الأصحاح الأول – تفسير الرسالة إلى فيلبي – القمص أنطونيوس فكري

المقدمة

تنقسم بلاد اليونان إلى مقاطعتين رئيسيتين هما: إخائية فى الجنوب وأشهر مدنها كورنثوس وأثينا، ومقاطعة مكدونية فى الشمال وأشهر مدنها فيليبى وتسالونيكى. ولقد ضم فيلبس المكدونى فيليبى إلى مملكته سنة 356 ق. م ووسعّها وحصنّها ودعاها بإسمه. وفيلبس المكدونى هو أبو الإسكندر الأكبر.

وفيليبى تشمل مناجم ذهب. وهى طريق رئيسى بين أوروبا وآسيا. ولموقعها الجغرافى صارت مدينة تجارية هامة ولقد سقطت تحت يد الرومان سنة 168 ق. م وأصبحت فيما بعد كولونية (أع 16: 12). أى مستعمرة لها إمتيازات خاصة تحت حكم الرومان. ولقد أسكن أغسطس قيصر جنوده المنتصرين فيها مكافأة لهم. وكان سكانها يتمتعون بكل حقوق وامتيازات المواطن الروماني كسكان روما تماماً. ولا يدفع أهلها ضرائب، مما جعلهم يعتبرونها جزءاً من روما (وهذا معنى كولونية). ولذلك كان أهل فيليبى يفتخرون بهذا الوضع ولسبب رعويتهم الرومانية المتميزة. بل كانوا يلبسون أزياء رومانية، حتى صارت فيليبى صورة مصغرة لروما. وهكذا أيضا كانت طرسوس التى منها شاول الطرسوسى (بولس الرسول). لذلك كان بولس الرسول مواطن رومانى لأنه مولود فى طرسوس. وقبل إيمان فيليبى إنتشر فيها السحر والعرافة والعبادات الوثنية، أى أن الشيطان كان مسيطراً على أهل المدينة.

زارها بولس الرسول سنة 52 م حيث أسس أول كنيسة فى أوروبا بعد أن ظهر له فى رؤيا رجل مكدونى يطلب إليه قائلاً "أعبر إلينا وأعنا" (أع 9: 16). فآمن على يديه كثيرون منهم ليديا، وكانت ليديا أول من آمنت فى فيليبى. وفيها سُجِن الرسولان بولس وسيلا حيث أخرجهما الرب فكرزا للسجان وأهل بيته وكانا بولس وسيلا قد سُجنا بسبب ثورة حدثت حينما أخرج بولس الشياطين من العرافة فغضب أسيادها لانقطاع أرباحهم. وهم قبضوا على بولس وسيلا ظناً منهم أنهما يهوديان، ثم أدركوا أنهما رومانيان. وكان ليس من السهل القبض على الرومان إلاّ بحسب القانون الرومانى، لذلك إذ عرفوا أنهما رومانيان أطلقوا سراحهما.

تاريخ كتابتها:

يُرجح أنه نحو سنة 63 م قرب نهاية أسر بولس الأول فى روما، حيث كان يتوقع سرعة الإفراج عنه (13: 1، 25) + (2: 24، 23). ورسائل الأسر الأول هى أفسس وكولوسى وفيليبى وفليمون.

غرض الرسالة:

  • لما سمع أهل فيليبى أن بولس مسجون ومريض أرسلوا له أبفرودتس بالعطايا والهدايا. ولكن أبفرودتس مرض أثناء خدمته لبولس فى روما. وإذ مرض أبفرودتس وقارب الموت، سمع بذلك أهل فيليبى وحزنوا، فحزن الرسول على حزنهم وأرسل لهم يطمئنهم على أبفرودتس وأرسله لهم ليطمئنوا. وأرسل لهم أيضاً يشكرهم على عطاياهم ومحبتهم (25: 2 + 4: 18، 16، 10). وهو يشيد بهم لتبرعاتهم (2كو 11: 9، 8 + 8: 4، 3). ولنرى مشاعر الحب العجيبة فى محبة الكل للكل. وبولس لم يقبل مساعدة مالية سوى من أهل فيليبى وذلك لشعوره بمحبتهم الحقيقية ومشاعرهم الطيبة، أما هو عن نفسه فنعرف أنه قد تعلم أن يكون قنوعاً ومقتنعاً بما عنده حتى لو كان قليلاً. بل أن أهل فيليبى تبرعوا بالكثير لأورشليم (2كو8: 1 - 5) حيث ترى إشارة بولس الرسول لكرم كنائس مكدونية.
  • وردت كلمة الحب فى هذه الرسالة 11 مرة، وهى خالية من التوبيخ أو النقد، بل نرى فيها عواطف حارة نحو أبناء لهم مكانتهم الخاصة فى قلب الرسول، إذ ذهب إليهم برؤيا، وكانوا أول كنيسة يؤسسها فى أوروبا. ونرى فى الرسالة إهتمام الرسول برعيته المحبوبة. ومحبته الخاصة لهم وفرحته بهم إذ كانوا كنيسة قوية. وبالرغم من أسر الرسول وسجنه فالرسالة تنضح بنغمة الفرح، لقد تعلَّم الرسول أن يفرح بالرب كل حين. لقد حبسه العالم فى سجن ولكن لا يستطيع أحد أن يمنع تعزيات الله عنه، بالرغم من السلاسل والضرب والإهانات وهذا ما حدث مع الرسل (أع 41: 5). وهذا هو معنى الإنتصار فى المسيحية. فالانتصار ليس في الخروج من التجربة أو إنتهاء الألم أو الظروف المكدرة بل فى إستمرار الفرح والتعزيات حتى فى وسط التجربة.

مثال: الثلاثة فتية فى أتون النار. فالله لم يطفىء النار بل جاء وسطهم وحوَّل النار إلى جنة يسيرون فيها. وهذه هى طريقة الله. فهو لا يخرجنا من التجربة بل يعطينا التعزية وسط التجربة "شماله تحت رأسى ويمينه تعانقنى" (نش 6: 2). بل نرى أنه ولا حتى الموت صار من الأمور المقاومة لنا، فالموت سيقودنا للسماء، فإن كنا نحيا فى السماء من الآن كعربون لما سوف نأخذه بعد ذلك "سيرتنا فى السماوات" (فى20: 3). فإننا بالتأكيد سنشتهى أن نذهب فعلاً إلى السماء (فى23: 1). المسيحية جعلتنا نحيا فى السماويات الآن كعربون (أف6: 2). وجعلت الموت شهوة. هذه هي الغلبة على الموت، وهذا هو الإنتصار فى المسيحية على الألم، أى الفرح الذى لا ينزعه أحد منا (يو22: 16). مهما كانت الظروف مكدرة. نحن نعيش منتظرين بشوق مجىء المخلص. ولقد وردت كلمة الفرح فى هذه الرسالة 16 مرة، لذلك فهى رسالة حب وفرح. حب من راعٍ أمين لرعيته، وحب من الرعية لراعيها، وحب بين أفراد الرعية بعضهم لبعض، ودعوة للحب الحقيقى بينهم ونبذ الذات، ليستمر هذا الحب ويستمر هذا الفرح وسط الضيقات، وتستمر التعزيات الإلهية وسط طريق الألم. عموماً فلا فرح بدون محبة ولا محبة بدون فرح. فالفرح ناشىء عن المحبة، وثمار الروح "محبة، فرح، سلام..." (غل22: 5) وهذه هى الحالة الفردوسية الأولى فى جنة عَدْنْ (عَدْنْ تعنى فرح) إذ كان آدم يحب الله ويحب حواء قبل الخطية. والله بعد فدائه لنا تركنا في العالم المملوء بالألم ولكنه قادر أن يملأ قلوب أولاده بالفرح والسلام والتعزية (يو 22: 16).

