الأصحاح الأول – سفر أستير – القمص تادرس يعقوب ملطي

مقدمة في سفر أستير

فقدت وشتي عرشها لتملك أستير، الفتاة اليتيمة الوالدين، المولودة في أرض السبي، لكي يستخدمها الله لخلاص شعبه من مؤامرة هامان العاتي التي كادت أن تفتك بكل الشعب في ولايات مادي وفارس.

إنها قصة واقعية عاشها الشعب كله، وهي قصة شخصية تمس حياة كل مؤمن حقيقي، إذ يخلع من قلبه وشتى الملكة صاحبة السلطان لتقوم أستير المتواضعة، وتملك عوضًا عنها، لا من أجل غناها أو حسبها، وإنما حسب غنى نعمة الله الفائقة التي تنزع عنا يتمنا الداخلي، ليكون الله نفسه أبًا لنا، والكنيسة السماوية أمنا، ونُحسب ملوكًا في الرب، وننعم بالنصرة على هامان الحقيقي، إبليس.

لعل وشتى تمثل حرفية الناموس في تشامخها، فليمت فينا الحرف، وليقم فينا روح العهد الجديد، وتملك أستير (الكنيسة) داخلنا، قائلين مع الرسول: "فإذ قال جديدًا عتق الأول، وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال" (عب 8: 13). فسفر أستير هو سفر إعلان شيخوخة الحرف القاتل وإعلان روح العهد الجديد الذي يهب خلاصًا وحياة.

القمص تادرس يعقوب ملطي.

أستير:

يُقال أن إسم "أستير" من أصل هندي قديم معناه "سيدة صغيرة"، إنتقل إلى الفارسية ليعني "كوكبًا" ويبدوا أنها حملت هذا الإسم بعد اختيارها ملكة[1]. أما إسمها العبري "هدسة" فيطلق على شجرة اللآس.

أستير هي إبنة ابيجائيل الذي يُرجح أن يكون من سبط بنيامين وُلدت في أرض السبي، أحضرها مردخاي إبن عمها الذي تبناها إلى "شوشن" عاصمة فارس (إيران).

كاتب السفر:

جاء في التلمود أن كاتب هذا السفر هو المجمع العظيم (الذي يرأسه عزرا). ويرى القديس أغسطينوس أنه من وضع عزرا الكاتب، بينما يُرجح الكثير من الآباء ما نادى به يوسيفوس المؤرخ اليهودي أنه من وضع مردخاي نفسه، من بين هؤلاء الآباء القديس أكليمندس السكندري.

تاريخ كتابته:

يظهر من السفر نفسه أنه كُتب في عصر أحشويروش (زركسيس 486 - 465 ق. م) بفترة قصيرة، إذ يتحدث عن الملك بصيغة الماضي، وفي نفس الوقت يكتب بدقة عن تفاصيل خاصة بأثاثات القصر بشوشن، القصر الذي دمرته النيران بعد اغتيال الملك بأربعين عامًا (425 ق. م)، فالكاتب رأى القصر بنفسه وسجل هذه الأمور الدقيقة.

هذا ويظهر من السفر أن الكاتب يهودي عاش في بلاد فارس، له إلمام تام بأسماء مستشاري الملك وتفاصيل القصر الملكي، كما إستخدم كلمات فارسية.

قانونيته:

تشكك البعض في قانونية هذا السفر وحججهم في ذلك:

أولاً: الحجة الرئيسية أن تكرر إسم الملك الوثني بكثرة مع عدم ذكر إسم الله نهائيًا (فيما عدا تتمة أستير التي سنتحدث عنها)، كما لم ترد فيه صلاة أو تطبيق شريعة اليهود. ويُرد على ذلك أن هذا السفر لا يمكن أن يكون كاتبه غير مؤمن بالله، وأن من يقرأه يزداد إيمانًا به. فإن كان لم يذكر إسم الله لكنه قدم صورة رائعة عن رعاية الله بشعبه حتى وهم في أرض السبي يرفضون العودة إلى أورشليم.

