الأصحاح الأول – سفر التثنية – القمص تادرس يعقوب ملطي

هذا الفصل هو جزء من كتاب: 05- تفسير سفر التثنية – القمص تادرس يعقوب ملطي.

إضغط للذهاب لصفحة التحميل

مقدمة في سفر التثنية

العهد الإلهي عون في رحلتنا اليومية.

سفر التثنية هو مجموعة أحاديث وداعية قدمها موسى النبي أول قائد لشعب الله الذي كان عمره 120 عامًا قُبيل انتقاله من هذا العالم. قدمها للجيل الجديد الذي وُلد في البرية، وصار على وشك الدخول إلى أرض الموعد تحت قيادة يشوع بن نون. قدمها بوحي الروح القدس، لكي تكون وصية الله هي قائدهم وناموسهم في الأرض الجديدة.

إنها أحاديث أب نحو أولاده أو أحفاده، يقدم فيها خبراته الروحية العملية بما يناسب الجيل الجديد، بأسلوب تاريخي وسلوكي مبسط، غايته مساندة كل نفس لكي تعبر وترث.

ماذا قدم موسى النبي لشعبه قبيل رحيله من العالم؟ معاهدة الحب، أو دستور المحبة الذي يقدمه الله كملك لشعبه المحبوب لديه جدًا، والذي اختاره وقدسه ليكون مكرسًا له وحده.

يمثل موسى النبي الناموس، قائدنا إلى المسيح وإلى مملكته، ويكشف لنا عن الطريق الملوكي الذي يدخل بنا إلى حضن الآب. لهذا جاء سفر التثنية كدعوة موجهة إلى كل مؤمن يشتاق أن يدخل إلى كنعان السماوية تحت قيادة ربنا "يسوع" مخلص العالم، لكي يحمل الوصية الإلهية بالمفهوم الروحي. إنها تهيئ أعماقه كما كلماته وسلوكه لكي ينطلق إلى الحياة الجديدة السماوية، بعمل روح الله القدوس. يقبل الدخول في الميثاق الإلهي الذي يبرمه الله مع شعبه المحبوب، فيرد الحب بالحب، مقدمًا الطاعة لوصيته بفرحٍ شديدٍ.

إنه سفر يناسب كل عصر، ويدفع كل نفس لكي تعبر كما إلى السماء، وتجاهد بلا توقف، في عذوبة الروح، حتى تستمر في رحلتها تحت ظل رعاية الله الفائقة، وتنمو بغير توقف، وتحارب بغير خوف ولا اضطراب في ظل "عهد جديد" قدمه لها مسيحها، لتحيا متحررة من كل عبودية، منطلقة نحو السماء.

تركز هذه الأحاديث على "العهد الإلهي". فإن دستورنا في رحلتنا اليومية ليس قوانين أخلاقية مجردة بل التقاء حيّ، واتحاد مع الله الذي يقدم لها عهدًا من جانبه، فيه يعلن إنه يحملنا على ذراعيه كما يحمل الأب ابنه. إنه عهد، فيه يقدم لنا الله "روح البنوة"، ويكشف لنا عن مركزنا الجديد كمختاريه الذين لهم حقوق فائقة بروح الالتزام من جانبنا (تث 7: 6 - 11؛ 10: 12 - 15).

هذا العهد يحكم حياتنا الداخلية ومشاعرنا وسلوكنا الأسري والاجتماعي والديني والوطني حتى علاقتنا بالحيوانات والطيور.

إن كان هذا السفر قد ركز على وصية الله التي تكشف عن حب الله واشتياقه نحو تقديسنا، إنما ليعلن للمؤمن عن انتمائه لشعب الله، كمملكة كهنوتية وأُمة مقدسة.

أخيرًا فإن الشهر الأخير من حياة موسى يكشف عما في قلب هذا العظيم بين الأنبياء، فإن الإنسان غالبًا ما يفرغ كل ما في أعماقه عندما يدرك أن لحظات رحيله قد اقتربت جدًا. ماذا يكمن في قلب موسى النبي؟ أربعة أمور مترابطة معًا، هي سرّ قوة خدمته، وهي:

  1. الوصية الإلهية: انشغل بها كل أيام خدمته حتى النفس الأخير، بكونها كنزًا سماويًا إلهيًا، خلالها نتجاوب مع حب الله وندخل معه في عهد أبدي.
  2. التسبيح: قبيل نياحته قدم تسبحة ختامية ليعلن أن نفسه لن تتوقف عن التهليل المستمر حتى النفس الأخير.
  3. مباركته لشعبه: مع كل ما ذاقه من متاعب من الشعب ختم حياته بكلمات البركة نحو كل سبط من الأسباط.
  4. خلق روح القيادة: وضع يديه على شكل صليب على رأس تلميذه يشوع، مشجعًا إيَّاه ألاَّ يخاف ولا يضطرب حتى يدخل بكل الشعب مع القادة الدينيين والمدنيين إلى كنعان رمز السماء. هكذا ترك وراءه قادة عظماء.

هذه الأمور الأربعة (الوصية، حياة الفرح والتسبيح، مباركة الآخرين، تشجيع روح القيادة) هي سرّ نجاحه في كل أيام خدمته.

القمص تادرس يعقوب ملطي.

كنيسة الشهيد مارجرجس والأنبا أنطونيوس.

أتاوا – كندا.

فبراير 1999م.

اسم السفر:

جاء اسم السفر في أغلب اللغات الحديثة مشتقًا عن الكلمتين اليونانيتين أو مترجمة عنهما، وهما Deutero ومعناها "اثنان" أو "الثاني"، nomion ومعناها "ناموس"، لذلك يدعى في الإنجليزية Deuteronomy وفي العربية "تثنية".

يحمل السفر في العبرية أربعة أسماء:

1. دُعي في الأصل العبري "إله هدباريم" elleh haddebarim ويختصر debarim أي "هذا هو الكلام"، وهي الكلمات الأولى من الأصحاح الأول.

2. Kith أي السفر الخامس من الناموس.

3. سفر التوبيخ أو النصائح seper tokahoth، خاصة بالنسبة للأصحاح 28. إذ شاخ هذا القائد الوقور يبدو إنه قد أدرك، وهو في اللحظات الأخيرة، إنه لا يوجد وقت للملاطفة مع الشعب، بل يلزم أن يكون حازمًا. فإنه يليق بالشعب الذي قُدم له كل هذا الحب، خاصة خلال خدمة موسى النبي لمدة أربعين عامًا أن يحمل مخافة الرب، ويدرك أن الوقوع في يد الله أمر مخيف.

4. يُدعى أيضًا misneh hattotra أو misneh وتعني "نسخة" (17: 18). دُعي في الترجمة السبعينية deuteros namos أي "الشريعة الثانية"، ربما لأنه جاء في (تث 17: 18 LXX) "نسخة من الشريعة"، أو لأنه قصد به أنه شريعة ثانية بجانب ما ورد في أسفار الخروج، واللاويين، والعدد. ما ورد هنا لا يعتبر تكرارًا لما جاء في الأسفار الثلاثة السابقة، بل هو شرح للناموس على ضوء ما حدث خلال الأربعين سنة في البرية. هو استعراض قُدم للجيل الجديد الداخل إلى كنعان، قدمه موسى النبي قبل الدخول بشهر، قبيل رحيله، ليتأهل الكل بالطاعة النابعة عن الإيمان، وبالحب الإلهي العملي. هو سفر التذكرة الدائمة لشريعة الرب: "اربطها علامة على يدك، ولتكن عصائب بين عينيك، واكتبها على قوائم بيتك وعلى أبوابك" (تث 6: 8).

تاريخ كتابته:

بحسب التقليد اليهودي الذي قبله التقليد المسيحي كُتب في سهول موآب شرقي أريحا، شرقي نهر الأردن، في نهاية الأربعين عامًا من التيه في البرية، وهو يغطي فترة شهر تقريبًا (سنة 1405 ق. م). ألقيت بداية الأحاديث الواردة في هذا السفر في اليوم الأول من الشهر الحادي عشر من السنة الأربعين بعد الخروج من مصر (تث 1: 3)، وذلك بعد النصرة على سيحون وعوج ملكين من الأموريين (تث 1: 4).

مما يستحق الملاحظة أن كاتب التثنية لا يشير إلاَّ إلى حوادث ما قبل امتلاك كنعان، وهو لا يورد شيئًا عن انقسام المملكة، ولا عن اضطهاد الفلسطينيين ومضايقاتهم، ولا عن الحوادث المسجلة في سفر القضاة. كما أن العبارتين "جميع إسرائيل" و "النصيب الذي أعطاه لكم الرب" تُظهران موافقة الكتابة لتاريخ ذلك الوقت. ومن الواضح أن الأصحاحين (33، 34) قد كُتبا بعد موت موسى غالبًا بوقت قصير.

مفتاح السفر:

مفتاح السفر هو عهد الحب والطاعة. ذكرت كلمة "الحب" 22 مرة في هذا السفر. أما الطاعة كما يقدمها السفر فهي تجاوب عملي لحب الله للإنسان، بدون الطاعة يفقد الإنسان طعم الحب. فكما يشتاق الإنسان أن يكون محبوبًا فهو يود أن يحِب. الطاعة علامة تأكيد حرية الإرادة الإنسانية التي تعبر عن حبها عمليًا.

جاء في (مز 103: 7) "عرف موسى طرقه، وبني إسرائيل أفعاله". لقد عرف إسرائيل أعمال الله، لكنه لم يتعرف عليه معرفة اللقاء الحي. أما موسى فقد عرف طرقه، أي معرفة الله عمليًا. جاء هذا السفر ثمرة هذه المعرفة متحدة بخبرة أربعين عامًا في البرية.

سماته:

1. يُنظر إلى سفر التثنية من أربع زوايا:

  • سفر الشريعة.
  • أحاديث وداعية لأول قائد للشعب.
  • عهد مبرم بين الله الملك وشعبه.
  • توجيهات يقدمها الله لشعبه قُبيْل دخولهم أرض الموعد.

بلا شك تلعب الشريعة دورًا رئيسيًا في سفر التثنية، حتى دُعي السفر نفسه "الشريعة" (تث 1: 5)، أو "كتاب الشريعة" (تث 30: 10)، وجاء نص الشريعة (أصحاحات 12 - 26) يمثل صُلب السفر. غير أنه يلزمنا إدراك أنه ليس سفرًا تشريعيًا أو قضائيًا بالمفهوم الضيق، لأن الشريعة وُضعت لأبعاد خلاصية ذات هدف متسع. جاء السفر يفسر الإيمان. وإن وُجدت فيه تشريعات أو قوانين، فغايتها هي أن يقبل المؤمن إرادة الله عاملة فيه، ويحمل روح الطاعة لله. هو سفر الشعب المتمتع بالخلاص، والمتحرر من العبودية، لكي يرتبط بميثاق الحب مع الله، ويمارس الحياة المطوَّبة خلال الالتصاق بالله واتحادهم مع بعضهم البعض. بحسب ما ورد في (تث 30: 11 - 14)، الشريعة هي علامة الحضرة الإلهية في قلوب شعب الله، من يحفظها إنما يمارس الحياة الروحية. في أكثر وضوح يمكننا القول بأن هذا السفر يكشف عن الحب المشترك المتبادل بين الله وشعبه، بحبه الإلهي اختار شعبه مقدمًا لهم الخلاص، وهم بدورهم يردُّون الحب بالحب، خلال إعلان تكريس قلوبهم بالطاعة للوصايا، والعبادة الليتورجية كطريق عملي لإعلان حبهم لله من كل القلب ومن كل النفس ومن كل القوة (تث 6: 5).

2. حوى السفر تاريخًا، لكنه ليس بالسفر التاريخي لأنه لا يقدم التاريخ إلاَّ ليكشف عن معاملات الله كي نتقبل عهده الإلهي، لهذا يحسبه البعض "كتاب عظات". يمثل هذا السفر الطابع الخاص بالوعظ النبوي، وقد استخدمت فيما بعد في الأنبياء المتأخرين مثل إرميا وحزقيال.

3. يحوي هذا السفر عظة قدمها موسى النبي على ثلاث دفعات، أو هي ثلاث عظات، وإن كان البعض يقسِّمه إلى ثمانية أحاديث. غير أنه لا يُعتبر كتاب عظات مجردة، إنما استعراض للشريعة بطريقة وعظية جذابة غايتها تمتع شعب الله بالخلاص، وممارسته الحب العملي لله (تث 6: 4)، وتقديم الشكر (تذكيرهم بأعمال الله معهم ومع آبائهم) بروح التواضع (9: 6)، وممارسة الطاعة كتهيئة للدخول إلى أرض الموعد، حتى يوجد الشعب في حضرة الله وينعم بالشركة معه.

4. يُعتبر هذا السفر دعوة وجهها موسى النبي للأجيال المقبلة بعده، كي تجد فرصة جديدة للتمتع بميثاق مع الله في أمانة وإخلاص، بإدراك إرادة الله ومعاملاته مع آبائهم. هذه الدعوة موجهة للجميع خاصة القادة مثل الملوك عند إقامتهم. إذ قيل: "فإنك تجعل عليك ملكًا الذي يختاره الرب إلهك... وعندما يجلس على كرسي مملكته يكتب لنفسه نسخة من هذه الشريعة في كتاب من عند الكتبة اللاويين، فتكون معه ويقرأ فيها كل أيام حياته لكي يتعلم أن يتقى الرب إلهه" (تث 17: 14 - 20).

كثيرًا ما يذكرهم موسى النبي بوعود الله لآبائهم، فمن جانب يفتح عيون قلوبهم لإدراك معاملات الله مع مؤمنيه عبر كل العصور، ومن جانب آخر فإن تذكرهم لأمانة آبائهم في علاقتهم بالله تسندهم، وتكون كسحابة تظللهم وسط حر التجارب. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [تذكار القديسين يقيم النفس التي تثقَّلت بالويلات ويردها، فيكون كسحابة تحفظها من أشعة (الشمس) الساخنة جدًا والمحرقة[1]].

5. كان اليهود في طفولتهم الروحية يلتزمون بما ورد في السفر بطريقة حرفية قاتلة للمعنى، أما في العهد الجديد فنتلمس في هذه الوصايا أو الشرائع مفاهيم روحية عميقة واهبة الحياة في الرب.

6. لأول مرة نسمع عن لعنة الصلب على خشبة (تث 21: 22 - 23)؛ كما أشار إلى انتظار مجيء السيِّد المسيح (تث 18: 15، 19).

7. إن كان هذا السفر يشبه سفر اللاويين بكونه يحوي شرائع كثيرة غير أنه يختلف عنه في اهتمام الأول بالشرائع الخاصة بالكهنة، بينما يهتم سفر التثنية بالأكثر بالشرائع الخاصة بالشعب. أغلب ما ورد في الأصحاحات (12 - 26) قوانين وشرائع تمس المؤمن، وهي تمثل أكثر من نصف السفر.

8. يُعتبر السفر ككل دعوة للطاعة لله، وهو يدعو الجيل الجديد أن يتعلم من المثال السيِّئ الذي للجيل السابق لهم الذي اتسم بالعناد والعصيان وغلظة القلب. كان الجيل الخارج من مصر قد مات جميعه ما عدا يشوع وكالب اللذان وحدهما من الجيل القديم دخلا أرض الموعد.

9. من السمات غير العادية لسفر التثنية توجيه الحديث تارة بصيغة الجمع وأخرى بالمفرد وذلك أثناء الحديث مع شعب بني إسرائيل. ظن البعض أن هذا يؤكد بأن للسفر مصدرين مختلفين، غير أن بعض الدارسين يعتقدون أن استخدام صيغة الجمع تارة وصيغة المفرد تارة في هذا السفر يحمل ذلك فهمًا لاهوتيًا معينًا.

10. اعتمد البعض في ادعائهم بأن للسفر مصادر مختلفة على وجود الافتتاحيات العامة أو الجانبية (1: 1 - 5؛ 5: 1؛ 27: 1). لكن يرى آخرون بأنه هكذا كانت العادة عندما يوجه الحديث إلى أشخاص آخرين أو يتغير المتحدث نفسه كما في (27: 1، 9، 11؛ 31: 14، 24) الخ.

