وثيقة أطروحة الخمس والتسعون لمارتن لوثر – الأستاذ جوزيف ممدوح

كارت التعريف بالكتاب

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب الأستاذ جوزيف ممدوح توفيق
التصنيفات البروتستانت, اللاهوت المقارن, تاريخ الكنيسة بعد الإنشقاق, تاريخ المسيحية, عقيدة, قسم التاريخ
الوسوم مترجم
آخر تحديث 10 فبراير 2024
تقييم الكتاب 4.999 من 5 بواسطة فريق الكنوز القبطية

تحميل الكتاب

إنتبه: إضغط على زرار التحميل وانتظر ثوان ليبدأ التحميل.
الملفات الكبيرة تحتاج وقت طويل للتحميل.
رابط التحميل حجم الملف
إضغط هنا لتحميل الكتاب
2MB

مقدمة

مارتن لوثر” Martin Luther. من الشخصيات التي المثيرة للجدل عبر التاريخ . ولن اتطرق للموضوع من الناحية العقائدية بل من الناحية التاريخية فقط في هذا الكتاب الذي الغرض منه هو نشر وثائق تاريخية كانت سبب في تغير  الكنيسة في ذلك الوقت، شخصية مارتن عبر التاريخ من منهم من يجده مصلح تاريخي في فترة زمنية كانت في احتياج له وترجم الكتاب المقدس الي الالمانية، ومنهم من يري انه مهرطق ومحروم كنسي  لأنه ضرب الكثير من العقائد والاسفار الالهية عرض الحائط. لذلك يظل مارتن لوثر لغز محير تاريخيا . كنا نسمع كثير علي ان ما أثار مارتن لوثر Martin Luther هو موضوع صكوك  الغفران وثيقته الشهيرة التي احتوت على 95 حجة ودليل على فساد الكنيسة ورفض فكرة صكوك الغفران وأخذ يحرض الشعب على رفضها وعلق وثيقته الشهيرة على باب الكنيسة في (فتبزج) يوم 31 أكتوبر سنة 1517 ومن هنا بدأت المواجهة بين البابا ومارتن لوثر أو المواجهة بين فكرتين مختلفتين تعبر كل منهما عن مرحله من المراحل. لكن لم تتيح الفرضة لاحد ان يقرا او يطلع علي هذه الاعتراضات الخمس وتسعون لذلك نقلتها لكم لكي نري علي أي شيء اعترض مارتن لوثر في هذه الفترة. ما هو مضمون هذه الاعتراضات. لذلك نقلت هذه الاعتراضات للمعرفة والاطلاع التاريخي علي هذه الفترة التاريخية.

وبعد شكري لربي ومخلصي يسوع المسيح علي فضله اود اشكر كل من شجعني لكتابة هذه الدراسة. كما اشكر كل من قام بمراجعتها وابدي ملاحظاته علي الشكل والمحتوي.

املا ان يكون هذا العمل بمثابة ذبيحة حب مقدمة بين يدي الرب يسوع المسيح، لأعبر بها – ولو بفلسين لا غير – عن سكب كل حياتي في خدمته، وخدمة كنيسته المقدسة. ببركة شفاعة العذراء كل حين والدة الاله القديسة الطاهرة مريم، وكل مصاف السمائيين، وصلوات ابائنا الرسل والشهداء والقديسين، وابينا الطوباوي المكرم قداسة البابا تاوضروس الثاني ، وشريكه في الخدمة الرسولية ابينا الحبيب انبا يؤانس اسقف اسيوط وتوابعها. ولله الاب ضابط الكل، وابنه الوحيد يسوع المسيح مخلصنا، والروح القدس المعزي، كل المجد في كل حين، والي اباد الدهور . امين.

+ نشأة “مارتن لوثر”  Martin Luther :

ولد مارتن لوثر في مدينة “أيزليبن” أي سكسونيا وهو ينتمي إلى أسرة قروية فقيرة إذ عاش عيشة بائسة كما تأثر في حياته بالخدمات التي انتشرت وقتئذ والتي كانت تنادى بتصوير السيد المسيح للناس بأنه (المنتقم الجبار الذي يتوعد الناس بأقصى العقاب والعذاب) ورغم فقر أسرة (مارتن لوثر) إلا أن والده صمم على تعليمه راغبًا في أن يصبح ابنه أحد رجال القانون وبالفعل درس مارتن القانون في جامعة “أرفورث” وحصل على ماجستير القانون سنة 1505، ولكنه سرعان ما ترك القانون ودخل سلك الرهبان المعروفين باسم “جماعة سانت اغسطين”، وفي هذا الدير أشبع رغبته في التأمل والتفكير في خلاص المرء.. وبعد عامين من الرهبنة التحق بجامعة “فتبزج” ليكمل دراسته الدينية وتفوق وحصل على شهادة دينية تعادل الدكتوراه وفي سنة 1512 أصبح أستاذ اللاهوت في الجامعة وصار من الأساتذة في الوعظ والتدريس، وأجاد.

+ حياته في الدير وبداية نشر أفكاره : –

لقد ظلت حالة القلق ملازمه له طوال الفترة التي قضاها في الدير وعلى الرغم من دراسته لعلم اللاهوت ورغم تنسكه وتقشفه فقد ظل يتخوف “من فكرة العقاب والعذاب” إلى أن توصل إلى فكرة كان لها أثرها فيما طرحه بعد ذلك من مقولات قالها:-

(أن الإيمان هو خير وسيلة لتخليص الروح، وأن التبرير يكون بالإيمان وحده)

ومعنى هذا أن الإيمان برحمة الله هو خير وسيلة للخلاص من العقاب. واخذ لوثر ينشر أفكاره (التبرير بالإيمان) وبعد ذلك زالت منه مرحلة القلق والخوف من العقاب والعذاب إلا أن فكرته هذه كانت تعنى انتقادًا لوسائل الكنيسة الكاثوليكية في التبرير خاصة بعد زيارته لروما سنة 1530 ومشاهدته لمظاهر الانحلال والفساد الذي أصبح عليه بعض رجال الكنيسة وبعد ذلك أخذ لوثر ينادى بضرورة عودة الكنيسة إلى أصل الكتب المقدسة وضرورة نشر المعنى الذي يساعد الشعب على فهم أصول دينهم.

+ وفي هذا الوقت أصدر البابا (لاون العاشر) صكوك الغفران ليبيعها ويحصل على الأموال اللازمة لبناء كنيسة القديس (بطرس بروما) ووصل إلى سكونيا مندوبه الخطيب البارز (حنا تنزل ).

+ لذا ردَّ لوثر بوثيقته الشهيرة التي احتوت على 95 حجة ودليل على فساد بعض رجال الكنيسة ورفض فكرة صكوك الغفران وأخذ يحرض الشعب على رفضها وعلق وثيقته الشهيرة على باب الكنيسة في (فتبزج) يوم 31 أكتوبر سنة 1517 ومن هنا بدأت المواجهة بين البابا ومارتن لوثر أو المواجهة بين فكرتين مختلفتين تعبر كل منهما عن مرحله من المراحل، ولم ينجح البابا في أن يرجع لوثر عن أفكاره بل سرعان ما استفحلت وتزايدت أعداد المؤيدين له والملتجئين لهم الساخطين على الكنيسة يومًا فيومًا.

بعد ذلك طلب البابا من رئيس جماعة (سانت اوغسطين) أن يقنع لوثر بالعدول عن أفكاره وبالفعل عقد مجمع (هيدلبرج) سنة 1518 لمناقشة أفكار لوثر لكنه لم يتراجع وتمسك بالأفكار التالية: –

1- أن كل مسيحي معمد إنما يمكن اعتباره رجل من رجال الدين.

2- أن روما مدينة منحلة أخلاقيًا.

3- أن البابا عدو للمسيح.

4- ضرورة زواج رجال الدين وجعل الطلاق أمر مشروع.

وبعد ذلك جمع أفكاره كلها ودفعها في أسفار ثلاثة اسماها (وسائل الإصلاح) وبدا في رواجها:

الأولى وجهها إلى المدنيين باللغة الألمانية. وحثهم فيما على المساهمة في إصلاح الكنيسة

الثانية كتبها باللغة اللاتينية ووجهها إلى رجال الدين

الثالثة وجهها إلى البابا لاون العاشر وتتعلق بالحرية المسيحية.

+ لوثر يستدعى للمثول أمام الرايت الإمبراطورى:-

وأمام الرايت الإمبراطورى طولب لوثر أن يعترف بخطيئته، لكنه (رفض) معتبرًا نفسه أنه قد أصبح بطلًا شعبيًا، فلا يصح أن يتنازل مكانته! معتبرًا أنه هو الذي يعبر عن شعور الألمانيين الكارهين لروما.

وبعد ذلك وفى نفس الجلسة التي صدر فيها اتهام لوثر بخروجه عن القانون وأدانته أيضًا الكنيسة وأصدرت أمر بحرمانه لكنه تمكن من الهرب إلى أحد القلاع التي مكث بها حوالي سنة وترجم فيها العهدين القديم والجديد إلى اللغة الألمانية.

وبذلك قد أتاح الفرصة العامة الشعب للاطلاع على الإنجيل وقد بني كنيسة بعدها استمدت هذه الكنيسة نظامها من الكتاب المقدس ومن أفكار لوثر وخاصة فكرة (التبرير بالإيمان).

واجتاحت أثار مارتن لوثر معظم الطبقات وفئات المجتمع الألماني مما أدى إلى قيام بعض الحركات هذا الأمر الذي دفعه للخروج من عزلته ليعضض هذه الحركات.

موقفه أبان هذه الحركات التي هي نتاج لهذه الحركة اللوثرية:

حدث ثلاث حركات بذلك هما:-

1- المطالبة بإعادة التعمير:-

ينادون بإعادة التعميد ويطالبوا بعدم الاكتفاء بتعميد الأطفال فإن تعليم الإنجيل كما فهموا تنادى بتعميد البالغين أيضًا ولقد تطرف بعض زعماء هذه الطائفة إذ أنهم طلبوا بتعدد الزوجات لدرجة أن بعضهم أصبح له عشر زوجات! وكانت تنادى أيضًا أنه لا يجوز لمسيحي إشهار السلاح في وجه مسيحي ولكن كانت نصيحة لوثر لهم الالتزام بالهدوء ولكن سرعان ما قضت السلطات على هذه الطائفة.

إلا أنها تعد من النتائج التي أسفرت عنها اللوثرية.

2- ثورة الفرسان:-

هؤلاء الفرسان هم الإقطاعيين الذين امتلك كل واحد منهم إقطاعية صغيره شيد فوقها مقره ونسبوا السيادة والسلطة كلها إلى الإمبراطور كما أن أوضاعهم تدهورت أواخر العصور الوسطى “وقد اتخذوا أفكار مارتن لوثر سندًا لهم، وأخذوا يخربون الكنائس ويستولون على أموالها ودمروها وطردوا الرهبان”. وكان على رأس هؤلاء (فون هتن) الذي أيد أقوال لوثر من أن البابا رجل غريب ينهب أموال الشعب وظهر كثير بعد ذلك من الفرسان لكن لوثر امتنع عن تأييد حركة الفرسان ورفض أسلوبهم العنيف كما أن الأمراء الفلاحين قدموا هذه الحركة مما أدى إلى فشلها.

3- ثورة الفلاحين: –

أهم مطالبهم -الحرية- المساواة خفض ضريبة العشور “كانت تؤدى للكنيسة – تحرير قيمة إيجار الأرضي”. والذي يهمنا أن لوثر لم يؤيد هذه الثورة الأمر الذي أضعف الحركة اللوثرية وتضاؤل نفوذها.

وبعد ذلك عقد مجمع “أوجسبرج” في سنة 1530 والذي حاول فيه الإمبراطور التوفيق بين عقائد “البروتستانت” و” الكاثوليك” ورغم مرونة ممثل لوثر في هذا المجمع “ملانكتون” إلا أن رجال الدين الكاثوليك أصروا على اتخاذ كل الوسائل اللازمة للقضاء على لوثر وأتباعه ومذهبه الجديد وبدعته هذه وبعد ذلك جاء رؤساء الكنيسة البروتستنتية بحلف يدعى “صلح أوجسبرج” سنة 1555. ونجح هذا الصلح الذي نتج عنه انقسام ألمانيا حيث سادت اللوثريه في تصحيح الشمال، بينما بقيت الكاثوليكية في الجنوب، الملاحظة الجديدة بالذكر، الصلح أعطي الحرية فقط في الاعتقاد وللأمراء دون الرعية حيث يجب وأن تدين بدين الأمراء.

+ على أي حال، صلح أوجسبرج هذا لم يعترف إلا لعقيدتين فقط هما “الكاثوليكية” و”البروتستانتية”، في الوقت الذي كانت فيه بدأت دعوات الإصلاح تأخذ طريقها إلى أنحاء أوروبا ودول الغرب.

نهاية حياته :

غرست الآراء التي أذاعها لوثر في أوراق كثيرة من ألمانيا، وراح هو بقيه حياته يعلم وينشر دعوته وينظم الكنيسة الجديدة ويتعهد حياتها وثقافتها، وقد تزوج من (كاترين فون بورا) التي كانت راهبة، وعاش وإياها حياة هنية مع أطفالها في البناء الذي كان قبلًا ديرًا له في ويتنبرج. وهناك كتب المؤلفات الدينية ونظم الترانيم التي يرددها البروتستانت الآن.

ولما تفشي الطاعون في ويتنبرج ظل لوثر فيها بين الشعب، وهكذا نشأت الكنيسة البروتستانتية نتيجة عيوب بعض رجال الإكليروس الكاثوليك وشطرت الكنيسة الغربية شطرين ولم ينقضي وقت طويل حتى ساءت العلاقات بين الفريقين وشك كل واحد في نوايا الأخر وبدأت تفرق أوروبا في حروب دينية اتسعت بها الهوة وانتشر التعصب الديني.

وثيقة  أطروحة الخمس والتسعون

 

تعد وثيقة الاحتجاجات التي كتبها مارتين لوثر Disputatio pro declaratione virtutis indulgentiarum   التي صدرت عام 1517، والمعروفة باسم خمس وتسعون أطروحة، بمثابة الوثيقة الرئيسية لحركة الإصلاح البروتستانتي. يحمل العنوان الكامل  للكتاب المعنى التالي: “ستتم مناقشة هذه المواضيع في كنيسة فيتنبرغ، وذلك بدافع الحب والحماسة لتوضيح الحقيقة. وسوف يقوم القس الأب مارتين لوثر، أستاذ في الفنون وفي علم اللاهوت المقدس وأستاذ جامعي رسمي في جامعة فيتنبرغ، بالتحدث عن تلك المطالب. هو يطالب في هذا الشأن بالتالي: على الذين لن يتمكنوا من الحضور لمناظرتنا شفاهةً، أن يقوموا، برغم غيابهم عن مكان الأحداث، بالمشاركة في المناظرة عن طريق المراسلة. باسم الرب يسوع المسيح. آمين”

وقد تضمنت الوثيقة قائمة ب 95 انتهاكاً دينياً، وتتعلق بصورة رئيسية بقيام الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ببيع صكوك الغفران .

وقد أصبح لوثر، وهو قس ألماني وأٍستاذ في علم اللاهوت، أهم شخصية في الثورة الدينية العظيمة المعروفة باسم حركة الإصلاح والتي قامت ضد الكنيسة الكاثوليكية.

وبالرغم من أنه كان يعتزم استخدام الخمس وتسعين أطروحة كأساس لخلاف أكاديمي، فقد انتشر اتهامه لممارسات الكنيسة بسرعة، وذلك بفضل فن الطباعة الذي كان لايزال حديثاً في ذلك الوقت. وقد قام طابعون بنشر ثلاثة إصدارات للأطروحات ولم يقوموا بإضافة أسمائهم، بنهاية عام 1517، في ألمانيا، في مدن لايبزيغ ونورمبرغ وبازل. ويُقدر عدد تلك الإصدارات الأولية بحوالي 300 نسخة، والتي لم يتبق منها إلا عدد قليل. وقد قام هيرونيموس هولتزل بطباعة هذه النسخة في مدينة نورمبرغ وتوجد تلك النسخة في مجموعات مكتبة ولاية برلين. وقد اكتشفها مدير  Berlin Kupferstichkabinett (متحف المطبوعات والرسومات) في برلين وقدمتها المكتبة .

القضايا الخمس والتسعون باللاتينية Disputatio pro declaratione virtutis indulgentiarum

وتعرف أيضًا باسم الرسائل الخمس والتسعون، هي مجموعة النقاط التي اعترض عليها مارتن لوثر، وشكلت انطلاق البروتستانتية، بعد أن علقها على باب الكاتدرائيّة الرئيسية في فيتنبرغ، وتتلخص الاعتراضات حول قضايا التكفير عن الخطايا وأهمية أعمال البر التكفيرية وسلطة البابا في الكنيسة الكاثوليكية. أثارت القضايا جدلاً واسعًا في الغرب المسيحي وفتحت باب العديد من المناظرات الدينية، والتشاحن  – .

وفي السطور القادمة نقدم لك عزيزي القارئ ترجمة مختصرة لهذه الاعتراضات الـ 95، لعل ذلك يكون هادياً لنا للعودة مرة أخرى إلى مبادئ عصر الإصلاح التي يتنكر لها بعض الإنجيليين اليوم.

الاعتراضات الخمس والتسعون لمارتن لوثر

 

اطروحة قضية الغفرانات وفعاليتها

سيجري بحث القواعد أو الفرضيات الآتية بحثاً علنياً  ، وسيتم الإتيان بما يحتاج الى إثباتها وشرحها، رغبة في ان تصبح مكشوفة وظاهرة للعيان، لا يكتم  منها شيء ، وذلك تلبيةً لدافع المحبة والرغبة الشديدة في الوصول الى الحقيقة. (وقد تم التعبير عنها وصياغتها بعبارات موجزة). يرأس البحث الأب الوقور مارتن لوتر، حامل شهادة الماجستير في الأدب واللاهوت، واستاذ هذه المواضيع المعيّن قانونياً في جامعة فتنبرغ. ويطلب الى الأشخاص الذين لا يمكنهم حضور المناقشة للاشتراك الشفوي ان يفعلوا ذلك بالمراسلة.

باسم ربنا يسوع المسيح .  آمين .

– 1 –

حيث ان ربنا ومعلمنا يسوع المسيح يقول : ” توبوا  …. ( متى 4 : 17 ) ، فقد اراد ان تكون حياة المؤمنين كلها حياة توبة .

ملاحظة لوثر: انا على يقين من هذا ولا أشكّ فيه ابداً .

1- ومع ذلك سأبرهن القاعدة مراعاة لمن تنقصهم المعرفة الكافية .

أولاً : ان الكلمة اليونانية ومعناها ” توبوا” يمكن ترجمتها باللاتينية “Transmentamini” ، وهي ترجمة أدق واصح ، ومعناها حوّلوا عقولكم وانفسكم ومشاعركم الى صورة أخرى ، فيصبح الذين كانوا منهمكين في الأمور الأرضية حتى الآن ، يطلعون على الأمور الروحية. كما يقول الرسول في (رومية 12 : 2 ) : ” تغيّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم.” ومن شأن هذا التغيير والتجديد ان ينشأ منهما  تغيير قلب الخاطئ مما يحمله على ان يكره خطيته ويمقتها.

من الواضح ان هذا التغيير او بغض الإنسان لنفسه يستمر طيلة حياة المرء ، وِفقاً للعبارة التي وردت في ( متى 10 : 39 ) : ” مَن أهلك نفسه من أجلي يجدها ”

أي مَن يُبغض نفسه في الحياة الحاضرة، يحفظها للحياة الأبدية . ويقول المخلّص ايضاً : “مَن لا يحمل صليبه ويتبعني لا يستحقني”(متى 10 : 38 ). وفي الأصحاح ذاته يقول: “لم آتِ لألقي سلاماً لكن سيفاً ” (متى 10 : 34 ).ونقرأ في ( متى 5 : 4 ): ” طوبى للحزانى لأنهم يتعزّون ” .

وكذلك يطلب منا بولس في اماكن عديدة في رسائله ان نُميت جسدنا وأعضاءنا الأرضية ، ويُعلمنا في (غلاطية 5 :24): ان نَصلب أجسادنا مع الأهواء والشهوات. ويقول في (2كورنثوس 6 : 4 –5) “نظهر انفسنا في الصبر الكثير والأصوام …”. لقد أتيت بهذه الكثرة من الشواهد الكتابية لأنني أتعامل مع أولئك الناس الذين لا دراية لهم بتعاليمنا.

2 – وأبرهن هذه القاعدة ايضاً استناداً الى المنطق: حيث ان المسيح هو معلّم الروح وليس معلّم الحرف، وحيث ان كلامه هو روح وحياة (يو 6 : 63 )، فلا بدّ من ان يُعلّم هذه التوبة التي تلزم الإنسان بالرجوع الى الله بالروح والحق ، وليس كما يفعل المراؤون المتعجرفون ، فهم يُعبّسون ويُنكرون وجوههم ليظهروا للناس صائمين ، وكذلك يُصلّون في الشوارع ويصنعون الصدقات هاتفين قدامهم بالبوق ( متى 6 : 16). أقول : لا بد من ان المسيح الذي  يُعلّم التوبة على هذا النحو الذي يمكن ان يقوم به كل انسان مهما كانت مرتبته الاجتماعية ، فيستطيع ذلك الملك بأرديته القرمزية ، والكاهن بأناقته ولباقته ، والأمراء بسموّ منصبهم، وكما يستطيعه الراهب الذي يقوم بشعائر الرهبنة واعمالها ، والراهب الشحاد الفقير، وكما فعل ذلك ايضاً دانيال واصحابه في بابل (دانيال 1 و 3 ). لأن تعاليم المسيح تنطبق على جميع الناس وتعمهم كلهم دون استثناء .