يعلل البعض عدم ذكر الله هنا علامة إنحجاب وجهه عنهم (تث 31: 8) بسبب رفضهم العودة مع زربابل، مفضلين الإهتمام بمصالحهم الخاصة وتجارتهم عن أورشليم والهيكل. يقول إدوارد يانج: [شعب الله في يده، وإذ كانوا هم بعيدين عن وطنهم وليسوا في أرض الموعد لهذا لم يشر إلى إسم الله[2]].

ويعلل البعض عدم ذكر إسم الله أن القصة استخرجت من مستندات القصر الفارسي (2: 3).

ثانيًا: يعترض البعض على تاريخية القصة، متطلعين لها كقصة رمزية، وحجتهم في هذا أن الملك زركسيس لم يُذكر عنه أنه تزوج بملكة غير أمستريس Amestris، التي أشار إليها هيرودت كملكة عام 479 ق. م[3] أي في السنة السابعة لملكه. ويُرد على ذلك أن عدم ذكر التاريخ لإقامة ملكة أخرى لا ينفي وجودها، خاصة وأن وشتى الملكة تركت الملك في السنة الثالثة لملكه (1: 3) قبيل ذهابه للحرب مع اليونان وملكت أستير بعد عودته في السنة السابعة (2: 16) وبقيت ملكة حتى السنة الثانية عشر من ملكه (3: 7، 5: 3)، فإن كان زركسيس بقى ملكًا 20 عامًا فلا نعلم ماذا كان الموقف في السنوات الثمانية الأخيرة لملكه، فلعله قد ماتت أستير وعادت وشتى إلى الملك.

هذا ويرى كثير من الدارسين أن كلمة "وشتى" ليس إسم الملكة وإنما كان لقبًا خاصًا بها بسبب جمالها الفائق وتعلق الملك بها... فلعله كانت هي بعينها أمستريس، دعاها الملك بلقب وشتى. وإذ سبقت الملكة أستير وغالبًا ما عادت مرة أخرى بعد أن حقق الرب رسالة أستير بإنقاذ شعبها، لهذا ذكرها المؤرخون كملكة وزوجة زركسيس. أما ذكرها كملكة في السنة السابعة لملكه، فلأنه حتى بداية السنة السابعة لم تكن أستير قد أُختيرت، فتبقى وشتى أو أمستريس ملكة في عيني المؤرخين حتى وإن كان الملك لم يُقابلها بعد رفضها الدعوة في السنة الثالثة لملكه، إذ لم تُطرد من القصر حتى تم إختيار أستير.

ثالثًا: يعترض البعض على السفر لوجود بعض مبالغات مثل عدم معرفة الملك لجنس أستير، إصدار أمر الإبادة على أن يتحقق بعد 11 شهرًا، المبلغ الذي عرضه هامان (عشرة آلاف وزنة من الفضة)... ويرد على ذلك أن الكثير من الحقائق إن عرضت تبدو للبعض بأنه مبالغ فيها. فمن جهة جنس أستير فإن الملك إهتم بجملها ولم يسأل عن جنسها ربما لأنها ولدت في السبي تتحدث بالغة السائدة هناك بطلاقة ولم تظهر ملامحة أنها يهودية خاصة إن كان الملك يلتقي بها وهو مخمور. أما تحقيق الإبادة بعد 11 شهرًا، فلأن المملكة متسعة جدًا ووسائل الإنتقال غير سريعة وقد أراد هامان أن يمعن في الإنتقام فتكون شاملة في كل المملكة في يوم واحد، كما جاء ذلك بعد سؤال العرافين ليحددوا له اليوم المناسب لتحقيق خطته فلا تفشل (3: 7). أما بالنسبة للمبلغ الذي يدفعه هامان فهو يمثل حوالي ثلثي إيراد المملكة الفارسية في عام، وكان هامان يأمل أن يغتصب ممتلكات اليهود ويجمع ثروتهم فيغتني جدًا ويقدم هذا المبلغ للإمبراطور ليعوضه عن خسائره في حربه ضد اليونان.

بجانب الرد على الإعتراضات فهناك دلائل على قانونية السفر وتاريخية القصة، نذكر منها:

أ. يُشير السفر إلى تاريخية الحوادث ويؤيدها بتواريخ واضحة حسب التقويم الفارسي (2: 23؛ 6: 1؛ 10: 2).