  • يبدو أن البعض من المتهودين والمتفلسفين (غالباً من الغنوسيين) كرزوا بالمسيح أثناء سجن الرسول بغرض سىء، ألاّ وهو إغاظة بولس الرسول، ولكى يتعرض لضيقات أكثر، فجاءت نغمة الرسالة، وحدانية الروح والفرح. والرسول إنتهز الفرصة ليعطيهم بعض التعاليم ضد ما سمعوه من أفكار فلسفية ومن متهودين من الذين كرزوا لإغاظته.
  • الله قادر أن يخرج من الجافى حلاوة. فنجد أن الرسول استغل فرصة سجنه وبشر كثيرين من الجنود، بل ومن بيت قيصر. وهنا نجد الرسول يُطمئن أهل فيليبى على إستمرار خدمته وسط آلامه وسجنه، وأن كلمة الله لا تُقيد.
  • كان للنساء عملهن وخدمتهن فى الكنيسة، ويبدو أن إختلافاً فى الفكر دب بينهن (2: 4). لذلك أكثر الرسول من كلمة "جميعكم"، مع التشديد على الوحدانية وحثهم على نكران الذات والتواضع، وطلب الصلح بين سيدتين خادمتين هما أفودية وسنتيخى، ويبدو أنهما كانا لهما مركزاً هاماً فى كنيسة فيليبى. ولكن يبدو أنه لم يكن فى كنيسة فيليبى خلافات تُذكر سوى خلاف هاتين السيدتين.
  • نلاحظ أن حالة أهل فيليبى كانت جيدة، فلم يكن هناك داعٍ لأن يوبخهم على شىء، ولا نرى فيها تعليماً مرتباً كما فى رسالة رومية مثلاً، لذلك فهى تتضمن ما يختص باختبارات القديسين وهم فى حالة مُرْضِية لله.
  • الرسول هنا كان يرسل لأصدقاء فحدثهم عن أخباره وأخبار نجاح خدمته.
  • كان عدد اليهود الذين أقاموا فى فيليبى قليلاً جداً، ولم يكن هناك مجمع لليهود. بل كان النسوة يجتمعن على شاطىء النهر للعبادة. لذلك كان تعصب اليهود فى فيليبى لا يُذكر. وكان هناك مذبح لإله وثنى على جبل قرب المدينة. ويبدو أن اجتماع اليهود عند هذا النهر كان ينضم إليه بعض الوثنيين، فليديا الوثنية كانت حاضرة لخطاب بولس فى هذا الاجتماع وآمنت. وربما تكون ليديا قد تهودت، قبل أن تؤمن بالمسيح على يدى بولس.
  • عَيَّرَ الوثنيون المؤمنين فى فيليبى بأنهم عبدوا إنساناً حُكِمَ عليه بالموت صلباً، وهذه الميتة هى أحقر ميتة عند الرومان واليونان، لذلك فالرسول يوضح لهم فضل معرفة المسيح المصلوب. وربما بدأ الوثنيون يتهمون المسيحيين بإنشاء دين محرم جديد، فيقول لهم الرسول "وُهِبَ لكم أن تتألموا" (فى 29: 1).
  • كتب لهم الرسول يذكرهم بأنهم إن كانوا يفتخرون برعويتهم الرومانية، فعليهم بالأولى أن يفتخروا برعويتهم السماوية.
  • حمل أبفرودتس هذه الرسالة لأهل فيليبى لكى يطمإنوا على صحته.

ينظر الرسول على كنيسة فيليبى وهم بدونه، كمعلم ومصلح لأخطائهم ومشجع لهم ليعلمهم أن يلقوا برجائهم على الرب وحده.

الإصحاح الأول

الأعداد 1-2

الأيات (1 - 2): -

1بُولُسُ وَتِيمُوثَاوُسُ عَبْدَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، إِلَى جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، الَّذِينَ فِي فِيلِبِّي، مَعَ أَسَاقِفَةٍ وَشَمَامِسَةٍ: 2نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. ".

بولس: بعد إيمان بولس اختار اسمه اليونانى (أما شاول فهو اسمه العبرى). وبولس يعنى الصغير، وربما يكون هذا لتواضعه أنه إختار اسم الصغير (أف8: 3)، أو إعلاناً عن حياته الجديدة فى المسيح يسوع فلقد إستخدم إسماً جديداً، وربما لأنه صار رسولاً للأمم فقد استخدم الإسم اليونانى. والرسول هنا لم يصرِّح بلقبه الرسمى كرسول للمسيح كما فعل فى معظم رسائله، فأهل فيليبى أصدقاء له لا يَشُكُّون فيه ولا فى رسوليته وهكذا فعل فى رسالته لأهل تسالونيكى. وتيموثاوس: هو مساعد بولس فى كرازته لأهل فيليبى، وتيموثاوس معروف عندهم، ولكن كاتب الرسالة هو بولس فقط، فهو يستخدم ضمير المفرد المتكلم بعد ذلك، أما تيموثاوس فهو يرسل سلامه فقط. ومن تواضع بولس أن يذكر اسم إبنه معهُ على قدم المساواة. عبدا: فالمسيح اشتراهما بدمه، والمسيح حين يشترى أحداً فإنه يحرره ويطلقه حراً، بل يعتبره ابناً، ولذلك اختار حتى أقرباء المسيح بالجسد (يعقوب ويهوذا) لقب عبد للمسيح (يع1: 1) + (يه1)، ولم يقولا إخوة يسوع بالجسد فهم يعلمون أن العبودية للمسيح تحرر، أمّا العبودية للشيطان ففيها مذلة وهوان. العبودية لله تحرر والدليل أن الله يترك الملايين تنكره وتهين إسمه. بينما العبودية لأي شهوة تذل.

جميع القديسين فى المسيح: قديس أى أفرز نفسه عن كل ما للعالم وصار للرب يسوع عبداً مستعداً دائماً لطاعة أوامر سيده، خصص تفكيره وكل طاقاته له طالبا السماويات زاهدا فى الأرضيات. ونحن إذ نشعر بمحبة المسيح نستعبد أنفسنا له، لمحبته.

فى المسيح: تعبير خاص ببولس الرسول يشير للاتحاد بالمسيح والثبات فيه (بالإيمان والمعمودية...). ونلاحظ أنه لا قداسة إلا في المسيح يسوع.

أساقفة: كان لقب أسقف يطلق على القسوس (وقيل عن الرسل قسوس (1بط 1: 5) وهذه مترجمة شيوخ). ولقب قسوس يُطلق على الأساقفة (أع17: 20، 28).

شمامسة: مع القسوس يساعدون الأسقف.

نعمة وسلام: نعمة: "خاريس" وهى التحية اليونانية بمعنى: أرجو أن تحصل على نعمة غنية تناسب حاجتك، فالنعمة هى عطية حسنة مجانية. وسلام: هى التحية عند اليهود. والمعنى أن يحل السلام على السامع كعطية إلهية.

والنعمة فى المسيحية هى إشارة لكل البركات التى حَلَّتْ علينا بسبب تجسد المسيح وفدائه. وأعظم البركات التى حصلنا عليها هو الروح القدس، ومن ثماره السلام. وبولس تعوَّد على استعمال هذه التحية ليشير أن المسيح للجميع (يهوداً ويونانيين أى أمم). وهذه التحية كانت تنطق باللغتين اليونانية والعبرية خاريس شالوم (شالوم عبرية).

وفى المسيح وحده ننال النعمة من الآب كهبة مجانية لخلاصنا والتى بها نقتنى السلام كدليل للعمل الخلاصى فينا أى المصالحة.

من الله أبينا والرب يسوع: الآب والإبن فى مساواة جوهرية يمنحان النعمة والسلام. والآب هو العامل الأول لخلاصنا بمحبته، والابن الكلمة عامل فى خلاصنا بتجسده. (الآب يريد والإبن والروح القدس أقنومى التنفيذ) والله هو أبينا (يو 12: 1) ونصلي له قائلين أبانا.

آية (3): - "3أَشْكُرُ إِلهِي عِنْدَ كُلِّ ذِكْرِي إِيَّاكُمْ".

إلهى: الرسول يبدأ كل رسائله بتقديم الشكر لله (وهذا منهج الكنيسة التى تبدأ كل صلواتها بصلاة الشكر). وهنا يشكر الله على ثبات إيمان ومحبة أهل فيليبى لله، وهذه المحبة قد ظهرت فى عطاياهم وشعورهم بإحتياجات الآخرين، وهو يشكر الله على نجاح خدمته فى فيليبى وهذه هى ثمارها. وقوله إلهى هو شعور حلو، فبولس يشعر بعلاقة خاصة مع الله. هو يحسب أن الله إلهه هو، كما قال "الذى أحبنى وأسلم ذاته لأجلى" (غل 20: 2). وهذا كقول عروس النشيد "أنا لحبيبى وحبيبى لى". ومن أعطى نفسه لله يشعر وكأن الله أيضاً صار لهُ. ولاحظ قول بطرس (أع 6: 3) "ولكن الذى لى فإياه أعطيك بإسم يسوع المسيح الناصرى قم وامشى".

الأعداد 3-6

الأيات (4 - 6): -

"4دَائِمًا فِي كُلِّ أَدْعِيَتِي، مُقَدِّمًا الطَّلْبَةَ لأَجْلِ جَمِيعِكُمْ بِفَرَحٍ، 5لِسَبَبِ مُشَارَكَتِكُمْ فِي الإِنْجِيلِ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ إِلَى الآنَ. 6 وَاثِقًا بِهذَا عَيْنِهِ أَنَّ الَّذِي ابْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحًا يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.".

في كل أدعيتي: بولس يصلي كل حين فهو الذي قال صلوا بلا انقطاع وهذا يعطى للنفس سلاماً وفرحاً. فإشراك الله في مشاكلي أفضل من تفكيري منفرداً في حلها. فتفكيري منفرداً يصيبني باليأس. أما تفكيري بروح الصلاة وإشراك الله مثلاً أقول: يارب حل مشكلتي، أنا واثق أنك في محبتك لن تتركنى، اللهم التفت إلى معونتي. وبهذا فقط نمتلئ من الرجاء وسلام الله الذي يفوق كل عقل وتنسكب التعزيات الإلهية خلال الصلاة أي صلتك بالله.