3 – اننا نصلي طيلة العمر “واغفر لنا ذنوبنا”، لأنه يجب علينا ان نصلي هذه الصلاة دائماً :

(متى 6 : 12 ). أي اننا نتوب ونندم مدى الحياة ونتكرّه انفسنا، إلاّ إذا كان هناك احد على قدر كبير من الغباوة ممن يعتقد ان عليه ان يتظاهر بالصلاة من اجل المغفرة . فالذنوب التي أمرنا بأن نذكرها في الصلاة ونطلب مغفرتها هي ذنوب حقيقية يجب ان نباليها ولا نستخف بها ، حتى وإن كانت عرضيّة ، لأننا لن نخلص إلاّ اذا حصلنا على مغفرتها .

-2-

لا ينبغي لأحد من الناس أن يفهم هذه الكلمة بمعنى سرّ التوبة الذي يجريه الإكليروس،  أي بمعنى الاعتراف بالخطيئة والتكفير عنها.

انا على يقين من صحة هذه القاعدة ، وسأنظر فيها برويّة ايضاً :

1 – سرّ التوبة محدود الزمن ووقتي، فإن أحداً لا يمكنه ان يكلم الكاهن طول الوقت وبدون انقطاع معترفاً بخطيته ومتمماً ما يُفرض عليه من اعمال التكفير، ليس سرّ التوبة إذاً الصليب الذي أمرنا المسيح بأن نحمله (متى 16 : 24)، ولا هو إماتة شهوات الجسد .

2- يقتضي سرّ التوبة وجود الندامة الداخلية، وإلاّ يبقى إجراءً خارجياً وعديم القيمة . وبالإمكان أن تحصل الندامة الداخلية عند المرء بدون هذا السرّ .

3 – قد يكون سرّ التوبة زائفاً، بينما لا يمكن أن تكون الندامة الداخلية إلاّ حقيقية صادقة. فإذا لم تكن الندامة كذلك، فهي نفاق وتظاهر كاذب، وليست الندامة التي يعلمها المسيح .

4- ليس هناك ذكر لسرّ التوبة في تعاليم المسيح، لكنه نظام قانوني وضعه البابوات والكنيسة،

(على الأقل بالنسبة الى الجزء الثالث من السر والمتعلق بالتكفير عن الخطية). اما التوبة المستندة الى الإنجيل فهي قانون الهي، لا يمكن تغييره مطلقاً، لأن هذه التوبة هي القربان المتواصل الغير منقطع والذي يُدعى القلب المنكسر والمنسحق ( مزمور 51 : 17 ) .

+ ملاحظة : يتكون سر التوبة من

1 ) الندامة

2 ) الاعتراف

3 ) التكفير الذي يقوم به التائب

4 ) الغفران الذي يمنحه المعرّف

5- اجمع معلمو اللاهوت السكولاستيون على ان يفرقوا بين التوبة الحقيقية وسر التوبة ، معتبرين التوبة الحقيقية جوهر سر التوبة وأساسه .

 -3-

ومع ذلك ، ليست  التوبة الداخلية وحدها الغرض الذي يُرمى اليه ، لأن مثل هذه التوبة عديمة الجدوى إذا لم ينشأ منها الكثير من اعمال قمع الجسد وإذلاله .

أؤكّد على هذه القاعدة:

اوّلاً ، يطلب الينا الرسول في (رومية 12 : 1) ان نقدّم اجسادنا ذبيحة حيّة مقدسة ومرضية عند الله. أما كيف يتم هذا فهو يبيّنه بكل وضوح وإسهاب في الأعداد التي تتبع والتي يعلمنا فيها ان نكون حكماء ومتواضعين،  وان نخدم بعضنا بعضاً ، ونبادر بعضنا بعضاً بالإكرام، ونواظب على الصلاة، وأن نتحلّى بالصبر ..الخ (رومية 12  : 3 – 21 ) . ويقول الرسول ايضاً بهذا الأسلوب بعينه في (2كورنثوس 6 : 4 و 5 ): “نُظهر انفسنا في الصبر الكثير وفي الأصوام والأسهار …”. وأما المسيح فيعلمنا في انجيل متى 5 و 6 ان نصوم صوماً صحيحاً وأن نصلي ونعطي الصدقات . ويقول في مكان آخر ( لوقا 11 : 41 ) : ” تصدقوا مما في ايديكم فهوذا كل شيء يكون نقياً لكم “.

يستنتج مما تقدم ذكره أن اجزاء التكفير الثلاثة ، الصوم والصلاة والصدقة، لا تستند منطقياً الى سرّ  التوبة، لأن المسيح هو الذي أمر بها. أما علاقتها بسر التوبة فتكمن في ما تفرضه الكنيسة من التكفيرات اسلوباً وكَمّاً وزمناً . فالكنيسة تعيّن المدة التي على التائب ان يقضيها في الصوم والصلاة، والقدر الذي يعطيه لأغراض الإحسان والخير .

تتمثّل التوبة التي ينص عليها الإنجيل بالصوم أي اعمال قمع الجسد وضبطه، وبالصلاة وبكل عمل تتقلده النفس وتلتزمه، كالتأمّل والقراءة والإصغاء وأيضاً بصنع الصدقة وكل خدمة يؤدّيها المرء الى قريبه. وهكذا فإن المسيحي يخدم بالصوم نفسه، وبالصلاة الله، وبإعطاء الصدقة قريبه. فالصوم يمكّنه من ان يتغلّب على شهوة الجسد وأن يعيش حياة العفّة وضبط النفس، وتمكنّه الصلاة من  ان يتغلّب على الكبرياء وتعظّم المعيشة وأن يحيى حياة التقوى، وتمكنّه الصدقات من ان يتغلّب على شهوة العيون وأن يحيى حياة البر في هذا العالم. لذلك، كل ما يوجبه الإنسان المعذّب الضمير على نفسه من اعمال كبت الشهوات وإماتة اعمال الجسد إنما هو  ثمار التوبة الداخلية ، أكانت هذه الأعمال أسهاراً او اشغالاً أو حرماناً أو دراسةً أو صلواتٍ أو امتناعاً عن الجنس والملذّات، ما دامت هذه الأعمال تخدم النفس . وقد اظهر الرب نفسه ثمار الروح هذه وعاشها، كما اظهرها وعاشها ايضاً جميع قدّيسيه . وهو الذي أمر : ” فليضئ نوركم هكذا قدّام الناس كي يروا اعمالكم الحسنة ” (متى 5 : 16). لا شك في ان الأعمال الصالحة ثمار خارجية تنشأ من التوبة الداخلية ومن النفس ، مع ان النفس لا يصدر عنها أي صوت سوى صوت أنّات القلب الذي هو منبع الأعمال الصالحة.

ثم ينتقد لوثر بعض رجال الدين الذين كتبوا ضد القواعد الثلاث هذه، ويُصرّون على ان كلمة ” التوبة ” لا تعني إلاّ سرّ التوبة الكنسي . ويقول بما ان يسوع نفسه علّم الناس ” توبوا”، وبما انه المشرّع الإلهي، وبما أن وصيته قانون الهي، ولا ينبغي لأحد ان يغيّرها، فلا يمكن ان تكون كلمته “توبوا” بمعنى سر التوبة، لأن سرّ التوبة، وخاصة الجزء الثالث الخاص بالتكفير، يخضع لتغييرات يجريها البابا وفقَ إرادته، وقد اجراها بالفعل. فهل للبابا صلاحية التشريع الإلهي او هل له صلاحية تغيير الوصية الإلهية؟ ويهيب لوثر بالقارئ ان يتبع الصدق والصراحة، حتى يتبيّن وجه الصواب ويميّز بينه وبين المغالطات التي تستهدف هذه القواعد والقواعد الأخرى.

-4-

لذلك يستمرّ  قصاص الخطية على ملازمتنا، ما دامت كراهية الذات تلازمنا ( أي التوبة الداخلية الحقّة)، ولا يفارقنا هذا القصاص حتى دخولنا ملكوت السماوات.

اجزم بصحة هذه القاعدة واورد الدليل والحجة :

1 – إذا كانت حياة المرء كلها حياة توبة وصليب المسيح ،  وتصدر هذه الحياة لا عما يبليه المرء بنفسه طوعياً فحسب، بل عن تجارب الشيطان والعالم والجسد ايضاً، ولا سيما عن الاضطهادات والآلآم ، كما يوضح ذلك الكتاب المقدس بأكمله، والمثال الذي تركه لنا قدوس القديسين نفسه وجميع القديسين، إذاً يتضح الأمر، فالصليب هو النتيجة الطبيعية للخطية كما سبق وقيل، ويستمر حتى الموت، أي حتى دخول الملكوت السماوي.

2 – تظهر حقيقة هذا الأمر عندما نستعرض حياة القديسين، فعلى سبيل المثال، نسخ القديس اوغسطين مزامير التوبة السبعة وجمعها معاً وكان يصلّيها مستغرقاً في التأمّل فيها، وعيناه تذرفان الدمع.  وقد صرح بأنه لا ينبغي حتى للأسقف ان يغادر هذا العالم بدون توبة، مهما كانت حياته التي عاشها تتسم بالبرّ والصلاح. وهناك ايضاً القديس برنارد . صرخ هذا وهو يكابد الآلآم المبرحة، “لقد عشت طائشاً متهوّراً، لأني أضعت وقتي. ليس في حوزتي شيء، فإني اعرف ذلك لأن قلبي منكسر ومنسحق، يا الله، لا تحتقرني”.(مزمور 51 : 17).

3 – تتضح هذه القاعدة أوالفرضيّة جلياً بدليل المنطق. فوفقاً لبولس يستمر صليب التوبة حتى يُتلف جسم الخطية (رومية 6:6)، وحتى يموت آدم الأول الراسخ أصله فينا هو وصورته، وحتى يبلغ آدم الجديد مرتبة كمال صورة الله. أما الخطية فإنها باقية حتى الموت، مع انها تنقص يوماً فيوماً بتجديد الذهن والعقل .

4 – أقل ما يمكن قوله في أن قصاص الخطية باقٍ دون فراق وبدون استثناء، هو حقيقة الخوف من الموت . لا ريب من ان هذا الخوف هو القصاص البالغ أبعد حدود الشدة، وإنه اسوأ من الموت نفسه في أكثر الحالات، فضلاً عن خوف الدينونة والجحيم ووخز الضمير .. وما شاكل ذلك .

-5-

لا يرغب البابا في إلغاء أيّة عقوبات تكفيرية، كما أنه لا يقدر على إلغاء أيّ منها إلاّ تلك التي فرضها هو بنفسه مستنداً الى سلطته الخاصة، او تلك التي اقرّها القانون الكنسي.

إذ أنا  أناقش هذه القاعدة وأدرسها، فإني أطلب الإرشاد بكل تواضع، وأرحب بأيّ واحد ممن يمكنه أن يعلّمني، وليتفضّل آخذاً بعين الاعتبار  البواعث التي حملتني على ما اقول.

وسأعدد اولاً انواع الكفّارات أو العقوبات التي تمحو الإثم ، والتي قد يُبتلى بها المؤمنون الأصفياء.

اولها العقوبة الأبدية ، أي جهنم المعدّ للهالكين. لأنه ليس لأحد من الناس سلطة على هذه العقوبة لا أصحاب الرتب العالية ولا الدنيا، إن الله وحده يصفح عنها وهو وحده يغفر الإثم الذي يستوجب هذه العقوبة.

العقوبة او الكفارة الثانية هي المطهر. وسنفكّر فيه ملياً في احدى القواعد التالية . أما الان فدعونا نسلّم بأن المطهر لا يخضع لسلطان البابا او لأي سلطان إنسان .

العقوبة الثالثة هي التي يفرضها الإنسان على نفسه طوعاً، وهي التي ينص عليها الإنجيل والنابعة من التوبة الروحية ، وِفق ما جاء في ( 1 كو 11 : 31): “لو كنا حكمنا على انفسنا لما حُكم علينا”. وفي (عدد 32): “ولكن إذ قد حُكم علينا نُؤدّب من الرب”. هذا هو الصليب ومقاساة قمع الجسد وإذلاله، وقد سبق ذكره في القاعدة 3 . وبما ان المسيح نفسه امر بهذه المقاساة نظراً الى طبيعة التوبة الداخلية، وبالتأكيد ايضاً نظراً الى ضرورة الخلاص، فليس للكاهن أية سلطة على ان يزيدها او ينقصها. هذه العقوبة ابعد جميع العقوبات الأخرى عن سلطة البابا، لأنها لا تعتمد على سلطة الإنسان بل على نعمة الروح القدس. ومن ناحية ثانية، إذا رأى البابا أحداً من الناس ممن جاوزوا الحدّ في تعريض انفسهم للبؤس والألم من اجل خلاصهم، او من أجل حاجات الآخرين، فمن الواجب عليه ان يكفّهم ويمنعهم عن ذلك،كما يقول القديس بولس لتيموثاوس:(1 تيمو 5 : 23):”لا تكن في ما بعد شرّاب ماءٍ!”

العقاب الرابع عقاب العصا والضربات بهدف التأديب والإصلاح. ويذكره المزمور (89 : 30 – 33): “..افتقد بالعصا معصيتهم وبالضربات إثمهم”. ويقول النبي ارميا (ص 49 : 12)، ان الله يُنزل هذا العقاب بالأبرياء: ” ها إنّ الذين لم يكن من حقهم ان يشربوا الكأس قد شربوا، أفأنتَ تتبرّأ تبرئةً؟ لا تتبرّأ بل انما تشرب شرباً “. ويقول ايضاً (ارميا 25 : 29 ): “هأنذا ابتدئ أسيئ الى المدينة التي دُعي اسمي عليها، فهل تتبرّأون انتم ؟ لا تتبرّأون”. ويقول القديس بطرس (1بط 4 : 17): “لأنه الوقت لابتداء القضاء من بيت الله . فإن كان اولاً منا فما هي نهاية الذين لا يُطيعون انجيل الله ؟”.

كذلك يقول يوحنا الرائي  (رؤ 3 : 19 ): “اني كلّ من أحبّه أوَبّخه وأؤدّبه”. ونقرأ في سفر العبرانيين ( 12 : 6 ): “ويجلد الرب كل ابنٍ يقبله”. فإذا رغب البابا في إلغاء تأديب الرب أو إذا اعتقد الخطاة بأنه قد تم إلغاؤه، فإنهم لا ريب يُصبحون أولاداً غير شرعيين، كما جاء في ( عب 12 : 8 ): “وإن كنتم بمعزلٍ عن التأديب الذي اشترك فيه الجميع، فأنتم إذن نغول لا بنون”. وهناك ايضاً يوحنا المعمدان وآخرون ممن كانو اعظم القديسين فإنهم  تحمّلوا التأديب وقاسوه.

فلو كان بإمكان كاهن الكنيسة، مهما كانت رتبته عالية او منخفضة، ان يُبطل عقاب الله بسلطة مفاتيح الملكوت، لكان بإمكانه ايضاً ان يطرد الأوبئة ويُبطل الحروب وثورات العصيان والزلازل والحرائق وأعمال القتل والسرقة وهجوم الملحدين. اليس من الواضح لكل مسيحي مؤمن ان يتبيّن عصا تأديب الرب في هذه الأمور؟ يقول اشعياء (10 : 5 ) “ويلٌ لأشور قضيب غضبي. والعصا في يدهم هي سخطي. على أمّةٍ منافقةٍ ارسله…”.

ومع ذلك اعترف بأن صلوات الكنيسة قادرة على رفع بعض هذه العقوبات، على سبيل المثال عن الضعفاء والذين نزل بهم المرض والهموم والأوبئة وحالات الحمّى المرضية. فقد علّم القديس يعقوب شيوخ الكنيسة  (يع 5: 14 – 16 ) “ان يصلوا على المريض ويمسحوه بالزيت باسم الرب.

فإن صلاة الإيمان تخلص المريض والرب يُنهضه. وإن كان قد ارتكب خطايا تُغفر له …

ما أعظم قوة صلاة البار الفعّالة !”.

العقاب الخامس مما لا يستطيع البابا ان يُلغيه هو العقاب الذي يفرضه القانون الكنسي، فعلى سبيل المثال، عند دخول الشخص الدير ( الإلتحاق بالرهبنة )، والذي يشترط إلغاء العقوبات. فليس هناك فيما يبدو إلاّ العقوبات المتعلقة بالأصوام والصلوات والصدقات وبعض اعمال التأديب الأخرى التي تُفرض بموجب القانون الكنسي. إن الادّعاء القائل بأن للبابا سلطاناً على تغيير  العدالة الإلهية هو إدّعاء مضلل ونهاية الضلال: لأن الله  لا يقول “كل ما ربطته انا تحلّه انت”. بل يقول: “كل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السموات “. اي انك لا تحلّ كل ما هو مربوط بل تحل ما ربطته أنت فحسب، وليس ما ربطته انا. ( راجع متى 16 : 19). أما المسيح فقد تعمّد بجدّ ويقين إضافة العبارة “على الأرض”. وبذلك جعل سلطة مفاتيح الملكوت مقصورة على الأرض فحسب، لأنه علم انهم سيتطاولون ويعتدون على السماء ذاتها.

يلزم منطقياً إذاً أن العقاب الثالث المذكور اعلاه فيه الكفاية، ولم يطلب الله قط اكثر من ذلك. فإن اعظم تكفير امام الله هو الحياة الجديدة. والكتاب المقدس يُثبت ان ليس هناك حاجة الى أمر آخر يرضي الله.

ونذكر على سبيل المثال يوحنا المعمدان الذي ارسله الله الينا بحسب قصده لينادي بالتوبة، وهو الذي قال “توبوا ” ( متى 3 : 2 )، والذي قال ايضاً “إصنعوا اثماراً تليق بالتوبة ” (متى3 : 8 ). وقد اوضح يوحنا نفسه هذا الكلام، حين سأله الجموع قائلين: ماذا نفعل؟ أجاب : “مَن له ثوبان فليُعطِ من ليس له ومَن له طعام فليفعل هكذا” ( لو 3 : 11 ). ألا ترى أنه لا يفرض العقوبة، بل يطلب التقيّد بوصايا الله؟ إنه يرغب في ان احداً لا يفهم التوبة إلاّ انها الرجوع والتحوّل الى حياة جديدة. وتظهر هذه الحقيقة جليّة حين سأله الجباة والعشارون: “يا معلّم ماذا نفعل؟”  فقال: “لا تستوفوا اكثر مما فُرض لكم” ( لو 3 : 12 و 13 ). فهل في أي حال من الأحوال أشار بقوله “انه يجب عليكم ان تُكفّروا عن الخطايا السالفة ؟” وكان جوابه للجنود مماثلاً لقوله للعشارين: “لا تظلموا احداً ولا تشوا بأحد واكتفوا بعلائفكم” ( لو3 : 14 ). هل يا ترى فرض هنا أي أمر سوى وصايا الله ؟ فهل أخطأ هذا المعلم الذي علّم التوبة والذي اقامه الله لهذا الغرض، لأنه لم يعلّمنا ان نؤدّي أعمال التكفير؟ وهل هو خدعنا ولم يعلّمنا الكفاية عن واجب التوبة؟

أودّ ان أشير ايضاً الى حزقيال ( 18: 21): “فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها وحفظ كل فرائضي وفعل حقاً وعدلاً فحياةً يحيى، لا يموت”. لا حظ ان النبي لا يفرض شيئاً سوى العدل والحق . فهل هذا النبي خدعنا ايضاً ؟

أما النبي ميخا ( ص 6 : 8 )  فيقول: “قد أخبرك ايها الإنسان ما هو صالح وما يطلبه منك الرب.

إلاّ ان تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعاً مع إلهك”. لاحظ اية اعمال تكفير يطلبها الله من الإنسان . وبالاختصار يسخر ميخا من  اولئك الذين يطلبون التكفير عن طريق الأعمال فيقول

(ميخا 6 : 6 و 7 ) : بٍمَ اتقدّم الى الرب وأنحني للإله العلي؟ هل اتقدم بمحرقاتٍ بعجولٍ ابناء سنة؟ هل يُسرّ الرب بألوف الكباش، بربوات انهار زيتٍ؟ هل أعطي بكري عن معصيتي ثمرة جسدي عن خطية نفسي؟” هذا يقتضي ضمناً ان نقول: ” لا ” . لأن الله لا يطلب اموراً كهذه بسبب الخطية، بل انه يطلب العدل ومخافته والشعور مع الآخرين المعذّبين ويطلب الاستعداد لمساعدتهم. هذا الذي قصدت بما سبق وقلت انه الحياة الجديدة.

-6-

ليس في وسع البابا ان يغفر أي ذنب إلاّ إذا صرّح وبيّن وأكّد على ان الله هو الذي قد غفر ذلك الذنب. ومن غير ريب، إن بوسعه ان يمنح المغفرة في الحالات التي هي ضمن مدى سلطته. أما إذا قابل احد الأشخاص صلاحية البابا بمنح المغفرة بالاستخفاف وعدم المبالاة، فلا شك يبقى ذنب ذلك الشخص عالقاً به ولا يُمحى .