ب. يُقدم لنا السفر وصفًا دقيقًا وحيًا للعادات الفارسية والأحوال السائدة وبخاصة في شوشن (1: 5، 10، 14؛ 2: 9، 21، 23؛ 3: 7، 12، 13؛ 4: 6، 11؛ 5: 4؛ 8: 8).

ج. الوصف الذي ينعت به أحشويروش يطابق ما نعرفه تاريخياً عن أخلاق الملك زركسيس الذي ملك سنة 486 ق. م حتي 465 ق. م[4]، من حدة طبع وتقلب في الأهواء، وخلاعة. وجاءت وليمته في السنة الثالثة من حكمه تطابق تاريخياً اعـداده للحرب ضد اليونان، إذ كان من عادة ملوك الفرس أن يأخذوا مثل هذه القرارات في وسط الولائم والخلاعة. وإذ عاد في ربيع السنة السابعة من حكمه من حملته ضد اليونان - كما جاء في تاريخ هيرودت - أقام الوليمة الخاصة بأستير.

د. يُقدم لنا السفر تفسيرًا مقبولاً لنشأة عيد الفوريم الذي كان يُمارس في عصر يوسيفوس في كل أنحاء العالم المعروف في ذلك الحين، وقد عُرف هذا العيد في أيام المكابيين عام 160ق. م (2 مك 15: 36) ودُعى بعيد مردخاي. فإن كان عيد الفوريم حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها فما هو سرّ نشأته؟

هـ. أُكتشفت حديثًا نقوش فارسية ذُكر فيها إسم مردخاي كأحد رجال البلاط الفارسي أثناء حكم زركسيس مما يؤيد تاريخية السفر.

و. يسرد السفر حوادث القصة بدقة فائقة مبينًا كل الظروف المحيطة ذاكرًا أسماء رجال البلاط الفارسي وأمرائه (1: 10، 14)، فلا يمكن أن تكون قصة رمزية بل حقيقة تاريخية.

ز. يقبل اليهود هذا السفر كسفر قانوني.

الظروف المحيطة:

تمت أحداث هذه القصة في الفترة ما بين الرجوع الأول إلى أورشليم تحت رائاسة زربابل والرجوع الثاني تحت رائاسة عزرا، وكأن الله في عمله الخلاصي يعلن رعايته حتى للذين رفضوا الرجوع مع زربابل.

أما أحشويروش المذكور هنا فهو زركسيس بن داريوس، وكما قلنا أنه يحمل ذات السمات التي عرفت عنه، والوليمتان تتفقان مع إستعداده للقيام بحملة ضد اليونان وقد فشل فيها والأخرى بعد عودته ليحيا في الخلاعة وينسى أتعاب الحملة وخسائرها.

أما جوهر القصة فهو أن هامان رئيس وزراء مملكة مادي وفارس قد استصدر أمرًا ملوكيًا بإبادة اليهود الموجودين في كل المملكة، لكن عين الله الساهرة دبرت خلاصهم على يدّى أستير الملكة ومردخاي، وصُلب هامان على الخشبة التي كان قد أعدها لمردخاي وتمجد الله في شعبه، وتحقق قول المرتل: "الشرير يتفكر ضد الصديق ويحرق عليه أسنانه، الرب يضحك به، لأنه رأى أن يومه آتِ" (مز 37: 12 - 13).

أقسامه:

يمكننا تسمية هذا السفر بسفر الولائم الثلاث، وليمة أحشويروش التي تمثل فرح العالم الزائل، وليمة أستير الخفية التي تمثل وليمة الصليب المحطمة لإبليس (هامان)، وليمة الفوريم التي تمثل وليمة القيامة العامة المفرحة.

1. وليمة أحشويروش [1 - 2].

2. وليمة أستير [3 - 7].

3. وليمة الفوريم [8 - 10].

