثنان، أي بواسطة هذا وذاك، بل يقول "يهدي Katavtheinai" لكي يوضح أن الآب يُعطي هذه النعمة بالابن.

إذن فتلك "العطية الواحدة" تكشف عن وحدانية الآب والابن. وأن كل ما يُعطى يُعطى بالابن، وما من شيء يعمله الآب من دون الابن، لأنه بهذه الطريقة تكون النعمة مضمونة لمن يتقبلها.

القديس أثناسيوس الرسولي.

نعمة ميراث الملكوت.

غاية خلقتنا هي تمتعنا بالخلود مع الله أبينا، يكون لنا نصيب في أحضانه الإلهية. هذا ما شغل قلب ربنا يسوع المسيح وفكره، محتملاً عار الصليب عوضًا عنا لننعم بنعمة الملكوت أبديًا. ولا يزال مسيحنا في السماء يعد لكل واحدٍ منا موضعًا، فهو مشغول بميراثنا الأبدي.

كيف حصلنا على النعمة "قبل الأزمنة الأزلية" بينما لم نكن قد خلقنا بعد، بل خلقنا في الزمن، لو أن النعمة التي وصلت إلينا لم تكن مودعة في المسيح؟ لهذا ففي الدينونة، عندما ينال كل واحد بحسب عمله يقول: "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم" (مت 25: 34). كيف إذا أو بواسطة من أعد الملكوت قبل أن يخلقنا؟ إن لم يكن بواسطة الرب الذي به تأسيس قبل الدهور لأجل هذا الغرض، لكي ببنياننا عليه كحجارة ملتئمة نشترك في الحياة والنعمة الممنوحتين.

القديس أثناسيوس الرسولي.

إذ يحدثنا القديس يوحنا الذهبي الفم عن نعمة ميراث الملكوت يوضح لنا أننا في هذا الملكوت الأبدي نتمتع بنعمة عدم الفساد، فلا نُحرم من الجسد الذي اشترك في الجهاد مع النفس وتقدس معها بعمل روح الله القدوس، إنما يُنزع كل أثر للفساد فيه، حاملاً طبيعة عدم الفساد اللائقة بالحياة الأبدية.

يريد أن يقول: إني أخلع ما هو غريب عني، والغريب ليس هو الجسد، ولكن الفساد. ولهذا يقول: لسنا نريد أن نخلعها (أي خيمة الجسد) ولكن أن نلبس فوقها، أي نلبس عدم الفساد. إذن نخلع الفساد ونلبس عدم الفساد. فهو يريد أن ينبذ ما جاء نتيجة الخطية، وفي الوقت نفسه يكتسب كل ما أعطته النعمة الإلهية.

ولكي نعلم أن الخلع لا يقوله من جهة الجسد بل يقوله من جهة الفساد والموت، اسمع ما يقوله بعد ذلك مباشرة: "إذ لسنا نريد أن نخلعها بل نلبس فوقها"، ولم يقل: لكي يُبتلع الجسدي من اللاجسدي، لكن ماذا يقول؟ "لكي يُبتلع المائت من الحياة". لهذا فهو لا يتحدث عن خلع الجسد بل عن خلع الموت والفساد. فالحياة التي تأتي إلى الجسد (بالقيامة) لن تبيد الجسد، بل الفساد والموت اللذين في الجسد.

إذن فالأنين ليس بسبب الجسد، بل بسبب الفساد الموجود في الجسد. فالجسد هو عبء ثقيل لا بسبب طبيعته، بل بسبب الفساد الذي دخله فيما بعد. والجسد بحد ذاته لم يُجعل للفساد بل لعدم الفساد. وهو يحمل تلك الخاصية حتى حين صار قابلاً للفساد. ولذلك فإن ظل الرسل كان يطرد القوات غير الجسدية، والملابس التي كانت تستر أجسادهم كانت تشفي المرضى وتعيدهم أصحاء. لا تحدثوني عن أمراض الجسد والأمور الأخرى التي يذكرها الذين يتكلمون ضد الجسد، لأن كل هذه الأمور لم تكن من طبيعة الجسد، بل هي بسبب الفساد الذي دخل الجسد فيما بعد.

لو أردتم أن تعرفوا حقيقة الجسد وقيمته، دققوا النظر في خلق أعضاء الجسد وشكل هذه الأعضاء ودقائق أعمالها بتوافق وتناسق وانسجام، فإنك عندئذ ستتأكد أن أداء هذه الأعضاء والتوافق فيما بينها هو أمر أكثر مثالية وأمل من مدينة تحترم قوانينها ومواطنيها جميعًا من الحكماء.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

نعمة الخلود فيه.

لكن الآن قد صار الكلمة إنسانًا، وأخذ ما يخص الجسد، فلم تعد تلك الأشياء تمس الجسد بسبب اللوغوس الذي سكن فيهم، والتي أُبيدت بواسطته. فلم يعد البشر خطاة وأمواتًا بعد بحسب الأهواء الخاصة بهم، بل إذ قاموا بحسب قوة اللوغوس ظلوا عديمي الموت، وعديمي الفساد إلى الأبد.