الجزء الأول واضح ، فالجميع يقرّون بأن ليس هناك غافر إلاّ الله وحده ، كما جاء في عدة اماكن من الكتاب المقدس: (اشعياء 43 : 25 ): “انا انا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي وخطاياك لا أذكرها”. (ويوحنا 1 : 29): “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم”. (ومزمور130: 3و4): “ان كنت تراقب الآثام يارب يا سيّد فمن يقف. لأن عندك المغفرة”. ويكمل صاحب المزمور (عدد 7 و 8 ) : “لأن عند الرب الرحمة وعنده فدىً كثير.” (والمزمور 51: 10): “قلباً نقياً اخلق فيّ يا الله…” وكذلك يؤكد القديس اوغسطينوس على هذه الحقيقة في كتاباته ضد اتباع دوناتس .

( ملاحظة : دوناتس اسقف قرطاجة 315 م. أنشأ بدعة حملت اسمه وعُرفت بتصلّبها مع الخطأة وخاصة مع الذين عادوا الى الكنيسة بعد انتهاء الاضطهاد. احدث تعليمه  انشقاقاً وفتناً كثيرة في شمال افريقيا).

والقسم الثاني واضح ايضاً، ويستند الى كلمة يسوع ( لو 10:16 ) “الذي يرذلكم يرذلني”. ولا يحتمل كلام الإنجيل إلاّ معنىً واحداً، وهو ان الأمور المحلولة في الكنيسة تكون محلولة في السماء ايضاً. وسأبيّن رأيي بالتفصيل في القاعدة التالية .

-7-

لا يغفر الله إثم احدٍ أيّاً كان، إلاّ إذا جعله في الوقت ذاته يتواضع للكاهن ويخضع له خضوعاً تاماً، كون الكاهن نائباً عن الله، وقائماً مقامه.

بما أن الناس كافة أجمعوا على هذا الرأي، فليس هناك حاجة للمزيد من البحث. ولكني ما زلت احاول فهم هذه القاعدة، وسأحاول ان أعبّر عن فهمي إياها بعبارات بسيطة. يبيّن الإنجيل بوضوح أن الله لا يغفر الإثم إلاّ إذا كان هناك غفران مسبق من قبل الكاهن. فمثلاً على ذلك: (متى 16:19): إن “كل ما تربطه على الأرض….” . كذلك (انجيل متى 5 : 24): “اذهب اولاً اصطلح مع أخيك. وحينئذٍ تعال وقدّم قربانك”. ويقول الرب (متى 22: 21): “اعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر وما لله لله”. وتقول الصلاة الربانية (متى 6 : 12): “واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن ايضاً للمذنبين الينا”. وتشير كل هذه الأقوال الى ان الغفران يحدث على الأرض قبل ان يحدث في السماء. ويحقّ للمرء ان يسأل: كيف يمكن ان تحدث هذه الأمور قبل انسكاب النعمة، أي قبل المغفرة التي يمنحها الله، لأن الإنسان لا يقدر على الحصول على مغفرة خطاياه او على الرغبة في طلب المغفرة بدون الحصول اولاً على نعمة الله وهي وحدها التي تهب المغفرة؟

هكذا يبدو الأمر لي انا ايضاً، فأقول: عندما يأخذ الله في تبرير احد من الناس يحكم عليه بأنه خاطئ. فالذي يريد ان يرفعه يُحدره، والذي يريد ان يشفيه يجرحه، والذي يريد ان يحييه يميته. كما يقول في (1صموئيل 2 : 6) أو الطبعة اليسوعية 1 ملوك 2 :6)، وفي سفر التثنية (او سفر  الاشتراع) ( 32: 39): ” انا اميت واحيي..”، فإنه يفعل كل ذلك عندما يهلك الإنسان ويحطّه وعندما يخيفه بمعرفة نفسه وخطاياه، عندها يقول الخاطئ البائس (مزمور 38 : 3 ): ” ليس في جسدي صحة من غضبك ، وليست في عظامي سلامة من جهة خطيتي”.

في الواقع لا يعرف الإنسان عن تبريره إلاّ القليل جداً، بل يعتقد ان هلاكه قريب جداً ، ولا يرى اية إشارة الى حالة انسكاب النعمة، بل يرى غضب الله المنصبّ عليه. ولكن طوبى للإنسان الذي يثبت في هذه التجربة. فإنه يدرك انه ما دام في حال البؤس وارتباك الضمير، يبقى بدون السلام والتعزية، وانه لا قدرة له على ان يجد الراحة والسلام لوحده، لا برأيه ولا بقدرته الذاتية، بل العكس هو الذي يحصل، سيتحوّل حزنه في النهاية الى اليأس. فلا مفر له إلاّ ان يُهرع  الى سلطة الكنيسة ويلجأ اليها ملتمساً العزاء والتحرر من خطاياه وتعاسته التي تكشفت له من خلال اعترافه. ولما يرى الكاهن هذا الاتضاع وهذا الكرب، فمن واجبه إستناداً الى السلطة التي أعطيها، ان يُساعده ويُشعره بالحنوّ، فيحلّ التائب ويُصرّح له بانه قد حصل على الحل. وهكذا يؤاتي ضميره السلام والراحة.

ويجب على المرء الذي يُنشد الحلّ ان يتحذّر بشدّة من أي شك في ان الله قد محا خطاياه. ولكن إذ هو مجبر على التقيّد بحكم انسان آخر، عليه ان يتيقّن بان ما حصل عليه ليس بسبب الأسقف او الكاهن مطلقاً، لا بسببب شخصه ولا رتبته ، بل بسبب كلمة المسيح المنزّه عن الكذب حينما يقول: “كل ما تربطه على الأرض.. وكل ما تحله على الأرض…” ( متى 16 : 19). فالإيمان الذي ينبع من هذه الكلمة هو الذي يؤاتي الضمير السلام، لأن الكاهن يمنح الحلّ وفقاً لكلمة المسيح فقط. وأما كل من ينشد السلام على سبيل أخرى، مثالاً على ذلك، على سبيل الاعتراف العلني، او حتى على سبيل الحصول علىمليون عفو من  البابا نفسه، فإنه يحاول ان يجرب الله . لأنك لن تعرف السلام الداخلي إلاّ إذا آمنت بوعد ذاك الذي قال : “كل ما تحلّه…”. إن المسيح هو سلامنا، وسلامنا بالإيمان به فقط.

(هنا يورد لوثر امثلة من الكتاب المقدس).  قال المسيح لسمعان ( الفريسي الذي دعاه الى بيته) عن المرأة الخاطئة، وربما كانت مريم المجدلية) ( لوقا 7 : 47): “قد غُفرت خطاياها الكثيرة”، وبالتأكيد عنى بما قاله انها قد حصلت على النعمة، لكنها لم تُدرك انسكاب النعمة لأنه لم يكن سلام ولا صحة في عظامها بسبب خطاياها، الى ان التفت يسوع اليها وقال ( لوقا 7 : 48): “مغفورة لك خطاياك”. وفي العدد الذي يتبع يقول : “ايمانك قد خلصك”. أي ذلك الإيمان وتلك الثقة الثابتة بذاك الذي غفر خطاياها. ولذلك اتبع كلامه: “اذهبي بسلام”. ومثال آخر المرأة التي أمسكت في زناً ( يوحنا 8 : 3 – 11)، كانت خطاياها قد غفرت قبل ان يرفع يسوع معنوياتها، ولكنها لم تكن تتعرف ذلك بسبب كثرة المشتكين عليها الذين احاطوا بها، الى ان سمعت صوت العريس الذي قال: “يا امرأة…أما دانكِ أحد؟…ولا أنا أدينك” ( يو 8 : 10 و 11 ). وكذلك داود بعد ان وقع في الخطيئة، فعندما ارسل الله ناثان النبي الذي أنّبه وعنّفه (2 صموئيل12: 1 – 15)، أوشك داود على الأثر ان يموت، فإذا به صرخ متأثّراً بالنعمة الإلهية المبرئة من الإثم: “قد اخطأت الى الرب”. (ان هذا الصوت هو صوت المبررين بعدما يوجّهون الاتهام الى انفسهم)، ولو لم يغفر له ناثان سريعاً بقوله: “ان الرب  ايضاً قد نقل عنك خطيتك، لا تموت” (2 صمو12: 13)، لكانت النتيجة الهلاك. ولماذا أضاف “لا تموت؟”

إلاّ لأنه رأى داود قد اوقعته الخطية في الرعب الشديد. فأمسى غارقاً في اليأس. وكذلك المك حزقيا، عندما سمع انه سيموت، كان الموت سيحل به حتماً لو لم يسمع العزاء ويُصدّق العلامة والآية على ان الرب يحقق القول الذي ارسله إليه على لسان اشعياء ( اش 38 : 4  –  8 ). وعندما آمن به حصل على السلام وغفران الخطايا في آن واحد:كما يقول: “هوذا للسلامة قد تحوّلت لي المرارة … فإنك طرحت وراء ظهرك كل خطاياي” ( اش 38 : 17 ). وعلى وجه التعميم، كيف كان بإمكان شعب العهد القديم ان يثقوا برحمة الله وبمحو الخطايا لو لم يُظهر الله لهم بالرؤيا والوحي وذبائح المحرقات والسحابة وأمور أخرى انه راضٍ عن تقدماتهم. انه يرغب في ان يحقق هذا الأمر عينه عن طريق كلمة الكهنة وحكمهم.

ويُمكن تلخيص هذه القاعدة بالعبارات التالية: لن نكون واثقين من محو الخطية إلاّ من خلال حكم الكاهن  شريطة أن نؤمن بالمسيح الذي وعد: “كل ما تحله…” ( مت 16 :  19 ). وعندما لا نكون واثقين لايكون هناك  الغفران، بل الهلاك. لذلك يُنشئ الغفران الإلهي النعمة، ويؤاتي غفران الكاهن السلام، وكلاهما نعمة الله وهبته، لأن الإيمان هو الكامن في الغفران والنعمة معاً وفعلياً .

ولأهميّة هذا الموضوع، يورد لوثر هنا أمثلة على الإيمان من الكتاب المقدس:

1 – رومية 1 : 17 : “لأن فيه، (أي في الإنجيل ) مُعلن سرّ  الله بإيمان لإيمان. كما هو مكتوب أما البار فبالإيمان يحيا” . بداية الإيمان هو بداية فهم الإنجيل ويتبعه حياة إيمان كاملة، كما يقول بولس في غلاطية 2 : 20: “فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان ايمان ابن الله”.

2- عبرانيين 11 : 6: “بدون إيمان لا يمكن ارضاؤه ، لأنه يجب ان الذي يأتي الى الله يؤمن”.

3- فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع  الله بربنا يسوع المسيح، الذي به ايضاً قد صار لنا الدخول بالإيمان الى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون. (رو 5: 1).

4- انه كلام الصواب والحق ان محو الخطية افضل جداً من محو أي نوع من العقاب. اما الذين يعظون بمحو العقاب فحسب فإنهم يقللون من اهمية محو الخطية في الكنيسة. لأن المرء الذي يحصل على السلام الإلهي بواسطة الإيمان بالمغفرة، لاحاجة له ان يخاف أي عقاب. لأن اضطراب الضمير يجعل العقاب مؤذياً، اما ابتهاج الضمير فإنه يجعل العقاب مرغوباً فيه.

5- ان الناس الذين يفهمون سلطة مفاتيح الملكوت هذا الفهم، ويطلبون الغفران وينالونه بحسب ايمانهم البسيط هذا، يكون فهمهم هو الصحيح وهو الملائم الكافي.

6- اما تعليم التوبة الذي يعلّم الناس ان مغفرة خطاياهم لا يمكن الحصول عليها إلاّ بواسطة اعمال التكفير فقط، فهو وهم خدّاع، ولا يؤدي الى أيّة نتيجة. مثال ذلك مثال المرأة النازفة الدم التي ورد ذكرها في الإنجيل (مرقس 5 : 25 – 34 )، والتي “تألّمت كثيراً من أطباء كثيرين وانفقت كل ما عندها ولم تنتفع شيئاً بل صارت الى حال اردأ”. فعلى الناس ان يتعلموا اولاً الإيمان بالمسيح مانح الغفران، وثم يأتي حثّهم على اليأس من اعمالهم التكفيرية الخاصة، فيتقووا بالثقة التامة والابتهاج القلبي برحمة المسيح، ويمقتون الخطية، وعندها يتوبون ويكفّرون.

7- لا يكفي الكلام والسماع عن غفران الخطية وهبة النعمة فقط، بل على المرء ان يؤمن ان خطاياه قد غفرت بالفعل. وهذا هو شهادة الروح لأرواحنا “أننا اولاد الله”(رو 8 : 16 ). لأن كون الإنسان ابناً لله هو سرّ لا يُدرك بالعقل.

8 – مثال ذلك المريض الذي لا يقبل بإجراء العملية الجراحية إلاّ لأن اصدقاءه قد اقنعوه قبلاً بضرورتها لشفائه . فالكاهن ليس إلاّ مثل هؤلاء الأصدقاء. كما ان المريض آمن ووثق بالطبيب الجراح بواسطة اقناع الأصدقاء.

9- لذلك ليس السرّ بل الإيمان بالسرّ هو المانح التبرير. كما كان الكاهن في العهد القديم يحكم بطهارة الجسد والثياب، ولولم يكن باستطاعته ان يطهر احداً من الناس حتى ولا نفسه. فكما كان ذلك الكاهن يفعل للجسد، كذلك يفعل كاهن الكنيسة اليوم للضمير.

 -8-

لا تُفرض القوانين الكنسية المتعلقة بالتوبة إلاّ على الأحياء فقط ، ولا يجوز أن يُفرض شيء منها على الأموات.

1- البرهان الأول هو قول الرسول بولس ( رومية 7 : 1 ): “ان الناموس يسود على الإنسان ما دام حياً”. وقصد بقوله هذا الناموس الإلهي. ولكنه يؤكّد في العدد الثاني من نفس الأصحاح على انه ينطبق على الناموس البشري أيضاً: “إن مات رجلها فقد تحررت من ناموس الرجل”. وهكذا ينتقل الرسول ببرهانه مما هو اصغر الى ما هو اكبر، فإذا تحرر الحي من الناموس بموت الآخر ، فكم بالأكثر يتحرر الميت من هذا الناموس ذاته؟

2- انه معلوم لدى الجميع ، ان القوانين الكنسية مثلها مثل جميع القوانين الأخرى التي يسنها البشر، موقوفة على الأشخاص والزمان والمكان. ليس هناك إلاّ كلمة المسيح التي تبقى الى الأبد، حسب قول الكتاب، مثلاً (مزمور 119 : 89 – 90 ): “الى الأبد يا رب كلمتك. الى دور فدور امانتك”. ويقول المزمور (111 : 3 ): “وعدله قائم الى الأبد” . أما كلمة الإنسان وعدله، فمؤقّتان عابرا سبيل. لأنه عندما تبطل الأحوال السائدة حين وضع القوانين، تبطل معها تلك القوانين ايضاً. هل يعقل ان يقول أحد من الناس ان المدينة التي دمّرت وهُجرت، يبقى مكانها المهجور خاضعاً لكل ما كانت تلتزم به قبل تدميرها؟

3- تقتضي العدالة ان يتحرر الأحياء من القوانين الكنسية عندما تتوقّف الأوضاع التي كانت قائمة حين سن القوانين، او عندما تنحرف القوانين الى الظلم والجور. ويقول البابا ليو انه “لا ينبغي للقوانين ان تعترض للمحبة لأنها وُضعت أصلاً من أجل المحبة. إذن ينحتم منع كل ما من شأنه ان يناقض الوحدة والسلام….”. فإذا كان الأحياء يتحررون من القوانين، فكم يكون الأموات أحرى بهذا التحرير! لأن الأموات لا تتوقف اوضاعهم فحسب، بل ان الشخص نفسه ينتهي، فالقوانين لم توضع أصلاً إلاّ من أجله ومن اجل احوال حياته.

4- يبيّن النص الوارد في القوانين بوضوح صحة هذه القاعدة، لأنه يذكر الأيام والسنين والأصوام والأسهار وجميع الأماكن المقدسة وغيرها من الأعمال والشروط التي وُضعت لهذه الحياة والتي تنتهي بالموت.  فبالموت ينتقل الشخص الى حياة مختلفة اختلافاً تاماً، فلا يصوم فيها ولا يبكي ولا يأكل ولا ينام لأن ليس له جسد بعد. وقد شجب احد رجال الكنيسة  Jean Gerson  بيع الغفرانات، والتي كان الناس  يعتقدون انها سارية المفعول لآلآف السنين. وقد تكلم جهاراً وانتقد العادات التي كان الحجاج يتبعونها في كل موقف حج ينزلون به في روما ويبيّن عيوبها، كما عبّر عن رأيه من غير خوف من البابا Sixtus 6  الذي أسرف في إنفاق ريع الغعرانات. وقد اضطر البابا الى دعوة اساقفته الى الانتباه ال هذه الممارسات والى إصلاحها. وأشار Gerson  هذا الى الغفرانات بأنها معتقد خرافي. وإنني أتساءل ما بال محققي محاكم التفتيش لم يحرقوا هذا “الهرطوقي” حتى بعد موته؟

5- عندما ننظر الى القوانين الكنسية ونأخذ بعين الاعتبار القصد من تشريعها، يتضح انه لم يكن المشرّع يقصد  بها الأموات بتاتاً. وعلى سبيل الفرض ، لو سألنا البابا الذي يسنّ هذه القوانين: “من هم حسب تصورّكم تشملهم قوانينكم، يا قداسة الأب، أهم الأحياء ام الأموات؟” فهل هناك جواب غير: “طبعاً الأحياء ، لأنه ماذا يهمنا الأموات. فإنهم قد انتقلوا من سلطتي القضائية”.

6- إن لم يحرر كاهن المسيح أخاه من القانون ، كما يرغب هو نفسه في هذا التحرر ، فإنه مجحف بحق أخيه. ليس هناك سبب لامتناعه عن القيام بهذا العمل الذي هو ضمن صلاحيته وسلطانه.

7- لو كانت قوانين التوبة موضوعةً لتشمل الأموات، لكانت القوانين الأخرى تنطبق عليهم ايضاً. هذا يعني  أن من واجبات الأموات ان يتقيّدوا بالأعياد والاحتفالات وبالأصوام والأسهار وساعات الصلاة، وان يمتنعوا في ايام معيّنة عن تناول البيض والحليب واللحم وأن لا يأكلوا إلاّ الزيت والسمك والفواكه والخضار. وأن عليهم ان يتمموا الواجبات ويحملوا الأحمال الثقيلة التي ترهق كاهل كنيسة المسيح المسكينة والتي كانت في السابق كنيسة حرة. ليس هناك داعٍ منطقي لإبطال مفعول بعض القوانين وإبقاء بعضها الآخر ملزماً.

8- في الواقع لا يُطالب المرضى والمشرفون على الموت بتنفيذ القوانين التكفيرية . فالكاهن المريض، على سبيل المثال، لا يُلزم بأداء الصلوات والاحتفالات الجمهورية، وكذلك لا يُجبر المرضى الآخرون على الصوم والسهر والامتناع عن تناول اللحم والبيض والحليب. فإذا كانت القوانين الكنسية لا تُفرض على المرضى، بل على الأصحّاء والأقوياء، فكم بالأقل تُفرض على الأموات؟ إن كل انسان كان يخضع لعقوبات صغيرة، وثم يوقع به عقاب اكبر، يستاهل الغاء العقوبات الصغرى، وذلك حق طبيعي ومنطقي. وكذلك المرء الموشك ان يموت، فإنه يواجه اعظم العقوبات وآخرها، فمن الواجب ان تترك له كل عقوبة اخرى. تصوّر ان احد الناس المشرفين على الموت يمثل بين يدي القاضي، ألا يصرفه القاضي حالاً ويسحب عقوبته؟

9- لماذا لا تبقى القوانين المدنية سارية المفعول ولا تُنفّذ بعد الموت ايضاً؟ ان المسيح نفسه والرسولين بطرس وبولس  قد علّموا وأمروا بالإلتزام بها والخضوع لها بالروح ومن أجل الضمير زمن الحياة، لأن هذه هي مشيئة الله. ( متى 22 : 21،  ورومية 13 : 1 – 7،  وا بط 2 : 13 – 17 ).

10- ان الاعتقاد القائل بأن العقوبات التي يشترطها القانون الكنسي واجب إجراؤها وقضاؤها بعد الموت، هو اعتقاد لا يستند الى أي نص صريح او شريعة من الكتاب المقدس، ولا يقرّه المنطق. ويبدو انه دخل الكنيسة بسبب كسل الكهنة وإهمالهم ، كما دخلت ايضاً معتقدات خرافية كثيرة أخرى.

11- يستشهد لوثر بما يتعلٌق بالفقرة الأخيرة من هذه القاعدة بأحد معلمي الكنيسة القدماء، واعظمهم تقيّداً بأنظمة الكنيسة الخاصة بالتأديب والمراقبة ، ألا وهو Cyprian. ويقول هذا: “انه يجب علينا ان نعطي السلام لأولئك الذين يتعرّضون للموت، حتى يمثلوا بين يدي الرب بسلام، بعد قيامهم بالاعتراف لشيخ الكنيسة او الكاهن”. وليس معنى إعطاء السلام هذا إلاّ الغفران الكامل، ويتضح ذلك لكل من درس هذا الكتاب باهتمام.

