مقدمة – حياة الشكر – البابا شنودة الثالث

مقدمة

تحوى هذه النبذة احدى محاضرات قداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث التى ألقاها – واربعا أخرى غيرها – بالمؤتمر الأول لخدام التربية الكنسية بالإسكندرية عام 1968 بكنيسة القديس مارمينا بالمندرة – وكان قداسته عندئذ اسقفاً للتعليم – وقد سبق لمكتبة كنيسة السيدة العذراء محرم بك ان طبعت المحاضرات الخمس المذكورة طبعة أولى عام 1971 – وهو أول عام لتبوأ قداسته السدة الرسولية.

ولقد نفذت الطبعة الاولى لتلك المحاضرات وازاء الالحاح فى طلبها رأينا ان نقوم بإعادة طبعها واحدة بعد الاخرى وها نحن نقدم الطبعة الثانية لهذه المحاضرة عن.

حيَاة الشكر

راجين الرب أن يجعلها لخير القراء ولبركة حياتهم وشركتهم فى الرب. ببركة صلوات قداسة البابا المعظم الانبا شنودة الثالث أطال الله حياته ورئاسته للكنيسة سنين عديدة وأزمنة سالمة مديدة – أمين.

الكنيسة.

حيَاة الشكر

حياة الشكر والإيمان:

ان حياة الشكر مرتبطة بأمور أخرى تسبقها وتندمج معها.. فحياة الشكر تلزمها حياة الإيمان، الإيمان بالله فى صفات معينة بدونها لا يمكن أن نصل إلى حياة الشكر.. فلا بد أن تؤمن أولاً ان الله صانع الخيرات، وثانياً أنه محب للبشر. فالله لابد أن يصنع خيراً – لا يستطيع أن يصنع الا الخير – وهو باستمرار يصنع خيراً معك ومع باقى الناس. ولابد أن تؤمن ثالثاً أن الله قادر على كل شئ – هو يحبك ويريد أن يصنع معك خيراً، وهو قادر على صنع الخير.. هذه الصفات الثلاث تجعلك تثق بأن الله يصنع دائماً خيراً.

وهنا تقابلنا مشكلة وهى أن الله مع انه يصنع الخير، إلا أنه أعطى حرية للناس، والناس قد يصنعون شراً.. فربما يأتيك الشر من الناس فاعلى الإثم وليس من الله. وهنا لابد أن تؤمن رابعاً أنه توجد صفة أخرى لله تضعها الى جوار هذا فتستريح وهى صفة الله كضابط للكل، يرقب كل أحد.. فالحرية التى أعطاها للناس لا تعنى أنه تخلى عن ادارته للكون، وترك كل إنسان يفعل ما يريد إنما الله يعطى الحرية ويرقب ويقود ويلاحظ كل شئ. ويغير ما يحتاج إلى تغيير، ويمنع ما يراه ضاراً.. هو ضابط الكل. هذه الصفة تريحك من جهة حرية الناس وحرية الشياطين وأيضاً حريتك الشخصية.. لأن الشر الذى يأتيك ربما يكون صادراً عن حرية الناس الاشرار او عن حريتك الشخصية التى بها تضر ذاتك، أو عن محاربة الشياطين.. والله ضابط الكل يتدخل فى كل هذه الامور وينفذ مشيئته الصالحة الطوباوية. فالله لا يمنح الحرية مطلقة.. وإلا هلك العالم. حتى الشياطين الأشرار الذين هم بطبيعتهم الملائكية الروحية لهم قوة تفوق الطبيعة، إلا أنهم ليسوا احراراً فيما يعملون.. ففى قصة أيوب مثلاً نلاحظ أن الشيطان كانت حريته محدودة. كان يقترح أموراً، والله يسمح له أو لا يسمح، ويضع له حدوداً وقيودا معينة.. قال له اولا هوذا كل ما لأيوب فى يدك وإنما إليه لا تمد يدك (أى 1: 12). وفى المرة الثانية سمح له أن يمد يده الى جسد أيوب دون عقله أو نفسه.. حتى الشيطان، يحدد له الله عمله ويقيده ولا يترك له الحرية المطلقة.. فلهذا اطمئن، لان الله صانع الخيرات، محب البشر، ضابط الكل، يرعاك ويهتم بك ولا يسمح أن يأتيك ما يضرك. وإن آمنت بهذا لابد أن تشكره على عنايته.