جاء في الترجمة السبعينية تتمة للسفر لم ترد في النص العبري، أغلبها نصوص صلوات ورسائل وأحلام، وقد جعلها القديس جيروم كملحق في نهاية السفر في ترجمته اللاتينية للسفر. وقد ضمت التتمة الآتي: حلم مردخاي (ص 11)، المؤامرة ضد الملك (ص 12)، المرسوم الملكي ضد اليهود (ص 13)، صلاة مردخاي (13: 8 - 17)، صلاة أستير (ص 14)، طلبة مردخاي من أستير (ص 15)، طلبة أستير من أحشويروش (ص 15)، المرسوم الملكي لصالح اليهود (ص 16).

الباب الأول.

وليمة أحشويرش.

ص 1 - 2.

  • وشتى تفقد ملكها [ص 1].
  • أستير تصير ملكة [ص 2].

الأصحاح الأول

وشتى تفقد ملكها.

أقام أحشويروش الملك وليمة عظيمة يستعرض فيها مجده وغناه ويمارس فيها الخلاعة، فأفقدته الخمر وعيه [10]، وخسر زوجته الملكة بسبب اشتعال غضبه [12] وقبوله مشورة السكرى [16]... لكن يد الله العجيبة حولت هذا الشر إلى أداة يحقق بها الله خطة خلاص شعبه بأقامة أستير عوض وشتى. بمعنى آخر بينما إبليس يهيئ هامان للإبادة كان الله يعد أستير للخلاص.

1. وليمة أحشويروش [1 - 9].

2. الملك يطلب الملكة [10 - 12].

3. نزع المُلك عن وشتى [13 - 22].

الأعداد 1-9

1. وليمة أحشويروش:

تعاظمت مملكة مادي وفارس وهزمت مملكة بابل فصار اليهود الذين سبوا إلى بابل تحت حكم فارس. وقد بلغ إتساع نطاق هذه المملكة أنها احتملت 127 كورة (دولية) تمتد من الهند إلى كوش [1]، أي إلى النوبة وكردفان جنوب مصر وشمال أثيوبيا. من بين هذه الكور كورة مصر التي احتلها الإمبراطور زركسيس بعد أن فشل والده في اغتصابها.

قلنا أن أحشويروش [1] يُقصد به الملك زركسيس بن داريوس، وإذ لُقب أكثر من ملك بأسم أحشويروش يرى بعض الدارسين أن هذه الكلمة لا تعني إسم الملك وإنما هي لقب خاص بملوك فارس مثل القول "فرعون" على ملك مصر.

أراد الملك اظهار غنى مجد ملكة ووقار جلال عظمته [4] فصنع وليمتين عظيمتين: الأولى أمتدت 180 يومًا؛ لعلة كان يقيم وليمة يومية لكل كورة على حدة مع ولائم خاصة بالرؤساء معًا أو ربما شملت هذه المدن فترة إعداد الوليمتين الطويلة؛ أما الوليمة الثانية "فأقيمت لجميع الشعب من الكبير إلى الصغير وليمة سبعة أيام في دار جنة قصر الملك" [5].

لعله أعد هاتين الوليمتين استعدادًا لتدبير خطة الحرب ضد اليونان إذ يقول هيرودت أن الفرس اعتادوا أخذ قراراتهم في مثل هذه الولائم.

وصف الكتاب الوليمة بدقة في تفاصيل، فذكر أنها اقُيمت في شوشن القصر، أما "شوشن" أو "سوسه" فهي عاصمة عيلام منذ حوالي سنة 3000 ق. م، كانت مقرًا للملك كدرلعومر (تك 14: 1)، استولى عليها ملكوك مادي وفارس، وجعلوا منها عاصمة بجانب بابل واكباتانا، وكان الملوك يفضلون البقاء فيها خاصة في فترة الشتاء. أقيمت الوليمة الأولى للرؤساء على ما يبدو داخل القصر، أما الثانية التي ضمت كل الشعب المقيم في القصر وملحقاته (يبدو أنه كان منفصلاً عن المدينة نفسها (9: 12 - 13) فأقيمت في حديقة القصر، حيث وجدت مظال (أنسجة) بيضاء وخضراء وأسمانجونية وهي الألوان الملكية في فارس، وقد عُلقت هذه المظال بحبال من بز (كتان أبيض) وارجوان في حلقات من فضة وأعمدة من رخام، تستخدم هذه المظال للوقاية من حرارة الشمس. وكانت الأسرة مرصعة بالذهب والفضة على مجزع أي على أرضية بلاط، من بهت (حجر أبيض يتلألأ) ومرمر ودر ورخام أسود. أما أهم ملامح الوليمة فهو الشرب من الخمر الملكي حيث وُجد بكثرة "حسب كرم الملك" [7]، لكنه ترك حرية الشرب لاختيار كل إنسان.