وإذ قد أخذ الرب جسدًا من مريم والدة الإله، فإن الذي أعطى الآخرين أصل حياتهم، قيل عنه هو نفسه أنه قد وُلد، ليصبح هو ذاته أصلنا، فلا نعود نرجع إلى الأرض بعد باعتبارنا مجرد تراب من الأرض، لكن إذ اتحدنا باللوغوس نقل هو إلى ذاته ضعفات الجسد الأخرى أيضًا، حتى تكون لنا شركة في الحياة الأبدية، لا كبشر، بل كمن ينتمي إلى اللوغوس.

لأننا لا نموت بعد في آدم بحسب نشأتنا الأولي، بل إذ قد تحول أصلنا وضعف جسدنا إلى اللوغوس، نقوم من التراب، إذ زالت عنا لعنة الخطية بسبب ذاك الذي هو فينا والذي صار لعنة من أجلنا.

فإننا نحن جميعًا الذين من الأرض نموت في آدم، وإذ قد تجددنا من فوق، حيث أُعيد أصل نشأتنا من الماء والروح، فقد أحيينا في المسيح، ولم يعد الجسد ترابيًا بعد، بل إنه تأله (إذ صارت له خاصية اللوغوس)، بسبب حكمة الله، الذي لأجلنا صار جسدًا.

القديس أثناسيوس الرسولي.

لأنك إن عارضت أمر خلاصي من الفساد بالطبيعة، فأنظر لئلا تعارض كلمة الله الذي رفع عني صورة العبودية، لأنه الرب الذي أخذ جسدًا، وصار إنسانًا. فإننا نحن البشر بالمقابل، وقد تألهنا باللوغوس إذ أُخذنا فيه بواسطة جسده، وهكذا من الآن فصاعدًا سنرث الحياة الأبدية.

القديس أثناسيوس الرسولي.

نعمة التمتع بمعرفة الحق الإلهي.

خلق الله في الإنسان حنينًا نحو التعرف على الحقيقة غير المتغيرة، فقدم السيد المسيح نفسه بكونه "الحق". من يقتنيه يتمتع بمعرفة الحق كنعمة إلهية مجانية.

نحن نعلم أن الابن قد جاء، وأعطانا بصيرة لنعرف (الله) الحق، ونحن في الحق، في ابنه يسوع المسيح، هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية (1 يو 5: 20). ونحن قد صرنا أبناء في الابن بالتبني والنعمة، لأننا نشارك في روحه، إذ أن "كل الذين قبلوه أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه" (يو 1: 12). ولهذا أيضًا فالابن هو الحق إذ يقول "أنا هو الحق" وفي حديثه إلى الآب يقول: "قدسهم في حقك، كلمتك هو حق" (يو 14: 6؛ 17: 17)، ونحن بالمحاكاة نصير خيرين وأبناء.

لهذا كان واضحًا للكل أن البشر حقًا جاهلون، لكن اللوغوس ذاته باعتباره الله الكلمة، يعرف كل شيء حتى قبل حدوثه. لأنه حينما صار إنسانًا لم يكف عن أن يكون هو الله، ولم يستنكف من أمور الإنسان بكونه هو الله، بئس هذا الفكر. بل بالأحرى، إذا هو الله، قد أخذ لذاته الجسد، وإذا هو في الجسد فإنه يؤله هذا الجسد. لأنه كما سأل أسئلة هكذا أيضًا أقام الميت، وأظهر للكل أن الذي يحيي الميت ويستدعي روحه، يعرف بالأكثر أسرار الجميع. إنه يعرف حقًا أين يرقد لعازر، ومع هذا يسأل، لأن لوغوس الله الكُلى القداسة، الذي احتمل كل شيء لأجلنا، إنما قد فعل ذلك، حتى بأخذه جهلنا، يهبنا نعمة المعرفة، معرفة أبيه الحقيقي وحده، ومعرفته أنه هو الابن المرسل لأجل خلاصنا جميعًا. فأية نعمة أعظم من هذه النعمة؟

القديس أثناسيوس الرسولي.