الشر وصانع الخيرات:

وهل نشكر الله على الشرور التى يسمح بها؟.. طبعاً نشكره. نحن نشكر الله على كل حال ومن أجل كل حال وفى كل حال. أشكر الله الذى يستطيع أن يحول الشر الى الخير.. بعين الإيمان انظر الى هذه المتاعب فى ضوء تدخل الله وتحويله لها إلى الخير.. واليك المثل:

يوسف الصديق: فعل به إخوته شراً، باعوه كعبد.. ولكن الله الذى يخرج من الجافى حلاوة، استطاع ان يحول هذا الشر الى خير. لذلك قال يوسف لاخوته أخيراً ((أنتم قصدتم بى شراً والله قصد به خيراً)) (تك 50: 20). امرأة فوطيفار الشريرة أرادت بيوسف شراً، ولفقت له تهمة كاذبة ألقت به فى السجن.. ومع ذلك فالله حول هذا الشر الى خير بالنسبة ليوسف شخصياً ولارض مصر والعالم كله..! لان يوسف كان سبب بركة لمصر فى المجاعة وللعالم المحيط بها الذى أنتفع من تدبير يوسف لها. فلو آمنت بالله أنه يحول الشر الى خير ستعيش فى حياة شكر كامل، على كل ما يحل بك. لذلك لا تتعب أبداً.. ان كان الذى يحدث لك خيرا فى ذاته، فسيصلك هذا الخير. وإن كان شراً، فإن ضابط الكل سيقابله فى الطريق ويحوله إلى خير ليصلك خيراً.

الصبر وحياة الشكر:

انا بحياة الإيمان نرتاح ونشكر الله على كل أعماله الصالحة معنا. والى جوار هذا لابد أن تكون صبوراً وطويل الاناة.. لان هناك أعمالاً تتحول الى خير فى مدى زمن طويل يحتاج منك صبرا. ففى قصة يوسف الصديق: بيعه كعبد لم يتحول إلى خير فى نفس السنة. القاؤه فى السجن لم يتحول الى خير فى نفس السنة.. ولكنك بالمدى الزمنى وبمرور الوقت رأينا الخير الذى نتج عن ذلك. فعليك ان تكون طويل الاناة واثقاً فى حكمة الله ورحمته وتدخله فى الوقت المناسب بالطريقة المناسبة.

الأهواء الشخصية وحياة الشكر:

من الأمور المهمة فى شعور الانسان بالخير وبالشر وما يترتب عليه من شكر أو تذمر، رغباتنا الداخلية ونوع تقييمنا للامور.. كتب القديس يوحنا ذهبى الفم مقالاً جميلاً عنوانه ((لا يستطيع أحد أن يضر انساناً ما لم يضر هذا الإنسان نفسه)).. بدون فهم هذا الموضوع لا تستطيع الوصول الى حياة الشكر. ما الذى يستطيع انسان – أو حتى شيطان – أن يضرك به..؟ لو كنت أنت انساناً قديسا، صالحاً، باراً، تحب الله.. سيكون لك هدف واحد فقط هو الالتصاق بالله ورغبتك هى فقط فى ملكوت السموات. وهذا لا يستطيع احد أن يضرك فيه. أما اذا جعلت لنفسك أهدافاً ورغبات أخرى أضفتها الى الله.. فهذه هى التى تضرك. قلبك من الداخل – المحب لهذه الرغبات – هو الذى يضرك وليس الناس. قد يستطيع أحد أن يأخذ منك مالاً، فاذا كنت لا تهتم بالمال فى كثرته أو قلته فلا تضر. قد يستطيع أحد أن يزج بك فى السجن، فإذا كنت لا تهتم إلا بحرية ضميرك وفكرك وقلبك فى علاقتك مع الله، ولا تهتم بالمكان الذى يعيش فيه ولا بالحالة الارضية، عند ذلك سوف لا تشعر بضرر. فبولس الرسول كان فى أعماق السجن وكان يرتل بفرح.. ماذا يصنع بك الناس من الخارج؟ أيقتلونك؟ وماذا يضرك هذا ان كان لا هدف لك سوى الحياة مع المسيح؟!.. الشهداء عذبوا وقتلوا، ولم يشعروا أنهم قد أصيبوا بضرر، لأن الضرر الوحيد هو الانفصال عن الله وهذا يتعلق بالقلب من الداخل وليس بالناس.. يوسف الصديق صار عبداً ولم يتعب، لأن الحرية لم تكن هى هدفه، وكذلك السجن لم يفصله عن الله.. الضرر الوحيد هو انفصالك عن الله، وهو لا يأتى الا بانحراف إرادتك الشخصية نحو الشر، وتكون انت الذى آذيت نفسك وليس إنسان آخر.