بفرح: هى رسالة الفرح، وهو فرِح وراضٍ عن حالتهم الإيمانية. هو فرح بالرغم من آلامه وسجنه، فالفرح الروحى لا يستطيع أحد أن ينزعه (يو16: 22).

مشاركتكم فى الإنجيل: أى مساهمتهم فى احتياجات الكرازة بالإنجيل سواء بالمال أو بالشهادة للإنجيل فى حياتهم أو بكرازتهم بلا خوف. هى شركة متبادلة فى عمل واحد لهدف واحد وهو تقدم الإنجيل. فكلمة شريك هنا باليونانية هى العصا التى تربط رقبتى ثورين يجران نورج. فأهل فيليبى ارتبطوا بالإنجيل وارتبطوا ببولس الذي بشرهم بالإنجيل وشاركوه قيوده إذ أرسلوا إليه من يخدمه، وشاركوه فى المحاماة عن الإنجيل، وشاركوه فى نفقات المعيشة.

من أول يوم إلى الآن: من يوم إهتدوا للمسيحية حتى وقت كتابة هذه الرسالة، أى حوالى عشر سنوات. ابتدأ فيكم عملاً صالحًا: بالإيمان والمعمودية أصبحوا خليقة جديدة، والله سيكمل معهم هذا العمل بإحتمالهم للألام ليشتركوا مع المسيح فى صليبه ويتكملوا فيليقوا بحياة القيامة. والله ليس عنده تغيير أو ظل دوران، فإذا إبتدأ عملاً فهو سيكمله، والله إذاً سيكمل معهم طريق القداسة والأعمال الصالحة. ويوم خلق الله آدم فهو عمل عملاً صالحاً، فهو قد خلق آدم ليحيا فى مجد، ولما فقد آدم المجد تجسد المسيح ليكمل العمل الذى بدأه.

وأن إلهنا إله جبار لن يترك أولاده بسهولة في يد إبليس، ولكن إن تركه أولاده بحريتهم مثل ديماس (2 تي1: 4)، وتركوه بالرغم من محاولات الله إرجاعهم، حينئذ يهلكون وهذا يتضح من (في19، 18: 3).

يوم يسوع المسيح: يوم المجىء الثانى للمسيح الذى سيأتى فيه للدينونة. ولاحظ أنه يقول "يسوع المسيح" إذا أراد الإشارة إلى أنه ابن الإنسان الذى تجسد ومات وقام وسيأتى فى مجده. ويقول "المسيح يسوع" (1: 1)، إذا أراد الإشارة له كالأقنوم الثانى.

أدعيتى: بالصلاة نستمد من الله نعمته الفعّالة، ولاحظ أن خادم بلا صلاة يدعو فيها الله، لن يحقق شيئًا فى خدمته.

تأمل: ابتدأ.. يكمل: الله لا يبدأ عملاً بدون قصد، بل هو إن بدأ العمل لابد وسيكمله. والله دعانا، لذلك فهو سيكمل معنا. لو نظرنا لقوة العدو نيأس، ولكن إن نظرنا لعمل الرب نتشجع ونتعزى ونسير فوق المياه الهائجة (مت22: 14 - 33). فبطرس حين نظر للمسيح سار فوق الماء الهائج، ولما نظر للريح الشديدة غرق.

وبولس الرسول يقول هذا لأنه يعلم أن المتهودين وغيرهم يشوشون على الإيمان الصحيح الذى غرسه بولس الرسول فى فيليبى. ويقول بولس هنا أنه واثق من أن الله لن يتركهم إذ هو بدأ ودعاهم للإيمان وقبلهم، إذاً فالله سيكمل معهم ولن يتركهم ويصحح أخطاء المتهودين. ولذلك قال الرسول أنه يفرح بعمل هؤلاء المتهودين لأنهم ينشرون إسم المسيح، وهو واثق أن الله سيكمل معهم ويصحح ما سمعوه من هؤلاء.

الأعداد 7-8

الأيات (7 - 8): -

"7كَمَا يَحِقُّ لِي أَنْ أَفْتَكِرَ هذَا مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ، لأَنِّي حَافِظُكُمْ فِي قَلْبِي، فِي وُثُقِي، وَفِي الْمُحَامَاةِ عَنِ الإِنْجِيلِ وَتَثْبِيتِهِ، أَنْتُمُ الَّذِينَ جَمِيعُكُمْ شُرَكَائِي فِي النِّعْمَةِ. 8فَإِنَّ اللهَ شَاهِدٌ لِي كَيْفَ أَشْتَاقُ إِلَى جَمِيعِكُمْ فِي أَحْشَاءِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.".

كما يحق لى أن أفتكر: يحق لى أن أفرح بكم، وأثق أن الله سيكمل معكم، هذا تعبير عن محبته لهم وثقته فيهم، وثقته فى عمل الله معهم. حافظكم فى قلبى هو يحملهم فى قلبه، أى يذكرهم ويفكر فيهم ويصلى لأجلهم، ويفرح بأخبارهم المطمئنة، وينشغل وينزعج إذا سمع عن هراطقة يزعجونهم، ولم تشغله آلامه وقيوده واهتمامه بالكرازة فى بيت قيصر عن أن يذكرهم ويصلى لأجلهم ويهتم بهم، هو أحب أهل فيليبى كنفسه.

وفى المحاماة عن الإنجيل وتثبيته: الله يحفظ إنجيله، وبولس يحامى عنه (وهكذا نحن) بأن يعلن الإيمان الصحيح ويرد على كل الهراطقة ليثبِّت التعاليم والإيمان الصحيح: وتثبيته. وفى كل إنشغاله هذا لم ينشغل عنهم فهم فى قلبه ويذكرهم فى صلواته.

شركائى فى النعمة: المسيح مات وقام لأجلنا جميعاً، ونحن شركاء فى كل ما تم الحصول عليه، وشركاء فى حلول الروح القدس علينا جميعاً. حقاً ليس لأهل فيليبى نفس مواهب بولس، لكن الكل شريك فى نعمة الخلاص بفداء المسيح وفى حلول الروح القدس عليه. لكن لكل واحد مواهبه بحسب العمل المطلوب منه.

فى أحشاء يسوع: الأحشاء هى القلب والكبد. وقد عرفها القدماء أنها مركز العواطف والإحساس، وقوله أحشاء يسوع، أى أنه يحمل لهم محبة المسيح = أى محبة حقيقية وليست غاشة، محبة هى من ثمار الروح القدس، محبة فيها إشتياق لخلاصهم. ولأن المسيح يحيا فى بولس صارت أعضاء وعواطف وفكر بولس هي أعضاء وعواطف وفكر يستعملهم المسيح فصارت أعضاء بولس آلات بر (رو6: 13)، وصارت محبة بولس لهم هى نفسها محبة المسيح لهم، ألم يقل الرسول إن له "فكر المسيح" (1كو16: 2). وهكذا هنا نرى أن الرسول له نفس اشتياقات المسيح ومحبته نحو أهل فيليبى، وقوله في أحشاء يسوع أي أنها ليست عواطف بشرية.

وهذه المحبة التي يضعها المسيح في قلوبنا بالروح القدس (رو5: 5) + (غلا 5: 22) هى غير العواطف الطبيعية البشرية. فالعواطف البشرية لها عيوب:

  1. يمكن أن نحب إنسان أكثر من إنسان آخر.
  2. هذه المحبة البشرية قد تتحول إلى كراهية وكم من القضايا في المحاكم بين أخوة وأقارب.
  3. بل يمكن أن تكون العواطف البشرية سبباً في التصادم مع الله لو سمح الله بأى تجربة لمن نحبه.
  4. أما المحبة التي يضعها الله في القلب، فهي محبة لله أولاً وهذه المحبة تكون أكثر من محبتنا لأي إنسان، ومحبة لكل إنسان حتى أعدائنا وهذه المحبة تسبب فرحاً يملأ القلب.

الأعداد 9-11

الأيات (9 - 11): -

"9 وَهذَا أُصَلِّيهِ: أَنْ تَزْدَادَ مَحَبَّتُكُمْ أَيْضًا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ فِي الْمَعْرِفَةِ وَفِي كُلِّ فَهْمٍ، 10حَتَّى تُمَيِّزُوا الأُمُورَ الْمُتَخَالِفَةَ، لِكَيْ تَكُونُوا مُخْلِصِينَ وَبِلاَ عَثْرَةٍ إِلَى يَوْمِ الْمَسِيحِ، 11مَمْلُوئِينَ مِنْ ثَمَرِ الْبِرِّ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِمَجْدِ اللهِ وَحَمْدِهِ.".

حينما اختبر بولس هذه المحبة التي يعطيها الله طلب أن يملأ الله شعب فيلبى من هذه المحبة.