11. في بعض الأقسام خاصة الشرائع، يُلاحظ أن الكاتب يقدم الشريعة أولاً بطريقة مبسطة جدًا، ثم يعود فيقدم نصائح وتحذيرات ووعود، مما يوضح أن السفر ليس دستورًا للشرائع، لكنه أحاديث وعظية خلاصية. ولعل من أمثلة ذلك ما جاء عن الإبراء في السنة السابعة (تث 15: 1 - 11)، حيث بدأ بالحث عن الإبراء، ثم قدم تعريفًا له (15: 2)، تلاه حث شخصي للمستمع أن يطبق القانون بسخاء شديد[2]. استخدم نفس المنهج عندما تحدث عن العشور (14: 22 - 27)، وفي إطلاق العبد العبراني (15: 12 - 18).

12. يعلن السفر عن ضرورة التدقيق في الحياة الروحية والسلوك، ليس فقط في الأمور الخطيرة بل وفيما يبدو كأمورٍ تافهةٍ. فقد مزج الشرائع معًا دون تمييز بين شرائع خطيرة وأخرى تبدو غير هامة.

13. يكشف السفر عن أبوة موسى النبي للشعب، فبينما يعلن عن مدى شوقه للدخول إلى أرض الموعد ولم يُسمح له إلاَّ برؤيتها كان مهتمًا جدًا بدخول شعبه إليها. وكأن بدخولهم يتمتع هو شخصيًا بالدخول. وتظهر أبوته في أحاديثه الوداعية مع يشوع، إذ يتحدث معه بقلب أبوي ليملأه بالفرح والشجاعة حتى يحقق رسالته.

العهد الإلهي:

يقدم سفر التثنية التوراة الإلهية، جسم التعاليم الكاملة التي تعلن عن طريق الشركة مع الله والشركة مع المؤمنين وبعضهم البعض، حتى يمكنهم التمتع ببركات العهد مع الله.

العهد الإلهي هو الخط الرئيسي للسفر كله، حيث يوضح فاعليته في حياة المؤمن، وبركاته، والتزامات المؤمن كمختار لله، وخطته المستقبلية بالنسبة له، وكيف يتحول العهد من أحداث تاريخية إلى عهد يمس حياة الجيل الجديد. وكأنه إذ صار الجيل الجديد على أبواب الدخول إلى أرض الموعد، استلم موسى نسخة من "العهد" المبرم بين الله وآبائهم لكي يوقع الجيل الجديد عليه بنفسه، فيُدركون إنه ليس بالعهد الإلهي مع آبائهم الذين رحلوا، بل هو عهد معاصر مبرم معهم شخصيًا، يتمتعون ببركاته ويلتزمون بمسئولياتهم.

الشريعة والحب:

يكشف سفر التثنية وهو "سفر الشريعة" عن مفهوم الناموس أنه دعوة نحو حب الله (6: 5؛ 10: 12؛ 11: 1؛ 13: 22؛ 19: 9؛ 30: 6، 16، 20)؛ الحب الذي يحرك قلوبنا وسلوكنا في تعاملنا مع الله والناس وحتى مع أنفسنا.

سفر التثنية والفكر اللاهوتي:

يرى البعض أنهم لا يكونوا مبالغين إن قالوا أن سفر التثنية هو ينبوع الفكر اللاهوتي الكتابي التاريخي للعهدين القديم والجديد. عندما يتحدث الأنبياء عن الله إنما يتحدثون عن الله الذي يُقيم عهدًا مع شعبه كما ورد في التثنية. والبركات التي اختبرها رجال العهد القديم عندما عاشوا بالإيمان والحب والطاعة للرب إنما هي البركات الواردة في التثنية. إنه الله الذي قدم وعدًا لإبراهيم، حقق الوعد كما أوضحه هذا السفر.

في سفر التثنية جاءت أصول تعاليم العهد الجديد عن حب الله وعمله الخلاصي بالمسيح يسوع، وعن التمتع بالميراث الأبدي، وتحقيق وعود الله للمخلصين.

الله كما يظهر في هذا السفر، إله جماعي وشخصي، يودّ أن ينسب نفسه إلى شعبه كما إلى كل عضوٍ من أعضاء الشعب. إله محب للبشر، قدوس لا يطيق الخطية، بار لا يقبل الإثم ولا الظلم. ملك يقود شعبه لكي يرثوا ويفرحوا. هادف في علاقته بالإنسان، أمين في مواعيده، عنايته الإلهية فائقة. في حبه للإنسان يود أن يُعلن أسراره له. لا إله غيره.

من أبرز ما أظهر هذا السفر هو أن يلتزم الشعب أن يُنتسب لله، مكرسًا قلبه وحياته له. هو سفر التكريس لله بالتجاوب مع العهد الإلهي بروح الطاعة.

لعل من أهم المواضيع التي تعرض لها هذا السفر هي:

أ. العبودية والفداء: لا ينبغي أن ينسى إسرائيل (4: 9) أنه كان عبدًا في أرض مصر (5: 15) التي هي بيت العبودية (5: 6) وأن الرب افتداهم من هذا (7: 8) بيد شديدة وذراع ممدودة (4: 34).

ب. النصيب الصالح: أعطاهم الرب أرضًا جيدة (1: 25) تفيض لبنًا وعسلاً هذه التي أقسم لآبائهم أن يعطيها لهم ولنسلهم (1: 8) كنصيب لهم (4: 21).

ج. محبة الله: ينبغي أن يحبوا الرب إلههم (5: 10) بكل قلبهم وبكل نفسهم (4: 29)، لأنه أحبهم أولاً (4: 37)، فينبغي عليهم أن يخافوه (4: 10) ويلتصقوا به (10: 20)، وأن يمحوا اسم الآلهة الأخرى (5: 7، 7: 24) التي لم يعرفوها (11: 28).

د. شعب الرب: يجب أن يكون جميع إسرائيل متحدًا معًا في سماع كلمة الرب (1: 1، 5: 1)، فإنهم شعب مقدس و "أخص من جميع الشعوب" (7: 6). ويجب أن يعتنوا بالمساكين واليتامى والأرامل والغرباء لأنهم اخوة (1: 16، 10: 18).

هـ. مذبح الرب: ينبغي أن يحملوا عطاياهم وذبائحهم إلى "المكان الذي يختاره الرب ليحل اسمه فيه" (12: 5، 11) ويفرحوا هناك أمامه (12: 7).

و. الخطية والتطهير: كل خطية مكروهة، وخصوصًا خطية عبادة الأصنام لأنها "رجس" (15: 9، 7: 25)، ولا ينبغي أن يشفق قلب الرؤساء في عقاب الخطية (13: 8).

ز. وعود البركة: توجد وعود "بالبركة" (7: 13) عندما يُريحهم من أعدائهم (3: 20). إذا احترزوا للوصايا وعملوها (5: 1) تطول أيامهم (4: 26)، ويحسن الله إليهم (4: 40)، ويبارك عمل أياديهم (2: 7)، فيأكلون ويشبعون (6: 11) كما تشتهي نفوسهم (12: 15).

سفر التثنية بين أسفار موسى:

جاء سفر التكوين يهيئ البشرية لإدراك محبة الخالق للإنسان، الذي خلق العالم كله قصرًا يتمتع به ويملك ويسيطر. لقد قدم الله كل الحب، وردّ الإنسان على الحب بالعصيان، والاعتزال عن الله مصدر حياته. ومع هذا لم يتركه الله في موته، بل قدم له خطة الخلاص الفائقة.

وجاء سفر الخروج يعلن اختيار الله لشعبه كخميرة لتقديس البشرية، كان لابد من تحريرهم من العبودية ومن كل آثار للخطية، لكي ينطلق بهم من أرض العبودية إلى حيث الميراث وتحقيق الوعود الإلهية.

وجاء سفر اللاويين يقدم الشريعة الإلهية الخاصة بالعبادة للكشف عن التقديس بالدم والتمتع بالفداء. فإن الله القدوس يود أن يصير الإنسان مقدسًا على شبهه.

وفي سفر العدد يتدرب الشعب ويتعلم من الله خلال تجواله في برية هذا العالم، فيظهر الله قائدًا لشعبه في البرية يهتم بهم بنفسه.

أما وقد صار الشعب على أبواب كنعان التي حُرم منها الجيل السابق بسبب عصيانه وتمرده المستمر، لذا قدم لهم العهد يقودهم إلى التمتع بالمجد إن أعلنوا حبهم لله وشركتهم معه خلال الطاعة. هذه هي نغمة سفر التثنية. هكذا يدخل بهم إلى سفر يشوع حيث يرون الله الذي يمجدهم، مقدمًا لهم الميراث والمجد.

يمكننا في اختصار القول:

  • يُقدم سفر التكوين الله المحب للإنسان.
  • وسفر الخروج الله محرر الإنسان من العبودية.
  • وسفر اللاويين الله مقدِّس الإنسان.
  • وسفر العدد الله قائد الإنسان في رحلة غربته نحو السماء.
  • وسفر التثنية الله مقيم العهد مع الإنسان.
  • وسفر يشوع الله الممجد في الإنسان بالميراث الأبدي.

سفر التثنية وسفر إرميا[3]:

من يدرس السفرين يرى أن كاتب أحد السفرين كان مُلمًا بالسفر الآخر تمامًا. توجد كلمات مشتركة بينهما لم ترد في أي سفر آخر من أسفار الكتاب المقدس، وبعض العبارات مطابقة لبعضها البعض، بل والفكر متشابه يحمل ذات النغمة.

بالمنطق الطبيعي كان إرميا النبي مُلمًا إلمامًا كاملاً بسفر التثنية. فهو ككاهن دارس لأسفار موسى الخمسة منذ صباه، عاش في أحلك الظروف الروحية، فكان سفر التثنية يشغل قلبه وفكره كسندٍ له في عظاته للشعب. اقتبس من عظات موسى العظيم في الأنبياء لكي يتحدث بقوة مع الشعب. في أيامه اُكتشف سفر الشريعة، غالبًا يقصد به أسفار موسى الخمسة، ربما النسخة الأصلية التي تسلمها الكهنة من موسى النبي. بلا شك قام بعض المعلمين بدراسته وإلقاء الضوء عليه. فلا عجب أن اهتم إرميا النبي به واقتبس الكثير منه.

لا يمكن قبول أن كاتب السفرين هو واحد، وأن إرميا هو الكاتب لسفر التثنية، لأنه مع وجود عبارات مشتركة بينهما إلاَّ أنه يوجد أيضًا اختلاف في كثير من التعبيرات والألفاظ، لهذا كل ما فعله إرميا أنه تأثر بالسفر واقتبس منه.

لو أن الكاتب هو إرميا النبي ونسبه لموسى النبي لكان إرميا مخادعًا وغاشًا، الأمر الذي لا يتناسب مع شخصيته الصريحة والقوية، حيث وقف ضد الملك ورجاله والقيادات الدينية وعائلته والشعب أحيانًا. مثل هذا الشخص الذي يتحدى الكل علانية بكل قوة لن يلجأ إلى الخداع والكذب.

سفر التثنية والشعب اليهودي:

لعل من أهم آثار سفر التثنية ظهور جماعة الأسينيين Essenes الذين انسحبوا من برية يهوذا في القرن الثاني ق. م إلى شمال غرب البحر الميت (قمران)، وكان أحد ألقابهم: "جماعة العهد الأبدي". جاء في بدء الكتاب الذي ينظم هذه الجماعة: "كل من يأتي إلى نظام الجماعة يعبر إلى العهد أمام الله[4]". وجاء في أحد تسابيحهم: "مع كل نهارٍ وليلٍ سأدخل إلى عهد الله[5]". أحد طقوسهم الرئيسية التي كانوا يمارسونها هو الاحتفال السنوي لتجديد العهد على نمط ما ورد في (تث 27) حيث يعلن الكهنة البركة واللاويين اللعنة[6]. نظموا أنفسهم على نفس النهج الذي تم مع الجيل الجديد في البرية (تث 1: 15). لقد وُجد في مخطوطات قمران على الأقل 14 مخطوطًا لسفر التثنية.

سفر التثنية والعهد الجديد:

يرى البعض ما لسفر التثنية من أثر على المجتمع المسيحي في العهد الجديد، فهو أحد أربعة أسفار هامة من العهد القديم التي كان يرجع إليها المسيحيون وهي أسفار التكوين والتثنية والمزامير وإشعياء[7]. اقتبس العهد الجديد الكثير من السفر (حوالي 83 مرة)، من الـ 27 سفرًا للعهد الجديد 17 سفرًا اقتبست من سفر لتثنية.

لهذا السفر أثره على اللاهوت بحسب إنجيل يوحنا. فإن المفهوم الكلي لوصية الحب الجديدة (يو 13: 34؛ 15: 12) تطابق فهم الوصية في سفر التثنية كأمر إلهي أساسي للحب، يطالب بعطاء الإنسان كيانه الكلي.

كان لهذا السفر مركز خاص لدى السيِّد المسيح، فهو السفر الوحيد الذي اقتبس منه السيِّد في حواره مع المجرب (قارن مت 4: 4 مع تث 8: 3؛ مت 4: 7 مع تث 6: 16؛ مت 4: 10 مع تث 6: 13)؛ وفي عظته على الجبل (مت 5: 13مع تث 24: 1)؛ وفي إجابته لأحد الكتبة (مر 12: 3 مع تث 6: 5). كما اقتبس منه عندما لخص الناموس (مت 22: 37).

سفر التثنية ومعاهدات الشرق الأوسط:

يرى Gerhard von Rad أن السفر يوحي بأنه حديث في احتفال ديني، ربما أُلقي في عيد تجديد العهد[8]، وأن السفر يحوي أربعة فصول رئيسية، وهي:

1. عرض تاريخي لأحداث سيناء مع تعليقات (1 - 11).

2. قراءة الشريعة (26: 12 - 15).

3. ختم العهد (26: 16 - 19).

4. البركات واللعنات (27 الخ).

رفض بعض الدارسين هذه النظرية، حيث لا يوجد في العهد القديم أية شهادة بوجود احتفالات دينية هكذا كما اقترحها von Rad. لكن كثير من الدارسين يرون أن السفر في هيكله يشابه إلى حد كبير هيكل المعاهدات التي كانت تبرم في الشرق الأوسط في الألف الثانية ق. م. (خاصة عند الحثيين) [9] من بين هؤلاء الدارسينG. E. Mendenhall معتمدًا على V. Korosvec (1931م) الذي يرى أن هيكل المعاهدة يتكون من:

أ. مقدمة للمعاهدة أو الدستور يعلنها الملك.

ب. مقدمة تاريخية توضح العلاقات القديمة بين الطرفين.

ج. الأسس العامة للمعاهدة والأسس الخاصة بها.

د. آثار المعاهدة من بركات لمن يفي بها، ولعنات تحل على من يكسرها.

هـ. الشهود، غالبًا الآلهة التي تضمن تحقيق ما ورد في المعاهدة.

أضاف Mendenhall عنصرًا سادسًا وهو إيداع نسخة من المعاهدة في الهيكل، تُقرأ علنًا أمام الشعب على فترات دورية.

بهذه النظرة يرى بعض الدارسين مثل Merdith G. Kline أن سفر التثنية يُطابق الهيكل العام لأية معاهدة في ذلك الحين. لذا فالسفر يمثل وحدة واحدة، وهو عمل موسوي أصيل، حيث قدم معاهدة خلاصية أبرمها الله مع شعبه.

1. مقدمة المعاهدة أو الدستور بواسطة وسيط العهد (1: 1 - 5).

2. مقدمة تاريخية، أو تاريخ العهد (1: 6، 4: 49).

3. الأسس العامة للعهد – الوصية العظمى (5: 1، 11: 32).

4. وصايا خاصة إضافية (12 - 26).

5. أثار العهد من بركات ولعنات، مع القسم بالتعهد (27 - 30).

6. استمرارية العهد (31 - 34).

أفاض الباحثون في الدراسة المقارنة بين العهد الذي يعلنه سفر التثنية والعهود القديمة في الشرق الأوسط، من بينهم [10]J. Wenham, D. J. McCarthy، وأكد كثيرون رفض دعوى أن الأصحاحات الثلاثة الأولى التاريخية جاءت إضافية للسفر فيما بعد، لأن المقدمة التاريخية تمثل عنصرًا هامًا في العهود القديمة. وأكدوا أن وضع الأصحاح 27 صحيح.

حقًا إن الأصحاحات (31 - 34) لا تنتمي إلى هيكل المعاهدة، لكنها تمس جوهر تجديد العهد، حيث كان لابد من إعلان إقامة يشوع خليفة لموسى النبي لإعلان استمرارية العهد، وجاءت تسبحة موسى (تث 32) منسجمة مع فكرة العهد.