ثم يلخص لوثر افكاره بأن العقوبات التي يشترطها القانون الكنسي يجب ان لا تفرض إلاّ على الأحياء، وعلى الأصحاء منهم والأقوياء فقط، بل يحصرها بالكسولين والذين لا يرغبون في إصلاح حياتهم. ويقول انه ما كان يرغب في إثارة هذا الموضوع لو لم يكن هناك بعض المعارضين المتعصّبين الى حد بعيد ممن هم بعيدون عن الحكمة والعلم. ويتكلم عن الحرمان الكنسي للأموات، وان هناك من يتهمه بأن اقواله تقلل من احترام الناس للغفرانات التي تُباع. أما هو فيجيب بأن التقليل من احترام هذه الغفرانات افضل من إبطال مفعول صليب المسيح. ويصرح بكل وضوح انه لا يعتبر الغفرانات التي تمحو العقوبات ايّ اعتبار البتة، لكنه يحترم تلك الغفرانات التي تمحو الذنب كل الاحترام. أما ادّعاءات المعارضة فليست إلاّ نقاشاً يقوم على التفكير والشرح على الطريقة الأفلاطونية الغير عملية ، او الجدل البيزنطي الذي لا فائدة منه.

-9-

لذلك يُنعم علينا الروح القدس بالخير والإحسان ، كلما استثنى البابا من المراسيم التي يُصدرها حالات الموت وحالات الضرورة القصوى.

هذه القاعدة دليل آخر على القاعدة السابقة. فإذا رغب البابا في استثناء حالات الضيق الدنيوية ، فإنه لا ريب يستثني حالة الضيق الأبدي التي يقاسيها الإنسان بالموت ويخرجها من الحكم العام.

-10-

يتصرف الكهنة الذين يستبقون عقوبات المشرفين على الموت ويؤجّلونها للمطهر، تصرّف الجهل والشر.

1- لا ريب من ان الكهنة الذين يعملون مثل هذه الأعمال يجعلون طاعة القوانين الكنسية ذات قيمة أكبر من طاعة دعوة الله. وإني أتساءل، هل ايمان هؤلاء هو ايمان صحيح يا ترى؟ “ان الله احق من الناس بأن يُطاع” ( اع 5 : 29).

2- هل يأذن البابا لأحد الأساقفة او غيرهم من رؤساء الكنيسة أن يقيّد شخصاً ويمنعه عن المثول امام الكرسي الرسولي بعد ان ارسل هو في طلبه؟ فإذا اقدمت الكنيسة على احتجاز احد الناس الذين دعاهم الله للمثول امام عرشه، وهو كرسي القضاء الأسمى، فلن يكون عملها هذا إلاّ عملاً شريراً لا شك فيه.

كان هناك عشرون سبباً دفعتني الى الشك في القوانين الكنسية هذه. (فليتّهمني من شاء باني مستكبر). ومن ناحية أخرى، ليس هناك مرجع يدعم هذه القوانين ويؤيّدها، لا القواعد القانونية الكنسية، ولا الإقناع بالمنطق، ولا ممارسات الكنيسة القويمة. ان ما يقوم به بعض الأفراد بوضع هذه القوانين انما يفعلون ذلك عسفاً وظلماً .

-11-

من الواضح أن الزوان الذي زُرع بقصد تحويل عقوبة القانون الكنسي الى عقوبة المطهر، إنما تم زرعه فيما كان الأساقفة نائمين.

1- أرجو ان لا يحسبني أحد أنني اتعيّب الأساقفة الأفاضل عندما أقول انهم كانوا نياماً. ليس هذا القول قولي، بل هو قول الإنجيل. إلاّ ان الإنجيل يستعمل كلمة “الناس” وليس كلمة “الأساقفة” ( متى 13 : 25). ومع ذلك تنطبق كلمة “الناس”  على رؤساء الكنيسة وقادتها . فحتى بابوات الكنيسة لا يعلمون ان القوانين الكنسية تنطبق على المطهر ايضاً، لأنه ليس هناك أي قانون او نظام كنسي يستند اليه هذا التعليم، كما سبق وقلت. لذلك يبالغ بعض علماء القانون الكنسي عبثاً في حسابهم عدد السنين وعدد اصوام الأربعين يوماً التي يجب ان يقضيها المرء في المطهر، ويفرطون في تفصيلهم مجاوزين كل حدّ، لأنه ليس هناك أي برهان على وجود هذه القوانين. ويكمن الخطأ في انهم لا يعتبرون القوانين الكنسية أنها شرّعت لهذه الحياة وانها ملزمة على الأرض فحسب.

2- وعلينا ان ننتبه الى ما يأتي به بائعو الغفرانات من البدع والمغالطات العقيمة، فهم يحاولون ان يخيفونا كما يخيف الناس الأولاد الصغار باستعمال الأقنعة. فعلى سبيل المثال يقولون: بما ان الكاهن لا يعرف قدر الندم والأسف الضروري للحلّ، ونتيجة لذلك قد لا يفرض القدر الكافي من اعمال التكفير التي تطلبها العدالة الإلهية ، لذلك يجب تعويض هذا التفاوت إما عن طريق أعمال إضافية او عن طريق شراء الغفرانات.

3-  تأمّل كلامهم الخالي من المعنى والمبهم ، مع  ان النبي يقول: “ان السيد  الرب لا ينفذ كلمة إلاّ ان يكشف سرّه لعبيده والأنبياء” ( عاموس 3 : 7 ) . وقابل ايضاً (ميخا 6 : 8 ): ” قد بيّن لك ايها الإنسان ما هو صالح وما يطلبه منك الرب”.

4- ما يدريني إذا كان هؤلاء الناس ممن يتكلمون على هذه الطريقة يقصدون ان يجعلوا الله عز وجلّ مرابياً او تاجراً لا يغفر لنا شيئاً مجاناً، بل ينتظر ان نؤدي له جزاء المغفرة. أو هم يقصدون بكلامهم ان يجعلونا نجري مقاولة بيننا وبين عدالة الله ونتساوم  بخطايانا، مع العلم بأن احداً لا يمكن ان يتبرر امام عدالة الله؟

5- علاوة على ذلك ، لم تكن الكنيسة الأولى تعرف مقدار الندم الصادق والضروري الذي تدعو اليه الحاجة، ولكنها لم تكن تميّز بين شخص وآخر، بل كانت تغفر الخطايا غفراناً كاملاً، وكانت تهب الخاطئ الحلّ المطلق، بعد ان يقوم بالعمل التكفيري معبّراً عن توبته.

6- وهناك ضرب آخر من الخيال ، منشؤه كون الخصوم لا يبنون غفران الخطايا على اساس الإيمان وكلمة المسيح الرحوم، بل على عمل الإنسان وسعيه وجدّه، ويظنون ان الحل المطلق لا يُعطى إلاّ للذين يندمون ندامة الكمال، هذه الندامة التي لا يبلغها احد في هذه الحياة. وهم يدّعون ان البابا بإمكانه ان يمنح الحلّ المطلق حتى لأولئك الناس الذين لم تبلغ ندامتهم حد الكمال.

7- ان كل ما تطالب به العدالة الإلهية خارج عن نطاق السلطة الكنسية. لأن الكنيسة لا تستطيع ان تغيّر شيئاً مما يريده الله اويفرضه، وإن  قوله قول صدق: “رأيي يقوم وافعل مسرّتي”، أي ان مشورتي تثبت، وإني اصنع كل ما أشاء. ( اش 46 : 10). ثم ليس واجب الكنيسة ان تفرض العقوبات التي تتطلبها العدالة الإلهية، بل واجبها ان تعلن الأمور التي فرضها الله. وإلاّ يجب على هؤلاء الناس ان يقرأوا كلمة المسيح بعد ان يقلبوها ويُحوّروها هكذا: “ان كل ما أربطه انا تحلّونه أنتم”.

-12-

كانت العقوبات الكنسية تفرض في الماضي قبل الحلّ وليس بعده، وذلك من أجل اختبار الندامة الصادقة والتأكّد منها.

تعود القاعدة الثانية عشر هذه وتبرهن الثامنة، لأن هدف العقوبات التي تفرضها القوانين الكنسية هو الحل وليس شيئاً آخر. أما المشرف على الموت فيقتضي حاله أن يُمنح الغفران بدون أن تُفرض عليه أية عقوبات، كما يقتضي إلغاء جميع العقوبات التي فُرضت سابقاً والصفح عنها، وأيضاً تلك العقوبات التي يستوجب فرضها. ولو تم الحفاظ على ما اعتادته الكنيسة في الماضي لما تفاقم الخطأ الى الحد الذي نراه اليوم.

1 – يستند برهان هذه القاعدة الى القوانين الكنسية نفسها، والتي لا زالت رهن الاستعمال، وهي التي تقول بوجوب الندم الرزين الأصيل في حالة القتل مثلاً. فلماذا  يمنحون الحلّ من العقوبات لهذا الإنسان الحيّ بدل أن يرشدوه الى القيام بأعمال التوبة في حياته؟ بينما هم يتصرّفون على نحو صارم مع الإنسان المشرف على الموت!

2- وهناك أمثلة على مواقف آباء الكنيسة الذين لم يمنحوا الغفران إلاّ بعد التكفير والندم، مثل القديس هيرونيموس . والقديس أمبروسيوس . والشهيد المجيد القديس كبريان . ويذكر لوثر آخرين من  آباء الكنيسة ممن كتبوا أن الخطاة لم يحصلوا على النعمة والحل قبل الندم وتأدية التكفيرات.

3 – لم يغفر المسيح لمريم المجدلية وللزانية إلاّ بعد ان ذرفتا الدمع، ومسحتا الرب بالطيب، وأنزلتا بنفسيهما عقوبات التطهير والتأديب بأبلغ درجات الغيرة والتواضع.

4 – وهكذا نقرأ  أيضاً في سفر التكوين، الأصحاح 44 ، أن يوسف قام بتأديب إخوته وجعل لهم اختبارات عديدة ليمتحن حبّهم لبنيامين وله وليتأكّد من صدق هذه المحبة . وبعد أن ثبت له ذلك عرّف ذاته لهم وقبلهم بكل سماحة نفس وكرم.

– 13 –

المائتون صاروا أحراراً من كل موجب، وبما يتعلّق بالعقوبات التي تفرضها القوانين الكنسية فقد  أصبحوا بحكم موتهم في حلّ منها شرعياً وعن استحقاق.

تلخّص هذه الفرضية ما سبق وتم قوله، وهي واضحة الى حدّ كافٍ. فلو كان المشرف على الموت وهو الذي قد أعتق من جميع الأعمال والقوانين والمسؤوليات تجاه الناس وحتى تلك المتعلقة بالله، أي الأعمال التي يستطيع الجسد ان يقوم بها كالصلاة وإعطاء الصدقة وأعمال المحبة تجاه القريب، (ولو ان المحبة ذاتها لا تموت أبداً)، لو كان يجد نفسه مع ذلك  وجهاً لوجه مع القوانين الكنسية التي لا يستطيع ان يُعتق منها، لكان هذا الأمر أمراً شديد الغرابة، ولكان هذا المسيحي في هذه الحالة أتعس من جميع الوثنيين، لأن قوانين الأحياء تلاحقه وتكون مصدر عذاب له حتى في مماته ، لكنه في الواقع أصبح ذا طبيعة حرّة بواسطة المسيح الذي يعيش به ولو كان هو ميتاً .

وفي الختام دعونا نكتشف معاً كم من الناس ينالون بالغفرانات إلغاء عقوباتهم والصفح عنهم. ويبدو لي أن هناك ستّ مجموعات أو أصناف من الناس الذين يجب استثناؤهم من العقوبات وهم :

اولاً : الأموات والمشرفون على الموت

ثانياً : المرضى

ثالثاً : الذين يعانون  من إعاقات مزمنة

رابعاً : الذين لم يقترفوا أية جرائم

خامساُ : الذين لم يقترفوا الجرائم العلنيّة الظاهرة للعموم

سادساً : الذين يقومون بإصلاح أنفسهم

وسنحاول أن نبيّن ان هذه المجموعات لا تحتاج الى الغفرانات أو على الأقل نبدي أسباباً يقبلها العقل السليم.

1- ليست  الغفرانات ضرورية إلاّ الى الجرائم العلنية والظاهرة للعموم، كالزنى والقتل والربى الفاحش والفسق والإدمان على السكر والعربدة والعصيان الخ. فلو بقيت هذه الخطايا خافية واستترت عن الأبصار لما انطبق عليها  الغفرانات. ذلك لأن القوانين الكنسية تشترع أعمالاً تكفيرية ينزلها الآثم بنفسه علانية، وليس للكنيسة السلطة على إصدار الحكم العلني على أمور سرّيّة. وبما أن الخطية المستترة منطقياً لا تخضع للعقوبة العلنية فإنها ليست بحاجة الى صكوك الغفران. وثم لا تسيء الذنوب السريّة الى الكنيسة، بل الظاهرة هي التي تسيء إليها. كما أن القضاة لا يحكمون على المجرمين حكماً علنيّاً إلاّ بعد أن يثبت جرمهم أمام القانون، وهم يتغاضون عن المعروفين بأنهم مجرمون فعلياً طالما لم تثبت إدانتهم ويعاملونهم بالتسامح. وإنني في الواقع لا استهجن رأيهم هذا ويبدو لي انه رأي الصواب. لأن ليس لإحد الحق بأن يدين الآخر ويحتقره مهما كان هذا الآخر كثير الخطأ إلاّ إذا كان يملك حق الحكم عليه، ذلك خشية أن يقال فيه (رو 14:4): “مَن أنت الذي تدين عبد غيرك؟”

2-  أعتقد أنه من الواضح للجميع أن العقوبات الكنيسة لاتُفرض إلاّ على الجرائم. لذلك لا تصحّ ولا تنطبق إلاّ على المجرمين. أما اولئك الناس الذين يعيشون حياة عادية، وإن لم تكن حياتهم خالية من الخطايا العرضية، فليسوا بحاجة الى شراء الغفرانات، لأن هذه الخطايا غير خاضعة للعقوبات الكنسية، وليس هناك ما يوجب المرء حتى على الاعتراف بها. وإلاّ لكانت العقوبات الكنسية تلازم كل واحد وكل لحظة لأن أحداً من الناس لا يعيش بدون أن يقترف خطايا عرضية. وأضيف علاوة على ذلك أنه لا حاجة الى شراء الغفرانات لكل الخطايا المميتة، وأوضح ذلك على النحو التالي: ليس هناك أحد واثقاً بأنه لا يرتكب خطايا مميتة البتّة، ذلك بسبب وجود تلك الخطية الخفية جداً، ألا وهي الزهو والتكبّر. فلو كانت العقوبات الكنسية تنطبق على كل خطيّة مميتة، لما كانت حياة المؤمنين كلها إلاّ حياة تعذيب العقوبات الكنسية، يرزحون تحت وطأتها باستمرار. فإذا كان هذا الأمر يدعو الى السخريّة يتّضح أن الغفرانات لا تصحّ إلاّ في حالات الخطايا الواردة في القوانين الكنسية، وهي الجرائم المعروفة عامة والمتفق عليها والأكيدة، كالتي ذكرتها قبلاً كالزنى والسرقة والقتل الخ. وهي أعمال بارزة يدركها عامّة الناس.

3- تتوقف العقوبات التي تفرضها القوانين الكنسية، ويكف عنها المرء، إذا قام بإصلاح طرقه، كأن يدخل الدير أو يكرّس نفسه على خدمة الفقراء والمرضى، أو أن يتألم من أجل المسيح أو يموت في سبيل مشيئة الله أو يعمل أعمالاً أخرى مثل هذه. ومن الواضح أن تتوقف العقوبات الكنسية في هذه الحالات وانه ليس للغفرانات أية قيمة بالنسبة لها. ومن ثم لا تُفرض العقوبات إلاّ على الكسالى والذين لا يكترثون للأعمال التكفيرية، أي أولئك الخطاة الذين قد فسدوا بالإفراط بتدليلهم بالغفرانات.

4-  من واضح الأمور بدون أدنى شك أن العقوبات لا تُفرض على إنسان تمنعه عن تحملها أسباب مشروعة، مثلاً إذا كان أسير الوثنيين أو عبداً مُجبراً على طاعة سيده وفق ما يوصيه الإنجيل، أو إذا كان يتعيّن عليه ان يقوم بأعمال في خدمة امرأته وأولاده فيكدّ ويعمل بيديه ليكسب قوت عياله. إن كل من ينشغل بهذه الأمور عليه ان لا يتخلّى عنها، بل بالأحرى عليه ان يتجاهل القوانين الكنسية إطاعةً لله. إن شخصاً يواجه هذه الإعاقات لا حاجة له الى الغفرانات والأعمال التكفيرية إذ لا قدرة له على القيام بها.

5- لا تفرض القوانين الكنسية شيئاً على المرضى. فالقوانين لا تُعنى إلاّ بالأصحّاء والذين ليسوا من بين اولئك الذين يقولون مع أيوب: “إن يد الله قد مسّتني” (19:21). إن المرضى حريّون بأن يزورهم الناس ويواسوهم حسب كلمة المسيح (متى 25: 43): “كنت مريضاً فلم تزوروني …” وعلاوة على ذلك ينبغي أن يوجّه هذا القول الى البابوات ( مز 69: 26): “فإنهم اضطهدوا الذي ضربته أنت، وعلى وجع جراحاتك زادوا” ، وحسبما قال أيوب (19:22): “لماذا تُطاردونني كما الله؟”

6-  ما يصحّ قوله في ما يتعلق بالمرضى، يُطابق واقع الموتى والمشرفين على الموت أيضاً، وقد سبق وذكرت ذلك.

إنك ترى كم من الناس لا تُعوزهم الغفرانات ولا تنفعهم. إنها لا تنطبق إلاّ على الأحياء والأصحاء منهم.. ومن الجليّ أنها تنطبق على المجرمين فقط، وعلى اولئك الناس ممن هم في صحة جيدة وأقوياء وبدون أمور تعيقهم، وممن هم لا يرغبون في إصلاح طرقهم. فإذا كنت مُخطئاً فليصحح قولي هذا من كان قادراً على ذلك وكان ذا دراية بهذه الأمور.

ربّ سائل يسأل: “إذا كانت الأرواح لا تتحمّل شيئاً مما تشتمل عليه القوانين الكنسية، فما هي العقوبات إذاً التي يُعفون منها أو ما هي العقوبات التي يخضعون لها في المطهر؟” وجوابي هو: لو كنت أعلم جواب هذا السؤال لما اضطررت الى التطرّق الى هذا الموضوع. لست بذلك الخبير العارف بما يفعله الله بالأرواح بعد مغادرتها عند الموت. فأنا لست صاحب الخبرة مثل اولئك مُخلّصي النفوس، إياهم، الذين لا يُعدّون ولا يُحصون والذين يؤكّدون ان خلاص النفوس واقع قطعاً ويُبدون رأيهم الشخصي بكل وضوح في ما يتعلق بكل الأمور كأنهم ليسوا بشراً. انني إذن أعالج أمراً مشكوكاً فيه ومثيراً للمناقشة، وها انني أبدي ما أمكنني ملاحظته أو رؤيته بخصوص هذه الأمور.

– 14-

إذا كان صلاح الميت غير كامل أو كانت محبته غير كاملة، فلا مناص من أن ينشأ عن ذلك الخوف الشديد. وكلما صغرت المحبة عظم الخوف.

تشير رسالة يوحنا الأولى (ص 4: 18) الى هذه الحقيقة إذ تقول: “لاخوف في المحبة بل المحبة الكاملة تطرح الخوف الى خارج، لأن الخوف له عذاب”. لذلك إذا كانت المحبة تنفي المخافة، فالمحبة الغيركاملة لا تنفيها. ولكن أين يجد المرء تلك المحبة الكاملة؟ (للإجابة على هذا السؤال يلزم ان ننحرف بعض الشيء عن الموضوع الرئيسي وننتقل الى كلام آخر). أيّ إنسان لا يخاف الموت أو الدينونة او الجحيم؟ فإن كل إنسان، مهما كان صالحاً، فيه بقيّة من الإنسان القديم ومن الخطية ومن آثار مخلفات آدم. زد على ذلك، من خاصيات الإنسان القديم اقتراف الخطأ والشهوة والغضب والخوف والقلق واليأس والضمير الشرير والفزع من الموت الخ. وتنقص هذه الخاصيات في الإنسان الجديد ولكنها لا تفنى بالكلية إلاّ عندما يفنى الإنسان نفسه في الموت، حسبما يقول الرسول (2 كو 4 : 16): ” وإن كان إنساننا الخارجي يفنى فالداخل يتجدد يوماً فيوماً”. لذلك لا تزيل الغفرانات هذه البقايا الشريرة الكامنة في الإنسان القديم ولا يزيلها الندم وانسحاق الفؤاد. بل تبدأ عملية الإزالة مع بداية نموّ الشخص في الصحة الروحية، وليست الصحة الروحية إلاّ الإيمان بالمسيح أوالمحبة في المسيح.

واستناداً الى هذا البيان تتضح هذه القاعدة أو الفرضية اتضاحاً كافياً. فالإنسان الذي يعاجله الموت قبل ان يحرز تلك المحبة الكاملة التي تطرد الخوف الى خارج، بالضرورة  يموت في خوف ورعدة. وهذا الخوف هو الضمير الشرير المشوش بسبب ضعف الإيمان. كما يقول الرسول ( عب 9: 14): “فكم بالأحرى دم المسيح الذي بالروح الأزلي قرّب نفسه لله بلا عيب يطهّر ضمائركم من الأعمال الميتة..)”. ويقول أيضاً (عب 10 : 22): “فلندن بإيمان كامل وقد طهّر الرش قلوبنا من دنس الضمير..”.