"لأنه ابتهج قلبي، واسترخت حقواي، وصرت كلا شيٍء، ولا أعرف وصرتُ كبهيمٍ عندك، ولكني دائمًا معك" (مز 21: 73 - 23)... هكذا يبدو الإنسان بهيمًا أعجمًا بالمقارنة لا أقول بالمسيح، بل حتى بالملائكة، لكن حتى إن كان الأمر كذلك، لا نيأس، لأن الربَ يحفظ البشرَ والبهائم كليهما معًا. (مز 6: 36). ومن ثم فلأنني لم أتعلم من ذاتي بل منك، فإنني ألتصق بك دومًا حتى أكف عن أكون بهيمًا، وحينئذ تقول لي: "وأما أنت فقفْ هنا معي"! (تث 31: 5) فالإنسان الذي بجهله انحدر إلى الحماقة ونقص المعرفة، الذي يوزن بميزان البهيمة، يبدأ من جديد فيصير إنسانًا، حينما تشمله نعمة الله، فهو حقًا إن اقتدر بالعقل والنعمة، لأثبت أنه إنسانًا بتلك الحقيقة عينها. ومن ثم يتهلل أنه انفصل عن الحيوانات العجماوات، ودخل في شركة البشر الذين يفتقدهم الله ويحميهم. لأنه ما هو الإنسان إلا الذي يفكر الرب فيه ويفتقده؟ (قابل مز 4: 8).

القديس أمبروسيوس.

سريعًا ما تنحل رباطات الجهل خلال الإيمان البشري والنعمة الإلهية، وتُمحى خطايانا بدواء اللََّه الكلمة. فنُغتسل من كل خطايانا، ولا نعود بعد فنكون مرتبكين في الإثم. لا تعود شخصياتنا تبقى كما كانت كسابق عهدها قبل الغسل. فإن المعرفة تبرز للوجود جنبًا إلى جنب مع الاستنارة، ففي لحظة نسمع نحن غير المتعلمين أننا صرنا تلاميذ المسيح. فإن الإرشادات تؤدي إلى الإيمان، ونتعلم الإيمان مع العماد بالروح القدس. هذا الإيمان هو الخلاص الجامع الواحد للبشرية.

القديس إكليمنضس السكندري.

نعمة الثبوت في الآب والابن.

"بهذا نعرف أننا نثبت في الله وهو فينا إنه قد أعطانا من روحه" (1 يو 4: 13)، لهذا فإنه بسبب نعمة الروح القدس التي أعطيت لنا، نصبح نحن في الله وهو فينا، حيث أن المقصود هنا هو روح الله الذي من خلال مجيئه ليصير فينا، نُعتبر نحن أيضًا في الله والله فينا إذ لنا الروح.

هكذا إذن لا نكون في الآب مثل الابن الذي هو كائن في الآب، لأن الابن ليس شريكًا للروح حتى يصبح نتيجة لذلك في الآب، ولا هو متقبل للروح القدس مثلنا، بل أن الابن بالأحرى يعطى الروح القدس للجميع.

وليس الروح هو الذي يربط كيان اللوغوس بالآب، بل أن الروح القدس بالأحرى هو الذي يأخذ من اللوغوس. لأن الابن كائن في الآب بصفته كلمته الذاتي وإشعاعه، بينما نحن بدون الروح القدس غرباء عن الله، بعيدون عنه وبشركتنا في الروح نتحد بالله. لهذا فإننا نصير في الآب ليس من أنفسنا، بل من الروح القدس الذي فينا، والذي نحفظه ثابتًا فينا من خلال الاعتراف، كما يقول يوحنا أيضًا: "من يعترف أن يسوع هو ابن الله، فالله يثبت فيه، وهو في الله" (1 يو 4: 15).

القديس أثناسيوس الرسولي.

نعمة الشبع والفرح.

"صارت لي دموعي خبزًا نهارًا وليلاً، إذ قيل لي كلَ يوم: أين إلهك؟" (مز 42: 3)، وبحق دُعيتْ الدموعُ هنا خبزًا، حيثُ الجوع إلى البرّ. "طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، لأنه يُشبعون" (مت 5: 6)، لهذا توجد دموع بمثابة خبزٍ، تقَّوى وتسند قلبَ الإنسان (قابل مز 104: 15)، ومقولة الجامعة المأثورة تناسب المقامَ هنا أيضًا "الِق خبزك على وجه المياه" (جا 11: 1 LXX)، لأن خبزَ السماء هناك، حيث مياه النعمة. حقا أن أولئك الذين تتدفق من بطونهم أنهار ماء حَّية (قابل يو 7: 38؛ 4: 10)، سوف ينالون عون الكلمة (الإلهي) وتعضيده، وقوتًا من نوعٍ سري (باطني). أيضا يوجد هذا الخبز الحي، (قابل يو 6: 51)، حيث هنا مياه الدموع والبكاء، بكاء التوبة. لأنه لهذا كُتب: "بالبكاء يأتون وبالعزاء أعيدهم" (إر 31: 9LXX). لهذا طوباهم الذين خبزهم الدموع؛ لأنهم يستحقون أن يضحكوا؛ لأنه "طوبى للباكين!" (لو 6: 21).