أن تزداد محبتكم.. فى المعرفة: بولس الذي اختبر المحبة التي وضعها المسيح في قلبه يصلي لكل أهل فيلبي أن يمتلئوا من هذه المحبة. محبة بولس لهم ترجمها إلى صلوات من أجل أن تزداد محبتهم وتنمو، فيكون لهم خلاص لنفوسهم. فالمحبة هى تمام الناموس وتمام الإنجيل، وهى لله أولاً ولكل إنسان حتى الأعداء، هى علامة حلول روح الله القدوس فينا (غل 22: 5) + (رو5: 5) وبدون محبة لا خلاص إذ أننا سنكون فاقدين لصورة الله. وهناك إرتباط جوهرى بين المحبة والمعرفة. فكلما زادت المحبة زادت المعرفة (أف16: 3ـ19). وهذه مثل رجل غنى له قصر عظيم، فأنت لن تدرك عظمة هذا القصر، ولا أفكار وخطط هذا الرجل العظيم ما لم تدخل إلى قصره، وهذا لن يحدث إلاّ لو دخلت فى علاقة محبة مع هذا الرجل، حينئذ يدعوك إلى قصره فتعرف عنه أشياء عجيبة، هكذا إذا دخلنا فى علاقة حب مع الله سيعطينا أن نعرف أمجاده بل أعماقه (1كو 9: 2 - 12). وأيضاً كلما زادت معرفتنا بالله تزداد محبتنا له. وهذا يأتى بمعرفة كلمة الله فى الإنجيل، وبالصلاة يكشف لنا الروح القدس عن من هو المسيح (يو14: 16). وكلما اكتشفنا من هو المسيح نزداد حباً له.. وهكذا كلما إزداد الحب إزدادت المعرفة، وهكذا إذ دخل إبراهيم فى حالة حب مع الله قال الله: كيف أخفى عن عبدى إبراهيم ما أنا فاعله. وكلما إزدادت المعرفة إزداد الحب. لماذا؟ الإجابة: لحلاوة شخص الله فكلما نكتشف شخص الله وحلاوته نحبه بالأكثر وهذه حلقة لا تنتهى بل هذه هى الحياة الأبدية (يو 17: 3). إذاً كلما إزداد الحب إزدادت المعرفة وكلما إزدادت المعرفة إزداد الفرح، وكلما إزدادت المعرفة وإزداد الحب إزداد الإيمان والثقة فى الله. فإذ عرفنا قوته وقدراته، وأنه لمحبته يوجه كل هذه القدرات لنا نزداد إيماناً به. وهذه هى أول طريقة لزيادة الإيمان. والطريقة الثانية أشار إليها القديس بولس الرسول فى (كو 7: 2). "موطدين فى الإيمان.. متفاضلين فيه بالشكر” فمن يحيا شاكراً الله فى ضيقاته يرى يد الله ويعرفه فيزداد إيمانه.

وفى كل فهم: المعرفة هى المعرفة المجردة. والفهم هو فى تطبيق ما عرفناه فيصبح الإنجيل إنجيل معاش. فالفداء معرفة ولكن الفهم كيف أعيش هذا الكلام، وكيف أنفذ وصايا من أحبنى وأقبل صليبه. وبهذا تزداد معرفة المسيح وبالتالى يزداد الحب له، وتبعاً لذلك يزداد الإيمان به، فلا نهتز ولا ننهار أمام التجارب مهما كانت شديدة وعاتية، وهذا معنى مثل البيت المبنى على الصخر الذى لا ينهار من العواصف والرياح والأنهار (مت 24: 7 - 27). والمقصود أن من ينفذ التعاليم ولا تظل تعاليم المسيح مجرد تعاليم نظرية (معرفة) بالنسبة له بل تتحول إلى حياة، سيعرف المسيح وتزداد المحبة وبالتالى الإيمان، فلا يشك وقت التجربة.

حتى تميزوا الأمور المتخالفة: من يمتلىء معرفة ومحبة سيميز الأمور المتخالفة وفى ترجمة أخرى "لكى تستحسنوا ما هو أفضل" فالمسيحية ليست ديانة الحرام والحلال بل اختيار الأحسن من الحسن. هى إنسان قد تذوق، ومن تذوق سيكون له القدرة على التمييز ليس بين ما هو باطل وما هو خير، بل ما هو الأحسن فى الأمور المعروضة علينا. عموماً زيادة المحبة تعطى إستنارة فيكون للإنسان تمييز الأمور المختلفة. وهذا يحدث لمن له النظرة البسيطة "فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً" (مت22: 6). والعين البسيطة هى التى تبحث فقط عن مجد الله، تطلب فقط أن تعرف الله وتعرف كل شىء عنه، فتعرفه، فتحبه، فتعطيه المجد. فيحل المسيح نور العالم في هذا الإنسان فيصبح نيراً.

مُخِلصِينْ: معناها فى اليونانية مُخْتَبَرين فى نور الشمس الكامل وَوُجِدْتُمْ أنقياء بلا عثرة إلى يوم المسيح: أى حتى يأتى المسيح للدينونة. بلا عثرة: لا تعثروا أحداً.

ثمر البر الذى بيسوع المسيح: بر القديسين لا يحصلوا عليه بالناموس ولا بالطبيعة ولكن بالثبات فى المسيح والاتحاد به، لنصير كغصن فى كرمة، والغصن لا يأتى بثمر إن لم يثبت فى الكرمة (يو4: 15). والثبات فى المسيح يأتى بالإيمان والمعمودية وحياة التوبة والجهاد وذلك للامتلاء بالروح القدس الذى يثبتنا فى المسيح فنثمر (2كو21: 1). ونلاحظ أن البر هو المسيح، ولا بر سوى بحياة المسيح فينا (غل20: 2) + (فى21: 1) + (رو10: 5). ولماذا لا يحيا المسيح فينا؟ ببساطة لأننا لم نقبل الصلب مع المسيح. "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ".

لمجد الله وحمده: الحياة فى المسيح لها ثمرها الذى سيظهر فى حياتنا وهذا سيؤدى إلى مجد الله حين يرى الناس أعمالنا الصالحة فيمجدوا أبانا الذى فى السموات (مت 16: 5).

الأعداد 12-14

الأيات (12 - 14): -

12ثُمَّ أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَّ أُمُورِي قَدْ آلَتْ أَكْثَرَ إِلَى تَقَدُّمِ الإِنْجِيلِ، 13حَتَّى إِنَّ وُثُقِي صَارَتْ ظَاهِرَةً فِي الْمَسِيحِ فِي كُلِّ دَارِ الْوِلاَيَةِ وَفِي بَاقِي الأَمَاكِنِ أَجْمَعَ. 14 وَأَكْثَرُ الإِخْوَةِ، وَهُمْ وَاثِقُونَ فِي الرَّبِّ بِوُثُقِي، يَجْتَرِئُونَ أَكْثَرَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِالْكَلِمَةِ بِلاَ خَوْفٍ. ".

تقدم الإنجيل: هى كلمة يونانية تعنى مجموعة متقدمة للجيش تقوم بتقطيع خشب الأشجار فى الغابات لتسهيل مرور الجيش، فبولس بخدمته يمهد الطريق لإنتشار كلمة الله. أمورى: أحوالى فى فترة سجنى، وهى حوالى سنتين، وما قبلها من غرق السفينة والمشاكل التى صادفها فى رحلته، والآن يده مربوطة بيد حارس. آلت: كان الظن أن السجن سيكون عائقاً عن الكرازة ولكن حدث العكس. فالله قادر أن يُخرج من الجافى حلاوة. ولاحظ أن الخدمة هى خدمة الله، وبولس وبطرس وغيرهم أدوات فى يد الله. بل أن الإستشهاد كان سبباً فى نمو الكنيسة الأولى وثقى صارت ظاهرة: ظهرت براءتى من أى جريمة منسوبة إلىَّ، وعلموا أن وثقه سببها محبته للمسيح الذى كان يبشر به وليس لذنب جناه، صاروا لا يرونه سجيناً عادياً، ولم يخطئوا فهم قيوده، أى فهموا أنه ليس مجرماً يستحق هذه القيود. دار الولاية: الكلمة تعنى ثكنة العسكر، أو جنود الحرس الإمبراطورى أو البلاط الإمبراطورى، ومكانهم فى مبنى ملحق بالقصر. وهنا يطمئن الرسول أهل فيليبى أن السلاسل لم تمنع الكرازة، بل هو نشر الكرازة عن طريق الجنود المربوطين معه بالسلاسل، إذ شرح لهم سبب سلاسله وهو محبته للمسيح، وبشرهم بالمسيح، أو هم سمعوا كلام بولس مع من يزورونه من أصدقائه فعرفوا المسيح، بل نشروا هذه الدعوة ليس فى دار الولاية فقط بل فى خارجها = فى باقى الأماكن أجمع. بل أن أكثر الإخوة إذ رأوا شجاعة بولس تشجعوا وازدادت ثقتهم فى الرب وكرزوا بلا خوف، واحتملوا الآلام فى سبيل هذا. والمسيحية انتشرت فى رومية عموماً عن طريق مؤمنين عرفوا المسيح ثم جالوا يكرزون بالكلمة. الرسول هنا يرد على تساؤل وشَكْ قد يصيب أهل فيليبى أو غيرهم، وهو كيف أن هذا الرسول العظيم يسمح الله بسجنه مع أن تعاليمه صحيحة؟! والرد أن الله قادر أن يُحوِّل كل الأمور لتعمل معاً للخير. فلا ننظر إلى المشاكل على أنها معوقات، بل إذا سمح بها الرب فهى ستعود بالخير. فالرسول بولس أخطأ فى ذهابه إلى أورشليم بعد إنذارات الروح القدس له أنه سَيُقَيَّدْ. ولكنه من فرط غيرته ومحبته أصر على الذهاب فسُجِنَ. غير أنه لم يضيع وقته فى الندم على ما فات بل إمتد بنظره إلى قدام وبدأ يكرز وهو فى السجن ولم يندم على الأربع سنين التى ضاعت فى الأسر (سنتين فى فلسطين وسنتين فى حبس دار الولاية فى رومية). ولكن الله يحوِّل الأمور للخير. فما كان ممكناً لبولس أن يصل إلى قصر قيصر سوى بهذه الوسيلة أى سجنه.