وباختصار، لو استطعت أن أبرهن أن سبب الفزع والخوف هو الشك والارتياب، ومنبع الثقة بالنفس هو الإيمان، فإني اعتقد ان هذا البرهان يوضح في الوقت نفسه ان الشخص الذي يموت بإيمان غير كامل لا مناص له من الخوف والرعدة.

ويشير الإنجيل المقدس الى الشك بأنه سبب الرعب واليأس والإدانة، وذلك في حوادث كثيرة، منها تلك التي جرت مع بطرس حين قال للرب: “أخرج عني يا رب فإني رجل خاطئ” (لو 5 : 8). والحالة الثانية وقعت لبطرس ايضاً وهي في صميم الموضوع ، حين أخذ يغرق بسبب قلة إيمانه (متى14 : 30). وهناك حالة ثالثة حين صرخ التلاميذ من الخوف عندما ظنوا يسوع خيالاً ماشياً على البحر (متى 14: 26). أما الحادثة الرابعة فهي حين ظن التلاميذ المضطربين المرتعدين أنهم يرون روحاً عندما دخل المسيح ووقف في وسطهم وكانت الأبواب مغلقة ( لو24: 37). تصوّر كل هذه الحالات الشك وتصفه بأنه سبب الخوف والرعب. لذلك كان الارتياب والشك منشأ كل خوف ورعدة، وكان الإيمان بالله منشأ الشعور بالثقة. أما الإيمان فتنشئه المحبة لأن الشخص المحب هو الموثوق به والمعتمد عليه.

– 15-

هذا الخوف وهذا الرعب يكفيان وحدهما لاستدعاء عقاب المطهر، (فضلاً عن أن هناك أموراً اخرى غيرهما)، لأنهما ملتصقان التصاقاً شديداً بالفزع الناجم عن اليأس.

ليس موضوع النار ومكان المطهر موضوع كلامي في الوقت الحاضر، ذلك ليس لأنني أنكر حقيقة وجودهما. وعلاوة على ذلك لا أعرف مكان المطهر، حتى وإن اعتقد القديس توما  أنه تحت الأرض. وإني أوافق القديس أوغسطينوس  في الاعتقاد أن الأماكن التي تأوي إليها الأرواح وتتستر فيها خافية وغامضة إلى حدّ أننا لا نعرف شيئاً عنها. أقول هذا حتى لا يستنتج بعض أصحاب البدع من جهلي مكان المطهر أنه لا وجود له، أو أن الكنيسة الكاثوليكية أخطأت لأنها لم ترفض اعتقاد القديس توما الأكويني. إني واثق بأن هناك مطهر، ولا يقلقني ما يثرثره أصحاب البدع من الكلام ويخلّطون فيه. فالقديس أوغسطينوس الذي عاش قبل أكثر من أحد عشر قرناً صلّى من أجل أمه وأبيه وتشفّع لهما عند الله، كما ورد ذلك في كتابه الاعترافات في الفصل التاسع من الكتاب التاسع. وقد طلبت أمه عندما كانت على فراش الموت أن يذكرها أمام مذبح الرب بعد موتها. وفعل ذلك أيضاً القديس أمبروسيوس ، بحسب ما ذكره القديس أوغسطينوس. صحيح أنه لم يرد ذكر المطهر على زمان الرسل، ولكن هل إيمان قرون هذا عددها  إيمان خاطئ، وهل يبطل هذا الإيمان لأن أصحاب البدع يدحضونه وهم الذين وُلدوا قبل خمسين عاماً أو أقل؟ إن حجتهم لا تعدو قولهم “أنا لا أومن به”، ويزعمون أن قولهم هذا برهان قاطع. بناء عليه ومن المسلّم به أن الأرواح تخاف وتفزع، وسأبرهن أن هذا الفزع هو عقاب المطهر، انه بلا ريب أعظم عقاب.

1- من المسلّم به أن عقوبات المطهر هي نفس عقوبات الجحيم، ما عدا ان عقوبات الجحيم أبدية. ويصف الكتاب المقدس عقوبات الجحيم بأنها الخوف والارتجاف والفزع والهرب، كما يقول المزمور (1: 4): “ليس كذلك الأشرار لكنهم كالعصافة التي تذرّيها الريح”. كما أن أيوب واشعياء ومصادر أخرى كثيرة في الكتاب المقدس تشبّه الأشرار بالقش والتبن وقشر الحنطة مما تتخطّفها الريح الهائجة وتبعثرها، ويرمز هذا التشبيه إلى فرار الهالكين بسبب الرهبة والذعر. ويعبّر المزمور الثاني عن هذه الفكرة عينها بقوله (عدد 5): “حينئذٍ يكلمهم بسخطه وبغضبه يروّعهم”. ونقرأ في اشعياء (28: 16) “مَن آمن لا يهرب (يتزعزع)”، أي لا يفرّ مذعوراً ولا يضطرب ولا يختلط عليه الأمر. إن ما يرغب النبي في قوله أن غير المؤمنين يضطربون ويرتجفون. ويقول كاتب سفر الأمثال (1 : 33) “أما المستمع لي فيسكن آمناً ومطمئنّاً من ذعر السوء”. ويقول المزمور (112: 7): “لا يخشى الصدّيق خبر السوء”. إن هذه الشواهد الكتابية وأخرى مثلها تتكلم عن الذعر والرعدة والارتجاف والخوف والاضطراب باعتبارها قصاص الأشرار، بينما يؤكّد الكتاب المقدّس على ان نقيض هذه الأمور هي من نصيب الأبرار. وثم يقول القديس يعقوب (2: 19): “و(حتى) الشياطين يؤمنون ويقشعرون”. ويصوغ سفر التثنية عقاب الأشرار في كلمات صريحة إذ يقول (28 : 65) “يعطيك الرب هناك قلباً مرتجفاً”. ونقرأ في سفر نشيد الأنشاد (8 : 6) “المحبة قوية كالموت والغيرة قاسية كالهاوية”، أي ان الموت والهاوية مخوفان لأنهما يوقعان المرء في عناء الارتجاف. ويقول الروح القدس عن الأشرار (مز 14 : 5) “هناك خافوا خوفاً (جزعوا جزعاً حيث لم يكن هناك خوف)”. ونقرأ في سفر الأمثال (28 : 1) “الشرير يهرب ولا طارد، أما الصديقون فكشبلٍ مطمئنون”. وإلاّ لماذا يُخيف الموت أحد الناس ويحزنه، بينما هناك الآخر ينظر الى الموت بسهولة، لولم يكن الأول قليل الإيمان وينقصه البرّ الإلهي، مما يجعله يخاف في ظرف لا ينبغي له أن يخاف؟

2- تنصّ رسالة تسالونيكي الثانية (1 : 8و9):على ان “الذين لا يُطيعون الإنجيل سيعاقبون بهلاك أبديّ من وجه الرب ومجد قوّته”. إن الله بمحض قدرته العظيمة يُنزل العذاب والألم بالذين لا يعفو عنهم ولا يُغضي على أمرهم. لذلك يفرّ الأشرار ولكنهم لن ينجوا، بل ينتابهم الخوف والقلق: كما يقول سفر الحكمة (حكمة سليمان 6: 6) “فسيطلع عليكم بغتة مطلعاً مخيفاً”. ونقرأ في المزمور (21 : 9): “تجعلهم مثل تنور نارٍ في زمان حضورك”. وهناك صوت الصارخين “يقولون للجبال غطينا وللتلال اسقطي علينا” (هوشع 10: 8). ويقول النبي اشعياء (2: 10) “أدخل في الصخرة وأختبئ في التراب، من أمام رعب الرب ومن بهاء عظمته!”. أو تلك الفقرة من سفر أيوب (14 : 13) ” ليتك تواريني في الهاوية وتخفيني الى أن ينصرف غضبك”. من الواضح إذاً أن اقسى عقاب الأشرار يكمن في حضورهم أمام الرب، حيث يقعون في الخزي لأن فرقاً صارخاً يتكشّف عند مقابلة نجاستهم الفاحشة بأوج الطهارة الإلهية.

3 – إن الصلاة الأعمّ والأكثر شمولاً التي ترفعها الكنيسة الى الله هي الصلاة من أجل هؤلاء الناس الأشرار والرغبة في أن يحصلوا على الراحة والتحرر من القلق والتململ، كما أن الشهداء الوفيين الثابتين على الإيمان كانوا يصلون ايضاً لهؤلاء الناس. وما الفزع والهرب من العقوبات إلاّ نتيجة ضعف الثقة بالله وعدم الاتكال عليه، كما يصور حالهم  المزمور (6: 2و3) “عظامي قد رجفت ونفسي قد ارتاعت جداً”. ويقول المزمور (116: 3) “إن حبائل الموت اكتنفتني، وشدائد الهاوية أصابتني”. أما الصدّيق فلا يتزعزع مهما أصابه، كما يقول سفر الأمثال (12: 21): “لا يُصيب الصدّيق شرّ.” بينما “الأشرار يهزمهم صوت ورقة مندفعة” (لاويين 26: 36). ونقرأ في سفر اشعياء (57: 20 – 21): “أما الأشرار فكالبحر المضطرب لأنه لا يستطيع ان يهدأ، وتقذف مياهه حمأةً وطيناً. ليس سلام للأشرار قال إلهي”.

4- هناك بعض الأشخاص ممن ذاقوا هذه العقوبات وحتى عقوبات الهاوية في حياتهم الأرضية. فقد قال داود وهو الرجل المجرّب والشديد في معالجة الأمور ومعاناتها “لولا أن الرب معيني لسكنت نفسي سريعاً أرض السكوت (أي الهاوية)” (مزمور 94 : 17). ويقول في مكان آخر ( مز 88: 3) ” فقد شبعت من المصائب نفسي ودنت من الهاوية حياتي”. ويقول أيضاً: “تبددت عظامنا عند فم الهاوية” (مز 141: 7). وايضاً (مز 28: 1): “فأشبه الهابطين في الجبّ”. ويقول في (مز71: 20) “أنت الذي أريتني ضيقاتٍ كثيرة ورديّة، تعود فتحييني ومن أعماق الأرض تعود فتصعدني”. أما الملك حزقيا فيقول: “أنا قلت في عزّ أيامي أذهب الى أبواب الهاوية. قد أعدمت (أي حُرمت) بقيّة سنيّ” (اش 38: 10)، وثم يضيف : “إنه كالأسد يهشم جميع عظامي” (اش 38: 13)، ولا يعني قوله هذا إلاّ انه وقع له حادث رعب لا يُطاق.

5 – كم من الناس، حتى في يومنا هذا،  يُقاسون تلك العقوبات ويُكابدونها. وهناك بعض معلّمي الكنيسة الذين يُعلمون ويعظون عن هذه العقوبات ويؤكّدون عليها بإيراد الدليل والبرهان. وإني المس الإخلاص وصواب الرأي في لاهوتهم، ولو لم يكونوا من المشهورين بين الناس. وإني أنا نفسي أعرف رجلاً صرّح بأنه قاسى هذه العقوبات، وإن لم تستمرّ إلاّ فترة قصيرة جداً، لكنها كانت من الشدة بمكان، فأشبهت الهاوية ذاتها، حتى يعجز اللسان عن التعبير عنها، ولا يقدر القلم على وصفها، ويصعب على الإنسان ان يصدّقها إن لم يكن قد اختبرها بنفسه. ولو استمرّت هذه الحال مدة نصف ساعة أو حتى عُشر الساعة لهلك ذلك الإنسان ولتحطّمت عظامه واستحالت رماداً. إن غضب الله في وقت كهذا الوقت يبدو بالغ الشدة وتغضب معه الخليقة كلها. ولا مفرّ للإنسان ولا عزاء له في مثل هذا الوقت، بل كل الأشياء توجّه إليه أصابع الاتّهام، فيأخذ يندب سوء حظه ولسان حاله شكوى صاحب المزمور: “إني قد انقطعت من قدام عينيك” (مز 31: 22). ولا يجرؤ على الأقل على أن يقول  مع صاحب المزمور

(6: 1) ” يا رب، لا توبّخني بغضبك، ولا تؤدّبني بغيظك”. وأما النفس، وإن كانت خالدة لا تزول، فإنها تعتقد في هذه اللحظة أن لا نجاة لها، فلا يبقى للمرء  إلاّ الرغبة في المساعدة ويُعبّر عنها بالتأوّه الشديد، وإذ لا يعرف الى أين يلتفت، يتمدّد مع المسيح المصلوب، وتظهر جميع عظامه ويمتلئ كل جزء من أجزاء نفسه مرارةّ وفزعاً ورعدة وحزناً، وتبدو كل هذه انها دائمة لا نهاية لها. فإذا كانت هذه العقوبات التي لا تطاق تنزل بالأحياء، فكيف حال العقوبات التي تنزل بالنفوس في المطهر؟ إنها  تبدو أشدّ بكثير.  علاوة على ذلك عقوبة المطهر مستديمة، ونارها الداخلية أشد رهبة من الخارجية. إن هذا الكلام الذي ابديناه إنما هو البرهان على أن وعّاظ الغفرانات يتكلمون بجرأة وتهوّر بأمور لا يعلمون عنها شيئاً.

6- وهناك الكنيسة، إنها ترنم استناداً الى سلطتها ونفوذها وحقها: “خلصهم من فم الأسد، خشية أن تبتلعهم الهاوية” (مز 22 : 21)، وترنم ايضاً تلك الكلمات: “من باب الجحيم…” . وهي تشير الى النفوس المحكوم عليها والواقفة على باب المكان المعدّ لها، إذا صح هذا التعبير، وعلى عتبة الهاوية وعند مدخلها. واني لا اعتقد ان كلمات الكنيسة كلمات فارغة.

– 16-

يبدو اختلاف الهاوية والمطهر والسماء بعضها عن بعض كاختلاف اليأس، والخوف القريب من اليأس، والثقة بالخلاص.

إن كل من سلّم بالقاعدتين السابقتين ووافق على صحتهما، يسلّم بسهولة بهذه القاعدة ايضاً. فمن الواضح أنه بما أننا نؤمن بأن السلام والفرح والثقة تسود في السماء حيث النور الإلهي، فإننا نؤمن أيضاً بأن اليأس والحزن والهرب المروّع تصول وتجول وتتسلّط على الهاوية في دنيا الظلمة الخارجية. ومن الواضح ان المطهر هو الوسط بين الطرفين، ولكنه اقرب الى الجحيم وأبعد عن السماء. لأن ليس فيه فرح أو سلام، ولا تشترك فيه النفوس في أي شيء سماوي، ويعتبر عقاب المطهر مماثلاً بعقاب الجحيم نفسه، ولا يختلف عنه إلاّ بطول الأمد. أما في ما يتعلّق بقدر اليأس فإني قد أضفت عبارة “القريب من اليأس” لأن هذا الصنف من اليأس زمني وسينتهي أخيراً. وعلاوةً على ذلك لا تشعر النفس التي في  المطهر إلاّ باليأس، لأنها هناك تكون في حالة اضطراب وارتباك وقلق شديد لا تقوى فيه على الأمل والرجاء. إن الروح وحده يعين ضعفاتها (رو 8 : 26) قدر ما هو مستطاع، فإنه يشفع فيها بأنّات لا يُنطق بها. وهكذا حال الناس الذين تصيبهم هذه التجارب في هذه الحياة، إنهم لا يدرون أيأملون أم ييأسون. فيبدون يائسين لا يعرفون الى الأمل سبيلاً، ولم يبقَ لهم سوى الأنين طلباً للمساعدة. إن هذا الموضوع شديد الإبهام ولذلك لا أرغب في أن أسهب في الكلام عنه. لئلا يكرر مناوئي قولهم انني أتكلم بدون أن أبدي البرهان، ولكنني لا أصرّ مثلهم على أمر لا أفقه شيئاً منه. بل أناقش إدّعاءاتهم وأشكّ فيها، لأنها إدّعاءات مبنية على الوقاحة، إنها تافهة ومثيرة للريبة وهي عديمة الجدوى.

– 17 –

من الظاهر أن وجود النفوس في المطهر يقتضي بالضرورة تناقص الرعب وازدياد الحب معاً علىنحو  مماثل.

تتبع هذه القضيّة أو الفرضيّة القضايا الثلاث التي سبقتها وهي تستند إليها. ولكننا لا نرى من شرحها بدّا، وكما اعتدنا في السابق نقترح ثلاثة أصناف من النفوس المشرفة على الموت.

1- يتكوّن الصنف الأول من منعدمي الإيمان انعداماً تاماً، وهم المحكوم عليهم بالهلاك. ولا بد لهؤلاء من أن يواجهوا الموت ببالغ الفزع واليأس، كما يقول الكتاب المقدس (مز 140: 11) “رجل الظلم يصيده الشرّ الى هلاكه”. ويقول أيضاً (مز 34: 22): “الشرّ يُميت الشرير”، أي يدركهم غضب الله لأنهم لا يؤمنون به.

ب- يتكوّن الصنف الثاني ممن لهم إيمان ثابت، وهم الكاملون المباركون. ومما لا شك فيه ان يواجه هؤلاء الموت ببالغ الثقة والفرح، كما يقول الكتاب المقدس (مز 37: 24): “إذا سقط لا ينطرح لأن الرب مسندٌ يده”. ويقول أيضاً (مز 116: 15): “عزيز في عيني الرب موت أتقيائه”. ومزيداً عليه قول سفر الحكمة (4: 7): ” أما الصدّيق فإنه وإن تعجّله الموت يستقرّ في الراحة”.

وكلتا الفئتين، الصدّيقون والظالمون، وجدتا سبباً للموت. فيلاقي الظالم ما استوقعه أي الموت والعقاب، علاوة على أنه كان دائماً يتخوّف منهما. أما الصدّيق وهو الذي قد اتعبته الحياة، فإنه يرغب فوق كل شيء في ان ينحلّ وينطلق، وهكذا أجيب الى رغبته. إن الأول لا ينصف أيامه (مز 55: 23)، أما الثاني فقد أطيلت أيام تلبّثه في الجسد حتى جاز الهدف المعدّ له وتخطّاه. ولذلك كان ما يخشاه الأول هو الذي يشتاق اليه الآخر. وما كان الفزع الشديد للأول كان الربح الأعلى والفرح الأسمى للآخر.

جـ- الصنف الثالث من النفوس المشرفة على الموت هم ذوو الإيمان الغير تام ويتراوح ايمانهم بين التام وانعدامه انعداماً تاماً. لا أظن أن أحداً ينكر أن هناك أناساً يموتون بإيمان غير كامل. وبناءً عليه، بما أن عدم اكتمال الإيمان ليس إلاّ عدم اكتمال جدّة الحياة بالروح، أي انه لا تزال هناك بقايا الإنسان القديم وآدم العتيق، فإنه يبدو واضحاً ان على النفوس  أن لا تتخلّص من العقوبات فحسب، بل عليها ان تكتسب  تجديد الحياة وأن تزيل بقايا القديم الذي هو محبة هذه الحياة والخوف من الموت والدينونة. فإن إزالة العقوبات لا تؤاتي النفس الصحة والصلاح، كما ان الإنسان لا يصبح حاله أفضل بمجرد إزالة العقوبات، بل يجب إزالة الخطية أي عدم كمال الإيمان والرجاء والمحبة أول كل شيء، وثم إضافة النعمة. .

2 – ليس هناك عقاب يمكن التغلب عليه بالهرب منه او بخوفه. وصدق المثل القائل: “الذي يخاف الجحيم يذهب اليه”. (والمثل العربي مَن  يخاف من الضبع يطلع له). أي أنه يلاقي أكثر مما كان يخاف وقوعه. أما الإنسان الذي يتغلب على الخوف من العقاب فلا يكون العقاب مصدر حزن له، لأنه قد قهر العقوبات والموت بالمحبة والروح. وبما أن احداً لا يدخل السماء بدون ان يتمتع بالصحة الروحية الكاملة، إذاً وجب عليه ان يزداد محبة وصجة وأن ينقص خوفاً .

3 – إذا اعتقد احد  أن حياة الأرواح الروحية في المطهر هي حياة يتم فيها قضاء ديون العقوبات السابقة، أجيب على ادّعائه هذا أن عليه أن يورد الدليل المستند الى الكتاب المقدس او المنطق. واني اسأل

أولاً، لماذا يريد الله أن يعاقب الكاملين في الروح؟ هل من أجل التكفير؟ إن الله لا يقصد بالعقوبة إلاّ تكميل المحبة، أوَ يكذب الرسول عندما قال (1بط 4: 8): “المحبة تستر كثرةً من الخطايا”.

ثانياً: إذا كان الإنسان تعوزه المقدرة، فالتكفير يتم بالإرادة، كما تؤمن بذلك الكنيسة استناداً الى القديس اوغسطينوس.  فإذا كان أحد يتمتع بالمحبة الكاملة  فبالضرورة يتمتع أيضاً بالإرادة الكاملة.