"لأني سأدخل موضعَ الخيمة العجيبة، إلى بيت الله، بصوت الفرح والحمد، بصوت جمعٍ معيَّد واحد." (مز 42: 4). بكى بحق لأنه يسكن الأرض، بينما تنتظره المظال السماوية، حيث يدخل في الوقت المناسب إلى قدس القدير. (قابل مز 84: 2، 3، 10). بالحقيقة فضل وآثر ذلك الموضوع على كل ثروةِ مملكته، كما شهد هو قائلاً في نصٍ آخر: "واحدةً سألتُ من الرب، وإياها التمس أن أسكن في بيت الرب كلَ أيام حياتي، لكي أنظر إلى فرحِ الرب" (مز 27: 4)، فرحُ الربِ في الكنيسة.

الكنيسة أيقونة السماويات، بعد أن يزول الظل حقًا تظهر الأيقونة جلَّيةً. (قابل عب 10: 1، كو 2: 17). والظل هو المجمع اليهودي. وفي الظل الناموس، لكن في الإنجيل الحق. لهذا فإن أيقونةَ الحق تسطع في نور الإنجيل، لهذا بكى المرتل بسبب تأجيل الخيرات التي امتلأت حتى الحافة كاملةً بالنعمة والفرح.

القديس أمبروسيوس.

نعمة النور.

تعبر النفس من الخطأ إلى الحق، وتتبدل صورة حياتها المظلمة إلى نعمة فائقة. انتقل بولس الرسول عروس المسيح من الظلمة إلى النور، إذ يقول لتلميذه تيموثاوس، كما العروس لوصيفاتها، إنه قد صار مستحقًا إن يكون جميلاً، لأنه كان قبلاً مجدفًا ومضطهدًا ومفتريًا ومظلمًا (1 تي 13: 1). ويقول بولس الرسول أيضًا أن المسيح جاء إلى العالم لينير للذين في الظلمة. لم يدعُ المسيح أبرارًا بل خطاة إلى التوبة، الذي جعلهم يضيئون كأنوار في العالم (في 15: 2)، بحميم الميلاد الثاني الذي غسلهم من صورتهم السوداء الأولى.

زارت ملكة أثيوبيا سليمان بعد ما سمعت عن حكمته، وقدمت له هدايا من الذهب والأحجار الكريمة والعطور (1 مل 1: 10 - 3)، ويتضح سرّ هذه الزيارة من دراسة عجائب الإنجيل. لأنه من لا يعرف أن الكنيسة جاءت من مجتمع الظلمة من بين الأمم عابدي الأصنام، الذين عاشوا بعيدًا عن معرفة اللّه وكانوا منفصلين عنه بخليج الجهل العظيم. ولكن عندما أضاءت نعمة اللّه وحكمته، وأرسل النور الحقيقي أشعته إلى من كانوا في الظلمة وظلال الموت. أغمضت إسرائيل عيونها للنور، ورفضت أية مشاركة في الخير. لكن الأثيوبيين أسرعوا إلى الإيمان من بين الأمم، الذين كانوا بعيدون اقتربوا بعدما غسلوا أنفسهم من الظلمة بالمياه المقدسة. لقد اقتادهم الروح القدس إلى اللّه وقدموا هدايا للملك: بخور النسك والعبادة وذهب معرفة اللّه الملك وأحجارًا كريمة للوصايا وعمل الفضيلة.

القديس غريغوريوس النيسي.

نعمة الكرازة والشهادة.

لماذا لم تُرسل الملائكة في مهمة الكرازة بالإنجيل؟ لكي لا يكون للإنسان عذر في كسله أو إهماله، فيُبَرر نفسه بحُجة اختلاف الطبيعة البشرية عن الطبيعة الملائكية، لأن الفرق عظيم.

من العجيب حقًا إن الكلمة المنطوقة من لسان ترابي لها القدرة على اقتلاع الموت، وغفران الخطايا، وإعادة النظر للعميان، وتحول الأرض سماءً، وهذا يجعلني أتعجب من قدرة الله ويزداد إعجابي وإكرامي لغيرة بولس لنواله تلك النعمة وتهيئة نفسه وإعدادها حتى يستحق نوالها.

إني أُحثٌك لا لتتعجَب، بل لتقتدي بالمثال الأعلى للفضيلة، وبهذه الطريقة تستحق أن تُشاركه في إكليله، ولا تُفاجأ بأنه يمكن لأي شخص أن يصير كبولس في خدمته لو تمثٌل واقتدى به، فيردد في قلبه كلمات بولس: "قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيرًا قد وضع لي إكليل البرّ، الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل، وليس لي فقط، بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضًا" (2 تي 4: 7، 8).

رأيت كيف يدعو الجميع لمشاركته في إنجازاته، وبالتالي فالمكافأة أيضًا معروضة ومفتوحة للجميع.