واثقون فى الرب بوثقى: لقد رأوا أن وثقى لم تكن عائقاً يمنعنى من الفرح أو الكرازة فتشجعوا فبالأولى يكرزون وهم أحرار بلا قيود. علينا ألا نخاف إذا هبت رياح معاكسة، ولا أن نحكم بحسب الظاهر أن العمل سيتوقف، ومجد الله لن يظهر.

الأعداد 15-17

الأيات (15 - 17): -

"15أَمَّا قَوْمٌ فَعَنْ حَسَدٍ وَخِصَامٍ يَكْرِزُونَ بِالْمَسِيحِ، وَأَمَّا قَوْمٌ فَعَنْ مَسَرَّةٍ. 16فَهؤُلاَءِ عَنْ تَحَزُّبٍ يُنَادُونَ بِالْمَسِيحِ لاَ عَنْ إِخْلاَصٍ، ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يُضِيفُونَ إِلَى وُثُقِي ضِيقًا. 17 وَأُولئِكَ عَنْ مَحَبَّةٍ، عَالِمِينَ أَنِّي مَوْضُوعٌ لِحِمَايَةِ الإِنْجِيلِ.".

عن حسد وخصام = كان هؤلاء من المتهودين (يهود آمنوا بالمسيح لكنهم يرون أن الأممى عليه أن يلتزم بالناموس أولاً قبل أن يصبح مسيحياً).

وهؤلاء المتهودين غاظهم إهمال بولس للطقوس الناموسية، ولم يهدأ بولس فى الهجوم عليهم وعلى معتقداتهم، وظل يعمل على تصحيح تعاليمهم. والآن فبولس مسجون، وكان أن قام هؤلاء عن غيرة ومنافسة تحركهم دوافع غير نقية، ويُظهرون غيرة شديدة فى كرازتهم لعلهم يبلغون صيتاً حسناً وسمعة طيبة أفضل من بولس. هؤلاء يعملون لمنفعتهم الخاصة وتمجيد ذواتهم لا لأجل مجد المسيح. وهم يظنوا أن نجاحهم فى الكرازة سيضعف مكانة بولس ويضيف إلى ضيقاته ضيقا وهو فى سجنه، وفي توقفه عن الكرازة التى يعانى منها فعلاً. لذلك فهم لا أجر لهم.

تحزب = جاءت فى اليونانية أنهم يعملون لمنفعتهم الخاصة، وتشير للتنافس.

عن مسرة = هؤلاء كانوا يكرزون برضا وسرور لمجد المسيح وحتى يجعلوا بولس مسروراً. عن محبة = لله ولبولس. عالمين إنى موضوع لحماية الإنجيل = موضوع أى مُعيّن لهذه الخدمة، هم علموا أن الله عيننى لهذا، أى أن أدافع كجندى وأحامى عن الإنجيل من اليهود والمتهودين والوثنيين والشيطان، وذلك بأن أعلن الحق أمام هجوم الهراطقة على الإيمان الصحيح.

الأعداد 18-20

الأيات (18 - 20): -

"18فَمَاذَا؟ غَيْرَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ سَوَاءٌ كَانَ بِعِلَّةٍ أَمْ بِحَقّ يُنَادَى بِالْمَسِيحِ، وَبِهذَا أَنَا أَفْرَحُ. بَلْ سَأَفْرَحُ أَيْضًا. 19لأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ هذَا يَؤُولُ لِي إِلَى خَلاَصٍ بِطَلْبَتِكُمْ وَمُؤَازَرَةِ رُوحِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، 20حَسَبَ انْتِظَارِي وَرَجَائِي أَنِّي لاَ أُخْزَى فِي شَيْءٍ، بَلْ بِكُلِّ مُجَاهَرَةٍ كَمَا فِي كُلِّ حِينٍ، كَذلِكَ الآنَ، يَتَعَظَّمُ الْمَسِيحُ فِي جَسَدِي، سَوَاءٌ كَانَ بِحَيَاةٍ أَمْ بِمَوْتٍ.".

سواء كان بعلة أم بحق = سواء كانت دوافعهم للكرازة عن تحزب ورغبة فى تمجيد ذواتهم، أم بإخلاص ورغبة فى مجد المسيح.

بهذا أنا أفرح = هم ظنوا أننى سأتضايق من كرازتهم وشهرتهم، إلا أنهم مخطئين، فأنا أفرح بأن الكرازة تنتشر. بل هو يفرح لوجوده فى السجن الذى حرك كثيرين للكرازة مهما كانت دوافعهم. بولس فرح بإنتشار إسم المسيح، وهو واثق أن الله إستخدم القليل الذى لدى هؤلاء ليبدأ معهم، ثم إذا كان الله قد بدأ فهو سيكمل وسيصحح لهم معلوماتهم ويكمل إيمانهم، لذلك لا يجب أن ننزعج لوجود طوائف كثيرة بل نسعى أن نكمل نقائصهم.

يؤول لخلاص = الخلاص له عمل هنا على الأرض وحياة أبدية فى السماء. ولكن ما هو سر فرح بولس الرسول من كرازة هؤلاء؟

  1. كل ألم فى حياة بولس لأجل المسيح سيؤول ذلك إلى رصيد له فى السماء (لو13: 21).
  2. كلما ازدادت ضيقات بولس من هؤلاء المضايقين يرتمى بالأكثر فى أحضان المسيح فتزداد تعزياته.
  3. عمل بولس هو إنتشار الإنجيل، والله أبقى حياته إلى هذه اللحظة لهذا السبب، فكلما إنتشر الإنجيل فهو يفرح لأن هدف وجوده قد تحقق. ولو تحقق هدف وجوده يخلص فى الحياة الأبدية. فمن يسمع هؤلاء المغرضين لن يعرف دوافعهم وأنهم يكرزون بالمسيح لإغاظة بولس، ولكن من يؤمن بكرازتهم يخلص. ويقول الرسول أنه بهذا تتحقق رسالتى التى يريدها الله منى. فالله يريد نشر الكرازة. وهؤلاء بسببى كرزوا ومن آمن بسببهم عرف المسيح وسيخلص. فبهذا هم حققوا هدف رسالتى التى سيكافأنى الله عليه.
  4. بهذا أفرح = بولس يفرح:
  1. بسجنه.
  2. بكرازة من يكرز بمحبة.
  3. بكرازة من يكرز عن تحزب ويتسبب فى زيادة آلامه.

فكل هذا سيؤول لمجد المسيح. وهذا الفرح وهذا الخلاص يكون لى بطلبتكم = صلواتكم عنى + مؤازرة روح يسوع. والروح القدس من ثماره الفرح. وهو يحل علينا باستحقاقات عمل يسوع المسيح. ونلاحظ أن الخلاص لكل واحد يكون بـ:

  1. الإيمان بالكرازة.
  2. صلوات الشخص نفسه.
  3. عمل الروح القدس فيه.