ثالثاً: مهما تراكم على الكاملين من الديون السابقة ، فإنهم يرجعون الى الله لأنهم يودعونه ذواتهم الكاملة مع نهاء إرادتهم، فلم يعودوا مديونين بأكثر من ذلك. لأن الله لا يطلب من الإنسان إلاّ ذاته كاملاً، كما يقول (امثال 23: 26): ” يا ابنيّ أعطني قلبك”. فبعد أن يتم ذلك فعلى أي سبيل تبقى هناك عقوبات؟

4-  تأمّل مثلاً في حالة احدى النفوس الكاملة في الإيمان والمحبة ، وهي في ساعة موتها ما تزال ملزمة بأداء سبعة أيام صيامِ أو احدى العقوبات الكنسية الأخرى. أيكون الله شديداً وبالغاً في قساوته مع هذه النفس التي تعطش اليه ببالغ المحبة وتحبه فوق كل شيء والتي غفرت لقريبها كل إساءاته اليها، وأن غاية ما ترغب فيه ان تحصل هي نفسها على العفو عن كل ذنوبها، أقول أيكون الله بالغاً في القساوة الى حدّ أنه لا يلغي عقوبة السبعة ايام تلك مقابل المحبة العظمى والتواضع البالغ الغاية تجاه الله والقريب، وهما اعظم أعمال الصلاح؟ إنه قال نفسه: ” أعطوا ما عندكم صدقة، فهوذا كل شيء يكون نقياً لكم (لو 11: 41). فإذا كان الله يهب بسخاء هذه الأمور العظيمة للذين هم على قيد الحياة وبعيدون عن خطر الموت، أيصعب عليه ان يترك الخطايا الصغيرة مقابل المحبة العظيمة للمشرفين على الموت؟ من يصدٌق هذا الأمر؟

5 – وهناك سبب آخر يدعوني الى الكلام مؤيّداً هذه القضيّة الفرضيّة، وهو إذا كان المطهر مشغلاً للعقوبات فقط، فلماذا لا يُسمّى “بمكان العقوبة” بدل “مكان التطهير”؟ فالتطهير يلمح الى الاغتسال والنقاء وينطوي بداهةً على بقايا الطبيعة القديمة والخطية التي تجعل الناس دنسين بسبب محبتهم للأمور الدنيوية والتي حالت دون نقاء الإيمان. والمطلوب هنا إزالة الغموض وإظهار التمييز بين التطهير والمعاقبة، مع العلم ان المعنى الأساسي هو التطهير.

قال البابا غريغوريوس الكبير  الذي أيّد هذه القضية في كتابه “Decretum Magistri Gratiani” والفصل 25: “ليست العقوبات وحدها هي التي تُلغى في الحياة المستقبلة بل الذنوب تُمحى أيضاً، أي الخطايا العرضية. ولكن الصفح عن الذنب لا يتم بدون انسكاب النعمة. أما الخوف من الموت فهو بالنسبة للقديسين خطية عرضية، وإن لم تكن خطية صغيرة”.

– 18 –

وعلاوة على ذلك، من الظاهر انه ليس هناك برهان لا في الكتاب المقدس ولا مما يبديه المنطق على أن النفوس في المطهر تعجز عن اكتساب الجدارة والنمو في المحبة.

1- إن رأيي في هذا الموضوع يعتمد على الحقيقة التي تؤكّد على أن الخوف لا يطرده إلاّ انسكاب النعمة، لأن المحبة الكاملة تنفي الخوف إلى خارج (1 يو 4 : 18). وإذ أتابع لحديث عن هذا  الموضوع  لا أودّ الإصرار على أيّ رأي أبديه، وقد  اعتدت ذلك منذ البداية. وإني أقول، إذا لم يكن المطهر إلاّ مشغلاً لتسديد ديون العقوبات، وإذا كانت النفوس هناك لا تُطهّر من الشرّ، فإن المطهر يصبح تماماً كالجحيم حيث يبقى الإثم ولا يزول العقاب. لأن الإثم يستحوذ على النفوس هناك. والإثم هو خوف العقاب ونقصان المحبة، بينما على الإنسان البار ان لا يخاف شيئاً إلاّ الرب وحده (اش 8 : 13). لذلك تخطئ النفوس الخائفة في المطهر باستمرار، بينما يجب عليها  ان ترضي الله وتمجده وأن تحتمل عقوبتها بصبر وإخلاص.  فإن الخائف لا يُعتق من عقوبات المطهر، بل عليه ان يترك الخوف وان يحب مشيئة الله في هذه العقوبات، لأنه لا بد من ان يحب البرّ قبل ان يحصل على الخلاص. أما البرّ فهو الله نفسه الذي أنزل به هذه العقوبة. ولذلك قال المسيح: “من لا يأخذ صليبه ويتبعني، فلا يستقحني. (أي يحمله بطيبة وانشراح النفس). (متى 10: 38). إن صليب النفوس هي تلك العقوبة، ومحبة هذا الصليب لا تحل محل الخوف إلاّ بانسكاب النعمة.

2- تنمو النفوس في المطهر في المحبة، وبرهاني على ذلك قول الرسول: “كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله” (رو 8 : 28). وأما الخير فهو حب الله الكائن في الإنسان وهو يزيد وينمو في المطهر. كما أن الكور يبرهن على أن الذهب هو ذهب صافٍ، كذلك تبرهن العقوبة على أن المحبة هي محبة حقيقية.  فإذا وُجدت المحبة، وهي الفائقة في الثمن وكثرة الثمر، فإنها  تقابل كل عقوبة بالترحيب وتحصل بها على المنفعة، وهكذا يعمل  المطهر، حيث الضعف الأعظم، علىتكميل المحبة.- “القوة في الضعف تكمل” (2 كو 12: 9).

3- من المحال الوقوف سكوناً واعتراض طريق الله. وبما ان طريق الله هي المحبة، فمن الواضح إذن إمّا أن تتجه النفوس الى محبة الله أو ان ترتد عن الطريق اليها.

4- من المحال ان يدوم الشيء المخلوق ويثبت ما لم يتمّ تزويده بالقوّة باطراد. ويقول بعض المفكرين بهذا الخصوص أن ما يحفظ الشيء ويصونه وقفٌ على خلقه المستمر. وهذا الخلق هو التجديد ، كما يتضح ذلك من الجداول والأشعة والحرارة والبرودة. وتطابق هذه الحقيقة حال الدفء الروحي، أي محبة الله، التي من شأنها حفظ النفوس ودوامها ( إلى أن يمتصها مصدرها الإلهي)، ولهذا السبب فإنها لا ريب من أنها تنمو وتتقرّب من الله  الى أن تصل حد الكمال.

من الجدير بالاهتمام أن نرى ما يدفع خصومي الى إنكار اكتساب النفوس أية جدارة، فيبدأون قبل كل شيء بقول القديس أوغسطينوس المشهور: “ان كل استحقاق أو جدارة يتم اكتسابه في هذه الحياة، ولا اكتساب هناك بعد الموت مطلقاً”. إنهم يجعلون هذا القول ذريعة لموقفهم، لأن المطهر ليس بمكان اكتساب الجدارة.

وجوابي هو: إن القديس أوغسطينوس وجميع الآباء الآخرين الذين يدعمون هذا الرأي يستندون الى الكتاب المقدس والذي يتضمّن شواهد عدة تُثبت هذا المعنى بوضوح وبدون التباس. ومثلاً على ذلك (غل 6 : 10): “فإذاً حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير”. ويقول المسيح (يو 9 : 4): “يأتي ليل حين لا يستطيع أحد ان يعمل”. ويقول الرسول (رؤ 14: 13): “واعمالهم تتبعهم”. وهناك إشارة واضحة جداً في رسالة العبرانيين (9: 27): “وُضع للناس أن يموتوا مرةً ثم بعد ذلك الدينونة”. أي بعد ذلك النهاية. وأيضاً (غل 6: 7): “إن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً”. وبطريقة مماثلة (2 كو 5 : 10): “لا بُدّ أننا جميعاً نُظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً”. وهناك شواهد اخرى كثيرة يبدو منها ان الدينونة تأتي بعد الموت حين ينال كل واحد ما استحقه في هذه الحياة، بحسب قول سفر الجامعة (11: 3): “حيث تقع الشجرة هناك تكون”.

إن كل هذه الشواهد تنفي معاً فكرة المطهر بجملتها، لأنها لا تثبت وجود حالة بين الأموات المحكوم عليهم بالهلاك والذين حصلوا على الخلاص. أي أنه لا ذكر فيها للمطهر أبداً. بل تتكلم عن السماء والجحيم فقط. ولذلك لا يُفهم من كلام اوغسطينوس انه قصد به المطهر، أي المرء يحصل على كل استحقاقه في هذه الحياة وليس بعدها، لا  في السماء ولا في الجحيم.

من الواضح إذاً أن أقوال الكتاب المقدس هذه تعارض المطهر معارضة صريحة. وأن أية محاولة لتفسيرها على أنها تدل على العقاب المزدوج في الآخرة، أي المطهر والجحيم، هي محاولة لا تخلو من الغموض والالتباس، وهي خاطئة وغير شرعية لأنها تجعل معنى كلام الكتاب المقدس الواضح كلاماً ملتبساً وغير موثوق به. كما يقول اشعياء (28: 20): ” الفراش قد قصر عن التمدد والغطاء ضاق عن الالتحاف”. وحريّ بهؤلاء المفسّرين بأن لا يحرّفوا النص الكتابي، فالتعبير “يحصد المرء هناك ما قد زرعه هنا” لا يُفهم به إلاّ الحكم الواحد الشامل لا غير. وهذا ينطبق أيضاً على قول سفر الجامعة (11: 3) “حيث تقع الشجرة هناك تكون”.

-19 –

لا يبدو أن هناك برهاناً على ان النفوس في المطهر ، وعلى الأقل ليست جميعها، واثقة بالخلاص ثقة تامة، حتى وإن كنا نحن واثقين بذلك.

بما أننا نعتقد أن أحداً لا يذهب الى المطهر إلاّ إذا كان في عداد المخلّصين، فهذا يجعلنا على يقين من خلاص النازلين في المطهر، كما نستيقن  بخلاص المختارين. إن مسألة النفوس الحالين بالمطهر مسألة بالغة الغموض، فلذلك أحاول ان أبرهن هذه القاعدة بالإقناع وليس بإتيان الحجة.

1- عقاب المطهر قوامه الخوف والفزع من الدينونة والجحيم، وكل رجف يعرض للنفس يوقعها في الأسى والشك، فتصبح في حاجة الى النصح والمساعدة، وخاصة في حال شدة الخوف والرعدة البالغة والتي لم تكن متوقّعة. كما يقول المسيح (لو 21: 34و35): “يُصادفكم ذلك اليوم بغتة لأنه كالفخ يأتي”. ويقول الرسول (1تسا 5: 2) وايضاً (2 بط 3: 10): “أن يوم الرب كلصّ في الليل هكذا يجيء”.

إنهم لا يدرون إذا كانوا من الهالكين او من المخلّصين، وذلك بسبب ارتباكهم، ويبدو لهم انهم على طريق الهلاك هابطين الى الجب، وأنهم اصبحوا لا محالة على ابواب الجحيم، كما يقول الملك حزقيا (اش 38: 10 – 20): “قلت اني في منتصف ايامي ذاهب الى أبواب الجحيم…قلت لا أرى الرب في أرض الأحياء… لا يرجو الهابطون الى الجب أمانتك… قد كلّت عيناي من النظر الى العلاء…”.ولكن سفر صموئيل الأول (2: 6) يقول: “الرب يُحدر الى الجحيم ويُصعد”. فإنهم يشعرون بأن هلاكهم قد بدأ، غير أنهم يحسّون بأن باب الجحيم لم يُغلق وراءهم. ومثلهم مثل إنسان وقع في أيدي قطاع الطرق، على سبيل المثال. فإنهم يهددونه بانه لا محالة من قتله، مع أنهم قرروا إخافته وليس قتله. فلم يبقَ له سوى أمل واحد وهو كونه لم يمت بعد، ويتمنّى لو جاءه الخلاص ولكن من أين يجيء؟ فحاله لا تختلف عن الموت نفسه. هكذا تبدو حال الموت الأبدي، حيث لا يشعر الناس إلاّ بأنهم مهددون ومُحاطون بالموت. ولذلك ترنم الكنيسة عوضاً عنهم أن “نجّ نفوسهم من باب الجحيم، وأنقذهم من فم الأسد، حتى لا تبتلعهم الهاوية”. أما المحكوم عليهم هناك، او الواقعون في قبضة الشر، شر الشك والتجديف، فالروح يُعين ضعفاتهم إذ يشفع فيهم بأنّات لا توصف تصدر عنهم (رو 8: 26). فالروح يرفّ هنا على وجه المياه حيث الظلام على وجه الغمر (تك 1: 2).

2 – هناك حالات عديدة تبيّن النفوس التي أقرّت بهذا الشك وبدا لها أنها متّجهة الى الدينونة. ومن ناحية أخرى هناك أمثلة على نفوس عديدة أقرّت باليقين وعدم الشك. ولذلك قلت أن ليس الجميع  من أهل اليقين. وربما كان الأفضل ان اقول أنهم لم يكونوا متيقنين بالفعل، بل ان شوقهم الشديد الى الحصول على المساعدة كان يقينهم. لأن الإدراك الفعلي للخلاص ينفي عنّا الاضطراب والخوف والرجف، بل يعطينا الثقة ويمكننا من تحمّل كل الأمور بشجاعة.

يقول الكتاب (اش 43: 2): “إذا سلكت في النار فلا تُلذع ولا يلفحك اللهيب”. فعلى أي سبيل لا تلذع النار إلاّ على سبيل الشجاعة التي يبثّها الله في القلب مما يجعل النفس لا تخاف النار، ولكن هذا لا يعني ان ليس هناك نار مما يجب على النفس ان تجتازها. لا شيء يغلب الخوف إلاّ المحبة واحتقار العقوبة والاستخفاف بها، فالغفرانات لا تزيل الخوف بل تزيده الى أبعد حدّ، لأنها تصوّر العقوبة بأمرٍ حقير مخوف. ولكن الله يريد ان يكون أولاده أولاداً غير خائفين ولا مضطربين، بل كاملين في كرم الأخلاق والنبل، أولاداً لا يخافون شيئاً البتة، بل يثقون بنعمته ، فيتغلبون على كل شيء ويزدرون كل شيء ويستخفون بالعقاب والموت. إنه تعالى يكره الجبناء المرتبكين المذعورين من كل شيء حتى من حفيف ورق الشجر.

هناك اعتراض ذو صلة بالموضوع ولا مناص من الردّ عليه، وهو: “إذا كانت النفوس تتحمل العقوبات طوعاً فلماذا نُصلي من اجلها؟” وجوابي هو: ان النفوس تتعرّض للحكم والهلاك إذا لم تتحمّلها طوعاً. ولكن لماذا لا ترغب في الصلوات التي تُقام من أجلها؟ إن الرسول نفسه رغب في ان يُصلّى من أجله كي ينجو من الكفرة وكي يفتح الرب له باباً للكلام (كولوسي 4: 3). وقد كان بولس واثقاً كل الثقة وكان يبتهج مفتخراً بأنه يزدري الموت. ولو كانت النفوس لا ترغب في صلوات الشفاعة فمن واجبنا ان نعينها في خوفها وأن نشفق عليها. فنصلّي من أجلها كما نُصلّي من أجل أي أناس آخرين ممن يُقاسون الآلآم. وأخيراً، بما أن العقوبات الحالية لا تحمل النفوس على الأسى كالخوف من الهلاك المحدق او المتوقّع، فليس من الغرابة  أن ترغب هي في صلوات الشفاعة من أجلها حتى تثابر على الإيمان ولا تتردد فيه، لأن الشك يُساورها. إن هذه النفوس لا تخاف العقوبات بقدر ما تخاف غضب الله والذي هو الجحيم بعينه. كما يقول الكتاب : “لأنه ليس في الموت ذكرك، في الهاوية من يحمدك؟”(مز 6 : 5). فمن الواضح أن عذاب النفوس  ليس نابعاً من خوف العقوبة، بل من حبّهم للبرّ، وخوفهم من عدم تقديم التسبيح لله، كما هي الحال في الجحيم. فالكنيسة تعمل حسناً عندما تُساعدها وتُلبّي رغبتها المقدسة المتلهّفة هذه، وخصوصاً لأن الله يرغب في ان تقدم الكنيسة لها هذه المساعدة.

– 20 –

إذاً، عندما يستعمل البابا عبارة “غفران العقوبات ومحوها محواً تاماً”، لا يعني في الواقع “جميع العقوبات” بل تلك التي فرضها هو نفسه فقط.

يستند برهاني الأول الى القضية الخامسة التي تقول أن سلطان المفاتيح لا تلُغي إلاّ العقوبات التي تفرضها القوانين الكنسية. فالقضية أو الفرضيّة (العشرون) هذه لازمة تتفرّع من الخامسة، وإن عدم التسليم بواحدة منهما هو عدم التسليم بالأخرى. أما البرهان الثاني فهو استنتاج من تصريح البابا نفسه القائل: ” أما في ما يتعلّق بالعقوبات المفروضة فإننا نخففها بدافع الرأفة”. إذن هو لا يخفف من العقوبات إلاّ تلك التي فرضها هو بنفسه أو التي فرضتها القوانين الكنسية. أما البرهان الآتي فهو الأقوى. فعندما  أسأل بأي حق يؤكّدون على ان سلطة المفاتيح تمحو أو تتخلّى عن العقوبات التي ليست عقوبات القوانين الكنسية؟ يجيبون بلفت انتباهي الى بعض علماء الكنيسة ومعلميها ممن كتبوا في هذا الموضوع في القرون بين الثالث عشر والسادس عشر، كأن هؤلاء الرجال الذين يذكرونهم مرجع ثقة، وأنهم من الأهمية بمكان، حتى أن كل ما يُفكرون به يجب اعتباره بنداً من بنود الإيمان. وكان الأولى بهم أن يؤنّبوا على إيصالهم الينا هذا الأذى، فقد تجاهلوا بادّعاءاتهم الرسول الذي أخلص لهم النصح قائلاً: “امتحنوا كل شيء، تمسّكوا بالحسن” (1 تس 5: 21).

ودعونا نأتي الى منبع هذه النهيرات والجداول الصغيرة .إنه القديس توما ومعاصره القديس بونافنتورا  لأن معتقدات مقاوميّ تستند الى آراء هذين القديسين، ولكنهم زادوا عليها آراءهم الخاصة بدون ان يأتوا بأي برهان من الكتاب المقدس او من نصوص القوانين الكنسية. فالقديس بونافنتورا نفسه يعترف بأن الأمر مشكوك فيه وغامض للغاية. ولكن مروّجي الغفرانات يعظون كما يشاؤون وهمّهم الوحيد أن لا يستخف الناس بالغفرانات، فهم لا يخدمون صالح الرعية التي أوكل الينا رعايتها.

ومما يتعلق بالغفرانات فإني ارغب في ذكر ما كتبه آخرون وعبّروا عن شكوكهم فيها، حتى لا أبدو الوحيد أو الأول الذي يحمل مثل هذه الآراء. ومنها مقدمة كتاب “في ما يتعلٌق بالعقوبات التكفيرية والغفرانات” لمؤلفه  Panormitanus، فإنه يقول في المجلد الخامس والفصل الذي عنوانه Quod Autem “إذا كانت الغفرانات لا تُلغي إلاّ العقوبات الكنسية، فإن ذلك يقلل أهمية الغفرانات”. ويقول ايضاً: “إن فعاليّة الغفرانات هذه أمر مختلف فيه وسؤال قابل للمناقشة، ولا يزال مشكوكاً فيه”. وهناك آخرون ممن يعتقدون ان الغفرانات نافعة لعلاقة الله بالإنسان، ولكن هل هذا يعني انها تلغي العقوبات التي فرضها الله؟ لا اعتقد ذلك. بل إن  الله يغفر للتائب والنادم ندامة تامة بدون سلطان المفاتيح. وقد أوردت شواهد عديدة من الكتاب المقدس في تفسيري القضية الخامسة.

-21-

إذن يخطئ وعّاظ الغفرانات الذين يقولون أن غفرانات البابا تحلّ المرء من كل العقوبات التكفيرية وتؤاتيه الخلاص.

من العقوبات التي لا تلغيها الغفرانات الموت والمرض وثم العقوبات التي يعتبرها الكثيرون الأقسى والأعظم كالفزع  من الموت ورعشة الضمير، وضعف الإيمان، وانحطاط الروح. أما مقابلة هذه العقوبات بتلك التي تلغيها الغفرانات فلا تعدو مقابلة احد الأشياء بظلّه. ويقول وعاظ الغفرانات “اننا لا نقول أن الغفرانات تلغي هذه العقوبات المذكورة”،  فأجيبهم لماذا لا تفسّرون للناس ما تعنون بالعقوبات التي تصفحون عنها؟ إنكم بدلاً من ذلك تنادون بأن جميع العقوبات قد صفح عنها امام الله والكنيسة. وكيف يتعرّف الناس ما انتم تقصدون إذا كان كلامكم لا يخلو من الغموض ومن عبارات التعميم الجارف؟

-22-

في الواقع لا يغفر البابا أيّة عقوبة للأرواح في المطهر مما كانت تستوجبها في هذه الحياة حسب القانون الكنسي.