التجارب وحياة الشكر:

قد يفقد الناس حياة الشكر عندما يقعون فى احزان ومتاعب متنوعة. أما رجال الله القديسون الذين لا تتعبهم كل هذه الأمور، ولا يتعبهم الا الانفصال عن الله، فكل ضيقات العالم لا تتعبهم. هم يعيشون فى شكر دائم فى كل حال، فى الفقر وفي الغنى، فى السعة وفى الضيق، فى المرض وفى الصحة، فى الموت وفى الحياة.. دائماً يشكرون لان الهدف الوحيد وهو الالتصاق بالله، لم يفقدوه فى كل هذه الحالات. لذلك هم فرحون متهللون شاكرون. لو ضاع منى كل شئ وبقى لى الله وحده، فأنا معى كل شئ، لان الله هو الكل فى الكل، فما الذى يحزننى؟.. يقول بولس الرسول ((لذلك أسر بالضعفات)) (2 كو 12: 10).. لماذا؟ لان الضيقات تقربنى إلى الله أكثر، وتجلب لى اكاليل أكثر.. فما الذى يحزننى؟ أشكر الله على كل حال.. فى الصحة وفى المرض.. ولماذا اشكر الله فى المرض؟ لأنه ليس شراً فى ذاته لعازر المسكين المذكور فى قصة ((الغنى ولعازر)) كان مثقلاً بالامراض، وكانت عنده قروح كثيرة والكلاب تلحس هذه القروح.. لكن هذا كله لم يكن شراً فى ذاته ولم يفصله عن الله، بل على العكس كان للفائدة. فعندما اتكأ فى أحضان ابراهيم، قدم عنه تقريراً أنه ((استوفى بلاياه على الأرض لذلك هو يتعزى)) (لو 16: 25). هكذا فلتشكر الله فى المرض لأنك قد تستوفى به البلايا وتأخذ نصيب لعازر المسكين.

لا نعلم ما نصلى لأجله:

قال القديس باسيليوس الكبير ((وان كنت مريضاً لا تطلب من الله صحة، لانك لا تعرف ما هو المفيد لك – الصحة أم المرض)). طبعاً نحن بضعفنا البشرى نطلب الصحة لكننا لا نعرف روحياً ما هو المفيد.. ربما يتعبنى المرض على الأرض لكنه يضمن لى ملكوت السموات اذا كان استغلالى له حسناً. من المعروف عن المهاتما غاندى أنه كان يكره الطب والمستشفيات – لا نريد مناقشة الرأي كله وإنما نعرض فقط وجهة نظر غاندى فى المستشفيات. أنها تعطى الانسان صحة جسدية ربما يغضب بها الله.. وربما ينهمك بها فى الشر ويخسر الله!. ولذلك كان غاندى يهتم بالعلاج الروحى والنفسى أكثر من العلاج الجسدى. ما معنى أن شاباً مريضاً يعطى صحة يستغلها فى الزنى والفسق!.

ما معنى أن انساناً شريراً يعطى صحة يستغلها فى الظلم والسرقة والفساد!.. هل كانت هذه الصحة للفائدة أم للضرر؟ فالمهم إذن الصحة الروحية. حكى فى بستان الرهبان عن أحد الرجال الاثرياء النبلاء أن كانت له ابنة وحيدة مريضة مشرفة على الموت، فطلب من أحد القديسين أن يصلى من أجلها لتشفى. فحاول القديس أن يعتذر بشتى الطرق، ولكن الرجل ألح عليه، فصلى القديس وعاشت الفتاة، إلا أنها سلكت فى سيرة شريرة أضاعت بها كرامة أبيها، لدرجة أنه عاد الى القديس وقال له ((صل لكى يأخذ الله الفتاة)).. فأجابه ((أنت طلبت مشيئتك الخاصة)) نحن لا نعرف يا اخوتى ما هو المفيد لنا. ومع ذلك كثيراً ما نطلب الصحة، ولا يكون طلبنا هذا خاطئاً، ولكن لو تمسكنا به نخطئ. بولس الرسول أعطى شوكة فى الجسد لئلا يرتفع من فرط الإعلانات. وقد طلب الى الله أن يفارقه هذا المرض اذ قال: ((الى الله تضرعت ثلاث مرات أن يفارقنى)) (2 كو 12: 8). ولكنه لم يستجب.!! رفض الله صلاة بولس الرسول قائلا ً: ((تكفيك نعمتى)) (2 كو 12: 9). فالمرض كان صالحاً له.