أخيرًا أوضح Moshe Weinfield مع بعض الكتاب الحديثين أن هيكل السفر يتبع التقليد الحرفي للعهد المكتوب في ذلك الحين، وليس كما ادعى Rad Von بأن السفر مجرد عرض لما ورد في احتفال ديني[11].

الله يود دائمًا أن يُجدد العهد في كل عصر، وهو يطلب دومًا إخلاص شعبه له (6: 5؛ 10: 12 - 13). إنه يهيئ كل مؤمن لكي يحيا بروح المسئولية، مع الفرح الدائم تحت قيادة ملك الملوك الذي وهبه أن يتمتع بكنعان. يُقدم هذا السفر حقيقة هامة وهي أن الله الواحد الملك الحقيقي الذي خلص الشعب من عبودية فرعون يدخل بهم إلى الحياة السماوية.

التثنية كميثاق مع الله.

شكل الميثاق

سفر التثنية

العنوان: يشير إلى الملك الذي يقيم ميثاقًا مع شعبه.

العنوان (1: 1 - 4) موسى كممثل لله ملك الملوك الذي يطلب أن يقيم ميثاقًا مع شعبه.

مقدمة تاريخية تستعرض أعمال الملك مع شعبه.

مقدمة تاريخية (1: 5، 4: 43): معاملات الله مع شعبه منذ حوريب (عد 10: 11 - 13).

الشرائع: ما يتوقعه الملك مع شعبه الذي يقيم معه عهدًا.

الشرائع (3: 33، 26: 19): نظرة على الشرائع العامة (4: 44، 11: 32)، مع شرائع خاصة (12 - 16) التي يحيا بها الشعب في أرض الموعد.

إيداع العقد: حفظ العقد الذي يحوي الشروط.

إيداع العقد (10: 1 - 5، 31: 24 - 26): حفظ لوحي الشريعة في تابوت العهد.

قراءة العهد: يلزم قراءة العهد في مكان عام بطريقة منتظمة حتى لا يُنسى.

قراءة العهد (6: 6 - 9، 17: 18 - 20): الالتزام بقراءته في البيوت، كما يقرأه الملك علانية.

الشهود: استدعاء الآلهة كشهود على الميثاق.

الشهود: لا حاجة للشهود، لأن الرب هو الشاهد. كثيرًا ما يقسم الله بذاته كشاهدٍ على وعوده.

البركات واللعنات: المنافع لمن يحفظ العهد والنتائج الوخيمة لمن يكسره.

البركات واللعنات (27 - 28): قائمة بالبركات لمن يحفظ العهد واللعنات لمن يكسره.

القسَمْ والاحتفال به: يُقسِم الطرفان على الإخلاص في تنفيذ الميثاق.

القسم والاحتفال به (27: 1 - 8، 29: 10 - 15): وضع حجر شهادة يحوي الشريعة عند دخول الشعب أرض الموعد، ويُقام احتفال شعبي على جبل عيبال حيث يقسمون أن يكونوا هم ونسلهم أمناء للعهد.

العهد وحفظ حقوق الخليقة:

إن كان الله يود أن يدخل في ميثاق مع الإنسان يعلن فيه عن تبادل الحب بينهما على مستوى أبدي، فإن هذا العهد يهتم بحقوق الإنسان والحيوانات والطيور، فلا يعيش المؤمن بقلبٍ مغلقٍ بل متسع بالحب. وسنرى في سفر التثنية جوانب هامة يركز عليها العهد الإلهي، منها الآتي:

1. الاهتمام بكل شخص، فمع ارتباط الإنسان بالجماعة وحبه لها، تحفظ الجماعة حق كل شخصٍ، مهما كان مركزه أو سنه أو وضعه الديني أو الاجتماعي. فالجماعة تقدس حق كل إنسانٍ وتحترمه. كل شخص مسئول عن تصرفه.

2. الشهادة الباطلة: يعطي العهد أمانًا للمؤمن، ويحفظه من شهود الزور والاتهامات الباطلة، لكي يعيش في أمان بلا رعب.

3. المرأة: يطلب العهد عدم استغلال ضعف مركز المرأة في المجتمع في ذلك الحين.

4. حرية الإنسان وكرامته، فيعمل العهد على تحطيم فكرة العبودية بالنسبة للمؤمنين كتهيئة لتحطيم فكرة العبودية بوجه عام.

5. الميراث: يحافظ العهد على ما يتمتع به المؤمن من ميراثٍ له في أرض الموعد.

6. الملكية: التزام المؤمن بعدم التعدي على تخوم الآخرين ونزع ملكيتهم.

7. ثمر التعب والعمل: حفظ حق الأجير أو العامل، لينال أجرته في يوم عمله بكرامة في غير مذلة.

8. راحة السبت: من حق الجسد والنفس أن يستريحا، ومن حق الأجير والعبد حتى الحيوانات أن تستريح.

9. الزواج: يهتم العهد بالحفاظ على العلاقات الزوجية والأسرية.

10. العدالة: لا يُقبل اتهام مهما كان خطيرًا بدون محاكمة عادلة وتحقق من كل واقعة.

11. النظام الجماعي: مع مساواة كل المؤمنين في عينيّ الله، يحترم كل مؤمن النظام الجماعي ويدرك مركز الآخرين ويعطي الكرامة لمن يستحقها.

12. الخضوع للناموس والوصية: لا يوجد شخص، مهما كان مركزه الديني أو المدني، فوق القانون والوصية الإلهية.

13. الحيوانات: خُلق الحيوان لخدمة الإنسان، ويلتزم الإنسان بالاهتمام به.

سفر التثنية والحرب المقدسة:

عالج السفر موضوع الحرب المقدسة، فوضع نظامًا للسلوك في الحرب (20: 1 - 9)؛ وكيفية التعامل مع المدن التي تسقط في أيديهم (20: 10 - 18)، ومع المسبيات (21: 10 - 14)، وقدسية رجال الحرب (23: 10 - 14)، وإعفاء المتزوجين حديثًا من الاشتراك في الحرب (24: 5)، والتعامل مع عماليق (25: 17 - 19).

لماذا سمح الله للشعب أن يُبيد الشعوب المحيطة بلا شفقة؟

أ. كانت هذه الشعوب تمثل الخطايا التي يجب إبادتها، ولم يكن ممكنًا للشعب في بداية حياته الروحية أن يميز بين الخاطئ والخطية، فقتل الخاطئ كان يعني تحطيم الخطية ونزعها.

ب. كان الفساد الذي دبّ بين هذه الشعوب غير محتمل، ففي عبادة البعل تُقدم الأمهات أطفالهن في النار ليحترقوا بين ضربات الطبول كي لا تُسمع صرخات الأطفال؛ بجانب تكريس النساء والفتيات أنفسهن للزنا ليجمعن مالاً للهياكل. فهلاك الأمم بحياتهم العنيفة والفاسدة أخطر من قتل الجسد.

ج. كان لابد من تهيئة شعب مقدم للرب حتى يخرج منه المخلص وعندئذ ينفتح باب الخلاص أمام كل العالم. هذا وقد كان الشعب يتأثر جدًا بالشعوب المحيطة به. مع كل تحذيرات الرب لهم، ومع طلب إبادتهم انحرفوا إلى الشركة مع الشعوب الوثنية في العبادة الوثنية وممارسة الرجاسات وعنفهم في تقديم ذبائح بشرية. فماذا كان حالهم لو لم تصدر هذه الأوامر إليهم؟ لقد أراد تنقيتهم ليهيئهم كشعبٍ إلهيٍ نقيٍ لخدمة الأمم فيما بعد.

د. ما يشغل ذهن الله ليس إبادة الشعوب الوثنية في هذا العالم، وإنما هلاكهم الأبدي.

وبالرغم من ذلك نرى أنه كثيرًا ما أظهر الله مراحمه نحو أفراد أو جماعات الشعوب المحيطة بشعبه حينما استجابوا لناموسهم الطبيعي أو أذعنوا لإنذاراته التي أرسلها لهم. فلم يُهلك الله أبيمالك ملك جرار حينما حاول أخذ سارة زوجة أبينا إبراهيم بل قال له: "علمتُ أنك بسلامة قلبك فعلت هذا وأنا أيضًا أمسكتك عن أن تخطئ إليَّ، لذلك لم أدعك تمسها..." (تك 20: 6).

كذلك أُستحْيت راحاب الزانية وبيت أبيها وكل مالها وسكنت في وسط إسرائيل، لأنها خبأت الرسولين الذين أرسلهما يشوع لكي يتجسَّسا أريحا (يش 2، 5)، وصارت ضمن سلسلة أنساب السيِّد المسيح بالجسد! وامتدح السيِّد المسيح ملكة التيْمن ورجال نينوى وقال: "سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه" (لو 11: 29 - 32).

وحدة السفر:

حاول الدارسون فصل الأصحاحات (1 - 4، 27، 29 - 31)، عن السفر، مدّعين أن مصادر هذه الأصحاحات مختلفة عن بقية السفر. لكن من يدرس مفردات السفر وطابعه اللغوي يدرك ليس فقط وحدة هيكل السفر، بل يدرك وحدة قوية في طابعة اللغوي أيضًا، إذ يتسم السفر كله بالبساطة والوضوح وطابعه الوعظي.

تشابه اللغة في كثير من أسفار العهد القديم خاصة في الأسفار التاريخية يرجعه البعض إلى تأثير الكتاب بطابع سفر التثنية في أيام الملوك. مع نهاية القرن التاسع عشر حاول S. R. Driver أن يقدم وصفًا لمفردات السفر وطابعه وقد بقى هذا البحث إلى يومنا هذا له تقديره الخاص[12].

أهم ما ورد فيه:

  • الوصايا العشر (5: 6 - 21).
  • الشيما "اسمع يا إسرائيل" (6: 4 - 9).
  • عن الأنبياء الكذبة (13: 1 - 5).
  • عن العرافين الكذبة (18: 9 - 15).
  • عن العهد الفلسطيني (29: 1 - 20، 30).

محتوياته:

1. أعمال الله الخلاصية التاريخية [1 - 3].

2. دعوة للطاعة للوصية [4].

3. متطلبات الله الأساسية [5 - 11].

4. الأسس الرئيسية في الحياة العملية [12 - 26].

5. كيف تحيا أمة تمارس هذه الأساسيات [27].

أوضح السفر الحاجة إلى أربعة أمور لكي يحفظ الشعب ونسله العهد:

أولاً: الحاجة إلى القلب، فمع حديثه عن تفاصيل كثيرة خاصة بالشريعة ركز على القلب (6: 4 - 5)، فيه يتكرس كل كيان الإنسان بطاقاته وإمكانياته للرب.

ثانيًا: الحاجة إلى العمل، فالشهادة الحيّة للوصية هي التي تنبع عن القلب، والتي تمارس في الحياة اليومية. لهذا كثيرًا ما يردد "احفظ الوصايا".

ثالثًا: الأبوة، لا يمكن لجيلٍ ما أن يُقدم الوصية للجيل التالي ما لم يحمل روح الأبوة الصادقة (6: 7 - 9). بهذه الأبوة الحانية يتذوق الجيل أبوة الله.

رابعًا: الاهتمام بكل الطبقات، خاصة المحتاجين والمرذولين والمتضايقين. جاءت الشرائع تمس كيان الغرباء (1: 16 - 17؛ 10: 18 - 19)، والأرامل والأيتام (10: 18؛ 14: 28 - 29)؛ والكهنة واللاويين الذين عند الباب (14: 27 - 19؛ 18: 1 - 8)، والعبيد (15: 12 - 18)، والنساء المُغتصبات (22: 23 - 29)؛ والمدينين (15: 1 - 3)؛ والفقراء (15: 4 - 11)؛ والمسبيات في الحروب (21: 10 - 14)، والأجراء الفقراء (24: 14 - 15).

أقسامه:

يمكن القول بأن هيكل السفر يقوم على ثلاث عظات بخطة فائقة محددة. العظتان الأولى والثالثة مختصرتان، بينما العظة الثانية طويلة جدًا.

1. العظة الأولى [ص 1 - 4]: ركزت على معاملات الله مع شعبه عند خروجهم من مصر، ورعايته لهم وحمايتهم. مع تأكيد التأديب للعصاة. تبدأ العظة بمقدمة للسفر كله (1: 1 - 5)، وتنتهي بحث موسى النبي شعبه أن يقابل حب الله بالطاعة له وحفظ الوصية (4: 1 - 40)، يليه ملحق عن مدن الملجأ (4: 41 - 43).

2. العظة الثانية [ص 5 - 28]: أوضحت تطبيق العهد مع الله والشرائع المذكورة في الخروج بما يناسب الشعب بعد دخولهم أرض الموعد، وقد ركزت على تجنب عبادة الأوثان والرجاسات الوثنية. وإقامة مقدس في الوسط، والإعداد للمملكة. تعتبر صُلب السفر أو قلبه النابض، تبدأ بالأصحاح الخامس بعد مقدمة مختصرة (4: 44 - 49).

3. العظة الثالثة [ص 29 - 30]: يتنبأ موسى النبي عن سقوط الشعب في المستقبل القريب، لذا تحدث عن البركات واللعنات. وأيضًا عن السقوط في المستقبل البعيد، فتحدث عن تشتيتهم بين الأمم وعودتهم. تُختم العظة بإعلان عن الخيار بين قبول الموت أو الحياة (30: 15 - 20).

4. أعمال ووصايا ختامية [ص 31 - 34] (ملحق للعظات الثلاث): إذ لم يُسمح لموسى النبي بالدخول إلى أرض الموعد أقيم تلميذه يشوع خليفة له. أخيرًا في الأصحاح 34 يستعرض الكاتب نياحة موسى النبي.

كاتب السفر.

أجمع اليهود والمسيحيون خلال التقليد أن موسى النبي هو كاتب هذا السفر، ما عدا الجزء الأخير منه الذي يؤرخ موت موسى النبي، فتُنسب كتابته إلى يشوع بن نون أو ألعازار الكاهن. ويرى البعض أن ما ورد هنا سلَّمه موسى شفاهًا في بادئ الأمر ليُكتب بعد ذلك (1: 3؛ 31: 24 - 26).

حاولت المدرسة النقدية الهجوم على هذا السفر بعنف من جهة نسبته لموسى، إذ قيل أنه كتبه بعض المؤلفين المجهولين بعد 600 سنة على الأقل. وظهرت نظرية في مطلع هذا القرن ادعت أن نبيًا غير معروف صاغ مادة السفر قبل الإصلاح الذي جرى في أيام يوشيا عام 621 ق. م. (1 مل 22 - 23). وتفترض النظرية أن كتابة السفر كانت بقصد الإصلاح الديني عامة، وبقصد تركيز العبادة في أورشليم خاصة، سيما وأن عبادة الله كانت تجري حتى ذلك الوقت في المرتفعات وكانت تُعتبر قانونية.

غير أن السفر نفسه لا يورد ذكرًا لهذه المرتفعات في معرض الحديث عن الشرائع (ص 12 - 26) ولا في الأحاديث التي قبلها (شرح 12: 2)، ولا في الأمر ببناء مذبح على جبل عيبال (شرح 27: 5) وهذا يجعل قبول النظرية السابقة صعبًا. وقد افترض بعض العلماء العصريين أن السفر كُتب بعد السبي، وقال البعض أنه كُتب في أواخر زمن حزقيا، وقال آخرون أنه كُتب في عهد داود. وكل نظرية من هذه تهدم النظريات الأخرى! والاتجاه اليوم ينحو نحو الاعتراف بأن موسى هو كاتب معظم أجزاء السفر.

اعتمد النقاد في رفضهم نسبة السفر إلى موسى أساسًا على أنه لم تكن توجد كتابة في أيامه، لكن تبين أن الكتابة ترجع إلى عصر ما قبل موسى[13].

يقولون أيضًا أن السفر كُتب لتمجيد الكهنوت في أورشليم، لكن واضح أن السفر لم يُشر قط لا إلى الكهنوت ولا إلى أورشليم[14].

شهادات داخلية عن كاتب السفر[15]:

يحمل السفر شهادات داخلية وخارجية تؤكد بقوة أن واضع السفر هو موسى النبي، بوحي الروح القدس:

1. ورد في السفر نفسه أن الكاتب هو موسى النبي (1: 5؛ 31: 9، 22، 24، 30).