حسب انتظارى = كلمة إنتظار تعنى الإنتظار بإشتياق كبير لدرجة محاولة الوقوف على أطراف الأصابع ورفع الرأس، مثلما قال الرب يسوع (لو8: 21). فبولس يسهر ويجاهد ويطلب شيئاً واحداً ولا يطلب سواه، وهو انتظار مشفوع بالرجاء فى ذلك الشىء. وما هو هذا الشىء الذى ينتظره بلا يأس بل بكل رجاء؟ أن يتعظم المسيح فى جسده وأن يظل يكرز بالمسيح، فهو ليس مثل المتحزبين يطلب مجد نفسه بل مجد المسيح. يتعظم المسيح = المسيح لن يُزيد من عظمته أحد، لكن المعنى أن تظهر عظمة المسيح للناس فى جسد بولس، كيف؟

بحياة أم بموت = هو يشتهى أن يتمجد اسم المسيح به سواء بحياته أو حتى باستشهاده. ومازال بولس بعد موته وحتى الآن يكرز برسائله لمدة 2000سنة، وفى كل مكان. هو اشتهى أن يظل يكرز كل حياته باسم المسيح وأن يشهد له حتى الموت أو الإستشهاد، فالإستشهاد يظهر مجد المسيح الذى يدفع الشهيد للإستشهاد ولا ينكر إسمه حباً فيه. والله أعطى لبولس أن يشهد له فى حياته وبعد إستشهاده والإستشهاد كرازة، فحينما يرى غير المؤمن، أن المؤمنين تكون حياتهم رخيصة عندهم من أجل المسيح الذى آمنوا به وأحبوه سيتساءلون عمن هو المسيح هذا وربما آمنوا به. راجع (نش 8: 5 + 9: 5 + 10: 5 - 16 + 1: 6).

بطلبتكم = لاحظ هنا طلبة بولس عنهم وطلباتهم عنه، وهذه هى الشفاعة. وماذا يمنع أن تكون الشفاعة بين الكنيسة المجاهدة والكنيسة المنتصرة؟!

العدد 21

آية (21): -

"21لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ.".

لى الحياة هى المسيح = هذه مثل "المسيح يحيا فىَّ” (غل20: 2). ومن يحيا فيه المسيح يستخدم المسيح أعضاءه كألآت بر وهذه لا تحصل إلا بصلب الذات “مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فىَّ”، فكلما جاهد الإنسان فى إماتة ذاته وعاش لمن مات لأجله، ولم يعش متمتعاً بملذات العالم، يمتلىء بالأكثر من حياة المسيح ويتحقق له المزيد من الشركة مع الرب (2كو4: 10، 11). وهذا معنى قول السيد “من وَجَدَ حياته يضيعها. ومن أضاع حياته من أجلى يجدها” (مت39: 20). ولكن كثيرون بالنسبة لهم الحياة هى فى الملذات الحسية والشهوات والمال... ومثل هؤلاء يرتعبون من الموت الذى يعتبرونه كمال الحزن، إذ أنه يفصلهم عن الملذات التى يفهمونها، ولا يرون فى الموت سوى مظهره الخارجى مثل النتانة والقبور.

لى الحياة هى المسيح = الله خلق آدم ليحيا للأبد، وأخطأ ومات والله خلقه ليحيا للأبد، فهل يفشل قصد الله؟ قطعاً لا. وكان الحل فى التجسد والصليب وموت المسيح وقيامته بحياة أبدية. وبالمعمودية نتحد بالمسيح فتموت حياتنا العتيقة وتكون لنا حياته الأبدية، على أن نستمر فى حياة الإماتة. فحتى لو متنا بالجسد فنحن نظل أحياء بحياة المسيح الأبدية التى فينا. هذه شرحها بولس الرسول فى (1كو15) فقال... نكون كبذرة دفنت فى التراب، وبعد أشهر تخرج شجرة جميلة (هى الجسد الممجد). أما من يرتد لحياة الخطية رافضا حياة الإماتة فيكون هذا كسوسة تدخل فى البذرة فلا تثمر.

والموت هو ربح = الموت هو كمال إماتة الذات. وبالتالى فالمزيد من الشركة مع المسيح يتحقق بموت الجسد. فالخطية هى التى تفصلنى عن هذه الشركة التامة مع المسيح، وبعد الموت لا خطية. ولذلك صرخ بولس قائلاً “ ويحى أنا الإنسان الشقى من ينقذنى من جسد هذا الموت” (رو 24: 7). ولذلك فهو يعتبر الموت هنا ربحاً. لأن فى الأبدية تتحقق الراحة والفرح والمجد وشركة القديسين وكمال الشركة مع المسيح. ولكن يستحيل أن يشتهى الموت بفرح إلاّ من تذوق العربون، عربون الفرح والشركة مع المسيح هنا على الأرض.

ولاحظ أن الرسول يعلن وجهة نظره فى الموت، فهو من المحتمل أن يتعرض للموت بعد سجنه هذا ومحاكمته. وهذه الآية أوردها الرسول بعد الآية السابقة ليشرح أنه يريد أن يتمجد الله فيه سواء بحياته أم مماته، والمسيح يتمجد فىَّ لو كان هو حياتى، أحيا به وأشهد له فى حياتى حتى آخر لحظة، حياته سكنت فىَّ وتستخدم أعضائى كآلات بر ولأعمالى أمجد الله، والموت هو ربح فهو راحة وفرح. وإذا كان موتى بإستشهاد على إسم المسيح فهو أيضاً فيه تمجيد لاسم المسيح، فماذا أختار لو خيرونى... الحياة أم الموت؟!

العدد 22

آية (22): -

"22 وَلكِنْ إِنْ كَانَتِ الْحَيَاةُ فِي الْجَسَدِ هِيَ لِي ثَمَرُ عَمَلِي، فَمَاذَا أَخْتَارُ؟ لَسْتُ أَدْرِي!".

هى لى ثمر عملى = تعبير يونانى معناه أن الأمر يستحق الاعتبار.

لاحظ أنه فى آية 20 كان كل ما يطلبه الرسول أن يتعظم المسيح فى جسده فهو يريد أن يقول إنه إن كانت الحياة المُعلنة فىَّ الآن بينما أعيش فى الجسد كعربون للحياة بالمسيح فى الأبدية، هى لى ثمر جهادى وبذل ذاتى.. أى هى خدمة لأولاد الله حتى يعرفوا الله، ويتمجد الله فيهم. وحياتى هى أعمال صالحة أمجد بها الله، وثمر متكاثر لحساب المسيح. فماذا أختار، الحياة التى يتمجد بها الله من هذا الثمر المتكاثر أم الموت والإستشهاد الذى يمجد الله؟ إن جهاد الرسول وأتعابه وصبره وكرازته باسم المسيح وانتشار ملكوت المسيح بواسطته هو ثمرة حياته (أو حياة المسيح فيه). إذاً كلما عاش كلما كان له ثمار، وكانت حياته وعمله يمجدان اسم المسيح. والموت هو ربح أكبر له فبه يستريح من أتعابه ويبدأ طريق الفرح والراحة والمجد... إذاً أيهما يختار؟! الحياة هى له تمتع بالمسيح وخدمة المسيح الذى يحبه، والموت هو الوصول للمسيح وأمجاده.

الأعداد 23-26

الأيات (23 - 26): -

"23فَإِنِّي مَحْصُورٌ مِنْ الاثْنَيْنِ: لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا. 24 وَلكِنْ أَنْ أَبْقَى فِي الْجَسَدِ أَلْزَمُ مِنْ أَجْلِكُمْ. 25فَإِذْ أَنَا وَاثِقٌ بِهذَا أَعْلَمُ أَنِّي أَمْكُثُ وَأَبْقَى مَعَ جَمِيعِكُمْ لأَجْلِ تَقَدُّمِكُمْ وَفَرَحِكُمْ فِي الإِيمَانِ، 26لِكَيْ يَزْدَادَ افْتِخَارُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ فِيَّ، بِوَاسِطَةِ حُضُورِي أَيْضًا عِنْدَكُمْ.".

محصور بين الاثنين = هو رأى أن كلا الطريقين صالح وله مميزاته، وهو لا يستطيع أن يختار أيهما. هل يختار حياته على الأرض التى بها يربح نفوساً للمسيح أو حياته فى الفردوس حيث الراحة.. وقوله محصور بين الاثنين إشارة لأن كلا الخيارين يتنازعان داخله. فكلا الطريقين صالح ومبارك أمامه. ولكنه فضَّلَ فى النهاية ما يراه الله صالحاً. وطالما هو حى، إذاً فالله يريد منه الثمر المتكاثر فى حياته. فبولس يعلم أن الله “خلقنا لأعمال صالحة سبق فأعدها لكى نسلك فيها” (أف 2: 10)، وحينما ننهى الأعمال التى يريدنا الله أن ننهيها ينقلنا إلى الراحة كما قال لدانيال (دا 13: 12).

ألزم لأجلكم = الله الذى خلقنى يعلم وحده متى أنهى الأعمال التى خلقنى من أجلها. وبولس هنا يقول لأهل فيليبى.. طالما أنا حى، إذاً فالله يرى أن بقائى لازم لأجلكم، لأثمر فيكم، فهذا هو العمل الذى خلقنى الله لأجله. بولس هنا يُسَلِّم أمره بالكامل لله ليختار له الله الصالح.