فلنجتهد جميعنا لنثبت استحقاقنا للبركات الموعودة لنا، ولننظر ليس فقط لعظمة ومجد الحياة في الفضيلة، لكن نتأمل أيضًا في ثبات الهدف الذي من خلاله نحقق هذه النعمة. ولنعرف أن بولس لم يختلف عن طبيعتنا بأية حال من الأحوال، ولكنه كان مثلنا، وهذا يجعل ما يبدو صعبًا ومستحيلاً بالنسبة لنا قد صار سهلاً وخفيفًا، لأنه بعد هذا الوقت القصير من العمل والجهاد سنرتدي إكليل عدم الفساد الأبدي بواسطة نعمة وصلاح ربنا يسوع المسيح الذي له المجد والكرامة الآن وكل أوانٍ وإلى أبد الآبدين. آمين.

القديس يوحنا الذهبي الفم.

الآن نراه يكشف الحديث عن دور كنسي، لأن أولئك الذين أرشدتهم النعمة وقد صاروا شهودًا للكلمة لا يكتموا الحق محتفظين به لأنفسهم، بل بالأحرى يبشرون به آخرين ممن لحقوهم. لذلك تقول العذارى للعروس التي تمتعت أولاً بالصلاح إذ التقت بالكلمة وجهًا لوجه، واستحقت أن تتعرف على الأسرار الخفية: "نبتهج ونفرح بك، نذكر حبك أكثر من الخمر" (نش 4: 1).

القديس غريغوريوس النيسي.

نعمة ديناميكية.

من أجلنا قيل عن السيد المسيح: "وكان الصبي ينمو ويتقوى بالروح ممتلئًا حكمة، وكانت نعمة اللَّه عليه" (لو 2: 40)، وأيضًا: "وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والنعمة عند اللَّه والناس" (لو 2: 52). وكما يقول العلامة أوريجينوس: [لقد أخلي ذاته وأخذ شكل العبد (في 7: 2)... وبالقدرة التي بها أخلي ذاته نما أيضًا.] هكذا يدخل بنا إلى طريق النمو الدائم في النعمة. فالنعمة فينا هي عمل الله المستمر الديناميكي غير المتوقف.

المقصود بالنمو إذن هو نمو الجسد، لأنه بنمو جسد المخلص يُستعلن الله أكثر فأكثر (من خلال بشرية المخلص) لمن يرونه. وإذا يُستعلن اللاهوت أكثر فاكثر، هكذا بالأحرى تزداد نعمة بشريته بالأكثر كإنسان أمام جميع الناس. لأنه كطفلٍ حُمل إلى الهيكل، ولكن حينما صار صبيًا بقى في الهيكل وناقش الكهنة حول الناموس "حتى بهتوا من فهمه وأجابته" (لو 2: 47).

القديس أثناسيوس الرسولي.

ينمو الطفل يسوع المولود بداخلنا بمختلف الطرق في الحكمة والقامة والنعمة في قلب من يستقبله ليسكن فيه (لو 52: 2).

يسكن المسيح في كل قلب نقي، ولكن بصورة مختلفة حسب قامة الإنسان الذي يسكن بداخله. يظهر ذاته حسب طاقة كل إنسان. فإنه يأتي كطفلٍ أو كصبيٍ أو كإنسانٍ ناضجٍ على مثال العناقيد.

لا يظهر المسيح بنفس الصورة على الكرمة، لكنه يغير هيئته مع مرور الوقت الآن تبرعم، لقد نبت، ثم نضج، وصار يانعًا، وأخيرًا صار خمرًا.

إذ يحمل الكرم ثمرته يحمل معها وعدًا، حقًا إنه لم ينضج بعد ليعطي خمرًا، ولكنه ينتظر مرحلة النضوج. وفي الوقت ذاته لا يحرمنا من السرور، لأنه يفرح حاسة الشم بدلاً من التذوق باعتبار ما سيكون؛ خلال عطر الرجاء يعطى عذوبة لحواس النفس.

إن الإيمان الثابت بالرجاء في النعمة يصير بهجة لنا، نحن الذين ننتظر في صبر. وهكذا فإن الطاقة الفاغية تحمل وعدًا بالخمر. إنها ليست بعد خمرًا، لكنها تنبت نبته الرجاء. إنها تنتظر نعمة لم تأتِ بعد.

وبالرغم من أن المرحلة التي بلغ إليها الشخص الآن أعلى في الحقيقة مما كان عليه سابقًا، إلا أن هذه المرحلة لا تحد من تقدمه، لكنها تصبح بداية لاكتشاف نعمة أعلى.

فالشخص الذي يرتفع لا يقف أبدًا ساكنًا. إنه يتحرك من إحدى البدايات إلى التي تليها، وبدايات النعمة الأعلى ليست محدودة. لذلك فرغبة النفس التي ترتفع تزداد في المعرفة وفي الرغبة في الارتفاع إلى مستويات أعلى، وتستمر في النمو محققة التقدم إلى الغير محدود.

القديس غريغوريوس النيسي.

نعمة جامعة.

"صرت كل شيء لكل البشر، لكي أربح الكل" (١ كو ٩: ٢٢). تمطر النعمة الإلهية على الأبرار والأشرار (مت ٥: ٤٥).