2. تنسب أسفار العهد القديم الأخرى هذا السفر كما الأسفار الخمسة الأولى لموسى النبي (يش 1: 7؛ قض 3: 4؛ 1 مل 2: 3؛ 8: 53؛ 2 مل 14: 6؛ 18: 6، 12؛ عزرا 3: 2؛ مز 103: 7؛ ملا 4: 4).

3. نسب السيِّد المسيح السفر لموسى النبي (مت 19: 7 - 9؛ يو 5: 45 - 47). وأيضًا كتّاب العهد الجديد (أع 3: 22؛ 7: 37 - 38؛ رو 10: 19).

4. واضح أن السفر كان معروفًا لكتبة كثير من الأسفار مثل القضاة وراعوث وصموئيل الأول والثاني، وملوك الأول والثاني مما يظهر أن السفر كان معروفًا من بعد نياحة موسى مباشرة، وكان مستخدمًا في إسرائيل.

5. اقتبس كثير من الأنبياء من سفر التثنية أو كان الأنبياء مُلمِّين بما جاء به:

أ. واضح من سفر إرميا أن الكاتب كان أمامه سفر التثنية وفي ذهنه.

ب. كان السفر معروفًا لدى إشعياء النبي كما يظهر من المقارنات التالية.

(إش 1: 2 مع تث 32: 1؛ إش 1: 10 مع تث 32: 32؛ إش 1: 17مع تث 28: 27؛ إش 27: 11مع تث 32: 8؛ إش 41: 8 مع تث 7: 6؛ 14: 2؛ إش 41: 10مع تث 31: 6؛ إش 42: 2 مع تث 32: 15؛ إش 46: 8 مع تث 32: 7؛ إش 50: 1 مع تث 24: 1؛ إش 46: 8 مع تث 32: 7؛ إش 50: 1 مع تث 24: 1؛ إش 58: 14 مع تث 32: 13؛ إش 59: 10؛ 65: 21 مع تث 28: 29؛ إش 8 مع تث 28: 31).

ج. يوجد تلميح في عاموس وهوشع ما يوضح أن السفر كان معروفًا في أيامهما. من ذلك عا 4: 6 - 10، 11 (تث 28: 15الخ)؛ عا 6: 12 (تث 29: 18عا 8: 14 (تث 8: 21؛ 6: 13)؛ عا 9: 14 - 15 (تث 30: 3). هو 4: 14 (تث 23: 17 - 18)؛ هو 4: 10 (تث 19: 14؛ 27: 17). هو 5: 14 (تث 22: 39)؛ هو 6: 1؛ 5: 4 (تث 32: 39؛ 28: 68). هو 13: 9 (تث 8: 14هو 13: 9 (تث 33: 26).

6. يتضح في السفر خصائص موسى النبي، كما وضحت في الأسفار السابقة بطرق متعددة، مثل روحه الحماسية، وحديثه الخارج من كل قلبه (خر 2: 12 - 13) ومقدرته ككاتب وقائد، وتركيزه على التعاليم الأساسية دون إهمال التفاصيل، وحديثه النابع عن اختباراته الواسعة. بل إن أسلوبه الشعري والنثري يثير الإعجاب. وذكر الله المتكرر على لسانه كعبد الرب المكرس (34: 5). وقوة إعلانه للحق واضحة في هذا السفر كما وضحت في تاريخه المسجل في سفريّ الخروج والعدد.

7. نرى تذكارات موسى المختلفة تتضح في لمحات خاطفة في خطاباته (9: 22) وفي الحديث عن استلامه الشريعة (24: 9)، مع ذكرى الأحداث والأفكار والصلوات والعواطف الشخصية لموسى الواضحة في كل خطاباته.

8. يبدو أن السفر يُناسب عصر موسى النبي، وليس أيام يوشيا كما يُدعي البعض، فمن الجانبين الجغرافي والتاريخي يشير إلى ما يناسب الفترة ما بين الخروج ودخول أرض الموعد. يشعر القارئ بنفسه كأنه يعبر وادي زارد (2: 13) ويتوقف في برية قديموت (2: 26) وهو يدور في الطريق إلى باشان ويمكث في الجواء مقابل بيت فغور (3: 29).

9. تظهر بعض الدراسات الحديثة أن السفر يتبع شكل المعاهدات المستخدمة ما بين القرنين 15، 14 ق. م، الشكل الذي يناسب هذا التجديد للعهد، كما رأينا قبلاً.

10. يحوي السفر تحريم الأمم والشعوب التي في كنعان وعدم إقامة عهد معهم وعدم الإشفاق عليهم (تث 7: 1 - 15). لو أن الكاتب في عصر ما بعد موسى النبي، حيث امتلك الشعب كنعان في أيام يشوع لكانت هذه الوصية عقيمة وبلا نفع.

11. الوصية الخاصة بخلع نعل الولي الذي يرفض أن يُقيم نسلاً للميت (تث 25: 9)، حسبت وصية قديمة في أيام راعوث (را 4: 7) في عصر القضاة، فلو أن السفر كُتب بعد القضاة لما وردت هنا بهذا الأسلوب كوصية لم يسبق ممارستها.

12. جاء الأمر في هذا السفر بمحو ذكر عماليق (تث 25: 17 - 19). ما كان يجب ذكره هنا لو أن السفر قد كتب بعد الانتهاء من الحرب مع عماليق، إذ لم يعد لهم ذكر فعلاً بعد استلامهم أرض الموعد مباشرة. نفس الأمر بالنسبة للدخول في حرب مع الكنعانيين (تث 20: 16 - 18).

13. ما ورد في (تث 17: 14 - 20) يؤكد أن الكاتب جاء قبل إقامة شاول ملكًا في أيام صموئيل النبي، وإلاَّ كان قد أشار إليه كملكٍ استغل سلطانه على حساب شعبه.

14. مما ورد في (تث 17: 16) واضح أن خطر عودة الشعب إلى مصر قائم، وهذا لم يعد قائمًا بعدما الانتصار على شعوب كنعان واستلام أرض الموعد.

15. يكشف الحديث عن مدن الملجأ (تث 19) عن أن المتحدث والسامعين لم يكونوا بعد قد دخلوا الضفة الغربية، ولم تكن قد تحددت بعد مدن الملجأ بالاسم، هذه التي حُددت في أيام يشوع بن نون بعد الاستيلاء على الضفة الغربية.

16. يرى بعض الدارسين أن السفر لا يحوى عبارة واحدة تكشف عن أن السفر لاحق لعصر موسى سوى موته ودفنه. وأن جو السفر العام يدل على أن الكاتب هو موسى النبي أو أحد معاصريه، مثل الإشارات الكثيرة عن وجودهم في مصر والخروج منها، والتهيئة للدخول إلى الضفة الغربية.

الاختلافات بين سفر التثنية وأسفار موسى السابقة:

يُحاول بعض الدارسين تأكيد أن كاتب السفر ليس موسى النبي، مقدمين دلائل على ذلك بوجود اختلافات بين هذا السفر وما ورد في الأسفار الأربعة السابقة، من أمثلة ذلك:

1. جاء في (تث 1: 22) إلخ. أن الشعب هو الذي اقترح على موسى النبي إرسال الجواسيس، بينما جاء في (عد 13: 1، 3) أن الله هو الذي أصدر أمره بإرسال الجواسيس. لا يوجد تعارض بين النصين بل تكامل، فقد اقترح الشعب ذلك على موسى، وإذ عرض الأمر على الله أصدر أمره بذلك فأطاع موسى الله لا الشعب.

2. جاء في (تث 1: 37؛ 3: 26، 4: 21) أن الله غضب على موسى بسبب الشعب فحُرم من الدخول إلى أرض الموعد، وجاء في (عد 20: 12؛ 27: 14) أن الله حرم موسى وهرون من ذلك بسبب عدم إيمانهما وعدم تقديسهما الله. إن عدنا إلى (تث 32: 51) نجد الحديث مطابقًا لما ورد في سفر العدد إذ يقول: "لأنكما خنتماني في وسط بني إسرائيل عند ماء مريبة قادش في برية صين إذ لم تقدساني في وسط بني إسرائيل". لا يوجد تعارض فإن السبب المباشر لحرمان موسى هو خطيته إذ لم يقدس الله في تلك اللحظات، والسبب الذي دفع موسى إلى ذلك هذا تذمر الشعب وتمرده.

3. تحدث سفر التثنية عن تقديم الذبيحة في موضع واحد يختاره الرب بينما لم يُشر ذلك في الأسفار الأخرى. هذا الاعتراض غير صحيح فقد أشير إلى ذلك في (لا 17: 8 - 9). أما ما ورد في (خر 20: 24) عن تقديم العبادة في أماكن كثيرة فقد جاء بعد استلام الشريعة مباشرة على جبل سيناء حيث كان الشعب كثير التنقل، وكان المقدس يتحرك معهم، فكأن الله يؤكد لهم أنه حيثما وُجد المقدس بينهم تكون عبادتهم مقبولة.

4. جاء في (عد 18: 20 - 32) أن اللاويين ليس لديهم أية ممتلكات بين بني إسرائيل، فيأخذون العشور من الأسباط الأخرى مقابل خدمتهم للهيكل، وهؤلاء بدورهم يعطون عشورهم لهرون الكاهن. وجاء في سفر التثنية (14: 22 - 29) أن بني إسرائيل يقدمون العشور أمام الهيكل من الحقول والقطيع لللاوي والغريب والأرملة واليتيم عند أبوابهم. فيرى البعض أن ما ورد في سفر العدد كتبه موسى النبي وما ورد في سفر التثنية كتب مؤخرًا، وأن القانونين مختلفين في مضمونهما، ولا يمكن التوفيق بينهما. لكن الواقع أن القانون الأول هو قانون عام يلتزم به الكل حيث تقدم العشور لللاويين العاملين في الهيكل. لكن إذ كان الشعب داخلاً أرض الموعد حيث الفيض من الخيرات لذا طالبهم بعشور أخرى إضافية يمارسونها في فلسطين كما يشهد بذلك التلمود وأيضًا يوسيفوس المؤرخ اليهودي. العشور الأولى للاويين والثانية للعيد، وفي السنة الثالثة العشور الثانية تخصص للفقراء والمحتاجين[16].

أُشير إلى العشور الثانية في طوبيا (1: 7). وتُعتبر العشور الثانية في السنة الثالثة هي "عشور ثالثة".

5. يذكر سفر التثنية (12: 17 - 18) أن المؤمن يأكل العشور والنذور في المكان الذي يختاره الرب، هو وابنه وابنته وعبده وأمته واللاوي الذي في أبوابه، ويفرحون أمام الرب. وجاء في سفر العدد (18: 15 - 18) أن أبكار الحيوانات تقدم للرب، فيأكل الكاهن صدر الترديد والساق اليمنى. يتساءل البعض كيف يأكل الشعب في بيت الرب الأبكار بينما في سفر العدد تعتبر ملكًا للرب ويأكل الكاهن نصيبًا منها. يُرَد على ذلك أنه لم يذكر في سفر التثنية أن الشعب يأكلون كل الذبيحة، ولا في سفر العدد أن الكاهن يأكلها بالكامل. لكن سفر العدد حدد نصيب الكاهن، وأما بقية الذبيحة فيتسلمها مقدمها ويتصرف فيها كما جاء في سفر التثنية.

6. ورد في (خر 29: 27 - 28) وفي (لا 7: 28 - 34) أن صدر ذبيحة الشكر والساق اليمنى من نصيب الكاهن، وجاء في (تث 18: 3): "وهذا يكون حق الكهنة من الشعب من الذين يذبحون الذبائح بقرًا كانت أو غنمًا، يعطون الكاهن الساعد والفكِّين والكرش". يقول النقاد أن ما ورد في تثنية مختلف عما ورد في الخروج والعدد فلا يمكن أن يكون الكاتب هو موسى النبي. يرد على ذلك أن ما ورد في سفر التثنية لم يقل أن هذا هو كل نصيب الكهنة، إنما هو إضافة لما سبق أن وُهب لهم. فوضع الكهنة واللاويين أثناء تجوالهم مع الشعب في البرية، يشتركون معهم في عطايا الله المجانية كالمن والماء الخارج من الصخر، ولم يكن الكل محتاجًا إلى ثيابٍ أو أحذيةٍ الخ جعل احتياجات الكهنة واللاويين قليلة. أما وقد جاء وقت الدخول إلى أرض الموعد وسينال الشعب ميراثًا ضخمًا دون الكهنة واللاويين، صاروا في حاجة إلى نصيبٍ أكبر يعوضهم عن عدم نوالهم نصيب من الأرض.

7. في سفر العدد (35: 1 - 8) حُددت 48 مدينة بحقولها لللاويين، وقد قام يشوع بتوزيعها بينهم بالقرعة (يش 20)، بينما كثيرًا ما يردد سفر التثنية تعبير "اللاوي عند أبواب بيتك" دون إشارة إلى مدن اللاويين، فيبدو اللاويون كغرباء بلا مدن وبلا بيوت. يُرد على ذلك أنه ليس لللاويين نصيب في الأرض، وأن هذه المدن مأخوذة من أنصبة الأسباط الأخرى ليسكن فيها اللاويون مع حيواناتهم، لهذا فمع وجودهم في هذه المدن هم خارج مدن بقية الأسباط كمن عند أبوابهم، ويلتزم الأسباط بإعالتهم.

8. يرى البعض في تعبير "في عبر الأردن" (تث 1: 1) إن الكاتب موجود في غرب الأردن ويتحدث عن موسى في الضفة الأخرى من الأردن أي الشرقية، بهذا لا يمكن أن يكون كاتب السفر هو موسى النبي. يرد على ذلك بأن موسى النبي استخدم التعبيرات الشائعة في أيامه. فتعبير "عبر الأردن" كان شائعًا بين الكنعانيين قبل عبور الشعب إلى شرق الأردن. وأيضًا كاستخدامه تعبير "نحو الغرب" عن "تجاه البحر" و "نحو الجنوب" قاصدًا "النجب"، مع أن البحر بالنسبة لموسى لم يكن غربه ولا نجب جنوبه، لكنه استخدم تعبيرات الشعوب المحيطة به في ذلك الحين. فقد كتب موسى وهو في سيناء عن نجب "تجاه الجنوب" مع أنها كانت شماله "، لكن نجب كانت معروفة في كل المنطقة بهذا التعبير.

هذا الأمر طبيعي حتى في عصرنا الحالي فلو أن شخصًا ما في Edinburgh يتحدث عن أمر حدث ما في Norfolk يذكر اسم Norfolk التي تعني "North - folk" مع أن موقعها بالنسبة لادنبرج ليس في الشمال بل في الجنوب، بينما Southerland (تعني أرض الجنوب) وتقع في الشمال من Edinburgh.

موسى النبي كمعلِّم.

لم يسجل لنا الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد عظات وداعية لنبي من الأنبياء، أو أحد تلاميذ السيِّد المسيح أو رسله، مثلما سجل عظات موسى النبي الثلاث قبل نياحته بشهرٍ واحدٍ، كادت أن تشمل السفر كله. موسى النبي الذي بدأ خدمته بالاعتذار عن القيام بهذه الرسالة النبوية الخلاصية بسبب ثقل لسانه يختتم حياته بتسجيل عظاته كمعلم ناجح.

يكشف هذا السفر عن شخصية موسى النبي كمعلم التي تحمل الملامح التالية:

أولاً: كما سبق فأوضحت في سفر الخروج أن موسى النبي الذي كان في بدء خدمته يشعر بعجزه الكامل عن الكلام لأنه ثقيل اللسان صار معلِّمًا لشعبه، بل وتعلم بعض الفلاسفة اليونانيين منه الكثير[17].

ثانيًا: كان حديثه ممتزجًا دائمًا بالحب العملي، وكما قال عنه الرسول بولس: "بالإيمان موسى لما كبر أبى أن يُدعى ابنًا لابنة فرعون، مفضلاً بالأحرى أن يُذل مع شعب الله على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية، حاسبًا عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر، لأنه كان ينظر إلى المجازاة" (عب 11: 24 - 26). هكذا حسب آلام خدمته ومشاركته شعبه في أتعابهم، شركة حمل عار الصليب مع السيِّد المسيح مخلص شعبه، حاسبًا كل مرارة رصيدًا حيًّا لحسابه. كمعلم يحمل قلبًا أبويًا صادقًا يطلب عن شعبه غفران خطاياهم قائلاً: "والآن إن غفرت خطيتهم وإلاَّ فامحني من كتابك الذي كتبت" (خر 32: 32). جاء سفر التثنية يكشف بقوة عن قلب المعلم الأب المملوء حبًا وحنانًا نحو شعبه[18].