حياة الشكر - البابا شنوده الثالث 1
.

الارادة البشرية والتدبير الإلهي:

إن مشكلتنا فى حياة الشكر هى أننا نريد أن ندبر امورنا بعقليتنا وطريقتنا الخاصة – فإذا لم نعط طلباتنا نغضب. وقد لا نغضب ولكن أيضاً لا نشكر وهناك فرق بين إنسان شاكر وبين إنسان غاضب. فإذا شكرنا الله فمعنى ذلك أننا نرى الخير فى كل عمل الرب معنا.

وإذا كان الله يقول فى كتابه المقدس: من يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل فذلك خطية له (يع 4: 17) فبالحرى – يعمل هو الخير اذ باستطاعته أن يعمل – وبالضرورة لابد أن اؤمن بأن الله يصنع خيراً معى وهو فعلاً يصنع ذلك.

ولماذا إذن تنتابنى أتعاب – كل ذلك بسبب ارادتى أنا المنحرفة. لأن الله يصنع دائماً معى خيراً، لكنه لا يرى من الخير أنه يسلبنى هذه الارادة التى بها أضر نفسى أحياناً. أما هو فينبغى أن أشكره فى كل حين.. ان كانت حالتى سيئة، فكان ممكناً أن تكون أسوأ لو تخلت عنى نعمة الله. الله يصنع معى خيراً، ولكننى لا أصنع خيراً مع نفسى، فينبغى أن أشكر الله وألوم نفسى.. ولنطرق بعض نواحى تفصيلية.

لماذا أشكر الله..!

لعل من أجمع القطع الروحية التى سمعتها وقرأتها فى حياتى فى نواحى الشكر هى القطعة الموجودة فى القداس ((الغريغورى)) وأولها ((قدوس قدوس أنت أيها الرب وقدوس فى كل شئ)) التى يبدأ فيها الكاهن نيابة عن الشعب فى شكر الله على كل شئ اذ يقول.. ((خلقتنى انساناً كمحب للبشر ولم تكن أنت محتاجاً إلى عبوديتى بل أنا المحتاج الى ربوبيتك. من أجل تعطفاتك الجزيلة كونتنى إذ لم أكن. أقمت السماء لى سقفاً وثبت لى الأرض لأمشى عليها. من اجلى الجمت البحر. من أجلى اظهرت طبيعة الحيوان. اخضعت كل شئ تحت قدمى. لم تدعنى معوزاً شيئاً من أعمال كرامتك.. الخ)).

ومن هذه القطعة نستطيع أن نتأمل بركات:

  1. أشكر الله لأنه خلقك: من منا يشكر الله لانه خلقه وأنعم عليه بالوجود؟
  2. توجد أشياء كثيرة ننساها، ليتنا نتذكرها.. هل تشكر الله لأنه أوجدك؟ كان ممكنا ألا تخلق على الأرض. الله لم يكن مطالباً بأن يزيد العالم واحداً.! كان ممكناً أن تكون والدتك عاقراً ولا تلد بنين، وكثير من النساء عواقر. ان مجرد ولادتك نعمة عظيمة من الله اذا يقول فى المزمور: ((البنون ميراث من الرب)) وكان ممكنا الا يعطى والدك هذا الميراث، أو أن ينجبا اخوتك فقط ولا ينجباك انت بالذات.

