الأصحاح الأول – سفر حجي – القمص تادرس يعقوب ملطي

مقدمة في سفر حجي

كان قيام هيكل الرب في أورشليم يعني حلول الله وسط شعبه، يملك عليهم ويقدّسهم ويملأ حياتهم فرحًا وبهجة، الأمور التي حُرموا منها عشرات السنين في أرض السبي.

عاد زربابل من السبي ومعه خمسون ألفًا من اليهود ليعيدوا بناء الهيكل ويردّوا لإسرائيل بهجته في الرب، لكنّهم إذ وجدوا مقاومة توقّفوا فإستكان البعض للموقف وانشغل كل واحد ببناء بيته الخاص تاركين بيت الرب خرابًا. فجاء هذا السفر يحثّ الكل على العودة إلى العمل، وكأنّه دعوة إلهيّة موجّهة إلى كل نفس لتستعيد في الرب بهجة خلاصها بالتمتّع بسكنى الرب فيها وإعلان قلبها هيكلاً للرب وأعماقها مقدّسا له.

إنه حديث إلهي فيه يُعاتب النفس المتراخية في قبول ملكوته داخلها والمرتبكة بأمور هذه الحياة.

القمص تادرس يعقوب ملطي.

حجـي.

حجـي:

  • اسم عبري "عيدي"، ربّما سُمي هكذا لأجل توقّع العودة من السبي بفرح، أو لأنه ولد في يوم عيد، وقد جاء اسمه متناسبًا مع مضمون السفر. فالسفر في أعماقه هو دعوة للحياة المفرحة أو إلى الدخول في عيد غير منقطع خلال إعادة بناء هيكل الرب فينا بروحه القدّوس.

يقول القديس جيروم: [ "حجي" يعني (مبهج أو مفرح)، هذا الذي يزرع بالدموع ويحصد بالابتهاج (مز 126: 5)، قد انشغل بإعادة بناء الهيكل[1]].

  • وُلد حجّي في أرض السبي، وصعد إلى يهوذا مع زربابل في الرجوع الأوّل عام 536 ق. م (عز 2: 1)، ويعتبر هو وزكريّا وملاخي أنبياء ما بعد السبي.
  • يرى البعض أنّه كان كاهنًا، إذ ركز أهتمامه العظيم على الهيكل مقدّمًا لنا مفهومًا عميقًا بنائه. وقد رأى البعض في كلماته "إسأل الكهنة عن الشريعة" (2: 11)، دليلاً أكيدًا على أنّه لم يكن كاهنًا[2].
  • مارس حجّي عمله النبوي حوالي عام 520 ق. م، في السنة الثانيّة لداريوس ثالث ملوك الفرس، وهي السنة التي فيها إشتهر الفيلسوف الصيني كونفشيوس. وقد بدأ عمله قبل زكريّا النبي بشهرين، ارتبط معه بصداقة قويّة ووحدة في الهدف، وقد جاء في التقليد اليهودي إنهما دفنا في قبر واحد. وقد تنبأ زكريّا لمدّة 3 سنوات أما حجّي فلمدّة 3 شهور 24 يومًا.

جاء في التلمود أن حجّي وزكريّا وملاخي كانوا أعضاء في المجمع العظيم[3].

  • بالرغم من تأثره بحزقيال النبي في جوانب متعدّدة لكنّه كان رجل عمل ركّز كل اهتمامه على إعادة بناء الهيكل، ولم يشترك مع حزقيال في إنكبابه على الرؤى (حز 1: 4)، ولا في ممارسة أعمال رمزيّة (حز 4: 53)، ولا في مواهبه الشعريّة (حز 17، 19، 27، 28) [4].

ظروفه:

عاش حجّي النبي في ذات الظروف التي عاشها زكريّا النبي، يحمل ذات مشاعره، فنحن نعلم أن أنبياء ما قبل السبي كثيرًا ما هدّدوا بالسبي قبل حدوثه (586 ق. م)، وقد تحقّقت هذه النبوّات، لكن الله لم يترك الأمر هكذا وإنّما سبق فأعلن بالأنبياء عن العودة من السبي البابلي بعد سبعين عامًا (إر 25: 11 - 12؛ دا 9: 2)، وقد تحقّق ذلك أيضًا عندما انهارت المملكة البابليّة أمام الفرس فسمح كورش ملك الفرس لزربابل الذي من نسل داود أن يرجع إلى أورشليم ليُعيد بناء الهيكل. وإذ وضع زربابل الأساسات قام السامريّون بمقاومتهم (4: 5)، فتوقّف العمل كما سبق لنا الحديث في مقدّمة سفر زكريّا. وإذ مرّ أكثر من خمس عشر عامًا والعمل متوقّف دون إبطال رسمي للمنشور الذي أصدره كورش، وإذ ملك داريوس حان الوقت للعمل من جديد. هنا جاءت المقاومة لا من الخارج بل من الداخل، إذ انشغل كل واحد ببناء بيته الخاص. فقام حجّي النبي ومن بعده بشهرين زكريّا ينذران الشعب ويحثّانهم على العمل في بيت الرب بقوّة وغيرة قلبيّة.