ثالثًا: من ثمار الأبوة الحانية أن يعرف المعلم الصادق أن يتعامل مع الأجيال الجديدة. فلا يشعر الجيل الجديد بما ندعوه حاليًا "الفجوة بين الأجيال". لم يشعر الجيل الجديد الحديث السن بفارق السن بينه وبين موسى الشيخ البالغ 120 عامًا، لأنه في أبوته يعرف كيف يدخل إلى عالمهم حتى لحظاته الأخيرة، ويتعامل معهم كواحدٍ منهم في غير تصلف ولا استخفافٍ بهم. شكوى الكثيرين أن المعلمين، خاصة الشيوخ، يمثلون جيلاً قديمًا متصلِّفًا مستخفًا بسلوكيات الجيل الجديد وأفكارهم ومفاهيمهم، فتحدث فجوة بين المعلِّمين والأجيال الحديثة.

رابعًا: لعلَّه من عوامل نجاح موسى النبي كمعلم أنه قد سيطرت البهجة الداخلية على قلبه حتى شيخوخته، فنراه في هذا السفر يقدم وهو في المائة والعشرين من عمره أغنية أو تسبحة جديدة للرب. يعرف الفرح حتى في شيخوخته، ويعرف التجديد المستمر حتى في تسابيحه. الأمر الذي يصعب أن نراه في كثير من المعلمين الشيوخ.

خامسًا: معلم مستقبلي يتطلع بعيني قلبه إلى المستقبل، فيدرك احتياجات شعبه عبر رحلته الطويلة. كان حديثه في عظاته في هذا السفر يستند على معاملات الله مع شعبه في الماضي، لا ليعيشوا في تاريخٍ قديمٍ جامدٍ، بل لكي ينطلق بهم إلى نظرة مستقبلية خاصة بدخولهم أرض الموعد وإقامتهم هناك.

كقائدٍ حيّ ارتفع على جبل نبو قبل موته بأمر إلهي، ليرى الأرض التي لم يدخلها بعد شعبه. هكذا يليق بالمعلم الحقيقي أن يرتفع دومًا بأمر إلهي ليرى المستقبل، ويعمل بنظرة مستقبلية حيّة قد لا يدركها الجيل الحاضر، بل وأحيانًا يستخف بها ويحسب المعلم غير واقعي.

من وحي سفر التثنية.

وصيتك سندي في رحلة حياتي.

  • نفسي تئن مشتاقة إلى الحب.

هب لي مع نبيك موسى أن أتقبل وصيتك.

ألمس فيها ينابيع حبك الفائقة.

لا أرى فيها أوامر أو نواهٍ،.

بل أرى فيها شوقك إلى الدخول معي في عهد أبدي.

أحببتني أولاً... لأحبك!

  • وصيتك تحوِّل حياتي إلى سيمفونية حب.

أتغنى بحبك حتى النسمة الأخيرة من حياتي.

أنطق بتسابيح حبك مع موسى النبي حتى أنطلق.

  • وصيتك تقدس كياني كله،.

فتصير كلماتي مباركة،.

أشتهي مع موسى النبي أن أبارك كل إنسان!

أود أن يكون الكل قادة عاملين في كرمك!

هناك أموت غريبًا فانطلق إلى وطني.

ليس من يكفِّنِّي أو يدفنِّي.

بل تمتد يد حبك لتهتم حتى بجثماني.

أنت حبي، أنت حياتي!

الفصل الأول.

العظة الأولى.

[ص 1 - ص 4].

الأصحاحات 1 - 4.

ليس شيء يعد الإنسان للنجاح مثل مراجعته للأحداث الماضية والانتفاع بخبرة السابقين. لذلك تحدث موسى النبي مع الجيل الجديد المولود في البرية قبل دخوله إلى أرض الموعد، ليذكرهم بمعاملات الله مع آبائهم، لا لتقديم عرض تاريخي للأحداث، وإنما ليؤكد لهم الآتي:

1. رعاية الله للإنسان، خاصة في برية هذا العالم (1: 31؛ 2: 7).

2. العصيان هو علة حرمان آبائهم من التمتع بأرض الموعد، لذا يحثهم على الطاعة لله.

3. تقديم الشكر لله عوض التذمر والجحود لعطاياه ورعايته.

4. بالوصية والعبادة ننعم بالحياة (ص 4).

بلغ الشعب إلى قادش برنيع على حدود أرض الموعد (1: 9 - 15)، وإذ تذمر الشعب رافضًا الدخول (1: 16 - 33) أمرهم الله بالتيه في البرية حتى يموت هذا الجيل (1: 34 - 40). انطلقت الأسباط نحو الشمال وعبروا أدوم (2: 1 - 18)، ووصلوا إلى موآب (2: 19 - 25). وعندئذ صدر الأمر لهم بالسماح للدخول خلال أرض الأموريين، لكن منعهم سيحون ملك الأموريين وعوج ملك باشان، فسلمهما الله في أيدي شعبه (2: 26، 3: 17). بهذا انطلق موسى بشعبه نحو كنعان ليقف على الحدود، يسلمهم لتلميذه يشوع، أما هو فلم يُسمح له بالدخول إلى أرض الموعد بسبب شكه في وعد الله في مريبة أو لأنه ضرب الصخرة مرتين (3: 18 - 29، 33 - 51؛ عد 20: 12).

الأصحاح الأول

كما يحمل الإنسان ابنه.

افتتح السفر بمقدمة عن عظات موسى النبي الوداعية، حيث يستعرض ظروف الكتابة وتاريخها وموقعها. هي أشبه بمقدمة تاريخية يُقدمها ملك الملوك ليعلن معاملاته مع شعبه في الماضي حين كان الشعب في البرية بلا عون بشري. بهذا يحثهم على قبول العهد الإلهي والتجاوب مع الميثاق القائم بين الله وشعبه.

حَوَت العظة الأولى عرضًا تاريخيًا للرحلة من حوريب حتى الوصول إلى أرض موآب (الأصحاحات 1 - 3).

في هذا الأصحاح يوضح رعاية الله لشعبه في وسط البرية، ومشاركة الشعب في القرارات مع موسى النبي. فإن كان الله قد اختار موسى قائدًا، في وقتٍ كان فيه الشعب عاجزًا عن أخذ قرار مصيري، فإن الله وهبهم قائدًا محبًا للشعب يود أن يشترك الشعب معه. وقد قابل الشعب هذا كله بالعصيان والجحود وعدم الثقة.

1. مقدمة [1 - 5].

2. الله يحقق وعده لآبائهم [6 - 8].

3. مشاركة الشعب في تدبير أمورهم [9 - 18].

4. التشكك وإرسال الجواسيس [19 - 40].

5. إصرار على العصيان [41 - 46].

الأعداد 1-5

1. مقدمة:

في هذه المقدمة يظهر دور موسى الرعوي، فمع شيخوخته، إذ بلغ حوالي 120 عامًا، ومع إدراكه أنه قد تمم رسالته، وكان عليه أن يسلم القيادة لتلميذه يشوع قدم ثلاثة أحاديث طويلة مع جميع الشعب. أنه القائد المعلم المخلص، الذي يتحدث بروح الأبوة الحانية الحازمة. لن يكف عن تعليم شعبه حتى اللحظات الأخيرة من عمره.

لم يستعرض موسى النبي إنجازاته خلال الأربعين عامًا من خدمته؛ وقد كان له الكثير ليتحدث عنه، لكنه استعرض عمل الله معهم، مهتمًا بخلاصهم وأبديتهم. إن كل ما يشغله ليس نجاحه في العمل، بل تمتع شعبه بالله، حتى يقبل الشعب الدخول في عهدٍ مع الله لا مع موسى. أظهر موسى النبي أنه يطلب فعلاً ما هو لبنيانهم ونموهم بإخلاص، وليس ما هو لنفسه.

مع أن الشعب كان على أهبة الدخول في سلسلة لا تنقطع من المعارك مع الأمم التي تسكن في أرض الموعد، لكن موسى لم يتحدث عن الشئون العسكرية، ولا عن تنظيمات خاصة بالحياة الجديدة، إنما كل ما كان يشغله علاقتهم بالله كأساس حيّ لنصرتهم ونموهم في كل جوانب الحياة.

"هذا هو الكلام الذي كلّم به موسى جميع إسرائيل في عبر الأردن في البرية في العربة قبالة سوف بين فاران وتوفل ولابان وحضيروت وذي ذهب" [1].

يظهر اسم موسى 99 مرة في العهد الجديد، تلقي كل مرة منها ضوءً على هذا السفر.

"جميع إسرائيل" نجد هنا واحدة من العبارات المميزة لسفر التثنية "شعب الرب". فإن موسى يكلم الشعب كله، جميع إسرائيل، ويدعوهم للسماع. لا يعني هذا أن موسى تحدث مع الشعب كله مباشرة، فإن هذا غير ممكن عمليًا، لكن يرى اليهود أن موسى تحدث مع شيوخ إسرائيل، وهم تحدثوا مع الشعب. فكثيرًا ما جاء تعبيرا "شيوخ إسرائيل"، "والشعب" متعادلان.

تكرار استخدام تعبير "جميع إسرائيل" [1] في هذا السفر إنما لتأكيد معاملات الله معهم كشعب واحد، لا لأنه من نسل يعقوب وإنما لارتباطهم معًا في وحدة في عهد مع الله. هذا العهد هو عهد الجماعة كلها الذي من خلاله يتمتع كل مؤمن بعلاقات شخصية مع الله، وكأن العهد يُقام معه شخصيًا لكن دون انعزالية أو فردية أو أنانية. فالله يقيم كنيسته عروسًا واحدة، ويقيمنا نحن أعضاء في العروس الواحدة المتحدة بعريسها.

في قوله "عبر الأردن" [1، 5] قاصدًا "شرقي الأردن" لا يعنى بالضرورة أن الكاتب موجود في غرب الأردن حتى يعبِّر عن شرق الأردن هكذا، إنما هو اصطلاح كان جاريًا منذ القديم عن تسمية خاصة بـ "شرقي الأردن"، ولا زال هذا الاصطلاح مستخدمًا حتى عصرنا هذا. وإن كان البعض يرى أن مقدمة السفر ونهايته وضعهما يشوع بن نون أو العازار الكاتب بعد تسجيل عظات موسى النبي.

وردت هذه العبارة 18 مرة في التثنية ويشوع للتعبير عن جانب من الأردن أو الجانب الآخر أو كل دائرة الأردن، وهي تعني في 12 مرة منها الجانب الشرقي وفي الست الأخرى الجانب الغربي. وتضاف بعض التوضيحات أحيانًا لتحدد الجانب المقصود.

حدد الكاتب الموقع الذي فيه قدم موسى النبي عظته بالآتي:

أولاً: "في البرية"، ومعناها العبري الحرفي "مكان السوق" أي مرعى واسع، وهي تطلق على أي مكان غير مأهول، سواء أكان خصيبًا أم مجدبًا. فإننا مادمنا في برية هذا العالم نحن في حاجة إلى كلمة الله. الوصية هي رفيق في الغربة، نقول مع المرتل: "غريب أنا على الأرض، فلا تخفِ عني وصاياك" (مز 119: 19).

  • من يُحب الأرضيات وشهواتها لا يفكر في أن يكون مع المسيح بعد انتقاله، ولا يقدر أن يقول: "غريب أنا على الأرض"، إذ هو مهتم بما للأرض. أما من يقول: "لا تخفِ عني وصاياك" فهو قديس... لذلك يطلب النبي من الله أن يكشف له عظائم وصاياه للحياة السماوية[19].

العلامة أوريجانوس.

  • بكونه غريبًا على الأرض صلى (المرتل) إلاَّ تُخفى عنه وصايا الله، حيث يتمتع بالحب كأمرٍ فريدٍ أو رئيسيٍ، الآن يُعلن أنه يشتهي أن يكون له الحب من أجل أحكامه. هذه الشهوة تستحق المديح لا الدينونة[20].

القدِّيس أغسطينوس.

ثانيًا: "في العربة" كلمة "عربة" اسم عبري معناه "قفر"، يقصد به هنا المنخفض من البحر الأحمر إلى خليج العقبة والأراضي المشابهة له. والعرب اليوم يسمون هذه المنطقة "العربية". وفي حزقيال (47: 8) قصد به من شمال البحر الميت إلى خليج العقبة، وطوله مائة ميل. ذكر في (يش 11: 2؛ 12: 1؛ عا 6: 14). في وسط مرارة القفر يقدم لنا الله كلمته فنردد: "إن كلماتك حلوة في حلقي، أفضل من العسل والشهد في فمي" (مز 119: 103).

لكلمة الله عذوبة خاصة، أحلى من كل فلسفات العالم ومعرفته وحكمته. شتان بين من يدرس كلمة الله بطريقة عقلانية بشرية جافة، وبين من يأكلها ليغتذي بها، فيجدها طعامًا مشبعًا وحلوًا، أشهى من العسل والشهد. إنها تعطي عذوبة للنفس، فتحول جفاف قلبنا القاسي إلى عذوبة الحب المتسع والمترفق! كأن كلمة الله في عذوبتها تحول المؤمن إلى الحياة العذبة، فيستعذب الآخرون الشركة معه.

  • أحيانًا يكون لعبارات كتابية عذوبة متزايدة في الفم (مز 119: 103) كما قد يكرر المرء عبارة بسيطة (من الكتاب المقدس) في الصلاة عدة مرات دون أن يشبع منها وينتقل منها إلى عبارة أخرى[21].

مار اسحق أسقف نينوى.

  • صارت كلمات الله حلوة لي مثل عسل الشهد، وصرخت من أجل المعرفة، ورفعت صوتي لأجل الحكمة[22].

القدِّيس غريغوريوس النزينزي.

ثالثًا: "قبالة سوف". كلمة سوف Cuwp في العبرية معناها "أحمر" فإنها تُشير إلى البحر الأحمر إن ارتبطت بكلمة "يم Yam" أو بحر، كما تعني أيضًا "زوبعة". وإذ لم تُذكر هذه الكلمة هنا، فإنها تعني موضعًا في سهول موآب أو ملاصقًا لها، تُدعى "سوفة". وقد أشار بطليموس إلى شعب يُدعى السوفونيين Sophonites سكن في عربية بترا Arabia Petraea، هذا الشعب غالبًا ما أخذ اسمه عن اسم الموضع "سوف" [23].

أينما رددت كلمة الله تكون قبالة بحر سوف أو قبالة البحر الأحمر، لأن غاية الكلمة هي العبور بنا من أرض العبودية والدخول بنا إلى كنعان السماوية. هذا لن يتحقق بدون مياه المعمودية، حيث نتمتع بالعماد مع السيِّد المسيح، فننال بروحه القدوس روح البنوة لله.

رابعًا: فاران Paran اسم البرية التي على حدود Idumea حيث كان الإسرائيليون معسكرين (عد 10: 12؛ 12: 16) وهي جنوبي الأردن تجاه جبل سيناء. هذه البرية غالبًا ما تكون هي صحراء التيه. وهي عبارة عن مساحة مسطح غير منتظم يمتد من سلسلة جبال التيه من الجنوب إلى حدود الأرض المقدسة، ومن خليج العقبة ووادي العربة في الشرق إلى خليج السويس والبحر المتوسط غربًا.

لبرية فاران ذكريات كثيرة من بينها ارتحل إليها الشعب من حضيروت (عد 12: 16) بعد شفاء مريم أخت هرون من برصها إذ شفع فيها أخوها بالرغم من تذمرها عليه. يرى العلامة أوريجانوس أن كلمة فاران معناها "الفم المنظور" إشارة إلى "التجسد الإلهي". فإنه بشفاء مريم من برص عدم الإيمان انطلق الموكب إلى فاران، أي إلى الإيمان بالتجسد الإلهي كطريق للعبور إلى السماء، والاستماع إلى كلمة الله المتجسد.

خامسًا: توفل Tophel اسم عبري معناه "كلسي" ربما يكون الموضع الذي يُسمى حاليًا طفيلة Tufailah Tafylah، وهي قرية ضخمة تضم حوالي 600 شخصًا بين Bozrah وkerak في الجانب الشرقي لجبال آدوم، تبعد حوالي 14 ميلاً جنوب شرقي البحر الميت. يستخدم الكلس لتغطية الأسوار حتى لا يستطيع العدو أن يتسلقها أثناء المعركة. هكذا تهبنا الكلمة قوة، فلا يقدر العدو أن يتسلل إلينا ويصعد على أسوارنا.