هل هو إله اليهود وحدهم، أم إله الأمم أيضًا؟ نعم هو إله الأمم أيضًا، بالحقيقة هو الله الواحد (رو ٣: ٢٩ - ٣٠)، هذا ما يعلنه الرسول السامي.

القديس اكليمنضس السكندري.

شكرًا لله، فإنه وإن كانت نعمة النبوة قد اقتصرت على إسرائيل، صارت الآن نعمة أعظم من كل ما كان لهم، انسكبت على الأمم بيسوع المسيح.

العلامة أوريجينوس.

تأملوا نقطة أخرى، "إنما صالح الله لإسرائيل، لأنقياء القلب" (مز 1: 73). فهل الله ليس صالحًا للجميع إذن؟ حقًا هو صالح للكل، لأنه مخلص جميع البشر، خاصة للمؤمنين. لهذا أتى الرب يسوع ليخلص ما قد هلك (لو 10: 19).

حقًا جاء ليحمل خطية العالم "(يو 29: 1)، ويشفي جراحتنا، لكن ليس الجميع يرغبون في العلاج!

كثيرون يتجنبونه! لئلا يحقن القرح بالعقاقير، ويفقد سطوته. لهذا السبب يشفي الذين يريدون الشفاء ولا يرفضونه.

فمن يرغبون في العلاج يستعيدون صحتهم، أما الذين يقاومون الطبيب ولا يطلبونه لا يتمتعون بصلاحه، لأنهم لا يختبرونه!

من نال الشفاء يستعيد صحته، لهذا فالطبيب صالح بالنسبة للذين أعاد إليهم عافيتهم. من ثمة الله صالح لأولئك الذين غفر خطاياهم، لكن إن كان لإنسان خطية لا علاج لها في روحه، فكيف يُقيّم الطبيب على إنه صالح، بينما هو يتحاشاه؟

لهذا كما قلت قبلاً، شرح الرسول بحق أن الله "الذي يريد أن الجميع يخلصون" (1 تي 4: 2)، هو صالح لكل الناس. أما نعمة صلاح الله الخاصة فهي مكفولة بالأكثر لجميع المؤمنين، الذين ينالون عونًا من إرادته الصالحة ونعمته. لكن حين يقول المرتل أيضًا: "إنما صالح الله لإسرائيل، لأنقياء القلب" فإنه ينقل مشاعر الذين لا يعرفون كيف يتمتعون بما يخص الله، عدا إنه صالح نحو كل شيء وهو في الكل.

القديس أمبروسيوس.

واهب النعمة يطلب النعمة لحسابنا.

عندما يقول المخلص إذن، بحسب الأقوال التي يتذرعون بها، "دُفع إلى كل سلطان" (مت 28: 18) و "مجد ابنك" (يو 17: 1)، وحينما يقول بطرس "وسلاطين وقوات مخضعة له" (1 بط 3: 22)، يجب أن نفهم كل تلك النصوص بنفس المعنى، أعني أن المخلص يقول ذلك كله بشريًا، بسبب الجسد الذي لبسه، إذ أنه وهو غير المحتاج قيل عنه رغم ذلك إنه نال ما ناله بشريًا.

هكذا أيضًا، فبقدر ما نال الرب، وبقدر ما تستقر النعمة عليه، تبقي النعمة محفوظة لحسابنا، لأن حينما يأخذ الإنسان بمفرده، فهناك احتمال فقدان ما أخذه، وقد ظهر ذلك في حالة آدم، لأنه بعد أن نال خسر ما ناله.

ولكي تصير تلك النعمة بلا استرداد، وتظل محفوظة للبشر فقد أخذ المخلص العطية لنفسه وقال إنه قد أخذ سلطانًا كإنسانٍ، ذلك السلطان الذي يمتلكه على الدوام كإله.

ومن يمجد الآخرين يقول: "مجدني"، ليظهر أن له جسد في حاجة إلى السلطان والمجد. ومن هنا فحينما يأخذ الجسد (شيئًا ما)، ولأن ذلك الجسد الذي يأخذ خاص بالمخلص الذي صار إنسانًا، لهذا قيل إن المخلص هو الذي نال ما ناله.

القديس أثناسيوس الرسولي.

إن كان اللوغوس قد حلّ بيننا لكي يفدي البشر، وصار جسدًا لكي يُقدسهم ويؤلههم (لأنه لأجل هذا حقا قد صار جسدًا). فإنه يبدو جليًا للجميع، إنه حينما صار جسدًا نال مواهب الروح لأجلنا، وليس لأجله هو، لأن مواهب الروح التي يعطيها الآب بواسطة الابن كانت تُعطى لأجل ذلك الجسد، الذي كان يلبسه حينما تحدث.