عندما بدأ العمل بالفعل للأسف قام بين الشيوخ الذين شاهدوا الهيكل الأوّل يثبّطون الهمم إذ حسبوا الهيكل الجديد كلا شيء بمقارنته بالهيكل القديم، ولولا حكمة النبيّان لتوقّف العمل تمامًا وتحوّل الفرح إلى حزن خلال روح اليأس الذي بثّه هؤلاء المسنّين.

غايته:

لم يكن دور حجّي النبي مجرّد الحث على إعادة بناء الهيكل ولكنه دخل بهم إلى مفاهيم روحيّة عميقة تمس علاقتهم بالله على مستوى القلب الداخلي، فقد أبرز النبي الآتي:

1. الحاجة عن التخلّي عن الذات لإقامة بيت الرب داخل النفس، أي صلب الأنا ليعلن السيّد المسيح ملك على القلب كما في هيكله المقدّس.

2. تأكيد أن "الله أولاً"، فأن كان الشعب قد إنهمك في بناء بيوت خاصة متجاهلين العمل في بيت الرب، فأن هذا التصرّف يكشف عن حالهم الخطير إذ حسبوا الله ثانويًّا في حياتهم. الله لا يسكن في بيوت ولا يطلب أمجادًا زمنيّة لكنّه يطلب أن يكون الأوّل في حياة أولاده الذين أعطاهم الأوّلويّة بين خليقته، فيردون مبادرته بالحب لهم بمبادرتهم بالحب له. إن كان من أجل تنازله قبل أن يكون له هيكل وسط شعبه إنّما ليؤكّد حلوله في وسطهم، لهذا يليق بهم الاهتمام بالهيكل لا من أجل فخامته وإنّما علامة حب داخلي وشوق وفرح بالله الساكن في وسطهم.

الله لا يطلب الذهب ولا الفضة ولا حتى العمل في ذاته، ولكنه يود قلوبهم مسكنًا له!

3. نجح حجّي النبي لا في نقل أفكارهم من البناء الحجري إلى القلب كبيت داخلي للرب وإنّما أيضًا في الكشف عن مجد البيت الجديد الذي يقوم خلال تجسّد الكلمة، أي بظهور مشتهى كل الأمم. بقيامته وصعوده أعطانا المجد الأبدي في هيكله الذي هو جسده. لقد تحدّث عن هذا الهيكل مع اليهود قائلاً: "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه" (يو 2: 19). يُكمل الإنجيلي: "فقال اليهود في ست وأربعون سنة بُني هذا الهيكل أفأنت في ثلاثة أيام تقيمه؟! وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده، فلما قام من الأموات تذكر تلاميذه إنّه قال هذا فآمنوا".

أقسامه:

يضم هذا السفر أربع نبوّات نطق بها النبي:

1. النبوّة الأولى (ص 1): أعلنها في اليوم الأوّل من الشهر السادس في السنة الثانيّة من ملك داريوس، فيها يوبخهم على تركهم الهيكل خرابًا، وقد جاءت النبوّة بالثمر إذ تحمّس الكل للعمل.

2. النبوّة الثانيّة (2: 1 - 9): أُعلنت في اليوم الحادي والعشرين من الشهر السابع، فيها يشجّع العاملين على الاستمرار في العمل دون الحزن على مجد الهيكل القديم، مؤكّدًا رفض الأفكار المحطّمة للنفس، معلنا ظهور هيكل جديد فائق في مجده.

3. النبوّة الثالثة (2: 10 - 19): أُعلنت في اليوم الرابع والعشرين من الشهر التاسع، وتُعتبر كملحق للنبوّة السابقة. في هذه النبوّة يؤكّد أن تجاهلهم لأولويّة الله في حياتهم يفقدهم البركة، مشجّعًا إيّاهم على المثابرة في الحياة الروحيّة بغيّرة متّقدة.