سادسًا: لابان Laban: اسم عبري معناه "الأبيض". يقال لها لبنة Libnah، المحطة الثانية التي عسكر فيها الإسرائيليون عند عودتهم من قادش (عد 33: 20 - 21) [24]. اللون الأبيض يرمز للنقاوة، فإن غاية الكلمة الإلهية هي التمتع بالطهارة.

سابعًا: حضيروت[25] Hazeroth ربما هي عين خضراء التي تبعد حوالي 36 ميلاً شمال شرقي جبل سيناء. هناك تذمرت مريم وأيضًا هرون على موسى حيث صارت برصاء (عد 12). كلمة "حضيروت" معناها "استقرار"، ويرى العلامة أوريجانوس أن معناها "بناء كامل (مستقر)" أو "تطويب". ويرى البعض أن معناها "ديار" أو حظائر. فإن غاية الوصية هو الاستقرار في حضن الآب.

يفترض أنه الموضع المذكور في (عد 11: 35؛ 12: 16) دخل منه الإسرائيليون إلى برية فاران، ولكن لما كانت بقية المواضع هنا على الجانب الشرقي من العربة لذلك يحتمل أن حضيروت هنا غير تلك المذكورة في سفر العدد، التي يلزم أن تكون بعيدة عن سيناء من جهة الجنوب أو الجنوب الغربي من جبل سيناء، يحتمل تكون عند عين خضراء El - Hudherah. غالبًا ما توجد أماكن كثيرة تحمل اسم حضيروت.

ثامنًا: ذو ذهب. غالبًا غير ذهب التي على خليج العقبة، إذ توجد مناطق كثيرة تسمى "ذهب". معناه "من لديه ذهب". الذهب يُشير إلى السماء، فإن غاية الوصية هو انطلاق القلب إلى السماء حتى يتمتع الإنسان بكليته بالحياة السماوية.

"أحد عشر يومًا من حوريب على طريق جبل سعير إلى قادش برنيع" [2].

في اختصار فإن الموقع الذي فيه قدم موسى عظته الوداعية الأولى، أو قدم وصية الله للجيل الجديد تكشف عن عمل كلمة الله في حياة المؤمن:

  • تُشير "البرية" إلى حاجة الإنسان إلى الوصية كرفيق له في غربته على الأرض.
  • و "العربة" تشير إلى عذوبة الوصية في وسط قفر هذا العالم.
  • و "قبالة سوف" توضح حاجتنا إلى التمتع بمياه المعمودية، كمن يعبر بحر سوف مع شعب الله، منطلقين من أرض العبودية، متجهين نحو كنعان السماوية.
  • و "فاران" تذكرنا بتجسد الكلمة، الذي جاء يتحدث معنا بوصيته فمًا لفمٍ.
  • و "توفل" توضح حاجتنا إلى الوصية كسورٍ مغطى بالكلس، فلا يقدر عدو أن يتسلقه.
  • و "لابان" تؤكد غاية الوصية وهو الدخول إلى النقاوة.
  • و "حضيروت" تعلن لنا عن تمتعنا بالاستقرار الداخلي خلال الطاعة للوصية الإلهية.
  • و "ذو ذهب" ترفع قلوبنا إلى السماء، الأمر الذي لن يتحقق إلاَّ بالوصية كطريق ملوكي إلهي سماوي.

يرى المفسرون اليهود أن البلاد المذكورة هنا تشير إلى المناطق التي أخطأ فيها الشعب بصورة واضحة[26]. وكما سبق فقلنا أن اليهود يتطلعون إلى سفر التثنية كسفر التوبيخ. "The book of reproofs". كأن موسى النبي يعلن عن ضرورة تجديد العهد مع الله في وسط مواقع الخطية، حيث يستطيع الله وحده أن ينتشلنا ويحملنا بذراعيه إلى أرض الموعد، واهبًا إيَّانا وعوده الغنية المشبعة.

إلى يومنا هذا أحيانًا تُحسب المسافات في منطقة الشرق الأوسط حسب الساعات أو الأيام التي يقضيها المسافرون. فرحلة اليوم الواحد على القدمين تبلغ حوالي 20 ميلاً، وعلى الجمال (في الصحراء) 3 أميال في الساعة أو 30 ميلاً في اليوم. وفي القوافل حوالي 25 ميلاً. غير أن الإسرائيليين إذ كانوا ينتقلون بأطفالهم وقطعانهم، ويحملون معهم الكثير من ممتلكاتهم لذلك كانت الرحلة بطيئة عن المعدل العادي. يرى البعض إنها لم تكن تبلغ عشر أميال، بل أحيانًا خمسة.

"حوريب" ومعناها الحرفي "خراب" (قارن إرميا 44: 2)، وهو اسم يطلق على المنطقة حول جبل سيناء حيث ظهر الله لموسى أولاً (خر 3: 1). يميز موسى النبي في رحلة البرية بين حقبتين رئيسيتين: الحقبة الأولى: هي حقبة الجيل القديم المتذمر غير الشاكر وغير المؤمن، امتدت قرابة أربعين عامًا، كانوا في تيه. والحقبة الثانية: هي رحلة الإحدى عشر يومًا.

قادش برنيع: "قادش" معناها "مقدس"، وهناك أماكن كثيرة بهذا الاسم. تقع قادش برنيع في أقصى جنوب اليهودية، وكانت أول محطة لإسرائيل في الرحلة من سيناء، ومن هناك أرسل الجواسيس وإليها عادوا (عد 12: 16، 13: 26) وهي على مسيرة 11 يومًا من جبل موسى (165 ميلاً).

يشير موسى النبي إلى رحلة الإحدى عشر يومًا من جبل سيناء، أو حوريب (6: 19؛ 4: 10، 15) إلى قادش برنيع حيث صار الشعب في مدخل أرض الموعد. لقد قاموا برحلة قرابة أربعين عامًا لم تكن إلاَّ تيهًا بسبب عدم الإيمان، بينما رحلة إحدى عشر يومًا دخلت بهم إلى أبواب أرض الموعد. رحلة الإحدى عشر يومًا مع الإيمان عوّضت فترة قرابة أربعين عامًا من التيه بسبب عدم الإيمان. هكذا يعمل الإيمان في حياتنا ليعوض السنوات التي أكلها الجراد.

الخطية، خاصة عدم الإيمان، تدخل بالإنسان إلى حالة تيه، فلا يعرف الإنسان إلى أين يذهب. إنها تحول الطرق القصيرة إلى تيه لمدة طويلة. أما رحلة الإيمان فتحمل النفس في فترة وجيزة إلى أبواب السماء أو كنعان العليا المفتوحة.

"ففي السنة الأربعين في الشهر الحادي عشر في الأول من الشهر كلّم موسى بني إسرائيل حسب كل ما أوصاه الرب إليهم" [2 - 3].

كان الحديث في اليوم الأول من الشهر الحادي عشر من السنة الأربعين، وقد ماتت مريم في الشهر الأول من نفس السنة (33: 38)، وها هو موسى يموت في نفس السنة. وكأن دخول أرض الموعد احتاج إلى قيادات جديدة عِوض مريم وهرون وموسى، إذ كان لابد للتهيئة لاستلام يشوع القيادة، ليتمتع الجيل الجديد بالأرض الجديدة.

ما قد فعله موسى في البرية لم يكن إلاَّ عمل الله معه وبه وفيه، وهكذا قبيل نياحته، ما ينطق به إنما هو كلمات الله التي في فيّه، إذ يقول: "حسب كل ما أوصاه الرب إليهم" [3].

"بعدما ضرب سيحون ملك الأموريين الساكن في حشبون، وعوجٍ ملك باشان الساكن في عشتاروث في أذرعي" [4].

في دراستنا لسفر العدد الأصحاح 21 رأينا أن العلامة أوريجانوس يرى أن كلمة "سيحون" معناها "متشامخ" أو "شجرة عقيمة"، فهو يشير إلى الشيطان المتشامخ الذي بلا ثمر[27]. وإن كلمة "حشبون" معناها "التفكير"، وإن كان البعض يرى أن معناها "حساب". يقول العلامة أوريجانوس: [لماذا تُدعى عاصمة ملك سيحون حشبون؟ لأن حشبون تعني التفكير، وهو الجزء الأكثر أهمية في مملكة الشيطان، هو أساس قدرته[28]].

كانت حشبون عاصمة موآب، استولى عليها سيحون وجعلها عاصمة مملكته. أما باشان فهي على الحدود الشرقية من بحيرة الجليل.

عشتاروت، هي عاصمة عوج تبعد أكثر قليلاً من عشرين ميلاً شرقي بحيرة الجليل. أما أذرعي Edrei فكانت تبعد أقل من 20 ميلاً جنوب شرقي عشتاروت.

كان سيحون يسيطر على الجانب الجنوبي من عبر الأردن، بينما كان عوج يسيطر على الجانب الشمالي منه.

"في عبر الأردن في أرض موآب ابتدأ موسى يشرح هذه الشريعة قائلاً:" [5].

"يشرح هذه الشريعة" يعني أنه لا يود تكرار الشرائع القديمة، إنما يقوم بتفسيرها بما يبني الجيل الجديد الداخل أرض كنعان. وصية الله لا تتغير لكنها تُقدم لكل جيل حسبما يشبعه، حسب احتياجاته وظروفه.

جاءت كلمة "يشرح" في العبرية تعني حرفيًا "يحفر" أو "يدخل إلى أعماقها". وكأن موسى النبي يرى في الشريعة الإلهية منجمًا من الغنى، يحتاج المؤمن أن يحفر المنجم ويدخل إلى الأعماق ليكتشف الغنى ويحمله معه، ليتمتع هو به كما يتمتع به إخوته. يوجد فارق بين إنسان يسمع عن كلمة الله، وإنسان يدخل إلى أعماقها ويقتنيها لنفسه ككنز حقيقي لا يُقدر.

ترد كلمة "الشريعة" في صيغة المفرد وهذا يعني أن ما بالسفر يمثل وحدة كاملة لا تتجزأ قط. وصارت الكلمة اسمًا لكل الأسفار الخمسة (عزرا 7: 6، مت 12: 5)، ثم أُطلقت على كل العهد القديم (يو 10: 34، 15: 25). ورد ذكرها 35 مرة في المزمور 119.

الأعداد 6-8

2. الله يُحقق وعده لآبائهم:

إذ حدد تاريخ الحديث والموقع بدأ بالعظة الأولى حيث يفتتحها بالكشف عن شوق الله نحو تحقيق وعده لشعبه.

"الرب إلهنا كلمنا في حوريب قائلاً:

كفاكم قعود في هذا الجبل.

تحوّلوا وارتحلوا وادخلوا جبل الأموريين وكل ما يليه من العربة والجبل والسهل والجنوب وساحل البحر أرض الكنعاني ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات.

انظر قد جعلت أمامكم الأرض.

ادخلوا وتملّكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم إبراهيم واسحق ويعقوب أن يعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم "[6 - 8].

يُنسب موسى النبي الله لشعبه، إذ قيل: "الرب إلهنا" [6]، "الرب إلهكم" [10]، "الرب إله آبائكم" [11]. فالله إله الكنيسة (5: 6)، وهي كنيسة الله وشعبه الخاص به. العلاقات بين العريس السماوي وعروسه شخصية!

إن كان الشعب يشتاق إلى دخول أرض الموعد والتمتع بخيراتها، فإن الله يشتاق بالأكثر أن يحقق وعوده معنا. أنه يحثنا للتحرك لكي ننطلق في طريقه لندخل أبواب السماء المفتوحة، ونفتح أفواهنا فيملأها، ونبسط أيدينا لنتسلم بركاته.

الأموريون والكنعانيون: كانت فلسطين معروفة منذ زمن قديم باسم أرض كنعان وسكانها بالكنعانيين (تك 10: 19، 12: 6). أما الأموريون فقد ورد ذكرهم في الآثار التي ترجع إلى 30 قرنًا ق. م، وقد تسللوا إلى كنعان. وقد استخدم اسم "الأموريين" للإشارة إلى كل سكان كنعان وذلك بكونهم أقوى دولة كانت هناك.

حقًا لم يدخل موسى النبي أرض الموعد، ومع هذا فقد قدم حدودًا لها لشعبه، وهي:

  • العربة هي وادي نهر الأردن من بحيرة الجليل إلى منطقة جنوب البحر الميت.
  • جبل الأموريين في الجنوب تجاه البحر الميت. الجنوب (نجب) Negev، وهي منطقة شمال سيناء، وجنوب جبل الأموريين.
  • أرض الكنعانيين، أي فينيقية، حيث مدينة صيدا وساحل البحر الأبيض المتوسط تجاه الغرب.
  • لبنان من الشمال.
  • النهر الكبير أو نهر الفرات تجاه الشرق.

تحقق ذلك حرفيًا في أيام سليمان الملك (1 مل 4: 21)، فتم وعد الله لإبراهيم واسحق ويعقوب وبنيه وارثي الوعد (تك 12: 7؛ 15: 18؛ 26: 3 - 4، 13: 15). وثبت هذا الوعد لموسى النبي عند العليقة الملتهبة (خر 3: 8، 17).

"كفاكم قعود في هذا الجبل" [6].

لقد سبق فوهبهم الشريعة، ورعاهم في كل طريق البرية، وقادهم بنفسه نهارًا وليلاً، والآن يصدر أمرًا بالتحرك للاستعداد للدخول إلى أرض الموعد. إنه يُطالبنا الله أن نتحرك في الوقت المناسب، فهو يعرف متى يجب أن نستريح ومتى يلزمنا أن نتحرك. إنه يدعونا للخروج لكي ننطلق نحو جبال الأبدية، فنجد لنا موضعًا في أحضانه.

لقد عاش إسرائيل قرابة 40 عامًا في تيه وسط البرية، لكن علة التأخير هو الإنسان المتباطئ والعاصي غير المستعد للدخول، أما من جانب الله فهو من البداية يكاد يمسك بأيدينا ويسحبنا لننطلق معه نحو أرض الموعد، إذ يحثنا قائلاً: "كفاكم قعود في هذا الجبل؛ تحوّلوا وارتحلوا... ادخلوا وتملكوا الأرض" [7، 9]. أنه يود أن يسرع بنا فيحملنا كالابن في حضن أبيه لينطلق بنا (1: 31)، لكي نملك (1: 21، رؤ 3 (.

"جعلت الأرض أمامكم" [8].

بينما كان الله يهيئ الشعب للدخول إلى أرض الموعد لمدة قرابة أربعين عامًا في البرية، كان يعد لهم الأرض لتي يرثوها لتصير أمامهم سهلة وواضحة. هكذا يعد الله قلوبنا في رحلة هذا العالم لتكون كنعان السماوية أمام عيوننا. هذه التي قال عنها: "أنا أمضي لأعد لكم مكانًا" (يو 14: 1).

"اقسم الرب لآبائكم": تكرّرت الإشارة إلى الوعد الذي تثبت للآباء بقسم (تك 22: 16). يذكّر موسى دائمًا الشعب بأن محبة الله لم تُقدّم لهم لاستحقاق فيهم (7: 7، 9: 4)، بل بناء على نعمة الله الخالصة ووعوده الأولى. أما عناصر هذا الوعد التي هي كثرة النسل وامتلاك الأرض المقدسة ونوال البركة الشاملة فتتكرر كلها هنا.

الأعداد 9-18

3. مشاركة الشعب في تدبير أمورهم:

عجيبة هي شخصية موسى النبي، فقد بدأ عظته أولاً بالكشف عن حنو الله نحو شعبه، وتلى ذلك الحديث عن ضعفه الشخصي، حيث لم يحتمل أن يحمل أثقال الشعب.

"وكلّمتكم في ذلك الوقت قائلاً:

لا أقدر وحدي أن أحملكم.

الرب إلهكم قد كثّركم.

وهوذا اليوم كنجوم السماء في الكثرة.

الرب إله آبائكم يزيد عليكم مثلكم ألف مرة ويبارككم كما كلمكم.

كيف أحمل وحدي ثقلكم وحملكم وخصومتكم؟

هاتوا من أسباطكم رجالاً حكماء وعقلاء ومعروفين فأجعلهم رؤوسكم "[9 - 13].