لكن لنتأمل ما طلبه الرب، وماذا كانت تلك المواهب التي قيل إنه نالها، حتى يعود (أولئك الهراطقة) إلى رشدهم. لقد سأل إذ طلب المجد (يو17: 1)، ومع هذا قال: "كل شيء قد دُفع إليّ من أبي" (لو 10: 22). وبعد القيامة، يقول إنه نال كل سلطان في السماء وعلى الأرض (أنظر مت 28: 18). لكنه حتى قبل ذلك قال فعلاً: "دُفع إليّ كل شيء"، إذ إنه رب الجميع، "لأن كل شيء به كان" (يو 1: 1)، ويوجد "رب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء ونحن به" (1 كو 8: 6). وحينما كان يطلب المجد، كان هو رب المجد، كما هو دائمًا كما يقول بولس: "لو عرفوا لما صلبوا رب المجد" (1 كو 2: 8). وحين طلب المجد بقوله: "مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم" فإن ذلك المجد كان له أصلاً.

القديس أثناسيوس الرسولي.

من وحي يو 1.

قلبي متعطش إليك يا واهب النعم.

مالي أراك قادمًا إلى عالمنا.

يستحيل عليّ أن أرتفع إلى سماواتك!

لكن حبك أنزلك إليّ، يا أيها الكلمة الخالق!

حللت على أرضي، لترافقني رحلتي!

تجسدك أعلن حبك العجيب لي،.

ألهب قلبي، فصرت متعطشًا إليك يا واهب النعم!

أنت حياتي، بدونك لا وجود لي.

أنت نوري، بدونك أبقى في ظلمة فسادي.

حسبتني من خاصتك، ونزلت إليّ لألتصق بك!

أقمتني بنعمتك الفائقة،.

كل نعمة من عندك تسحبني لأتمتع بفيضٍ جديدٍ من النعم.

وهبتني وجودي من العدم،.

أنعمت عليّ بصورتك ومثالك،.

قدمت لي الناموس عونًا، يقودني للشعور بالحاجة إليك.

أخيرًا، قدمت لي ذاتك يا واهب النعم!

فتحت عيني لأشاهد مجد جلالك!

بهاؤك يعلن لي أنك ابن اللَّه الوحيد!

انفتحت أذناي لأسمع النذير، الصوت الصارخ في البرية!

يا له من صوت يدوي كما في صحراء قاحلة،.

لكنه صوت عذب، يسبقك أيها الكلمة الإلهي.

صوته يعلن عن الحق،.

أنك أزلي، واحد مع أبيك.

صوته يعلن عجزه عن أن يحل سيور حذائك،.

لأنه بقي سرّ تجسدك غامضًا حتى تممت الخلاص بالصليب.

اسمح لي أن أتقدم وأحل سيور حذائك،.

حيث يكشف لي روحك القدوس عن أسرار خلاصك!

عرفك الجنين يوحنا فصرخ متهللاً.

سمعت أليصابات صوته في داخلها، فانفتح لسانها بالتسبيح!

لكنه حسب هذه المعرفة كلا شيء بعدما تمتع بعمادك!

عرفك أنك أنت تعمد بالروح القدس الناري.

أنت وحدك تغسل النفس بماء فريد،.

وتلهب القلب بنار روحك القدوس.

سحب نذيرك عيون الكل إليك، صارخًا:

هوذا حمل اللَّه الذي طالما اشتاق الأنبياء إليه!

هوذا حمل اللَّه موضع سرور الآب!

سُرّ يوحنا حين انسحب تلاميذه إليك ليمكثوا معك.

وتهللت نفسه، إذ رأى كل تلميذ يشهد لك.

تحركت قلوبهم لتسحب بعضها البعض إليك.

مع نثنائيل ترك الكل ظلال شجرة التين اليابسة،.

وجاءوا إليك ليروا ملائكتك تصعد وتنزل عليك!

رأوا السماء مفتوحة، والسمائيون يشتهون أن يخدموك!

نعم وأنا قلبي متعطش إليك،.

لن يرتوي إلا بك، يا مصدر النعم!

الباب الثاني.

آياته وأعماله.

تعلن عن لاهوته.

ص 2 - ص 12.

خدمة ابن اللَّه العامة.

أو.

سفر الآيات.

يو 2 - يو 12.

سبع مراحل وسبع آيات.

سبع مراحل.

يرى البعض أن القديس يوحنا يتحرك في قوة وجرأة ليلتقط من أعمال السيد المسيح ومقالاته سبع آيات خلال سبع مراحل متمايزة.

المرحلة الأولى: البداية الجديدة (ص 2 - ص 4).

يُعرف إنجيل يوحنا بإنجيل التجديد، ويُدعى سفر التكوين للعهد الجديد، أو سفر التكوين المسيحي، حيث يقدم لنا قصة تجديد الخليقة بقوة. ففي هذه المرحلة نجد عدة لقاءات للسيد المسيح يركز فيها السيد على التجديد:

اللقاء الأول في قانا الجليل، حيث يقدم حياة مسيانية جديدة متهللة.