4. النبوّة الرابعة (2: 20 - 23): أُعلنت في نفس اليوم الذي أُعلنت فيه النبوّة السابقة. في هذه النبوّة يؤكّد الرب إنّه يهز الأمم ويثبت زربابل كخاتم له.

الأصحاح الأول

دعوة لبناء بيت الرب.

إذ فتر الشعب في غيرته نحو بناء بيت الرب صاروا يقولون: "إن الوقت لم يبلغ بعد لبنائه"، فصار النبي يحثّهم على العمل، وجاء حديثه بالثمر المطلوب.

1. موضوع النبوّة [1 - 2].

2. توبيخ على الأهتمام بالزمنيّات [3 - 11].

3. ثمر الدعوة [12 - 15].

الأعداد 1-2

1. موضوع النبوّة

في مقدّمة النبوّة حدّد تاريخها، ولمن سُلّمت، ولمن وُجّهت، وموضوعها:

أولاً: فمن جهة تاريخها، نطق بها النبي في أول يوم من الشهر السادس (أيلول) في السنة الثانية لملك داريوس الفارسي. لعلّه اجتمع مع المحتفلين بالعيد الشهري، حيث اعتاد اليهود (إلى يومنا هذا بالنسبة للأرثوذكس منهم) أن يجتمعوا في أول الشهر القمري لممارسة العبادة الجماعيّة. استغل النبي الاجتماع ليعلن كلمة الرب الصريحة والفعّالة.

ثانيًا: سُلّمت النبوّة "عن يد حجى النبي"... كيف تُسلّم النبوّة في اليد؟ يقول القديس أغسطينوس: [إن كلمة "يد" هنا تعني "قوة"، وأن كلمة النبويّة قد سلّمت في أيدي الأنبياء كسيف قوي يُحطّم الشرّ. لقد قبلوا في أيديهم كلمة الله في قوّة لينطقوا ما أرادوا لمن يريدوا الحديث معهم، فلا يهابون قوّة ولا يستخفون فقرًا. في أيديهم سيف (روحي) يستلّونه حينما أرادوا، يمسكون به ويضربون. هذا كلّه في سلطان الكارزين[5]].

ثالثًا: وجّه النبي الكلمة النبويّة إلى الوالي والكاهن اللذين كانا متحمّسين للعمل لكن المقاومات الخارجيّة والداخليّة قد أوقفتهما. أما الوالي فيدعى "زربابل" وهو حفيد يهوياكين الملك من نسل داود، اسمه يعني (مولود في بابل). ويدعى أيضًا شيشبصر أقامه كورش الفارسي واليًا على يهوذا (عز 5: 14). أما يهوشع بن يهوصادق الكاهن العظيم، فأسمه يعني (يهوه خلاص) واسم والده يعني (يهوه برّ)، وقد سبق لنا الحديث عنه كرمز للكاهن الأعظم يسوع المسيح خلاصنا وبرّنا في الآب[6].

في دراستنا لسفر زكريّا رأينا الوالي يرمز للإرادة الإنسانيّة التي أقامها الله في الإنسان لكي تدير الحياة في الرب كملك صاحب سلطان على النفس والجسد والفكّر والأحاسيس، بينما الكاهن يُشير إلى القلب الذي يتقدس لله بالروح القدس فيسكن فيه مسيحنا بكونه أسقف نفوسنا وشفيعنا بدمه لدى أبيه. فإن كان الحديث النبوي هناك موجّهًا نحو الوالي والكاهن، إنّما لأن كلمة الله تُحدّث الإرادة الإنسانيّة والقلب معًا. فإنه لن يُبنى هيكل الرب فينا ما لم تنحن إرادتنا ويخضع قلبنا أمام الله قائلين: "أنا أمة الرب ليكن ليّ كقولك". بمعنى آخر يليق بنا لكي ننعم بالمقدس الإلهي الذي أُقيمت أساساته في مياه المعمودية بالروح القدس بل وتشكل في داخلنا ليزداد مجدًا يومًا فيومًا بعمل الله فينا، يليق بنا أن نُسلّم زربابلنا الداخلي ويهوشعنا بين يديه، أي نسلّمه الإرادة الحيّة العاملة مع القلب بكل مشاعره.