في الوقت الذي فيه أقام الملك هذه الوليمة، أقامت أيضًا الملكة وليمة للنساء في بيت الملك.

الأعداد 10-12

2. الملك يطلب الملكة:

"في اليوم السابع لما طاب قلب الملك بالخمر قال لمهومان وبزثا وحربونا وبغثا وأبغثا وزيثار وكركس الخصيان السبعة الذين كانوا يخدمون بين يدي الملك أحشويروش أن يأتوا بوشتى الملكة إلى أمام الملك بتاج المُلك ليُرى الشعوب والرؤساء جمالها لأنها كانت حسنة المنظر" [10 - 11].

طاب قلب الملك بالخمر، ففقد إتزانه، وفي حماقة طلب من خصيانه السبعة أن يأتوا بالملكة ليظهر جمالها للشعوب والرؤساء. هنا كلمة "خصي" لا تعني المعنى الحرفي أي الرجل المخصي، وإنما هو لقب كان يُعطى لأصحاب الأعمال الملوكية في مصر وفارس، فرئيس الشرطة فوطيفار دُعى "خصي فرعون" (تك 39: 1)، وهكذا رئيس سقاة فرعون، ورئيس خبازيه (تك 40: 2)... فالخصيان السبعة هم الرجال المؤتمنون على الأعمال الملوكية ولهم حظوة الخدم أمام الملك.

طاب قلب الملك بالخمر فنطق بأمور ملتوية كقول الحكيم: "لا تنظر إلى الخمر إذا إحمرت حين تُظهر حبابها في الكأس وساغت مرقرقة، في الآخر تلسع كالحية وتلدغ كالأفعوان... قلبك ينطق بأمور ملتوية" (أم 23: 31 - 32)، "ليس للملوك أن يشربوا خمرًا ولا للعظماء المسكر لئلا يشربوا وينسوا المفروض ويغيروا حجة كل بني المذلة" (أم 31: 4 - 5).

إن كنا في المسيح يسوع صرنا ملوكًا (رؤ 1: 6؛ 5: 10) فلا يليق بنا أن نسكر بخمر محبة هذا العالم وملذاته لئلا ننسى شريعة السماء ونفقد عملنا الملوكي اللائق، ونطلب "وشتى" الداخلية لتظهر جمالها أمام الشعوب والرؤساء، أي نقدم أعمال البر والفضائل لنوال مجد بشري ولاستعراض مظهري عوض أن تكون ملكتنا في داخلنا لا تكشف جمالها إلاَّ على عريسها ربنا يسوع!

إن كان الله قد أقام الإنسان كملك روحي، فإنه يليق به ألاَّ يطلب زوجته الملكة لإستعراض جمالها بل يبقيها في بيت النساء تقيم الوليمة للنساء، فيفرحن بها ويخضعن لها. بمعنى آخر لتبقى أجسادنا (الزوجة) خاضعة للنفس (الملك) مختفية في تصرفاتها الملوكية، تعيش بروح الخضوع للنفس لكي تبقى مقدسة في الرب تشارك النفس مجدها وكرامتها الملوكية. لقد أحب بولس الرسول "وشتى" أي جسده الملوكي في الرب وتركها في بيت النساء، حين قال: "أقمع جسدي وأستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1 كو 9: 27)، "فإنه لم يبغض أحد جسده قط بل يقوته ويربيه كما الرب إلى كنيسته، أي كملك نحو الملكة. لتعرف النفس مركزها القيادي بالروح القدس، وليعرف الجسد مركزه كمعين للنفس وشريك معها النصرة ويحرم الإنسان بكليته من المجد الملوكي الأبدي.