  3. أشكر الله لأنه خلقك فى اليوم السادس:
  4. الله قبل أن يخلقك صنع من أجلك اشياء كثيرة.. نحن نشكر الله ليس لانه خلقنا فقط، بل أيضاً لانه خلقنا فى اليوم السادس.. لماذا لأنه أعد كل شئ لراحتنا قبل أن يخلقنا. لذلك نقول فى القداس ((أقمت السماء لى سقفاً وثبت لى الأرض لأمشي عليها. من أجلى الجمت البحر! من أجلى أظهرت طبيعة الحيوان، أخضعت كل شئ تحت قدمى)) فالله أعد كل شئ قبل أن يخلق الإنسان: خلق السماء وزينها بالشمس والقمر والكواكب وخلق النور، خلق الأرض والنبات والحيوان.. خلق الإنسان بعد أن أعد له كل نواحى الراحة، وبعد أن ضبط القوانين الطبيعية سواء قوانين الفلك والسماء أو القوانين الارضية من جهة الامطار والرياح والحرارة والرطوبة.. الخ. بعد أن دبر كل شئ خلق الإنسان.. أشكر الله من أجل المواهب الانسانية التى اعطاك اياها.. الذكاء والعقل والنطق والمشاعر والحواس.. من أجل كل الأشياء الطبيعية التى كثيراً ما ننساها عندما نشكر الله.

  5. أشكره لانه خلقك مسيحياً:
  6. أشكر الله أيضاً لأنه جعلك تولد مسيحياً فان كثيرين يشتهون هذا الإيمان ولا يجدونه. بل ويتعبون من أجله كثيراً، ولا يستطيعون الوصول إليه، اذ تقف أمامهم كثيراً من المشاكل العقائدية والمتاعب والمشاكل الاجتماعية وغير الاجتماعية.. أما أنت فوجدت فى هذا الإيمان وفى هذه العقيدة..!! اشكر الله على هذا.

أشكره لأنه وهبك الصحة والحواس وجميع الاعضاء:

أشكر الله أيضاً على الصحة التى أنت فيها، من منا يشكر الله لانه يبصر؟ لكن اذا تعبت عيناك وبدأت تعالجهما، تبدأ فى الشعور بنعمة البصر التى لم تشكر الله عليها من قبل. انا لا ابداً اشكر الله على رجلى التى أسير بهما حسناً إلا بعد أن تبدأ فى التعب وأبتدئ أحتاج إلى عصا استند اليها..!! أنت لم تشكر الله لان معدتك تهضم الطعام جيداً، ولكن اذا حدث لها تعب أو نقص فى العصارات! أو أصبت بقرحة فى المعدة.. حينذاك تبدأ تشعر أنك كنت فى نعمة لم تشكر عليها..! صدق الحكيم فى قوله الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء لا يعرفه إلا المرضى)) نحن لا نحس قيمة الشئ الذى عندنا الا عندما نفقده، فنندم لأننا لم نشكرعليه.. كثير من الناس يشتهون الوضع الذى أنت فيه ولا يجدونه. فأشكر الرب.

أشكره لأنه يعطيك فرصة الحياة من أجل التوبة:

أشكر الله لأنك لازلت فى الحياة.. قال أحد الكتاب كلمة تستحق التسجيل ((أن ملايين الملايين من الذين فى الجحيم يشتهون ساعة من حياتك أنت على الأرض)).. على الاقل يتوبون فيها، يقدمون لله اعترافاً وانسحاقاً ويكسبون ملكوت السموات.. أما أنت فعندك حياة طويلة لا تشكر عليها. ولو حلت بك سكتة قلبية تقول يارب دقيقة واحدة فقط اشكرك عليها، دقيقة واحدة أتوب فيها.. لا توجد ضاعت الفرصة وعندما تذهب الى الجحيم تقول لو كان اعطانى الله دقيقة أقول فيها عبارة العشار.. لو أقول عبارة اللص اليمين.. ولو أقدم توبته..!! ملايين الملايين من الذين فى الجحيم يشتهون دقيقة واحدة من عمرك، ولا يجدون. لو أن الله أخذ منك الروح الان، الا تشتهى هذه الدقائق، وتتمنى لو أعطاك الله نصف ساعة فقط! وتقول اعترف فيها بكل شئ بالتفصيل حتى بالذى أخجل منه، حتى بما لا يقال، حتى بما يقف على لسانى.. أقوله بدون حرج وآخذ عنه حلا.. لو اعطانى الله نصف ساعة اتصالح فيها مع من اخاصمهم، واعتذر لهم، واقدم لهم مائة مطانية (سجود) تحت أرجلهم، حتى لو كانوا هم المخطئين.. نصف ساعة يارب.. لا يوجد – اغلق الباب. لماذا إذا لا تشكر الله على الحياة التى لك؟.. وعلى هذه الساعات التى مازالت لك فى العمر وتستطيع أن تعمل فيها الكثير، وتضمن ملكوت السموات، وتتوب وتحيا حياة روحية؟.. ألا تشكر الله الا أذا نزل لك كنز من السماء..؟! وما أدراك – ربما اذا نزل لك كنز من السماء يكون سببا فى هلاكك وتفقد الملكوت بسببه.