لم يشر موسى النبي إلى أن هذا الأمر كان من اقتراح حميه يثرون (خر 18: 13 - 26)، إنما ذكر أنه طلب تعيين 70 شيخًا لمساندته في حمل أثقال الشعب. صاروا فيما بعد مجمع السنهدرين الذي عِوض أن يحمل مع موسى أثقال الشعب ويدخل بهم إلى المسيا المخلص حكموا على السيِّد المسيح بالموت، وقاوموا ناموس موسى في روحه تحت ستار الدفاع عنه والمحافظة على حَرفِه.

غاية موسى كممثل للناموس أن يقود المؤمنين إلى المسيح، لكي يختبر الكل عذوبة الحياة الإنجيلية ويتمتعوا بعربون السماء، وكان يليق بمجمع السنهدرين أن يحمل ذات الروح. هكذا غاية كل كاهن هي الكرازة بكلمة الله، والدخول بكل نفسٍ إلى خبرة الحياة الجديدة المُقامة. ويليق بالشمامسة – الذين يمثلون مجمع السنهدرين بالنسبة لموسى– أن يحملوا ذات الخط وهم يخدمون الموائد، كما فعل السبعة شمامسة المختارون في أيام الرسل (أع 6)، وكما وضَحْ من خطاب رئيس الشمامسة إستفانوس (أع 7).

سجّل لنا موسى النبي اختيار السبعين شيخًا كمُعِينين له ربما كأحد أخطائه، إذ شعر بعجزه عن حمل الثقل غير مدرك أن الله هو الحامل لهذا الثقل. ويرى البعض أنه قد سجّل ذلك لكي يكشف لشعبه أنه لم يكن يرغب في الانفراد بالقيادة، بل طلب له شركاء في العمل، وأعطى الشعب حق اختيار القادة [13].

كقائدٍ حقيقيٍ تطلع موسى النبي إلى الحكم أو العظمة كثقل يلتزم أن يحمله على كتفيه، وبنظرة ثاقبة طلب العون، وسأل عن أشخاصٍ أكفّاءٍ قادرين على مشاركته في احتمال هذا الثقل. لم يكن موسى النبي كقائدٍ للشعب يطمع في ممارسة حكم الفرد، مع أنه كان يستحق هذه الكرامة، وقام بأعمال لا يستطيع آخر أن يقوم بها، لكنه طلب من يسنده في الحكم، ويشاركه المسئولية والكرامة.

في سفر الخروج نرى موسى العظيم في الأنبياء لا يحتقر مشورة إنسان وثني، إذ "سمع موسى لصوت حميه وفعل كل ما قال" (خر 18: 24). موسى الذي من أجل حبه لله ولشعبه ازدرى بالبلاط الملكي بكل إمكانياته (عب 11: 24، 26)، ينصت بروح التواضع لصوت يثرون ويسمع له. يعلق على ذلك القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [إن كان موسى قد تعلم من حميه أمورًا لائقة لم يكن يدركها، فكم بالأكثر يحدث هذا داخل الكنيسة (أي نستفيد من الآخرين)؟... كيف حدث هذا أن غير المؤمن أدرك أمورًا لم يدركها الشخص الروحي؟ [29]].

"كنجوم السماء في الكثرة" [10].

لقد تحقق وعد الله لإبراهيم (تك 15: 5 - 6). ربما يتساءل البعض أن الكواكب التي ترى بالتلسكوب يبلغ عددها أكثر من 75 مليونًا، فهل كان الشعب الداخل إلى أرض كنعان يُعادل هذا الرقم؟ للإجابة على ذلك نقول إن الله حين وعد إبراهيم بذلك طلب منه أن يخرج ليرى السماء بعينيه لا بتلسكوب، والعين غالبًا ما ترى حوالي 3000 كوكبًا. ونحن نرى في التعداد الثاني 603000 رجل حرب إسرائيلي، لذا تحقق الوعد بأكثر مما كان يتخيل إبراهيم نفسه.

يقول: "أنتم اليوم كنجوم السماء في الكثرة" [10] ولم يقل: "كرمل البحر"، فإنه يراهم ككواكب بهية تتمتع بالمجد السماوي، لذا حسبهم كنجوم السماء.

في رعايته يبارك شعبه ويبقى يزيدهم بركة بلا انقطاع (1: 10 - 11). في مصر تزايد الشعب جدًا خلال حوالي 250 عامًا، فكان ذلك موضع حسد فرعون وخوفه (خر 1: 9). الآن تزايد العدد جدًا خلال حوالي 40 عامًا، وكان ذلك موضع سرور موسى طالبًا لهم البركة ألف مرة.

"هاتوا من أسباطكم رجالاً حكماء وعقلاء ومعروفين فأجعلهم رؤوسكم.

فأجبتموني وقلتم حسن الأمر الذي تكلمت به أن يُعمل.

فأخذت رؤوس أسباطكم رجالاً حكماء ومعروفين وجعلتهم رؤوسًا عليكم رؤساء ألوف ورؤساء مئات ورؤساء خماسين ورؤساء عشرات وعرفاء لأسباطكم "[13 - 15].

العرفاء: العرفاء هم الأشخاص الذين يقومون بالإشراف على التنفيذ العملي لما يصدره الرؤساء أو القضاة أو غيرهم من القادة. قبل الخروج مباشرة كان هؤلاء العرفاء مدبرين يعملون تحت المسخّرين المصريين لحساب عدّ الطوب (خر 5: 6)، وأما الآن فيعملون رؤساء ألوف ومئات وعشرات، لا تحت العبودية بل للعدالة والنصرة (16: 18، 20: 5، 5: 8 - 9، 29: 10، 20: 28).

سألهم أن يختاروا من بينهم من يقوم بدور القيادة وتحمل المسئولية، وقد اشترط فيهم:

أ. أن يكونوا حكماءchalsaamiym، يقصد بهم الذين نالوا قسطًا وافرًا من المعرفة خلال الاجتهاد والدراسة.

ب. عقلاء Uwnboniym، يُقصد بهم الذين لهم روح التمييز، ويمكن أن يمارسوا القضاء بعدلٍ.

ج. معروفون wiydu’ium، يقصد بهم الذين لهم خبرة عملية واثبتوا أنهم قادرون على القيام بأعمال عظيمة.

لم يشترط موسى النبي في القادة أن يكونوا ذوي كرامة زمنية أو غنى، بل حكماء وعقلاء ومختبرين. بنفس الروح طلب الرب من الشعب أن يختاروا خدامًا (شمامسة) أكفّاء، حكماء ومملوءين من الروح لخدمة الفقراء (أع 6: 3 - 6).

"وأمرت قضاتكم في ذلك الوقت قائلاً:

اسمعوا بين إخوتكم واقضوا بالحق بين الإنسان وأخيه ونزيله "[16].

في نظام إسرائيل القبلي كان عندهم أربع طبقات من الناس:

"نسل الآباء" ومنهم الشيوخ والرؤساء.

"النزلاء" وهم الذين قبلوهم من الأمم الأخرى للسكن معهم.

"المستوطنون" (لا 25: 35) وهم من الشعوب المهزومة.

"العبيد" وهم الذين اشتروهم بالمال أو ولدوا في البيت.

وكان هناك أيضًا "الأجنبي" الذي يسكن بينهم مؤقتًا للتجارة أو لأغراض أخرى (17: 15).

كان ينبغي معاملة النزيل كأخ، كما يجب أن يلقى نفس المعاملة أي شخص يمكن أن يتعرض لاضطهاد. وهذه من خصائص سفر التثنية التي لا نجدها في شرائع مصر وبابل وقتئذ (شرح 10: 18 - 19).

"لا تنظروا إلى الوجوه في القضاء.

للصغير كالكبير تسمعون.

لا تهابوا وجه إنسان، لأن القضاء لله.

والأمر الذي يعسر عليكم تقدمونه إليّ لأسمعه.

وأمرتكم في ذلك الوقت بكل الأمور التي تعملونها "[17 - 18].

إن كان الله في حبه للإنسان يحثه على قبول وعوده له كي يتمتع بها، فإن موسى النبي كخادم لله يحترم إرادة الشعب. في محبته لهم كان يود أن يحمل بنفسه ولوحده كل أثقالهم، لكن أمام تزايد عددهم شعر بالعجز الشديد. أنه يفرح لتزايد عددهم مشتاقًا أن يتزايدوا ألف مرة، ليس فقط من جهة العدد، وإنما أن ينموا في المجد، لذا دعاهم "كنجوم السماء" [10].

قدم موسى النبي للرجال المختارين دستورًا للعمل يتلخص في الآتي:

أ. أن يكونوا محبين للاستماع [16]، فلا يحكموا بتسرعٍ دون الإنصات إلى كل الأطراف، بل ينصتوا بكل طول أناة وبدقة. يقول إشعياء النبي: "السيِّد الرب فتح لي أذنًا وأنا لم أُعاند" (إش 50: 5).

ب. أن يكونوا عادلين في القضاء، لا يحابوا الوجوه [17]، يحكموا بين بني جنسهم والغرباء بالعدل.

ج. لا يهابوا إنسانًا، كقضاة الله يحكموا في شجاعة، فإن الله يحميهم وينقذهم، وإلاَّ فإنه سيحكم هو عليهم ويدينهم.

د. لا يخجلوا من الاعتراف بالعجز متى كان الأمر متعسرًا عليهم، فإنه يجب عليهم تقديمه لموسى النبي شخصيًا [18].

هـ. أن يراعوا النظام بدقة، فإن القضاء يتم بالترتيب التالي:

  • الله، هو الملك، والقاضي الأعظم.
  • موسى هو رجل الله، ووكيله.
  • الكهنة، يستشيرون الله بواسطة الأوريم والتميم.
  • رؤساء القبائل أو الأمراء.
  • رؤساء ألوف Chiliarchs.
  • رؤساء مئات Centurions.
  • رؤساء خمسين Tribunes.
  • رؤساء عشرات Decurions.
  • عرفاء Officers، وهم الأشخاص الذين يعينون للتنفيذ فقط.

هكذا يخضع الكل لله أولاً الذي منه أخذ الكل سلطانهم، وأمامه يدانون، ويخضع كل واحدٍ لمن هو في رتبة أعلى منه.

من جانب موسى النبي نفسه فقد أعلن عجزه عن أن يحمل أثقال شعب الله وحده، لذا أقام منهم قادة للحرب ولتدبير شئون الأسباط وللقضاء (1: 9 - 17)، دون أن ينسحب من مسئوليته، خاصة في الأمور العسيرة (1: 17). أما من جانب الشعب نفسه فقد قابل محبة الله واهتمام موسى بالتشكك والتذمر.

الأعداد 19-40

4. التشكك وإرسال الجواسيس:

يرى البعض أن موسى أخطأ إذ طلب لجنة شيوخ تسنده في العمل القيادي، لأنه شعر بثقل الحِمل؛ وأخطأ الشعب إذ طلب لنفسه لجنة جواسيس تتكشف الأرض التي أمرهم الرب أن يدخلوها ويتملكوها[30].

خطأ الشعب يختلف عن خطأ موسى، إذ كان تصرف الشعب يحمل عدم إيمان، لذلك عاد عشرة جواسيس يتحدثون عن العمالقة الجبابرة الذين يسكنون كنعان، بينما عاد يشوع وكالب يقدمون من خيرات الأرض. العشرة ركزوا أنظارهم على العمالقة المقاومين، والاثنان ركَّزا نظرهما ووضعا قلبيهما في صدق مواعيده الإلهية.

ضعف الإيمان أو عدم الإيمان يسحب أعماقنا إلى الخوف والاضطراب من الشيطان والخطية والعالم، أما الإيمان فيسحب قلب الإنسان وكل طاقاته الداخلية نحو مواعيد الله، واثقًا في إمكانية تحقيقها، حاسبًا كل مقاومة تزيده إيمانًا ومجدًا.

يلوم النبي الشعب لأنهم طلبوا إرسال جواسيس قبل دخول أرض كنعان، الأمر الذي لم يُذكر في سفر العدد. لم يثقوا في وعد الله، بل طلبوا تقرير البشر، وعوض أن تتقدمهم الشمس لتضيء لهم طلبوا إيقاد شموع الجواسيس.

"ثم ارتحلنا من حوريب،.

وسكنّا كل ذلك القفر العظيم المخوف الذي رأيتم في طريق جبل الأموريين كما أمرنا الرب إلهنا.

وجئنا إلى قادش برنيع "[19].

أوضح النبي كيف كانت الرحلة خطيرة: "وسلكنا كل ذلك القفر العظيم المخوف" [19]. فإن تذكرنا للمخاطر التي كانت تُحيط بنا تدفعنا إلى تقديم الشكر لله الذي قادنا وسط الخطر.

يدخل بنا الله إلى القفر العظيم المخوف، فهو ليس فقط قفرًا لكنه أيضًا عظيم ومخوف. ندخل فيه فنتعلم الحرب الروحية ونتمتع بالقداسة (قادش). أنه طريق الصليب الضيق الذي به نعبر من القفر إلى جنة الرب المملوءة ثمارًا.

في هذا القفر ندخل في حرب ليس ضد لحم ودم بل ضد الرئاسات والقوات وولاة ظلمة هذا العالم (أف 6). نُحارب مع الرسول بولس وحوشًا في أفسس، قائلين مع السيِّد المسيح إنها ساعة قوات الظلمة. لن نكف عن الحرب سبعة أيام في الأسبوع.

"فقلت لكم قد جئتم إلى جبل الأموريين الذي أعطانا الرب إلهنا.

انظر. قد جعل الرب إلهك الأرض أمامك.

اصعد تملك كما كلّمك الرب إله آبائك.

لا تخف ولا ترتعب "[20 - 21].

والكلمة العبرية "يرث" المترجمة "تملّك" تعني الدخول لامتلاك الأرض مكان ساكن آخر إما بالفتح أو بالوراثة. وترد أكثر من 52 مرة في التثنية حتى في الجزء الخاص بالفرائض (مثلاً 19: 2، 14؛ 23: 20). وقد ترجمت نفس الكلمة الأصلية "يرث" بكلمة "يمتلك" (في 2: 31، 26: 20).

"اصعد تملك كما كلمك الرب إله آبائك، لا تخف ولا ترتعب" [21].

  • يطالب الله كل نفس أن تمارس حقوقها في ثلاثة أمور رئيسية وهي: الصعود، والتملك، وعدم الخوف. إننا مدعوون للصعود الدائم، فمن لا يصعد ينحدر ويسقط. بمعنى آخر ما لم يصعد الإنسان مع مسيحه إلى سمواته متمتعًا بروح النصرة، ينحدر مع إبليس في جحيمه.
  • "تملك": من يصعد على الدوام يتمتع بمركز "الملوكية"، فيحسبه ملك الملوك "ملكًا" صاحب سلطان.
  • "لا تخف ولا ترتعب": المسيحي ملك وقائد، إن اِنهار بالخوف والرعدة يفقد مركزه كابن لله. ليس من سمة المؤمن الخوف، بل الثقة واليقين في الآب السماوي.

بينما دعاهم الله للصعود والملوكية وعدم الخوف كان موقفهم مختلفًا تمامًا، إذ طلبوا أن يتحسسوا الأرض التي وُعد بها آباؤهم. عوض الصعود ليصيروا ملوكًا أرادوا أن يكونوا جواسيس، وعِوض الاعتزاز بالسلطان الملوكي الموهوب لهم، وعِوض الثقة واليقين في الله خافوا وارتعبوا. يا له من موقف مؤلم كثيرًا ما نسقط فيه!

"فتقدَّمتم إليَّ جميعكم وقلتم:

دعنا نرسل رجالاً قدامنا ليتجسَّسوا لنا الأرض ويردُّوا إلينا خبرًا عن الطريق التي نصعد فيها والمدن التي نأتي إليها.

فحسن الكلام لديّ فأخذت منكم إثنى عشر رجلاً.

رجلاً واحدًا من كل سبط.

فانصرفوا وصعدوا إلى الجبل وأتوا إلى وادي أشكول وتجسَّسوه.

وأخذوا في أيديهم من أثمار الأرض ونزلوا به إلينا وردّوا لنا خبرًا وقالوا:

جيدة هي الأرض التي أعطانا الرب إلهنا.

لكنكم لم تشاءوا أن تصعدوا وعصيتم قول الرب إلهكم "[22 - 26].