هذه القضية نتيجة طبيعية تلي الثامنة، لأن قوانين العقوبات الكنسية لا تنطبق على الحياة الأخرى، بل تتحول كل عقوبة زمنية الى عقوبة الموت التي تبطل كل عقوبة أخرى. زِد على ذلك، لو نظرنا الى كنيسة روما كما كانت عليه في عصر القديس غريغوريوس ، حين لم تكن لها أي سلطان على الكنائس الأخرى، وعلى الأقل على الكنيسة اليونانية، لاتّضح لنا ان العقوبات الكنسية لم تكن ملزمة تجبر اليونانيين على القيام بأدائها، كما لم تكن ملزمة بالنسبة للمسيحيين الذين لم يكونوا خاضعين للبابا، كما هو الحال تماماً بالنسبة للأتراك والتتار وغيرهم، بل كانت ضرورية فقط للذين كانوا خاضعين لسلطة كنسية روما. فإذا كانت هذه العقوبات غير ملزمة للأحياء، فكم بالأقل هي بالنسبة للأموات الذين لا يخضعون لسلطة أية كنيسة من الكنائس.

-23 –

إذا كان غفران جميع العقوبات ممكناً لأحد الناس، فلا بدّ من أن يُمنح لأوفر الناس كمالاً، أي للقليلين جداً.

المقصود هنا هو كل انواع العقوبات. وأراني مضطراً الى أن أعدّل هذه الفرضيّة مؤكّداً على أن احداً من الناس لا يمكنه الحصول على غفران جميع العقوبات قط، أكان هذا الإنسان كاملاً او غير كامل. وبرهاني على ذلك كالآتي: إن كان الله لا يعاقب الكاملين حتى البالغين اقصى ما يمكن بلوغه من الكمال، لكن هناك عقوبة الموت، فهي تبقى وكذلك العقوبات الأخرى ذات العلاقة بالموت، والتي تقود الإنسان الى الموت. فإذا كانت الغفرانات تعجز عن إزالة الفزع من الموت والجحيم، فما فائدتها إذن؟ وبما ان الله سبحانه لم يقرر أن يجعل جميع الناس بدون أية عقوبات وكاملين، ولو أنه قادر على ذلك، بل قرّر وحدّد أن يكون الذين سبق فعرفهم هم الذين سبق فعيّنهم ليكونوا مشابهين لصورة ابنه، أي لصليبه. فهؤلاء هم الكاملون كل الكمال بنعمته. (رو 8: 29).

-24-

إن هذا هو السبب الذي يقود حتماً أكثرية الناس إلى أن ينخدعوا بذلك الوعد الطنان بالعفو وترك العقوبة بدون تمييز أو تحديد.

لقد سمعت بنفسي أن الكثيرين يتصوّرون أنهم يطيرون الى السماء مباشرة بفضل صكوك الغفران، لا تعوقهم عن ذلك أية عقوبة على الإطلاق . فلا عجب من ذلك، لأن مروّجو الغفرانات يهدفون من وراء كتاباتهم وتعاليمهم ومناداتهم الى بعث الانطباع في نفس المرء أنه إذا حصل على الغفرانات ومات قبل ان يعود ويقع في الخطية، فإنه يطير حالاً ومباشرةً إلى السماء. انهم يقولون هذه الأمور كأنه لا يوجد هناك خطايا إلاّ الخطايا المتعمّدة، وكأنّ الخطيئة العرضية ليست دنساً وعائقاً وسبباً يحول دون دخول الملكوت السماوي. إنه ما لم يبرأ المرء من هذه الخطيئة الأصلية لا يمكنه ان يدخل السماء حتى وإن لم تكن هناك خطيئة فعليّة، كما يقول الرائي ( رؤ 21: 27): “لا يدخلها شيء نجس”، فحتى الفزع من الموت يحول دون دخول الملكوت لأنه ناتج من الخطيئة العرضيّة، لأن الذي يموت غير راضً يقاوم تلبية نداء ربّه ولا يتمم مشيئته تعالى. ولكي لا أكون على خلاف معهم كلّيّةً، أقول إن وُجد أحدٌ تائباً توبةً تامة، أي انه يكره نفسه وحياته ويحبّ الموت حباً فائقاً فإن هذا الإنسان يذهب الى السماء فوراً بعد غفران عقوباته. أنظر بنفسك كم هناك من الناس يشبه هذا الإنسان!

 -25-

سلطة البابا العامة على المطهر هي طبق السلطة الخاصة التي يملكها الأسقف على اسقفيّته أو راعي الأبرشيّة على ابرشيته.

بما يتعلّق بسلطة البابا القضائيّة سأنكرها في الفرضيّة التالية، وقد كنت قد انكرتها في الفرضيّتين 22 و8 . وأقصد بقولي هذا أن ليس للبابا ولا لأي أسقف من الأساقفة أية سلطة على المطهر. أما إذا كان للبابا شيء من السلطة أو النفوذ فإن ذلك لا يتعدّى سلطة تابعيه ونفوذهم، لأنه في متناول كل مسيحي أن يتشفّع ويصلّي لأجل الأرواح التي انتقلت من هذا العالم. فالبابا يقوم بذلك على وجه عام، والأساقفة على وجه خاص، والفرد المسيحي على سبيل شخصي. فكما يتشفّع البابا ومعه الكنيسة كلها للأرواح، كما هو الأمر يوم جميع الأرواح، كذلك بإمكان كل أسقف أن يقوم بذلك مع أسقفيته، كما هو الأمر في “الأيام العاديّة” أي الأيام التي تلي قداس ميخائيل يوم 29 أيلول، وكذلك راعي الأبرشية في أبرشيته، كما هو الأمر في الجنائز وصلوات الذكرى السنوية، وبإمكان كل مسيحي الذي  يرغب في التشفع  أن يفعل ذلك في صلاته الخاصة. أعتقد أن كل امرءٍ يسلّم بصحة هذه الفرضيّة ووضوحها، وانه لا يمكن انكار هذا التشفّع للأرواح وحرمانهم منه، وأن تصريح مناوئيّ بخصوص نطاق سلطة الكنيسة على المطهر إنما هو مدعاة الى الشك. ومن المحزن أن تعاليمهم هذه اصبحت موضوع الوعظ في الكنيسة، وهي لم تكن في يوم من الأيام مدوّنة أو مثبتة في القانون الكنسي. وإننا نقرأ ان تعليم أي شيء خارج عن القانون السماوي كان يبدو للآباء القديسين في الماضي أمراً خطراً للغاية.

-26-

ما أحسن ما يفعله البابا عندما يغفر للأرواح في المطهر، وذلك ليس بواسطة سلطة المفاتيح، لأنه لا يملك هذه السلطة، بل بواسطة التشفّع.

سيدور بحث هذه القضيّة حول أمرين: الأول سلطة المفاتيح على المطهر وأثبت بالدليل انه لا يملك هذه السلطة بتاتاً، وثانياً المنهج او الطريقة في التشفّع لأرواح الأموات.

1 – استناداً الى رأي اللاهوتي هنري سيغوسيو(Henry Segusio)  والذي لاقى قبولاً لدى الناس عموماً ، والقائل أن المفاتيح نفسها لو اتسع مجالها حتى وصلت المطهر لكانت قادرة على إفراغه، ولكان البابا شديد القساوة لو لم يقم بتفريغه. أما مناوئو هذا الرأي فيقولون أن البابا قادر فعلاً على ذلك، ولكنه غير مُجبر إلاّ إذا كان هناك سبب يمكن تبريره ومعقول خشية أن ينافي فعله هذا العدالة الإلهية، فيكون فعلاً متهوّراً. وفي اعتقادي أن كلامهم غير مدروس وغير منطقي، وأسأل ما اسم هذا السبب المعقول يا تُرى؟

من المعروف أن الغفرانات تُمنح مقابل الاشتراك في الحرب ضد الكفّار أو من أجل بناء الكنائس أو إحدى الأمور الضرورية العمومية. ولكن واحداً من هذه الأمور لا يصل الى عظمة المحبة ولا يضاهيها في البرّ والصلاح. فإذا كانت  الأمور المتعلّقة بأجساد المؤمنين وبحماية ممتلكاتهم وبمنفعة الأبنية التي لا حياة فيها لا تخالف العدالة الإلهية، تؤاتي المؤمنين الغفرانات الجمّة، فكم تكون المحبة المقدّسة أولى وأحرى بخلاص جميع الناس؟ إن المحبة نهاية في العظمة والبرّ والعدالة وكل ما يُعقل من صلاح وجلال. فإذا كان للبابا سلطان يخوّله تخليص ارواح هذا عددها لأسباب صغيرة، فلماذا لا يخلّصها لذلك السبب الذي هو الأعظم؟ والجواب لأنه لا يملك أي سلطان على المطهر من ناحية المنطق.

2 – ومما يبرهن هذه الحقيقة  ايضاً الأسلوب الذي يتكلم به البابا عن العقوبات المفروضة، فمن الواضح انه يُعطي بقدر ما يُصرّح به. وبناءً عليه، كما يصفح الأسقف عن أربعين يوماً والكاردينال عن مئة يوم من أيام العقوبات المفروضة، هكذا يصفح البابا عن جميع هذه الأيام. ولكن سلطة المفاتيح  لا تخوّله القوّة على فرض عقوبات المطهر.

أما أحد الحالمين ممن يعيشون في عالم الخيال فقد استحضر هذه الصورة في ذهنه: عندما يقول البابا “نمنح غفران جميع الخطايا المتعلّقة بالعقوبات المفروضة”، يُفهم من ذلك الإشارة الى العقوبة التي فرضها الكاهن. وعندما يقول: “نمنح غفران جميع الخطايا التي حملت الخاطئ على الندامة الحقّة وعلى الاعتراف بها”، فلا يشمل هذا الغفران الخطايا التي نسيها او التي لم يدرِ بها الخاطئ. ولكنه عندما يقول: “نمنح غفران جميع الخطايا”، فعندها تطير النفس الى السماء عند الموت.  وهكذا يكون للبابا السلطة على تخليص من يشاء. وأنا أجيب هذا القائل: أيّ هُراء هذا! وإني اسألك أن تفهمني كيف آتي بالبرهان على ما تقول، وبأية ذريعة أتوصّل بها الى هذا المعتقد؟ ومن القصص الغريبة الأخرى التي يلفّقها هذا الكاتب المتناهي في القدرة على الإقناع، أنه يجرؤ ويحاول إقناعنا بأن للبابا السلطة أن يغفر ايضاً الخطايا التي لم نتوصّل الى علمها أو التي نسيناها، كأنّ جميع المؤمنين لم يعرفوا انه ينبغي لهم  أن يصلّوا بعد أن يمنح البابا غفرانه: “من الخطايا المستترة أبرئني” (مز 19: 12). وكذلك تعرف الكنيسة بأكملها كما عرف أيوب (9: 28: “تخوّفت من كلٍ من أعمالي، لِعلمي بأنك لا تُزكّيني”. كما أن صاحب مفاتيح الكنيسة لا يعرف ولا يُقرر إذا كانت تلك الأعمال الصالحة كالتي يذكرها أيوب هي صالحة أو شريرة أمام الله، فكم بالأقل يغفرها. وثم هناك هذا الحلم من أحلام هذا الكاتب الذي يفصّل فيه فنّ الاعتراف تفصيلاً مملاً وعديم الجدوى، ويعلّمنا أن نعدّ حبات الرمل أي أن نفحص كل خطيّة ونجمعها ونزنها بكل دِقّةٍ كي تحملنا على الندامة المناسبة ‎. ولكننا بفعلنا هذا نُحيي الشهوات من جديد ونستعيد ذهنياً ذكريات الماضي البغيضة، فبينما نعترف بالخطايا المنصرمة ترانا نُخطئ من جديد. ولو نتج عن ذلك ندامة فإنها لا تعدو ندامةً نتكلّفها ونتحمّلها على مشقة، ندامةً تعيسةً زائفةً نتظاهر بها خوفاً من العقاب. وعلى هذا المثال قد يخترع هذا الكاتب أكاذيب جديدة أخرى تفوق تلك تمويهاً بالباطل. ما أشقاكم أيها المسيحيون الذين أجبرتم على الإصغاء الى كل ما يثرثر به هؤلاء الرجال، كأننا لا نملك الكتاب المقدس الذي أمرنا المسيح له المجد بأن نعلّمه الناس، الأمر الذي نحن مديونون به لهم فنعطيهم كيل  القمح الجيّد وليس آنيةً مملوءةً تبناً وحسكاً.

لا بدّ من أن تنبع الندامة الحقّة من جود الله ومراحمه، وعلى الخصوص من جراح المسيح. فهي تجعل الإنسان أن يشعر أول كل شيء  بجحوده بجود الله، وثم يحسّ بكراهية نفسه وبمحبّة لطف الله. آنذاك ينهمر الدمع فيتكرّه الإنسان ذاته من أعماق قلبه، لكن ليس تكرّه اليأس. فيأخذ يتسخّط الخطيّة بطيبة وعن رضى بالغين، ليس بسبب الخوف من العقاب، بل إيجاباً لجود الله. وعندما يدرك ذلك يُصبح مصوناً من اليأس . فإذا حزن حزناً صادقاً على خطيّة واحدة، فإنه يحزن هذا الحزن الصادق على كل الخطايا. واستناداً اليه يقول الرسول (رو 2 : 4): “أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، أم لا تعلم أن لطف الله إنما يقتادك الى التوبة؟” عجيب هذا الأمر في أعيننا أيها القديس بولس! كم هناك من الناس لا يعرفون ذلك، حتى أولئك الذين يُعلّمون الآخرين! وإننا نقرأ أيضاً في سفر العدد (21: 9)، أن الإسرائيليين لم ينجوا من حيّاتهم الناريّة بالنظر اليها والخوف منها، بل نجوا بتحويل أنظارهم عنها الى الحيّة النحاسيّة، أي الى المسيح. وبطريقة مماثلة ذُعروا وخافوا عندما رأوا المصريين، لكنهم عندما ولّوا ظهورهم اليهم وقطعوا البحر نجوا (خروج 14:10 و22). وهكذا حال خطايانا، يجب أن يحملها المسيح المجروح بدل أن يحملها ضميرنا نحن. لأن خطايانا ميتة إن كانت في المسيح، وأما إن كانت فينا فهي تحيا. ولو كانت غرفة تعذيب تلك الخطايا باقية، فإن أحد الأشخاص ممن يختطفهم الموت فجأةً لا يُمكن خلاصه، لأنه لم يكن لديه الوقت الكافي ليتذكّر كل خطاياه.

إن هذا البحر الخضمّ من الكلام عن موضوع الغفرانات والذي أنشأه المكثارون من وعّاظ الغفرانات، لم ينجم إلاّ   عن إهمال الفحص عن أصل الغفرانات. ففي ذلك الزمان الذي كان الناس يعتبرون فيه العقوبات الكنسية ذات أهمية كبرى، كان غفران أربعة أيام يعتبر مدة طويلة. أما في ما بعد فراحوا يهبون مئة يوم وثم ألفاً وثم السنين المئات والألوف. ونما هذا الكرم أكثر فأكثر بالنسبة الى الغفرانات وثم الى مقدار الخطايا. ففي أول الأمر كان سُبع جميع الخطايا تحظى بالغفران، وثم ثلثها وأصبح منذ عهد قريب نصفها حتى وصلت الى الحلّ المطلق أو الغفران الكامل.  (بالإمكان أن يرى المرء ذلك في يومنا هذا في سبع الكنائس الرئيسية في مدينة روما والاعتقاد أن الصلاة في كل منها يؤاتي غفران سبع الخطايا).

ورد في الفصل “ Cum ex eo” من كتاب أنظمة الكنيسة أن “استعمال حق التشفع والتكفير وتمجيد الله هو حق الحبر الأعظم بكل ما في الكلمة من معنى. فالبابا إذاً لا يدّعي حقاً سوى حقّ سلطته و يُطالب بحق التشفّع. لذلك يجب فصل حق وساطة التشفّع عن حق السيادة والسلطة. وسنبحث فيما بعد علاقة الأساقفة بهذا الحق.

إن التفسير الذي يستدلّ به على حقيقة هذه القضيّة والذي يفوق كل تفسير آخر هو ما صرّح به المسيح بكلمات واضحة موجزة صريحة: “فكل ما ربطته عى الأرض يكون مربوطاً في  السماوات، وكل ما حللته على الأرض يكون محلولاً في السماوات”. فهو لم يضف الكلمتين “على الأرض” عبثاً. ولولم يُرد أن يقيّد سلطان المفاتيح ويضع له حداً لاكتفى بالقول: “كل ما حللته يكون محلولاً”. فمن البديهي أن سلطان المفاتيح لا ينطبق إلاّ على الأرض. وليس هناك ردّ على وهم بعض الناس ممن يعطوا البابا دون علمه سلطاناً على المطهر أنسب من ردّ القديس هيرونيموس، الذي يدحض حجّتهم ويعلمهم ان قواعد اللغة تكفيهم وتُغنيهم من غيرها، فإن كلمتي “على الأرض” تنفي معنى المطهر نفياً قاطعاً، لأن المطهر ليس على الأرض. وبما أنهم أنفسهم لا يوافقون علىسلطة البابا على الربط في المطهر، بل على الحلّ فقط، مع أن كلمتي الربط والحل قد وردتا في كلمة الرب، الذي أعطى الكنيسة كلا السلطتين، لذلك يجب إنكار سلطته على الحلّ في المطهر أيضاً. وهذا الرأي هو رأي بعض       اللاهوتيين البارزين في هذا الموضوع والمشهود لهم بأنهم فهماء وضليعون بالقانون.

إذا كانت سلطة المفاتيح تمتد وتطول حتى تشمل المطهر، فلماذا مقاساة هذه المشقّة العظيمة وتجشّم هذا العبء الذي لا طائل تحته، فلا يحذفون كلمة “التشفّع” ويُلغونها؟ ولماذا لا يقنعون البابا فيرضى بالقول بأنه يحلّ ويربط بواسطة سلطته واستعمال حقّه بدل “الوساطة والتشفّع” أليس كل ما يحلّه يكون محلولاً، فلماذا يزعجنا بكلمة “الوساطة” التي ليس لها معنى السلطة مطلقاً بل تعني التشفّع؟ أجل، علينا في الواقع أن نخطو خطوة أخرى فنسأل البابا ان يتخلّص من المطهر ويُلغيه من عالم الطبيعة. فإذا كان المطهر بأكمله تحت سلطانه، وإذا كانت مفاتيح الكنيسة تتسع وتمتدّ الى هناك وخاصة بما يتعلّق بالحلّ، فما على البابا إلاّ أن يمنح جميع الذين في المطهر الغفران الكامل، وأن يمنح على مثال ذلك جميع المسيحيين المشرفين على الموت هذا الغفران. فمن المؤكّد انه لن يبقى أحد في المطهر ولن يدخله أحد بعد اليوم، بل يطير الجميع الى السماء وينتهي المطهر. إن هناك سبباً جوهرياً وعادلاً يضطره الى ذلك، ألا وهو المحبة وهي فوق جميع الأمور. ولا داعي الى أن نخشى الإساءة الى العدالة الإلهية، كما ذكر بعضهم، لأن العدالة الإلهية لا تدفعنا إلاّ الى هذا الهدف، المحبة. فإذا تمّ ذلك، سنتمكّن من أن نضع “طقس الأموات الكنسي” بأكمله جانباً ونستعيض عنه بخدمة دينية احتفالية.

وأخيراً ، لما كان عقاب المطهر عقاباً إصلاحياً وتأديبياً، كما ذكرت في القضيّة الخامسة، وليس هناك أية عقوبة من نوع آخر، فقد أصبح الجزء الأول من هذه القضيّة واضحاً الذي يؤكّد على أن علاقة البابا بالمطهر علاقة شفاعة وليس علاقة سلطان قضائي.

أما في ما يتعلّق بالجزء الثاني من هذه القضيّة، وهو أسلوب التشفّع، فإني أصرّح أن ذلك الأسلوب ليس منوطاً بي أنا، بل من واجب البابا أو ربما المجلس الكنسي أن يتخذ القرار بشأنه. ولا أقصد بهذه القضية إلاّ البحث وإيراد الأسباب مبيّناً ما أفهمه من ذلك الأسلوب وما لا أفهمه.

تتم الشفاعة للأرواح على نحو ثنائي.

أولا: خدمة الشفاعة التي يجريها الكاهن عبر مراسيم الدفن السائدة، وقوامها الصلوات والأصوام وإقامة القداديس وغيرها من الأعمال المعيّنة الواضحة من أجل ارواح معيّنة خاصة. ولا شك في أن أسلوب الشفاعة هذا ذو فضل عظيم، كما يقول القديس أوغسطين أنه يؤاتي الأرواح الخلاص بقدر استحقاقها وحسب مشيئة الله الصالحة.

ثانياً: الشفاعة بدون الخدمة الجمهورية، وهي تقتصر على الإعلان الرسمي إما خطياً أو شفهياً. ومورد هذه الشفاعة ذخيرتان من إذّخار الكنيسة :

الذخر الأول مجد الكنيسة الفائق وقوامه استحقاق المسيح وقديسيه. أما بخصوص القديسين فقد أعدّوا أعمالهم الحسنة ذخائر عند الله وتفوق القدر الجدير بخلاصهم. واستناداً الى تأكيد معارضيّ قد فوّض الله الى الكنيسة ان تتصرّف في توزيع المكافأات والاستحقاقات.

الذخر الثاني هو ذخر الكنيسة المناضلة، وقوامها ذخائر أعمال المسيحيين الذين لا يزالون على قيد الحياة. وهي أعمال صالحة تخضع لسلطة البابا الذي يستخدمها تكفيراً للتائبين أو شفاعةً للأموات أو لحمد الله وتمجيده. وقد سبق وكتبت وعلّمت في مناسبة سابقة أن للبابا السلطان على استحقاقات الكنيسة المناضلة واستعمالها في هذه الطرق الثلاث. وإذا كان هذا السلطان حقاً من حقوقه فإني أعتقد جازماً أن للأساقفة هذا السلطان نفسه في أبرشياتهم. وإن كنت مخطئاً فليرشدني الى الصحيح مَن وجد الى الصحيح سبيلاً.