أراد الملك إبراز جمال الملكة "لأنها كانت حسنة المنظر"، ولم يدرك أنه باستعراض جمالها تفقد مهابتها وتشوه صورتها، لهذا أكدّ ربنا يسوع إلتزامنا بعدم إستعراضنا لملكتنا الداخلية، إذ يقول: "لا تعرف شمالك ما تفعله يمينك، لكي تكون صدقتك في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانية" (مت 6: 4). تبقى وشتى في بيت النساء عندما نقدم العبادة لله لا بقصد الظهور أمام الناس وإنما بغلق أبوابنا الداخلية ودخولنا إلى الخفاء نلتقي مع عريسنا غير المنظور، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الله نفسه غير منظور لذا يود أن تكون صلاتك أيضًا غير المنظورة[5]]، كما يقول: [الله يرغب أن تُغلق أبواب الذهن أفضل من غلق الأبواب (المنظورة) [6]].

الأعداد 13-22

3. نزع المُلك عن وشتى:

إذ رفضت الملكة الحضور "إغتاظ الملك جدًا وإشتعل غضبه فيّه" [12]، وهكذا إنقلب إلى النقيض من حب شديد وإعجاب بزوجته الملكة إلى نيران غضب مشتعلة فيّه من جهتها.

إستشار الملك الحكماء والعارفين بالأزمنة (ربما يعني السحرة وأصحاب العرافة) [13]، والعارفين بالسنة والقضاء...، وإذ يبدو وجود خلافات بين الملكة ومموكان أحد هؤلاء المستشارين للملك، بالغ في الأمر وحسب ما فعلته وشتى إساءة لا إلى الملك والرؤساء فحسب بل وكل رجال مملكته، إذ تسمع النساء بما حدث فيحتقرون رجالهن، وطلب منه أن يُنزع المُلك منها ويعطى لمن هي أحسن منها [19].

لقد حسب مموكان في تصرف وشتى كسر لقانون الطبيعة وقانون الأسرة، فيفقد الرجل سلطته على زوجته، وتحتقر الزوجة رجلها، وظن أن القوانين هي التي تسند الرجل وتهبه السلطان. لعل هذا التصرف يكشف عن شعور داخلي كان يجتاز في حياة الرجال في ذلك العصر، وهو العجز عن السيطرة والقيادة للأسرة ولم يدركوا أن القيادة الحكيمة لا تستمد قوتها من قوانين وأوامر وإنما بروح الحب الباذل، إذ يقول الرسول: "أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضًا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها... وأما أنتم الأفراد فليحب كل واحد إمرأته هكذا كنفسه" (أف 5: 25، 33).

يقول مموكان: ليكون كل رجل متسلطًا في بيته ويتكلم بذلك بلسان شعبه "[22]، وبمعنى أنه إن تزوج رجل إمرأة من جنس آخر، يلتزم البيت أن يتكلم بلغة الرجل لا المرأة. هذه هي صورة الحياة الأسرية في ذهن رجال فارس، ولم يدركوا أن اللغة التي تسود البيت يجب أن تكون لغة الحب القادر أن يأسر المحبوبين. ليس بين الزوجة والزوج صراع على السلطة وإنما يليق أن يوجد بينهما شوق نحو البذل العامل بالمحبة الداخلية وإدراك لوحدة الحياة والفكر.

لقد أحب أحشويروش وشتى لأجل جمالها وحسبها وغناها، وفي غضبه تشاور مع الآخرين في أمرها، أما نحن فنتقبل الزوجة (أو الزوج) من يدّ الله ليهبنا روح الوحدة فيه مقدسًا العلاقة الأسرية التي لا تنحل. وكما يقول العلامة ترتليان: [كيف أستطيع أن أصف سعادة الزواج الذي تقره الكنيسة، ويثبته القربان، وتختمه البركة، وتذيعه الملائكة، ويعلن الآب شرعيته؟! [7]].


[1] J. Raven: Introd. To O. T. P 312.

[2] Edward J. Young: An Introd. To the O. T. P 349.

[3] History 9: 108 - 113.

[4] Ibid 3: 97, 98, 7: 9.

[5] In Matt. Hom. 19: 4.

[6] Ibid 19: 3.

[7] To His wife 2: 9.

No items found

الأصحاح الثاني - سفر أستير - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفاسير سفر أستير الأصحاح 1
تفاسير سفر أستير الأصحاح 1