فى سفر أعمال الرسل (12: 2، 1) نجد هيرودس يقتل يعقوب بالسيف. ثم فى (أع 3: 12 - 17) نجد هيرودس يريد قتل بطرس ولكن ملاكاً ينقذه... فلماذا لم يرسل الله ملاكاً لينقذ يعقوب؟ ‍ السبب ببساطة أن لسان حال يعقوب فى سجنه كان يقول “لى إشتهاء أن أنطلق”، وكان يعقوب قد أنهى أعماله التى خلقه الله ليعملها، فسمح الله لهيرودس أن يقتله، سيف هيرودس كان الأداة التى ينتقل بها يعقوب إلى فرح سيده، إلى حيث الراحة. وكان لسان حال بطرس فى السجن يقول “لى إشتهاء أن أنطلق”،، ولكن بطرس كان أمامه أعمال أخرى، إذاً لن يكون لهيرودس سلطان عليه لأنه لم يُعط هذا السلطان من فوق (يو11: 19). إذاً فملاك يذهب لينقذ بطرس من يد هيرودس، ليكمل بطرس الأعمال التى خلقه الله لأجلها.

وبهذا المفهوم يقول بولس الرسول هنا إن الرب يرى أنه مازال أمامى أعمالاً لأعملها. أنطلق = يقصد الموت أى الخروج من هذا الجسد. والكلمة اليونانية تعنى “فك الخيمة” أو “حل ربط السفينة” إستعداداً للإقلاع أو إطلاق السجين بعد فترة سجنه. والجسد فى نظر بولس خيمة والموت هو حل هذه الخيمة (2كو1: 5). والموت هو إقلاع إلى الوطن السمائى. وهو انطلاق من سجن هذا الجسد الذى يحرمنى من رؤية الله والقديسين وأمجاد السماء.

لأكون مع المسيح = إذاً وجوده فى الجسد كأنه غربة عن الله، فالمسيح فى كل مكان لكن بسبب الخطية الساكنة فى أجسادنا (رو7: 17، 18) فالجسد أصبح مُعوِّق عن رؤية المسيح. وبالموت تنتهى حالة الغربة ونرى المسيح إذ لا خطية حينئذ.

تقدمكم وفرحكم فى الإيمان = إذاً وجوده فى الجسد نافع فى تقدمهم وفرحهم. وكلما زاد إيمانهم ونما يزداد فرحهم. خصوصاً حين يُطلق سراح بولس فسيختفى حزنهم = بواسطة حضورى عندكم. ولكن قوله أيضاً يعنى أن افتخارهم وفرحهم ببولس مستمر حتى لو لم يُطلق سراحه، فكرازته وعمله ورسائله لهم مستمرة حتى وهو فى السجن. هم خافوا من حبسه لئلا تتعطل الكرازة، ولكنهم رأوا الآن أن الكرازة لم تتعطل، فعليهم أن يفتخروا ويبتهجوا فى المسيح يسوع. فىَّ = حقاً هم يفتخرون ببولس، لكن كل افتخار هو فى المسيح يسوع الذى ننال منه كل الهبات الروحية، وهو الذى يعمل فى بولس فكرز لهم، وكرز فى السجن، وعمل فى الملوك فأطلقوه، ويعمل فى أهل فيليبى ليفرحوا. وفى آيات 26، 25 نشعر أن بولس شعر بأنهم سوف يطلقون سراحه ولن يموت.

لِكَيْ يَزْدَادَ افْتِخَارُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ فِيَّ، بِوَاسِطَةِ حُضُورِي أَيْضًا عِنْدَكُمْ = هم كانوا يفتخرون بأن لهم رسول عظيم مثل بولس عرَّض نفسه لكل هذه الآلام ليعرفوا هم المسيح. وهذا طبيعى للمبتدئين روحيا أنهم يفتخرون بالناس. ولكنهم الآن إذ نضجوا روحيا صاروا يفتخرون بالمسيح يسوع الذى عمل ويعمل فى بولس وسانده خلال فترة كرازته وأيَّده بمعجزات عجيبة. وأخرجه بل وكل ركاب السفينة - التى غرقت - أحياء. وعمل فيه فبشًر بيت قيصر. هم رأوا أعمال المسيح العجيبة فى رسوله ويفتخروا بالمسيح الذى آمنوا به لقوته التى عملت فى الرسول الذى يحبونه. وسيفتخروا بالمسيح بالأكثر حينما يُفرَج عن بولس ويرجع لهم ويعرفوا أنه لا قوة تقف أمام إرادة الله.

العدد 27

آية (27): -

"27فَقَطْ عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، حَتَّى إِذَا جِئْتُ وَرَأَيْتُكُمْ، أَوْ كُنْتُ غَائِبًا أَسْمَعُ أُمُورَكُمْ أَنَّكُمْ تَثْبُتُونَ فِي رُوحٍ وَاحِدٍ، مُجَاهِدِينَ مَعًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ لإِيمَانِ.

الإِنْجِيلِ، ".

والآن ماذا أطلب منكم.. أن تعيشوا كما يحق لإنجيل المسيح = أى بما يتفق مع وصايا الإنجيل. ونحن يجب أن نعيش بحسب الإنجيل داخلياً وخارجياً أى ننفذ وصايا الإنجيل قلبياً فى الخفاء، وأيضاً أمام الناس.

إنجيل = لم يكن هناك أناجيل، ولكن المقصود التعاليم التى علمها لهم بولس الرسول. فبولس يريدهم أن يكونوا إنجيلاً معاشاً مقروءاً من جميع الناس (2كو2: 3).

عيشوا = هى مشتقة من كلمة وطن أو مدينة. لذلك يمكن ترجمة الآية “لتكن وطنيتكم المسيحية كما يليق بالإنجيل، هو معنى يشير لتأدية المرء واجبه كمواطن. وكما قلنا فى المقدمة أن شعب فيليبى يفتخر بكون فيليبى كولونية أى أن شعبها له مميزات شعب روما نفسها. وهنا بولس يرفع أنظارهم أنهم مواطنين سمائيين لهم امتيازات سماوية وعليهم واجبات أن يحيوا كما يحق لإنجيل المسيح. يريد الرسول أن يقول أنه لا يشرفكم أن تكونوا مواطنين رومان فهؤلاء وثنيون، ولكن الذى يشرفكم أنكم مواطنون سماويون. بسبب جنسيتهم الرومانية وأن لهم مميزات شعب روما، كانوا يلبسون ملابس أهل روما، ومعنى كلام الرسول هنا، عوضا عن لبس ملابس رومانية إلبسوا المسيح.

ونرى بولس الرسول هنا يهتم بوحدتهم = تثبتون فى روح واحد.. بنفس واحدة = وتثبتون على هذا، لا يكونوا كإبليس الذى لم يثبت (يو44: 8). وهذا يؤول لإعلاء الإيمان بالإنجيل ونشر الإيمان به. وهذا عمل الروح القدس، أن يوَحِّدنا فى محبة بفكر واحد وقلب واحد، أماّ عدو الخير فعمله زرع الخصومات والشقاق. وما يهدم هذه الوحدة والشركة الواجب إظهارها للجميع، الكبرياء والتحزب والأنانية. والمطلوب التشبه بالمسيح الذى أخلى ذاته، وبالكنيسة الأولى التى كانت قلباً واحداً ونفساً واحدة (أع32: 4).

عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ... حَتَّى إِذَا جِئْتُ = قوله حتى هذا فيه إجابة على التساؤل كيف يثبتوا فى المحبة؟ الإجابة عيشوا كما يحق لإنجيل المسيح.

فقط = ما قلته لكم عن الموت والحياة، له وقته الذى سوف يختاره ويحدده المسيح، ولكن ما أطلبه منكم الآن، وما يجب أن تفعلوه طالما أنتم أحياء عيشوا كما يحق لإنجيل.. مجاهدين = ضد إبليس والخطية (أف12: 6). وللحفاظ على “الإيمان المسلم مرة للقديسين” (يه3). وللثبات فى الكنيسة الواحدة بدون شقاقات.

العدد 28

آية (28): -

"28غَيْرَ مُخَوَّفِينَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُقَاوِمِينَ، الأَمْرُ الَّذِي هُوَ لَهُمْ بَيِّنَةٌ لِلْهَلاَكِ، وَأَمَّا لَكُمْ فَلِلْخَلاَصِ، وَذلِكَ مِنَ اللهِ.".