حقًا إن إرادتنا هي "زربابل"، إذ وُلدت في بابل حيث كنا تحت سبى الخطيّة، لكن الرب وحدة يُحرّرها من سبيها ويطلقها إلى أورشليم العليا لا لتقود خمسين ألفًا من الرجال للعمل، وإنّما تحمل في داخلها طاقات وإمكانيّات الرب نفسه فيها ليعمل بها وبكل مواهبها وأحاسيسها... لحساب ملكوته.

وكما نحتاج إلى تقديس الإرادة بتحريرها من سبيها العنيف بعمل الصليب، هكذا نحتاج إلى تقديس القلب أيضًا، حتى يسكنه يهوشع الحقيقي أي يسوعنا الذي هو "الله مخلصنا" وفي نفس الوقت هو "يهوصادقنا" أي (الله برّنا).

رابعًا: أما موضوع النبوّة فهو: "هكذا قال رب الجنود قائلاً: هذا الشعب قال إن الوقت لم يبلغ، وقت بناء بيت الرب" [2].

يبدأ حديثة مع الشعب بقوله: "قال رب الجنود"، وكأنّه أراد أن يؤكّد لهم أنهم إن كانوا يعملون لحساب ملكوته فهم جنوده وهو قائدهم الذي لا يعرف سوى الجهاد الروحي بلا رخاوة، إنّه رب الجنود! ولعلّه قصد أيضًا توبيخهم إنهم إن كانوا قد تركوا العمل في رخاوة واستهتار فهو في غير حاجة إلى أيدي عاملة، إذ هو رب الجنود السماويّة... لكنّه يطلبهم للعمل لأنه يحبّهم ويشتاق للعمل خلالهم.

وفي بداية حديثة لا يقل "شعبي" بل "هذا الشعب" ففي دراستنا لسفر الخروج وبعض أسفار الأنبياء لاحظنا أنّه متى أخطأ الشعب لا يدعوه: "شعبه" أي لا ينسبه إلى نفسه، وذلك كما حدث في حديثة مع موسى، إذ قال له: "قد فسد شعبك" (خر 32: 7)، ناسبًا الشعب لموسى لا لنفسه. أما حينما يتقدّس الشعب فيحلو له أن يفتخر به حاسبًا إيّاه شعبه، وسبوتهم سبوته، وأعيادهم أعياده، وتقدماتهم تقدماته.

أما سرّ حزن الله على هذا الشعب فهو أنهم أقاموا الحجج والتبريرات للامتناع عن العمل، قائلين: لم يبلغ الوقت لبناء بيت الرب. لقد تعلّلوا بأن المقاومات الخارجيّة هي إشارة إلهيّة بأن وقت العمل لم يحن، ولعلّهم أيضًا برّروا ذلك بأنه يليق بهم أولاً أن يهتمّوا ببيوتهم حتى تستريح عائلاتهم، وعندئذ يعملون لحساب بيت الرب بقلب مستريح، ولم يدركوا أنّه يليق أن يكون الله أولاً في حياتهم، كقول السيّد: "أطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه وهذه كلها تزاد لكم" (مت 6: 33).

حياتنا في الواقع هي مجموعة من الفرص، إن ضاعت فرصة قد لا تتكرّر، فلا يليق بنا القول: "إن الوقت لم يبلغ بعد" لئلا نصير كفيلكس الوالي الذي أرجأ فرصة التوبة إلى أن يجد الوقت المناسب (أع 24: 25) فلم نسمع أنّه وجد الوقت، إنّما يليق بنا القول: "عظوا أنفسكم كل يوم مادام الوقت يُدعى اليوم لكي لا يقسَّى أحد منكم بغرور الخطيّة" (ع 3: 13)، "مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة" (أف 5: 16).

الأعداد 3-11

2. توبيخ على الاهتمام بالزمنيّات:

في الوقت الذي فيه يقولون بأن الوقت لم يحن لبناء بيت الرب يسكنون هم في بيت لهم مغشاة، تليق بالملوك (1 مل 7: 7؛ إر 22: 14)، وكأنهم ليس فقط قدّموا الزمنيّات عن الأبديّات وإنّما حتى في تدبيرهم للأمور الزمنيّة سكنوا في قصور مترفة تليق بالملوك والعظماء.