يطلب منهم أن يتمتعوا بالكمال ما قد نالوا عربونه خلال الجاسوسين. فقد جاء الجاسوسان كشاهدين عيان لما تتمتع به الأرض من خيرات، لكنهم لم يبالوا بكلمات كالب وتجاهلوا شهادة يشوع. جاء كالب ويشوع يقدمان لهم مما رأيا وذاقا واختبرا.

احتاج رجال العهد القديم إلى جواسيس لكي يذوقوا عربون خيرات أرض الموعد، أما رجال العهد الجديد فتمتعوا بكلمة الله المتجسد الذي يحملهم فيه، أعضاء جسده، فينالوا عربون السماء. بهذا دخل بالمؤمنين إلى الحياة السماوية كي يقدموا حياتهم شهادة حية عملية إذ ذاقوا فيه عذوبة الخيرات العتيدة، هم تعليم متجسم لما يكرزوا به. حياتهم تتكلم، وسلوكهم يشهد لما يخبروا به.

سمع الشعب عن أرض الموعد إنها تفيض لبنًا وعسلاً، لكنهم كانوا في حاجة إلى قادة يتمتعون لا بالمعرفة النظرية المجردة، بل المعرفة المؤيدة بالرؤية والخبرة. ذهب الاثنا عشر جاسوسًا إلى أرض الموعد، وأصبحت المعلومات كاملة بين أيديهم عن خصوبة الأرض وإمكانياتها وحصون المدن وضخامة العدو من جهة العدد والجسم والخبرة العسكرية، لكنهم انقسموا إلى فريقين. فريق رأى المعلومات data بمنظار بشري بحت، فتحطمت نفوسهم وحطموا نفوس الشعب، وفريق رأى المعلومات بمنظار إيماني إلهي فالتهب قلب الفريق بالشوق نحو العبور. وإلى اليوم تحتاج الكنيسة إلى قادة يحولون المعرفة إلى خبرة عملية، ويرونها بمنظار إلهي حق، حتى يستطيعوا أن يعبروا مع المخدومين إلى الوعود الإلهية السماوية.

"وتمرمرتم في خيامكم.

وقلتم الرب بسبب بغضته لنا قد أخرجنا من أرض مصر ليدفعنا إلى أيدي الأموريين لكي يهلكنا.

إلى أين نحن صاعدون؟

قد أذاب إخوتنا قلوبنا قائلين: شعب أعظم وأطول منّا.

مدن عظيمة محصّنة إلى السماء وأيضًا قد رأينا بني عناق هناك "[27 - 28].

الدفاع الأول لأية مدينة قديمة هي أسوارها، فإن اخترق العدو السور تسقط المدينة بسهولة في يديه. (2 مل 25: 4).

عرفت أسوار أريحا بقوتها، لذا قيل عنها إنها ترتفع إلى السماء [28]. جاء في الحفريات أن أسوارها مزدوجة تحيط بالمدينة من كل جانب. يبلغ ارتفاع السور أكثر من 40 قدمًا وعرضه حوالي 66 قدمًا. من أسفل السور من الحجارة ومن أعلى من الطوب، مغطاة بكلسٍ ناعمٍ جدًا حتى يستحيل تسلقه أثناء الهجوم. يرى البعض أن انهيار الأسوار كان بتدبير إلهي عن طريق هزة أرضية قوية حطمته.

"فقلت لكم لا ترهبوا ولا تخافوا منهم.

الرب إلهكم السائر أمامكم هو يُحارب عنكم حسب كل ما فعل معكم في مصر أمام أعينكم.

وفي البرية حيث رأيت كيف حملك الرب إلهك كما يحمل الإنسان ابنه في كل الطريق التي سلكتموها حتى جئتم إلى هذا المكان "[29 - 31].

رغم تقرير الجواسيس عن خصوبة الأرض [25] التي يُقدمها الرب لهم، إذا بهم في رعب وخوف [26 - 29]، لا يثقون في الرب المحارب عنهم. الطريق صعب، هو طريق حرب مستمرة (ضد عدو الخير)، لكنها هي حرب الرب نفسه، يسير أمامنا ليواجه المعركة ويحارب عنا (1: 30). نحن لسنا طرفًا في الحرب الروحية ضد الشر. لقد أكد لهم أن الله ساكن في وسطهم، يتقدمهم في الطريق كقائد لهم ومرشدٍ، وهو الذي يقضي ويحكم، وأيضًا هو الذي يُحارب عنهم.

جاءت كلمة "الرب" في ترجوم Onkelos "كلمة الرب... تحارب عنكم" [30]، هي نفس الكلمة التي استخدمها القدِّيس يوحنا عن السيِّد المسيح بكونه "اللوغوس" [31]. (تث 1: 30).

أظهر لهم عمل الله معهم، فوهبهم النصرة بذراع قوية عند خروجهم من مصر، وقدم لهم كل حنو حقيقي في البرية. فإنه لا يوجد أي مجال للشك في حنو الله الذي حملهم على ذراعيه كما يحمل الأب ابنه. لقد سبق فاشتكى موسى بأن الله قد عهد إليه أن يحمل هذا الشعب كأب يحمل رضيعًا (عد 11: 12).

"وفي البرية حيث رأيت كيف حملك الرب إلهك كما يحمل الإنسان ابنه في كل الطريق التي سلكتموها حتى جئتم إلى هذا المكان" [31].

في أكثر من موقف يعلن الله أبوته الحانية وعنايته الفائقة للإنسان، فقد حمل شعبه كما على جناحي نسر، لا لينطلق بهم إلى أرض الموعد، بل إليه، ليجدوا في الله نفسه أرض موعد فريدة.

وهنا يعلن ذاته كأب يترفق بابنه فيحمله على ذراعيه، لا إلى حين، بل "في كل الطريق". فيشعر المؤمن أنه محمول على الأذرع الأبدية.

لاحظ الاتهامات التي وجهها النبي ضدهم:

1. العصيان والتمرد ضد شريعة الله [26]، وهو تمرد على سلطة الله.

2. أساءوا إلى صلاح الله، فحسبوا خروجهم من أرض العبودية للتمتع بأرض الموعد علامة بغضة الله لهم.

3. يحملون قلبًا غير مؤمن، إذ لم يؤمنوا أن الرب هو إلههم [32]. وهذا هو مركز الشر. فالعصيان على شريعة الله، وعدم الثقة في قوته وصلاحه ينبع عن عدم الإيمان بكلمته.

"ولكن في هذا الأمر لستم واثقين بالرب إلهكم.

السائر أمامكم في الطريق ليلتمس لكم مكانًا لنزولكم في نارٍ ليلاً ليريكم الطريق التي تسيرون فيها وفي سحاب نهارًا "[32 - 33].

ما الذي حرم آباءهم من دخول أرض الموعد؟ عدم الإيمان. كل خطية يسهل تقديم العلاج لها، لكن الذي يفقد الإنسان أبديته هو عدم الإيمان! في الطريق لن يعوزنا شيء، يصير كنار تُضيء بالليل حتى لا نتعثر، وكسحاب في النهار كي لا نتوقف (1: 33).

"وسمع الرب صوت كلامكم فسخط وأقسم قائلاً:

لن يرى إنسان من هؤلاء الناس من هذا الجيل الشرير الأرض الجيدة التي أقسمت أن أعطيها لآبائكم.

ما عدا كالب بن يفنة هو يراها،.

وله أعطى الأرض التي وطئها ولبنيه،.

لأنه قد اتبع الرب تمامًا.

وعليَّ أيضًا غضب الرب بسببكم قائلاً:

وأنت أيضًا لا تدخل إلى هناك.

يشوع بن نون الواقف أمامك هو يدخل إلى هناك.

شدده لأنه هو يقسمها لإسرائيل.

أما أطفالكم الذين قلتم يكونون غنيمة وبنوكم الذين لم يعرفوا اليوم الخير والشر فهم يدخلون إلى هناك،.

ولهم أعطيها وهم يملكونها.

وأما أنتم فتحولوا وارتحلوا إلى البرية على طريق بحر سوف "[34 - 40].

عدم إيمانهم أساء إلى موسى نفسه، فحُرِم معهم من دخول أرض الموعد. هنا يلزمنا أن نشير إلى ما حدث عند ماء مارة (قادش) حيث قال الرب أن موسى وهرون لم يكرماه (عد 20: 12)، لكن صلاح الله حوّل حتى هذا الغضب الإلهي للخير، فعِوض حرمان موسى من الدخول بالشعب إلى أرض الموعد يقوم يشوع بذلك. وما عجز عنه الناموس يقدمه يسوع "يشوعنا" الذي يدخل بنا إلى كنعان السماوية. لقد أغلق الباب على الجيل القديم لكن نعمة الله فتحته للجيل الجديد.

نحتاج أن نستعرض حياتنا في الماضي القريب وأيضًا البعيد فنكتشف حب الله الفائق لنا ونعمته الفياضة ورعايته الفريدة واهتمامه الخاص بنا. هذا كله يسندنا ويدفعنا إلى الثقة في وعود الله، وقبول الدخول إلى كنعان السماوية وممارسة عربون الأبدية بقيادة يسوع المسيح.

الله يؤدب المتذمرين فاقدي الثقة بحرمانهم من أرض الموعد، لكنه لا يحرم أولادهم (1: 39).

الأعداد 41-46

5. إصرار على العصيان:

"فأجبتم وقلتم لي قد أخطأنا إلى الرب،.

نحن نصعد ونحارب حسب كل ما أمرنا الرب إلهنا،.

وتنطقتم كل واحد بعدة حربه،.

واستخففتم الصعود إلى الجبل.

فقال الرب لي:

قل لهم لا تصعدوا ولا تحاربوا لأني لست في وسطكم لئلاَّ تنكسروا أمام أعدائكم.

فكلمتكم ولم تسمعوا بل عصيتم قول الرب وطغيتم وصعدتم إلى الجبل.

فخرج الأموريون الساكنون في ذلك الجبل للقائكم وطردوكم كما يفعل النحل،.

وكسروكم في سعير إلى حرمة.

رجعتم وبكيتم أمام الرب ولم يسمع الرب لصوتكم ولا أصغي إليكم.

وقعدتم في قادش أيامًا كثيرة كالأيام التي قعدتم فيها "[41 - 46].

حين طلب الله منهم الصعود للحرب خافوا ورفضوا، وعندما أعلن غضبه عليهم وطلب إلاَّ يصعدوا لم يسمعوا وصعدوا. لم يكن الإيمان هو قائدهم، بل إرادتهم الخاصة، لذا في انسحابهم من الصعود كما في صعودهم للحرب كشفوا عن عصيانهم.

الخطية تجعل الإنسان عنيدًا مع الله محبوبه، حين طلب الله منهم أن يصعدوا ليحاربوا ويملكوا رفضوا (تث 1: 26)، وحين طلب منهم ألاَّ يصعدوا ولا يحاربوا فإنه لم يعد في وسطهم [42] مؤكدًا لهم إنهم سينهزمون. لم يسمعوا له بل صعدوا في تهوّرٍ وغباوة وعجرفة.

والعجيب أنه حتى حين أدبهم بسبب عصيانهم إذ لم يعد في وسطهم [42] لم يرد لهم أن ينكسروا أمام أعدائهم، فطلب ألاَّ يصعدوا ويحاربوا حتى يقدموا توبة فيعود ويسكن في وسطهم ويهبهم النصرة.

لم يحزنوا لأنهم عصوا الرب، ولا لكي يعودوا فيخضعوا لإرادته، وإنما لما حلّ بهم من هزيمة. لقد بكى الشعب أمام الرب، لكنها كانت دموع التماسيح التي قُدمت لا للتوبة الصادقة والرجوع إلى الله ليسلكوا بروح الإيمان، وإنما عادوا إليه لأجل ما حلّ بهم من خسارةٍ وعارٍ. لم تكن تشغلهم علاقتهم بالله، بل ما يصيبهم. بكوا، لكن لا بدموع التوبة والرغبة في الرجوع إلى الله باتضاع، وإنما دموع تحمل الكبرياء والتشامخ كيف ينظر الكل إليهم كفاشلين.

يقول الرسول بولس عن الحزن الحقيقي: "لأنكم حزنتم للتوبة، لأنكم حزنتم بحسب مشيئة الله". كم أنشأ فيكم من الاجتهاد "(2 كو 7: 10 - 11).

ذكر هنا أن الأموريين هم الذين طردوهم [44] بينما جاء في سفر العدد: "فنزل العمالقة والكنعانيون الساكنون في ذلك الجبل وضربوهم وكسروهم إلى حرمة" (عد 14: 45)، فقد استعار هنا اسم "الأموريين" بكونهم أعظم دولة قوية في كنعان في ذلك الحين ليُشير بهم إلى كل الكنعانيين بصفة عامة، وذلك كما جاء في (تث 1: 7) [32].

من وحي تثنية 1.

قدنا في رحلة غربتنا.

كفاكم قعود في هذا الجبل.

لتقل كلمة فتنطلق نفوسنا نحو كنعان السماوية.

ولا نسير حول جبال العالم في تيه.

  • لم تجعل الأرض أمامنا كما فعلت مع بني إسرائيل،.

بل فتحت أبواب السماء لندخل فيها،.

وقدمت لنا حضن الآب لنستقر فيه!

ليحملنا روحك القدوس فتستقر نفوسنا!

  • لم يقدر موسى أن يحتمل وحده أثقال الشعب.

أنت حملت خطاياي وشروري.

انطلقت بي من القفر العظيم المخوف،.

ودخلت بي إلى المقادس السماوية (قادش).

  • أمرتني: اصعد – اُملك – لا تخف!

بك اِصعد إذ صيرتني سماويًا.

بك أملك فإني ملك.

لا أخف لأني ابنك!

  • رفض الشعب القديم شمس مشورتك،.

وبعثوا بشموع الجواسيس.

استهانوا بوعدك وحكمتك.

عصوك ورفضوا بقلوبهم أرض الموعد.

هب لي روح الطاعة يا أيها الابن العجيب في طاعته.

  • أتطلع إلى الماضي فأراك تحمل آبائي على ذراعيك،.

أَشبعتهم من دسم حبك،.

وقدمت لهم وعودك الصادقة.

  • أخطأوا إليك،.

ولم يصدقوا وعودك الأمينة.

وبحبك حملتهم كما يحمل الأب ابنه.

لتحملني ولترفع عني روح العصيان.


[1] In Hebr hom. 28: 3.

[2] Gerhard von Rad: Deutronomy, 1966, p. 105 - 107; studies im Deutronomy` 1953, p. 15 - 16.

[3] Pulpit Commentary.

[4] QS 1: 16.

[5] QS 10: 10.

[6] QS 1: 18ff.

[7] J. A. Thompson: Deuteronomy (Tyndale O. T. Commentaires) , 1974, p. 11.

[8] Grhard von Rad: The Problem of the Hexateuch and On the Essays, 1966, p. 27 - 33.

[9] V. Korosec: Hethitische Staatvertrage, 1931.

[10] D. J. McCarthy: Treaty and Covenant Analcta Biblica, 21, 1963, p. 131 ff.

[11] Moshe Weinfield: Deuteronomy and the Deuteronomic School, 1972.

[12] S. R. Driver: A Critical and Exegetical Commentary on Deuteronomy, 1902, p. Ixxviii - Ixxxiv.

[13] J. Vernon McGee: Deuteronomy, 1991, p. viii.

[14] Ibid.

[15] Cf: The Pulpit Commentary, Deuteronomy.

[16] Josephus: Antiq. 4: 8,22.

[17] راجع للمؤلف: الخروج، ص 9.

[18] راجع للمؤلف: الخروج، ص 213، 214.

[19] راجع للمؤلف المزمور 119: غِنى كلمة الله ولذتها.

[20] راجع للمؤلف المزمور 119: غنى كلمة الله ولذتها.

[21] Discourse 22.

[22] In Defence of His Flight to , 77.

[23] Adam Clarke, Deuteronomy, 1.

[24] راجع سفر العدد، 1995م، أرض مصر 226.

[25] للمؤلف: سفر العدد، 1995م، ص225.

[26] Barnes’ Notes.

[27] Origen: In Num.

[28] In N um. Hom. 13.

[29] In 1 Cor. hom. 1: 4.

[30] J. McGee: Deutronomy, p. 15,16.

[31] Adam Clarke, Deuteronomy, 1.

[32] Barnes’ Notes.

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

الأصحاح الثاني - سفر التثنية - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفاسير سفر التثنية الأصحاح 1
تفاسير سفر التثنية الأصحاح 1