لا تخافوا ممن يضطهدكم ويقاوم رسالتكم = غير مخوفين = والكلمة تُستخدم أصلاً للخيول الجافلة التى تعود مضطربة إذا وجدت ما يخيفها. ولماذا لا نخاف؟ النعمة الإلهية قادرة أن تحفظ أولاد الله، ويد الله القوية تحفظهم، وتدين من يضطهدهم وتهلكه. “من يمسكم يمس حدقة عينه” (زك8: 2). أولم تنهزم الإمبراطورية الرومانية أمام المسيحية. وفى العصر الحالى ألم تسقط الشيوعية فى الإتحاد السوفييتى ودول الكتلة الشرقية أمام المسيحية التى عادت وإزدهرت. وهناك سؤال إذا كان الله يحفظ أولاده، فلماذا مات وإستشهد الكثيرين بيد أعداء المسيح؟ الإجابة بسيطة وراجع شرح آيات 23 - 26 من هذا الإصحاح، ونضيف عليها ما قاله السيد المسيح لبيلاطس “لم يكن لك علىَّ سلطان البتة إن لم تكن قد أعطيت من فوق” (يو 11: 19). والمعنى أن من إستشهد، كان ذلك بسماح من الله، لأنه قد أنهى أعماله، وذهب للراحة فى إنتظار المجد. وعادة يشعر المضطهدين لشعب الله بقوة تعمل مع شعب الله (خر 12: 1). ولكن من الذى يشعر بقوة الله التى تسانده فى هذا الوقت أى وقت الإضطهاد؟ هو من قرر بإيمان أن يثبت. ولاحظ أن من إضطهد الكنيسة أولاً كانوا اليهود وجاء بعدهم الوثنيون.

الأمر الذى هو لهم بينّة للهلاك وأماّ لكم فللخلاص = النعمة الإلهية قادرة أن تحفظكم ثابتين إن قررتم أن تثبتوا. وهذا الثبات هو ما أسماه الرسول مجاهدين فى آية 27. فالجهاد هو قرارنا بالثبات بالرغم من الآلام. والنعمة تساند من قرر الثبات. فالنعمة هى القوة التى يعطيها الله لمن قرر الثبات وهى التى تحفظنا ثابتين.

ومن يقرر الثبات سوف يختبر قوة الله التى ستسانده وتحفظه ثابتا. وإن ثبتم فسيكون هذا دليل وإعلان قوى عن أن الله حفظكم بل وسيحفظكم إلى النهاية. وهى نفسها التى ستُكَمِّل معكم حتى الخلاص النهائى. ويد الله القوية التى تحفظكم هى نفسها ستدين من يضطهدكم وتهلكه.

تكون لهم بينة للهلاك = وثباتكم أمامهم سيخيفهم، فثباتكم هذا بسبب عمل قوة الله فيكم. وهذه القوة هى نفسها التى ترعبهم (خر 12: 1). وراجع أيضا ما حدث ليلة الخروج من مصر والرعب الذى وقع على المصريين (خر14: 24، 25). بل فى أثناء الضربات العشر ذهب رجال فرعون له قائلين فى رعب "ألم تعلم بعد أن مصر قد خربت" (خر9: 7).

الأعداد 29-30

الأيات (29 - 30): -

"29لأَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ الْمَسِيحِ لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ. 30إِذْ لَكُمُ الْجِهَادُ عَيْنُهُ الَّذِي رَأَيْتُمُوهُ فِيَّ، وَالآنَ تَسْمَعُونَ فِيَّ.".

لأنه = عائدة على ما قبلها. والمعنى أنه لابد وأن نواجه آلام ونحن فى هذه الحياة (2تى12: 3). ولكن المسيحية غيَّرت النظرة إلى الألم فهو لم يعد عقاباً، إنما شركة حب مع المسيح المتألم، ثم هى شركة مجد معه. وهى اختبار عزاء حقيقى من الله للمتألمين. فربما يندر أن نختبر يد الله فى أيام صحتنا وفرحنا، لكن يمكننا إذا عشنا حياة الشكر وسط الألم أن نعاين الله ونختبر تعزيات وأفراح لا يختبرها الإنسان العادى غير المتألم، لذلك يقول الرسول وُهب لكم.. أن تتألموا = حينما تزداد المحبة يتمنى المحب أن يتألم بدلاً من حبيبه (كشعور أم ترى إبنها متألماً). ولقد أعطى لنا أن نشعر بهذه المشاعر، أن نتألم لأجل المسيح = بالنيابة عنه. نرى المسيح وهو على الصليب، أو وهو مازال متألماً للآن من أجل الخطاة والمستهترين ورافضى الإيمان والذين مازالوا مستعبدين للشيطان.. ونقول فى حب، نريد أن نحمل عنك يا حبيب بعضاً مما تحمله من ألم. والله وهب لنا هذا.. أن نشترك مع ابنه فى آلامه كشركة حب مع إبنه.

قصة تشرح المعنى: - ظلت العذراء أم النور تظهر لفترة لمجموعة فتيات وولد واحد فى يوجوسلافيا فى بداية ثمانينات القرن العشرين. وكانت تخبرهم عن محبة المسيح للعالم وكيف يتألم بسبب الخطايا التى تسبب ألام وهلاك البشر، وعن حزنه للدماء التى تسفك فى الحروب. وكان هذا فى وقت تعانى فيه يوجوسلافيا من فترة حروب دموية. فقالت لها واحدة من الفتيات - أريد أن أتألم مع يسوع... فقالت لها العذراء سيكون لكى هذا ولمدة سنة وبعدها أسألك إن كنتى تريدين أن يستمر الألم أو أحمله عنك. وأصاب البنت ذات الـ 17 عاما صداع عنيف نشأ عن تكون كيس مائى فى المخ يستحيل الإقتراب منه جراحيا. وإكتفت بالمسكنات. وقال لها أهلها أطلبى من العذراء الشفاء فإبتسمت وصمتت فهى عرفت أن هذا كان تنفيذا لطلبها. وفى نهاية السنة سألتها العذراء - هل أزيل المرض منك - ورفضت هذه البنت الصغيرة إذ تذوقت معنى شركة الحب والألم.

والله فى محبته يعطى لشركاء الألم أن يكونوا شركاء مجد (رو17: 8). وذلك فى السماء، أماّ هنا على الأرض فيعطيهم تعزيات عجيبة كما أعطى للثلاثة الفتية. صار احتمال الألم بفرح وشكر خير وسيلة لإعلان محبتنا للرب. وصارت التعزيات التى يعطيها الله وسط الألم هى عربون المجد العتيد أن يُستعلن فينا. وبولس اختبر هذا الألم وهذه التعزيات، فهو قد سُجن عندهم فى فيليبى ورأوه فى وسط آلامه فَرِحاً متعزياً، ورأوه مجاهداً ضد الشيطان وتابعيه غير خائف منهم = إذ لكم الجهاد عينه الذى رأيتموه فىّ. والآن تسمعون فىّ = فهو الآن مسجون فى روما. فبولس هنا يقدم نفسه نموذجاً لما قاله عن الآلام التى يقابلها أولاد الله. عموماً فالعالم يكره المسيح ومن يتبع المسيح، وهذا ليس جديداً، أو يدعو للإندهاش. وأهل فيليبى غالباً تحملوا نوعاً من الاضطهاد والرسول يشجعهم على الاحتمال.

وهب لكم.. لا أن تؤمنوا فقط. فالإيمان بالمسيح هو هبة ونعمة من الله مجانية. فالإيمان هو الطريق الوحيد لغفران الخطية، وللحياة الأبدية (يو8: 16، 9 + يو25: 11، 26).

بل أيضاً أن تتألموا لأجله. فالآلام هي لكي نكف عن الخطايا (1بط1: 4) وحينما يهلك الجسد تخلص الروح في يوم الرب (1كو5: 5) وحينما يفني إنساننا الخارج يتجدد الداخل يوماً فيوماً (2كو16: 4). والمسيح الذي هو الطريق (يو6: 14). والذي سبقنا للسماء ليعد لنا مكاناً يعرف كيف يصل بنا للسماء، إن ثبتنا فيه. وهو يعرف أننا ورثنا الخطية والتمرد من آدم "بالخطية ولدتني أمي" + "الخطية الساكنة فيَّ" (رو20: 7) فالصليب صار وسيلة للتجديد. فكيف لا نعتبر الألم هبة من الله. والألم هو طريقنا للسماء. وبنفس الفكر يقول القديس يعقوب "إحسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة" (يع2: 1). وبنفس الفكر يقول داود النبي في المزمور "جرِّبني يا رب وإمتحني. صف كليتي وقلبي" (مز2: 26). وفى ترجمة أخرى "أبلنى يارب وإختبرنى، نقى قلبى وكليتىَّ".

لماذا إعتبر الرسول الألم هبة؟

  1. هو شركة حب مع الحبيب المتألم لا يفهمها إلا من يحب محبة حقيقية.
  2. شركاء الألم شركاء المجد (رو8: 17).
  3. الله يسمح بالألم لترويض الجسد فيكف عن الخطية فيكمل الإنسان، فالألم طريق الكمال [راجع تفسير الآية عب2: 10].

وفى أثناء الألم نختبر تعزيات الله الأب المحب الذى لا يريد هلاكنا فيسمح بالألم ولكنه كالطبيب المعالج يعطى المسكنات ليجرى جراحة ينقذ بها حياة المريض [راجع تفسير الآية إش18: 4].

No items found

الأصحاح الثاني - تفسير الرسالة إلى فيلبي - القمص أنطونيوس فكري

تفاسير الرسالة إلى فيلبي الأصحاح 1
تفاسير الرسالة إلى فيلبي الأصحاح 1