إن كانوا يسكنون القصور الفخمة لكن يليق بهم أن يرجعوا أنفسهم ويتأمّلوا حياتهم من جديد، إذ يقول لهم: "اجعلوا قلوبكم على طرقكم" [5]. ولعلّ كلمة "قلوبكم" هنا تعني التأمّل في الحياة الداخليّة أو مراجعة النفس، وكما يقول الرسول: "ليمتحن كل واحد عمله" (غلا 6: 4)، أي يحكم على نفسه قبل أن يحكم الغير عليه... وها هو النبي يُساعدهم على مراجعة أنفسهم بقوله: "زرعتم كثيرًا ودخلتم قليلاً، تأكلون وليس إلى الشبع، تشربون ولا تروون، تكتسون ولا تدفئون، والآخذ أجرة يأخذ أجرة لكيس مثقوب" [6].

إذ يرفض الإنسان الالتصاق بالله خالقه إنّما يرفض البركة في حياته، فالطبيعة تقاومه والأرض لا تعطيه ثمرها، حتى جسده لا يتمتّع بالشبع والكفاية مهما قُدم له. قد يزرع كثيرًا لكن الحصاد قليل، وقد يأكل بنهَم كل ما يشتهيه ولكن بلا شبع، وينال أجرة بلا كيل لكنّه كمن يضعها في كيس مثقوب. هذا ما حذّر منه الكتاب في أكثر من موضع، فيقول الكتاب: "بكسريّ لكم عصا الخبز تخبز عشر نساء خبزكم في تنور واحد ويردّدون خبزهم بالوزن فتأكلون ولا تشبعون" (لا 26: 26)؛ "من أجل خطاياك أنت تأكل ولا تشبع وجوعك في جوفك... أنت تزرع ولا تحصد، أنت تدوس زيتونًا ولا تدهن بزيت، وسلافة ولا تشرب خمرًا" (مي 6: 14 - 15 راجع هو 4: 10).

يرى القديس إكليمنضس الإسكندري أن صاحب الكيس المثقوب هو الذي يجمع أمواله ويغلق عليها فلا يعطي للآخرين، إذ يقول: [من يجمع قمحه ويغلق عليه، من لا يعطي أحد يصير إلى حالة أفقر[7]]. لهذا عندما مدح القديس جيروم الكاهن الضرير أبيفايوس قال له: [إنك لا تضع أجرتك في كيس مثقوب بل تضع كنوزك في السماء[8]]. وفي مناظرات القديس يوحنا كاسيان يقول الأب إبراهيم: [إن صاحب الكيس المثقوب هو من يسمع أقوال الغير لكنه يفقدها بسبب عدم ضبطه لنفسه وعدم تركيز ذهنه[9]].

هكذا يفقد الإنسان البركة حتى في الأمور الزمنيّة باعتزاله مصدر البركة. هذا ما يؤكّده الرب مرّة أخرى مهدّدًا لا للانتقام وإنّما ليردّ الإنسان إليه، فيقول: "لأجل بيتي الذي هو خراب وأنتم راكضون كل إنسان إلى بيته، لذلك منعت السموات من فوقكم الندى، ومنعت الأرض غلتها، ودعوت بالحرّ على الأرض وعلى الجبال وعلى الحنطة وعلى المسطار وعلى الزيت وعلى ما تنبته الأرض وعلى الناس وعلى كل أتعاب اليدين" [11].

إذ يتجاهل الإنسان خالقه تتجاهله الخليقة فتمنع السموات نداها والأرض غلتها، حتى الجو يفقد لطفه فيختنق بحرّه الإنسان والحيوان والنبات على الجبال والمناطق السهلة، مفسدًا كل تعب اليدين. جاء في سفر التثنية: "وتكون سماؤك التي فوق رأسك نحاسًا، والأرض التي تحتك حديدًا، ويجعل الرب مطر أرضك غبارًا وترابًا ينزل عليك من السماء حتى تهلك" (تث 28: 23 - 24). حينما يُقسي الإنسان قلبه تصير له السماء قاسية كالنحاس والأرض حديدًا بلا ثمر، وإذ تكون أفكاره أرضية ترابية يتحوّل المطر بالنسبة له إلى تراب يهلكه... وكأن الطبيعة تُقدّم له مما هو مختفي فيه.

جاء في الترجمة السبعينيّة "ودعوت بالسيف على الأرض وعلى الجبال... الخ"، فلا يكفي غضب الطبيعة عليه، إنّما يفقده سلامه مع إخوته فيلاحقونه بالسيف أينما وُجد، حتى إن اختفي على الجبال وسط الصخور، ويبدّدون بالعنف كل ثماره.