أشكره لأنه يهيئ لك الحياة فى بيئة مسيحية:

هناك أشياء كثيرة تستحق الشكر، لا نشكر الله عليها. من منكم يشكر الله لانه موجود الان فى الكنيسة؟ كثير من الشبان فى هذه اللحظة فى أماكن اللهو المختلفة وفى خطايا كثيرة، وأنتم موجودون فى الكنيسة. فمن منكم يشكر الله؟ لمجرد وجوده حتى لو كان لا يفهم الكلام أو لا ينسجم منه.. أشكر الله على هذا. من منا يشكر الله لانه أوجد له بيئة مسيحية صالحة من أبوين مباركين لم يمنعاه عن طريق الرب؟ وهيأ له بيئة مسيحية من خدام فى الكنيسة يعتنون به حتى وصل الى هذا الوضع من المعرفة الروحية والسلوك الروحي؟.. توجد اشياء كثيرة تستلزم الشكر ونحن لا نشكر عليها.

أشكره لأنه يرعى كل امور حياتك:

يوجد ايضاً عنصر آخر هو احسانات الله اليك.. الاحسانات الشخصية فى حياتك عموماً وفى حياة أحبائك. كم مرة طلبت من الله طلبا واستجاب؟ فى ضيقات أنقذك منها، فى امتحانات انجحك فيه، فى مشاكل وفى قضايا كانت نتيجتها فى صالحك، فى أمراض شفاك منها، فى ضيقات أنقذك منها، فى خطايا لم تكشف أمام الناس.. أريد أن أذكر كم بمثل بسيط.. فى سنة 1947 كان مرض الكوليرا منتشراً وكان يحصد بالالاف. وأغلقت كثير من المدن خوفاً من نقل العدوى وكان الرعب حالا فى البلاد.. دخلت مرة احدى هذه المدن المغلقة بتصريح بعد التطعيم ضد الكوليرا طبعاً، ولم أسمع أحد يضحك، ولا يبتسم، ولم يكن يسمع صوت راديو ولا اغانى.. وكانت المدينة حزينة مكتئبة. وكثيرون صلوا وقالوا ((يارب لو انقذتنى من الكوليرا سأبقى مثل مارجرجس، مثل الملاك ميخائيل، مثل الانبا انطونيوس اب الاباء)).. وانقذنا الله من الكوليرا وعشنا الى الان، من منا يشكر الله لأنه نجا من الكوليرا؟ راحت ونسيت وضاعت.. ومن هذا كثير.

نحن ننسى احسانات الله – وعندما ننساها يقل شكرنا وايضاً تقل محبتنا. لانك اذا تذكرت جميل أحد عليك، تحبه. وعندما ننسى هذا الجميل تفقد المحبة. لذلك من التداريب الجميلة أن يجلس الإنسان الى نفسه وبعد احسانات الله اليه.. خذ ورقة طويلة واجلس اكتب احسانات الله إليك منذ ولادتك الى الان، واحساناته الى احبائك، وعدد الصلوات التى استجيبت فى حياتك، والخيرات التى أتتك بدون صلوات – من الله رأساً.. عدها كلها ثم قف واشكر الله على كل أمر واحد فواحد.

اشكره من أجل الفداء العظيم:

يوجد أمر أعظم من هذا كله بكثير ولا يقاس الى جواره آخر ويحتاج الى شكر، الليل والنهار.. وهو الخلاص العظيم الذى قدم الينا على الصليب.. من منا يشكر المسيح لأنه صلب من أجلنا..؟ لأنه تجسد من أجلنا وسكب دمه من أجلنا..؟ ان حكم الموت الذى وقع على البشرية، ما كان ممكنا لأحد أن يخلص منه بدون تجسد الابن وبدون صلبه وموته.. فالإنسان أخطأ إلى الله.. وكانت خطية غير محدودة لأنها موجهة ضد اله غير محدود، وعقوبتها غير محدودة. ان قدمت من أجلها كفارة، فلابد ان تكون كفارة غير محدودة. ولا يوجد غير محدود الا الله.. فكان لابد ان يتجسد الله وأن يموت عنا – والله دفع هذا الثمن..! لو فرضنا ان الله لم يدفع هذا الثمن، فماذا تكون النتيجة؟ كلنا الى الملاك الابدى. ولكن المسيح انقذنا جميعاً. من منا كل يوم وكل ليلة يذكر صليب المسيح ويشكره لأنه دفع الثمن نيابة عنا؟ بدون هذا الثمن ما كان ممكناً ان تنفع الأعمال الصالحة ولا التوبة ولا أى شئ.. الله فيما نحن خطاة، فيما نحن محكوم علينا بالموت، مات المسيح من أجلنا ونحن فجار. اعطانا خلاصا لا نستحقه ولم نبذل فيه جهداً.. خلاصاً مجانياً على الصليب ((متبررين مجاناً بالنعمة..)) من منا يشكر المسيح على هذا؟ لقد وضعت لنا الكنيسة ان نذكر هذا الأمر فى مناسبات عديدة حتى لا ننساه.. فى كل سنة تقيم لنا اسبوع الآلام، أسبوع البصخة ويوم الجمعة العظيمة بذكرياته الجميلة المؤثرة حتى لا ننسى الصليب. فهل يكفى هذا التذكار السنوى؟ لا يكفى، لأننا ننسى.. ماذا تعمل الكنيسة. جعلت كل يوم جمعة فى الاسبوع صوماً لنتذكر فيه صليب المسيح لئلا ننسى.. فهل يكفى هذا التذكار الأسبوعى؟ لا يكفى أيضاً. جعلت لنا الكنيسة صلاة الساعة السادسة من كل نهار وفيها نقول ((يا من فى اليوم السادس وفى الساعة السادسة سمرت على الصليب من أجل الخطية.. الخ)) لابد أن نتذكر هذا الصليب كل يوم لكى نمتلئ بحياة الشكر، وفى كل يوم نشكر الله لأنه أعطانا خلاصاً هذا مقداره.. والا نكون غير شاعرين بهذا الخير ولم نفهمه..

اشكره من أجل عطيته السماوية:

من منا يشكر الله لأنه أعطانا هذا الكتاب المقدس؟ أليست هذه نعمة تستحق الشكر..!! العالم عاش فى ظلمة الوثنية زمناً طويلاً لم توجد فيه كلمة خلاص واحدة – والله ارسل لنا الأنبياء وأرسل لنا الرسل وعلمونا وأفهمونا وتركوا لنا هذه الذخيرة العظيمة.. فى صلاة القداس الغريغورى يقول الكاهن ((أعطيتنى علم معرفتك.)) ويقول أيضاً ((أرسلت لى الناموس عوناً..)) نحن نشكر الله من أجل أنبيائه ومن أجل رسله ومن أجل كتابه المقدس ومن أجل هذا التعليم. لو عاش الإنسان حياة الشكر، يشكر الله على كل شئ.

وأخيراً شكر بلا حدود..

فأنا لا أستطيع مطلقاً أن أحصى احسانات الله.. أو أن احصرها، أو أن أعطيك قائمة بها. إنما ذكرت فقط بعض الأمور الجوهرية التى تنير لنا السبيل. أما أنت لو عشت حياة الشكر، تستطيع أن تشكر الله عن كل نفس تتنسمه، على كل خطوة تخطوها، على التوبة، على قيامك من سقطتك. على جميع مواهبه لك، على روحه القدوس الذى يعمل فيك، على نعمته التى تفتقدك كلما تسقط وكلما تخطئ، وتفتقدك فى حالة قوتك لكى تزيدك قوة وتنميك.. تشكر الله على كل حال ومن أجل كل حال.