اللقاء الثاني في الهيكل، حيث يشير إلى هيكل جديد مُقام (اتحاد مع القائم من الأموات).

اللقاء الثالث مع نيقوديموس، حيث يعلن عن الحاجة إلى الميلاد الجديد من الماء والروح.

اللقاء الرابع مع المرأة السامرية عند البئر، حيث يكشف عن العبادة جديدة بالروح والحق.

في كل هذه اللقاءات يبرز عنصر الجدة. ما أعلنه هنا بالأعمال والحوار هو امتداد وتحقيق لما نادى به في الموعظة على الجبل عن تجديد فهمنا للوصية: "قد سمعتم أنه قيل للقدماء... وأما أنا فأقول لكم..." (مت 5: 21 - 22)، وما ورد في إنجيل مرقس الرسول: "ليس أحد يخيط رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق، وإلا فالملء الجديد يأخذ من العتيق، فيصير الخرق أردأ. وليس أحد يجعل خمرًا جديدة في زقاق عتيقة، لئلا تشق الخمر الجديدة الزقاق، فالخمر تنصب والزقاق تتلف، بل يجعلون خمرًا جديدة في زقاق جديدة" (مر 2: 21 - 22).

هكذا يقدم لنا الإنجيل السيد المسيح واهب الحياة المسيانية الجديدة والهيكل الجديد المُقام والميلاد الجديد والعبادة الجديدة والوصية الجديدة.

المرحلة الثانية: يسوع الكلمة واهب الحياة (ص 4: 43 - ص 5: 47).

إذ يقدم الكلمة الإلهي التجديد في كل جوانب الحياة يحتاج المؤمن إلى السيد المسيح كواهب الحياة.

تحوي هذه المرحلة ثلاثة فصول تحث عن التمتع بكلمة اللَّه واهب الحياة:

شفاء ابن خادم الملك الذي كان في حكم الأموات، إذ كانت حياته في خطرٍ (ص 4).

شفاء مفلوج بيت حسدا الذي عانى من الفالج 38 عامًا، حيث كانت حياته أقرب إلى الذين دُفنوا في القبور (ص 5).

حديث المسيح عن نفسه كواهب القيامة (ص 5: 19 - 47).

المرحلة الثالثة: يسوع خبز الحياة السماوي (ص 6).

يحتاج الإنسان إلى النمو الدائم حتى يحيا ولا يموت، هذا الذي لن يتحقق بدون تناول الطعام اليومي. لذلك اشبع السيد المسيح الجموع بالخبزات القليلة، والتقى مع تلاميذه وهو سائر على المياه، وأخيرًا حدّثهم عن نفسه أنه الخبز السماوي، من يأكل منه لا يجوع، بل يتمتع بالشبع أبديًا، فيتمتع بنموٍ دائم لا ينقطع.

المرحلة الرابعة: يسوع المرفوض (ص 7 - ص 8).

بينما يهتم السيد بأن يقدم للإنسان الحياة الجديدة والخبز الجديد لكي يحيا معه في سمواته في نموٍ دائم، لا يطيق الإنسان اللقاء معه. فقد جاء الابن الوحيد الجنس متجسدًا لأجل خاصته، وخاصته لم تقبله. ففتح الباب للأمم لكي يصير الكل من خاصته. هكذا يبقى مسيحنا مرفوضًا مع كنيسته عبر الأجيال، ويبقى هو خادمًا حتى لرافضيه، باسطًا يديه لهم بالحبٍ، حتى يقبلوا الشركة معه.

المرحلة الخامسة: يسوع نور العالم (ص 9 - ص 10).

يود السيد المسيح أن يقدم لهم المعرفة الصادقة للحق، حتى تستنير أعينهم. حقًا إن الذين يدركون عماهم ينالون منه النور كنعمةٍ مجانية، أما الذين يدعون التمتع بالبصيرة فيبقون في ظلمة عماهم.

المرحلة السادسة: يسوع القيامة (ص 11).

آخر عدو يهدد حياة الإنسان هو الموت، لذلك لن يتوقف السيد المسيح عن العبور إلى مقابرنا لكي يقيمنا، مؤكدًا لنا أنه غالب الموت وقاهر الجحيم.

المرحلة السابعة: واهب الحياة خلال الموت (ص 11: 55 - ص 12: 50).

سبع آيات.

يضم هذه القسم 7 معجزات:

1. تحويل الماء خمرًا في عرس قانا الجليل (2).

2. شفاء ابن خادم الملك (4).

3. شفاء مفلوج بيت حسدا (5).

4. إشباع الجموع (6).

5. السير على المياه (6).

6. شفاء المولود أعمى (9).

7. إقامة لعازر (11).

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

الأصحاح الثاني - تفسير إنجيل يوحنا - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفاسير إنجيل يوحنا الأصحاح 1
تفاسير إنجيل يوحنا الأصحاح 1