يمكننا أيضًا تفسير الكلمات الإلهيّة "لأجل بيتي الذي هو خراب وأنتم راكضون كل إنسان إلى بيته" هكذا، إنّه يعني مسكنه الداخلي فينا الذي يصير خرابًا بفقدانه الله نفسه كساكن فيه فتهرب النفس إلى بيتها، أي تتقوقع حول ذاتها وتتشبّث بأنانيّتها، عندئذ عوض المكسب تدخل إلى خسارة وفقدان تام، إذ تفقد النفس (السموات) نعمة الله (الندى) وتُحرم من عمل الروح القدس، وتمنع الأرض غلّتها أي يفقد الجسد قدسيّته، فلا يكون فيه ثمر مفرح لله والإنسان، فتتحوّل حياته إلى اضطراب شديد حيث يلاحقه السيف الداخلي أينما وجد. يُحطّم السيف أرضه أي جسده، وجباله أي إمكانيّاته المتشامخة ويُفسد حنطته ومسطاره (الخمر الجديد) وزيته أي يفسد طعامه وشرابه ودواءه ليجعله جائعًا ظمآنًا ومريضًا!

لم يتركنا الله هكذا لكنّه يقدم العلاج: "هكذا قال رب الجنود: أجعلوا قلبكم على طرقكم، اصعدوّا إلى الجبال وأتوا بخشب وابنوا البيت فأرضى عليه وأتمجّد" [7 - 8].

أ. يبدأ العلاج بالقول: "أجعلوا قلبكم على طرقكم" فلا إصلاح للنفس بدون مراجعة الإنسان لنفسه، لا بمحاسبته لنفسه على تصرّفاته الخارجيّة أو الظاهرة فحسب، وإنّما بالتأمّل في القلب ذاته. فإن كان هذا السفر هو سفر بناء بيت الرب الداخلي، فإنه يرفع فكرنا إلى داخل القلب بكونه مركز العمل. وكأنّه يقول: هيّئوا قلبكم ليقيم الرب مسكنه فيكم بروحه القدّوس.

ب. لا يقف الأمر عند مجرّد التأمّل في القلب وإنّما يقول: "اصعدوا إلى الجبل"... عوض جبلنا المتشامخ أي (الأنا) التي تهدمنا إلى الهاويّة، نرتفع إلى الجبل الذي قال عنه دانيال النبي: "أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلاً كبيرًا وملأ الأرض كلها" (دا 2: 35). هذا هو الجبل الذي قيل عنه: "لا يمكن أن تخفى مدينة موضوعة على جبل" (مت 5: 14).

إذن لنصعد بالرب نفسه لنتأسّس عليه كجبل يملأ الأرض ويرفعنا كمدينة منيرة وكهيكل مقدّس، بكونه صخر إيماننا. هناك نجلب خشبًا لنبني بيت الرب، أي نحمل صليبه ونشترك معه في آلامه، إذ لا تقوم مقدّسات الرب فينا خارج آلامه.

ج. أخيرًا يقول: "ابنوا البيت فأرضى عليه وأتمجّد". مع أنّه هو الباني للبيت كقول المرتل: "إن لم يبنى الرب البيت فباطلاً يتعب البناءون" لكنّه يؤكّد "ابنوا البيت" مؤكّدًا تقديسه للحرّيّة الإنسانيّة، فهو لا يقيم البيت فينا بغير إرادتنا ولا بدوننا، بل وينسب العمل لنا مع أنّه هو العامل فينا.

الأعداد 12-15

3. ثمر الدعوة:

جاءت الكلمات النبويّة بثمرها المفرح إذ سمع الوالي والكاهن وكل بقيّة الشعب كلمات الرب وخافوا أمام وجهه وبدءوا في العمل. وكأن الإنسان إذ ينصت للكمات الإلهيّة تخضع إرادته (الوالي) وينحني قلبه (الكاهن) وتتجاوب كل طاقاته (بقيّة الشعب) ليمتلئ بكليّته من مخافة الرب ويعمل بقوّة خلال انسجام داخلي مفرح.


[1] Ep. 53: 8.

[2] Jerome Bibical Comm, P 388.

[3] J. H. Raven: Introd. to O. T. , P 240.

[4] Jerome Bibical Comm, P 388.

[5] On Ps. 149.

[6] راجع تفسير هوشع أصحاح 3.

[7] Instr 2: 3.

[8] Ep. 76: 3.

[9] Conf. 24: 13.

No items found

الأصحاح الثاني - سفر حجي - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفاسير سفر حجي الأصحاح 1
تفاسير سفر حجي الأصحاح 1