حياة الشكر تستلزم الاتضاع

ولكى تشكر جيداً تحتاج فى حياة الشكر الى الاتضاع والانسحاق. فالشخص المتضع يشعر أنه لا يستحق شيئاً.. لذلك هو يشكر على كل شئ. لو اعتبرت انك تستحق أشياء كثيرة، لأوصلك هذا الى حياة التذمر والضجر.. لماذا؟ من أجل الكبرياء وليس من أجل الضيقات الخارجية.! الانسان فى كبريائه يشعر أنه يستحق أشياء كثيرة، يستحق حياة أفضل، فيتذمر على ما هو فيه.. لو كان متضعاً، لشعر أنه لا يستحق شيئاً، فكل ما يعطى له من الله مهما كان قليلاً يشكر عليه، لانه لا يستحقه. الرجل الفقير الذى تعطيه قرشاً بشكرك عليه لانه شاعراً أنه لا يستحق. ليس له عليك شئ.. فكل ما تعطى له – حتى كسرة خبز – يشكرك عليها.. فلو كان لك هذا الشعور – تقول يارب ليس لى عليك شئ ولا أطالبك بشيء – كل شئ من عندك حسن. القليل حسن لانى لا أستحقه، والكثير حسن لانى لا أستحق حتى القليل. فتعيش فى شكر دائم.

يقول القديس ماراسحق عبارة خطيرة.. ((الشخص الذى لا يشكر على القليل كاذب هو ان نال انه يشكر على الكثير. الذى لا يشكر على الدرهم، لا يستطيع أن يشكر على الألف دينار)). الشكر عنده غير موجود.. الذى لا يملك الشكر فى طبيعته، يتذمر لو أعطيته ألف دينار، ويقول غيرى عنده مليون دينار. تقول له أنت اصبحت وزيراً، يقول ولماذا لا أصير رئيس وزراء..! لا يوجد شكر بالمرة. من الذى يشكر؟.. الشخص المتضع الذى يشعر أنه لا يستحق شيئاً على الاطلاق. فكل ما يعطى له من الله يشكر عليه. والمتضع لا يشعر فقط انه لا يستحق شيئاً من الخير – بل أكثر من هذا يشعر انه يستحق عقوبات كثيرة وتأديبات عنيفة.. ولو أعطيت له جميع البلايا يشكر، ويقول أنا استحق بلايا اكثر من هذه لانى انسان خاطئ. انها لرأفة عظيمة من الله أن يعطينى هذه فقط.. مثال لذاك أن مجرماً ارتكب جرائم مرعبة، وحكم عليه القاضي بالأشغال الشاقة المؤبدة، فصرخ فى المحكمة وقال له أشكرك..! لماذا؟ ((لاني استحق الاعدام! يا لك من قاض رحيم وحنون.. ان هذا المجرم شاعر بخطيئته، ويعرف أن جريمته تستحق الاعدام. أنه يذهب الى المحامى أيضاً ويشد على يده فى حرارة، ويقول له ((اشكرك يا استاذ على المجهود الكبير الذى بذلته من أجلى، وجعلتنى أصل الى الاشغال الشاقة المؤبدة.. كانت رأسى فى المشنقة وأنت أنقذتني..!)) هكذا يكون الإنسان المتضع: كلما تأتيه بلية، يقول أشكرك يارب. اشكرك لانك حنون جداً وتعطينى عقوبات خفيفة للغاية.. يالشفقتك العجيبة..! حقاً يارب، ان يدك على لا عصاك.

قد تعترض وتقول: نفرض ان الله أعطى له ضيقة لا تحتمل، مرضاً من الأمراض المؤلمة التى لا تحتمل، فكيف يشكر الله ولا توجد ضيقة أعظم من هذه؟ انه يجيب ((لا – هناك توجد البحيرة المتقدة بالنار والكبريت. فإن كنت آخذ عذابات على الأرض لا تحتمل، فهذا أفضل من العذاب الابدى الذى لا يحتمل)).. فالإنسان المتضع هو الإنسان الشاكر.

خاتمة

أن حياة الشكر تحتاج إذن الى ايمان بالله. والى الغرض الواحد، أعني ألا يكون للانسان هدف سوى محبة الله فقط والالتصاق به، لذلك لا يهتم بأى شئ آخر بل يشكر على كل شئ. وحياة الشكر تحتاج الى ذاكرة لا تنسى احسانات الله، وتحتاج الى اتضاع والى محبة. لو كانت بينك وبين الله محبة، تشكره على كل شئ، تشعر أن كل شئ هو من يده المملوءة حناناً ومن قلبه المملوء محبة.. فتبقى سعيداً به. حياة الشكر تصل بالانسان الى حياة السلام والفرح، ولا شئ ينزع فرحه منه.

ولله المجد دائماً أبدياً آمين..

فهرس الكتاب

إضغط على إسم الفصل للذهاب لصفحة الفصل.

No items found

فهرس المحتويات
فهرس المحتويات