وتجدر الإشاة هنا الى تلك المؤسسات الدينية كالأديرة والمستشفيات والأبرشيات مما يُقدم رؤساؤها على إشراك بعضهم البعض في أعمالهم ومساعيهم الصالحة. فإن المعنى الوحيد لهذا المسعى والتصرّف هو أن عمل الواحد يُكفّر به خطايا الآخر ويتشفّع له أمام الله ويُمجّده تعالى.

أما كيف أصبحت استحقاقات الكنيسة المناضلة خاضعة لسلطان البابا، فإني أعترف انني لا أفهم ذلك، وأبيّن سبب عدم فهمي كما يلي:

إذا كان البابا يهب أعمال بعض الأحياء قرباناً الى الله عن أحياءٍ آخرين، فقد أصبح الواحد يحمل عبء الآخر. وأما  هذا الآخر فإنه لا يفعل شيئاً مما يجب عليه عمله، ولا يتعدّى عمل البابا التكفير بواسطة أعمال أتباعه، فلم يعد هناك لسلطة المفاتيح أي لزوم، لأن قانون المحبة يوجب على كل واحد أن يُصلّي من أجل الآخر، كما يقول الرسول: “إحملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا تمموا ناموس المسيح” (غل 6: 2). ويبدو لي أن سلطة المفاتيح وحدها كافية لأن تهب الغفران ويُستغنى بها عن غيرها. ومن ناحية أخرى، يُنشئ ذخر الكنيسة المناضلة نعمة الروح، وهي نعمة فائقة، أما ترك العقوبات فإنه أقل هبة تهبها الكنيسة، وكما يبدو قد تهبها سلطة المفاتيح حتى للأشرار.

وبما يتعلّق بذخر استحقاقات المسيح والقديسين وجعلها تنطبق على إلغاء العقوبات، فإني سآتي على ذكرها في الفرضيّة 58. إنك لترى كم هذه الأمور غامضة وكم تعليمها بالغ الخطورة. واستناداً الى تعليم البابا كليمنس الخامس (اكليمنضس) فإنه يعتبر خلاص النفوس بالغفرانات رأياً خاطئاً. فهو يقول في تعليمه عن الندامة والغفران: “إن إصرارهم على تخليص النفوس من المطهر بالغفرانات زعم كاذب”. ويفسّر كلمة “كاذب” فيقول: “إن الأرواح مرتهنة بحكم الله وقضائه”. فإن الكلمات “الغفران” و “الشفاعة” و “التحرير” لا تعني الشيء الواحد، لأنها تختلف عن بعضها البعض اختلافاً كلياً. ويُستنتج من ذلك أن الغفرانات بحد ذاتها بدون جدوى إلاّ إذا اقترنت بهبة استحقاقات الكنيسة، وإذا مُنحت علانية أمام الكنيسة. اقول ذلك رغم الشكوك الكثيرة التي أثيرت حول هذا الموضوع.

يُنسب الى الأستاذ الفرنسيسكاني كليمن الذي كان مدير مدرسة رهبنة في باريس قوله في إحدى مناظراته أن للبابا السلطان على المطهر. وعندما أخذ البابا عِلماً بذلك منحه الغفران بعد وفاته دَعماً لتصريحه هذا. وجوابي هو أنه لا يعنيني ما يرضي البابا أو ما لا يُرضيه. إنه إنسان شبيه بنا كلنا. وقد كان هناك بعض البابوات ممن لم يرضوا فقط بالأخطاء والعيوب بل عملوا الأمور الرهيبة والكريهة الى أقصى حدّ. إني أصغي الى البابا عندما يكون كلامه وِفق القوانين الكنسية وعندما يكون قراره مستنداً الى مجلس كنسي، ولكني لا أصغي اليه عندما يعبّر عن رأيه الشخصي، فإنني غير مُلزم بأن أوافق هؤلاء الناس الذين لا يعرفون تعاليم المسيح إلاّ معرفةً ضئيلة والذين يعتقدون أن جرائم القتل البشعة التي ارتكبها البابا يوليوس الثاني (1503 – 1513) والملقّب بالبابا المحارب، والذي شارك شخصياً في الحملة ضد البندقية، يعتقدون انها لم تكن جرائم بل بركات، وأنها كانت دلالة على أن مرتكبها كان راعياً حقيقياً لرعيّة المسيح.

زِد على ذلك، يقول القديس بونافنتورا في الكتاب الرابع والفقرة 20، أنه لا ينبغي للمرء أن يقاوم بشدّة الإدّعاء القائل أن للبابا السلطان على المطهر إلاّ إذا أثبت الكتاب المقدس صدق هذه الحجة إثباتاً منطقياً لا لبس فيه. ولكن إثباتاً كهذا لم يتم حتى هذا اليوم. ويقول البابا Sixtus iv (سكستوس الرابع 1471 – 1484)، أن صلاة التشفّع لا تقلل من قيمة الغفرانات الإجمالية. وأنا أقول له: “برهن ذلك يا قداسة الأب!” فإنه ليس من صلاحية البابا أن يُصدر قرارات إيمانية جديدة لوحده، لأن هذا الأمر منوط بالمجمع الكنسي العام. وبما أن البابا ليس إلاّ بشراً فإنه عرضة للخطأ، وبالتالي تتعرّض الكنيسة بأكملها للخطر إذا كان لزاماً على المرء أن يؤمن بكل ما يخطر ببال البابا ويعتقد أنه صحيح. وفضلاً عن ذلك ليس من الخطأ ان يتبنّى المرء رأياً مغايراً في أمورٍ ليست هي ضروريّة للخلاص، حتى لو كان البابا ذا عصمة ومجتنب الخطأ. إن هذا الأمر يدعوني ثانية الى التعبير عن الضرورة الملحة الى عقد مجمع كنسي عام للبتّ في أمور جوهريّة كالغفرانات.

-27-

إن قول بعضهم أنه حالما ترنّ النقود في الصندوق (أي صندوق بائع الغفرانات)، تنطلق  النفس وتطير من المطهر، ما هو إلاّ قول واعظ ينادي بتعليم بشريّ.

إن إطلاق النفوس وتحريرها لا يتم بسبب التشفّع، بل بسبب استجابة الله للتشفّع. وتستغرق هذه الاستجابة وقتاً، كما يعلّم جميع القدّيسين أن الله مُسرعٌ الى الاستماع، بطيء الى العطاء. ولكنهم يُنادون بنظريّة من اختلاق البشر لا تستند الى الكتاب المقدس، وقد منعت الكنيسة كل تعليم ينافي كلمة الله والكنيسة، ولكن مروّجو الغفرانات يتجاوزون حدّ صلاحيتهم ويعلّمون تعاليمهم الخاصّة.

– 28-

من المؤكّد أن الطمع والجشع يزدادان عندما ترنّ النقود في الصندوق، وأما نتيجة تشفّع الكنيسة فهي في يد الله وحده.

مما يدعو الى الاستغراب أن معارضيّ لا يُبشّرون بإنجيل المسيح بتلك الرغبة وذلك الاندفاع اللذين يتحدّثون بهما عن الأمور الأخرى. ومما يبدو أنهم يفكّرون في الربح أكثر مما يفكّرون بالتقوى، وقد يكون عذرهم في هذا التقصير أنهم يجهلون إنجيل المسيح. فهم يُغالون في إعلاء منزلة الغفرانات، ويُعاملون الإنجيل كشيء دونها قيمة ولا يكاد يذكرونه. وبما أن الغفرانات تفتقد أيّة قيمة أو فضيلة روحية، وبما أن المسيح لم يأمر بها، وليست هي سوى أمرٍ مسموحٍ به، فمن الواضح جداً أنها تزيد الربح دون أن تزيد الورع. وبرهاني على ذلك هو كالآتي:

1- لا يقع تشفّع الكنيسة في نطاق سلطة البابا، لأنه لا حق للبابا في البتّ في استجابة الله للتشفّع. ولا تتجاوز سلطته تقديم الشفاعة.

2- يتعارض تفسيرهم مع رأي القديس أوغسطينوس المسلّم به عموماً والقائل بأن ليس للتشفّع فعالية ولا يفيد منه إلاّ أولئك الذين يستحقّون الفائدة.

3- من الملاحظ أنهم يفسّرون كلمة “تشفّع” أنها “السلطة” التي يملكها البابا. ولكن كلا الكلمتين مختلفتان في المعنى.

أودّ هنا أن أدوّن هذه الملاحظة، إن ابداء رأيي في الموضوع أعلاه والتعليق عليه هو بصرف النظر عن معارضتي لهذا النوع من التشفّع.

– 29-

ما يدريك بأن النفوس في المطهر ترغب في التحررّ، فلدينا استثناءات من ذلك، كالقدّيس سفيرينوس والقديس باشال، كما روته الأسطورة عنهما.

لم أقرأ أي تفسير موثوق به بخصوص هذين الرّجلين. ولكنني سمعت أنه كان باستطاعتهما التحرّر لجدارتهما  واستحقاقهما، لكنهما لم يرغبا في ذلك خشية أن يحصلا على قدرٍ أقلّ من المجد. وبناءً عليه تحمّلا البقاء في المطهر مفضّلين ذلك على أن تصير الرؤيا المبهجة ضعيفة وان تنحطّ درجة السعادة المتجلّية في تلك الرؤيا. لكن هذه الأمور لا تهمّني أبداً، فكل إنسان يعتقد ما يودّ اعتقاده. وأما القصد الذي أرمي اليه فهو أن النفوس لا تطير الى السماء إلاّ إذا بلغت بالنعمة الإلهية درجة الكمال من الصحّة الروحية. ومع ذلك قد يرغب  أحد الناس نفسه في عدم التحرّر من المطهر بدافع الحب المفرط لله. وهذا الأمر يجعلنا أن نفهم بولس وموسى اللذين عبّرا عن رغبتهما في الحرمان الدائم من الاتصال مع الله (رومية 9: 3 وخروج 32 : 32). فإذا كان هناك سبب يدفع الى مثل هذا العمل، فلا غروَ من أن الأموات يمكنهم ذلك أيضاً.

– 30-

يتعذّر على كل إنسان التأكيد على أن ندامته تامّة سليمة، فكم بالأقل يثق بالحصول على الغفران الكامل.

أشير بقولي هذا الى هؤلاء الناس الذين يرغبون في جعل الندامة ضرورية للحلّ من العقوبات، ورأيي الشخصي هو أن الحلّ من العقوبات المنصوص عليها في القانون الكنسي يمكن الحصول عليها بدون الندامة، لأنها خاضعة لسلطة البابا فقط. أما الأعمال الإجرامية خاصةً والمميتة عامة، فإن الغفرانات تعجز عن محو عقوباتها مهما بالغ خصومي في رفع شأن تلك الغفرانات. ولكن ليس هناك أحد ممن يثق بأنه بدون أية خطية مميتة، ولو كان بإمكانه ان يثق بأنه بدون جريمة اقترفها علانية مما تجعل الكنيسة توجه اليه اصبع. إن الغاية من توكيدي هذا هو أن أظهر سخافة إدّعائهم ومبالغتهم في فائدة الغفرانات.

-31-

كما أن النادم ندامة حقيقيّة هو نادر الوجود، كذلك الذي يشتري الغفرانات باستقامة القلب نادر الوجود بل هو نادر جداً.

أعود وأشير الى بائعي الغفرانات كثيري التبجّح، الذين يدّعون بأن الكثيرين من الناس يحصلون على فائدة الغفرانات، ولكنهم يعترفون بالوقت نفسه بأن القليلين يسيرون على الطريق الضيق. ألا تحمرّ وجوههم خجلاً من مناقضة قولهم الثاني قولهم الأوّل؟ لا عجب من ذلك، فإنهم لا يهدفون بوعظهم الى حمل الناس على الندامة والسير على الطريق الضيّق الحرِج (متى 7: 14). ولذلك أضيف وأقول: إذا كان النادمون قليلين جداً، فإن الكثيرين، لا بل جميع أعضاء الكنيسة، بإمكانهم أن يحصلوا ( بدون الندامة) على الحلّ من العقوبات الكنسية بواسطة الغفرانات.

-32-

إن مَن يعتقد أنّ رسائل الغفران توصله الى الخلاص الأكيد، يكون هو ومعلموه مستوجبين الحكم بالهلاك الأبدي .

أدافع عن هذه القاعدة وأورد البرهان والدليل على النحو التالي:

يقول إرميا (17: 5): ” ملعون الرجل الذي يتّكل على الإنسان ويجعل البشر ذراعه”. ويقول الرسول بطرس (أع 4: 12): ” وليس بأحدً غيره الخلاص، لأنّ ليس اسمٌ آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس، به ينبغي أن نخلص”. (قابل ايضاً أع 15: 11). لِيَفنَ ويُعدَم ذلك الأمل الذي يَجعل أساسه الرسائل الميتة واسم الغفرانات والشفاعات.

كما سبق وقلت، رسائل الغفران لا تمنح الخلاص، بل تُزيل العقوبات الكنسيّة وحتى ليس جميعها. مَن لي بالأرض وملئها تَصرخُ وتبكي معي على الأسلوب الذي يُغري المسيحيين بعدم فهم الغفرانات إلاّ فهماً خاطئاً أي كونها نافعة للخلاص وثمار الروح. لا غروى من ذلك، لأن أحداً لم يوضح لهم الحقيقة.

يالشقاء المسيحيين ممن يثقون باستحقاقاتهم وفضائلهم وليس بضميرهم الحيّ من أجل الحصول على الخلاص! بل إنهم يعلّمونهم أن يثقوا بورقة تحمل التوقيع وقد وُضع عليها الخاتم الشمعيّ. ولِمَ لا أتكلّم بهذه الطريقة؟! فإني اسأل: هل هناك شيء آخر تؤاتيه الغفرانات؟ إنها لا تؤاتي الندامة ولا الإيمان ولا النعمة، بل كل ما تؤاتيه هو حلّ المرء خارجياً من العقوبات التي نصّت عليها القوانين الكنسية.

سأنحرف عن الموضوع الرئيسي قليلاً، واستطرد وأقول: لقد سمعت بنفسي أن الكثيرين ممن اشتروا صكوكهم ودفعوا نقودهم قد جعلوا كل ثقتهم بهذه الصكوك. لأنهم، وهذا ما قالوه هم، إمّا أنهم سمعوا هذه الأمور التي تُقال عن الغفرانات، أو انهم فهموها من تعليم وعّاظ الغفرانات. (ورأيي أن هذا السبب الأخير جدير بالتصديق). إنني لا أوجّه الاتهام الى أحد، لأنني لم أسمع وعاظ الغفرانات. وكل ما يُهمني في الأمر أن هؤلاء الناس الذين اشتروا صكوك الغفران يستحقّون التوبيخ والتأنيب مهما أبدوا من أعذار، لأن في آذانهم وَقر فلا يسمعون إلاّ الأمور الضارّة، وأما الأمور المفيدة التي يقولها لهم الوعّاظ فلا يسمعونها. مَثلاً على ذلك، عندما يقول الوعّاظ: “فوق كل شيء، أيها الإخوة، آمنوا بالمسيح، اعتمدوا عليه وتوبوا، إحملوا صليبكم واتبعوه، أميتوا أجسادكم، تعلّموا ألاّ تهابوا العقوبات والموت، وقبل كل شيء، أحبّوا بعضكم بعضاً محبةً شديدة، وليخدم كل واحد الآخرين،حتى ولو اقتضى الحال إهمال الغفرانات. وجّهوا خدمتكم قبل كل شيء الى الفقراء والمتروكين (1 بط 4 : 8 – 11)”. أقول عندما يسمعون هذه الأقوال وما شابهها من الأمور الصالحة والدينية والمقدّسة، فإن الجماهير الساذجة والسهلة الانخداع تشيح بوجوههم بأعجوبة يخفى سببها، وها هم يسمعون أموراً مختلفة تماماً، كهذه الأمور “أيها الناس العديمي الفهم والأغبياء، الأشبه بالحيوانات أكثر من البشر، لأنّكم لا تدرون تدفّق النعمة هذا التدفّق الغزير! ها قد فتحت السماء أبوابها على كل جوانبها! هلاّ تدخلون الآن، وإلاّ متى ستدخلون؟ أنظروا: كم من نفسً باستطاعتكم تخليصها! يا لقساوة قلوبكم أيها الشعب العديم الاكتراث! إنه مقابل 12 ديناراً بإمكانك أن تحرر أباك وتُخرجه من المطهر. أو هل أنت عاقّ الى هذا الحدّ فلا تَقبل أن تمدّ يدك لمساعدة والدك الذي يقاسي هذه العقوبات الشديدة؟” أنا شخصياً سأجد تبريري يوم الدينونة لأنني جدير به، وأما أنت فلا مبرر لك. وليس هناك أي عذر يمكنك أن تبديه إن أهملت خلاصاً هذا مقداره (عب 2: 3). أشير عليك، حتى لو كان بحوزتك رداء واحد فقط،  لوجب عليك حسب اعتقادي أن تنزعه عن جسمك وتبيعه قطعةً قطعة، كي تحصل على هذه الامتيازات العظيمة”.

ومما يسمعه الناس أن هناك عقوبات تهددهم وهي أسوأ جداً من عقوبات الجحيم، مما يجعل ذلك الرأي يترجّح عندي أنه عندما يلعن اولئك الوعّاظ يُبارك الله بلعناتهم، وعندما يباركون يجلبون لعن الله. وإلاّ كيف يمكن أن يقول الوعّاظ شيئاً مخالفاً كل الاختلاف عما يسمعه الناس؟ من يفقه هذا؟ ومع ذلك، أنا لا أصدّق كل ما تقوله عامة الشعب أنها سمعت هذا الكلام هنا وهناك، وإلاّ لكنت أعتبر الأمور التي يُنادون بها ليست إلاّ شرّاً وبدعاً وتجديفاً.

إني لآ أصدّق أن يمنع أحد دفن الموتى ودعوة الكهنة حتى يقيموا شعائر الدفن والقداديس إلاّ بعد أن يُجبر ذوي الميت على إلقاء المزيد من النقود في الصندوق. ليست هذه الأقوال إلاّ من اختراع الناس. وإني لا أصدٌق تلك القصّة التي رواها أحدهم، وقد زخرف كلامه وموهّه بالكذب، ومفادها أن الألوف من النفوس (لا أذكر عددها، ولكنها قد تكون ثلاثة الى خمسة آلاف)، ممن حصلوا على الحرّيّة والعتق من المطهر بواسطة الغفرانات. ولم يهلك من تلك الألوف إلاّ ثلاث نفوس رفض ذووهم ان يدفعوا نقود الصكوك الغفرانية. لم يقل أحد هذا الكلام، ولكن الجمهور سمعه بينما كان الوعّاظ يروون قصة آلام المسيح، أو خُيّل اليهم فيما بعد أنهم سمعوه. كما لا أصدّق أن وعّاظ الغفرانات يمنحون سائقي العربات والخدّام وأصحاب الفنادق صكوك الغفران من أجل تحرير أربع أو خمس نفوس أو أكثر بدل أن يدفعوا الأجر نقداً.

لا أصدٌق ما يقوله الناس أنه بعد أن ينتهي الوعاظ من الحث بصوت عالٍ ومن إلقاء خطبهم بنبرات رنّانة، يُقبل الجمهور على الصندوق فيلقون نقودهم فيه صارخين: “إيداع هذا المبلغ أمانة”، لأنهم يعتقدون أن هذا هو جوهر العظة وأنه العظة بكاملها وبرأسها وذنبها (اش 9: 14). ولا أصدّق أن الوعّاظ الرسوليين لا يعلّمون رسالة الغفرانات بالكلام فقط بل بإعطاء القدوة أيضاً، فإنهم ينزلون من منابرهم، ويتوجّهون رأساً الى الصندوق كي يراهم جميع الناس، هؤلاء الناس البسطاء السذّج ، مؤمّلين أن ينزفوا آخر قطرة من دمائهم، وثم يلقون بقطعة نقودهم في الصندوق بإيماءةٍ مهيبة، فيصدر عنها رنين مدوٍّ، ويتساءلون إذا كان كل الحاضرين سيلقون بكل ما وفروه في حياتهم، ويبتسمون في وجوه اولئك الذين يودعون عملتهم، وينظرون بعين السخط الى اولئك الذين يمتنعون عن ذلك. ومع كل ذلك، مما يظهر لي أن هذا القوم ممن اعتادوا في السابق أن يسمعوا كلاماً يتعلّق بالمحبّة والتواضع، يستحقّون المغفرة حتى لو أساءوا فهم هذه الشخصيات الجديدة أو فسّروا أقوالهم تفسيراً خاطئاً.

ولو أردت أن أسجّل جميع الأمور المفزعة التي سمعتها واحدة واحدة، لاحتجنا الى مجلّد منفصل. ورأيي الخاص هو انه لو كانت صكوك الغفران تُفرض بُغية الإفادة، فإنها مع ذلك قد أسيء استعمالها الى حدّ بعيد، حتى أصبحت فضيحة، وهذا سبب كافٍ لإلغائها كلياً. ولو راجت أكثر سيُصبح وعّاظها معتوهين بسبب ولعهم بالمال. وإني أعتقد مُخلصاً أن وعّاظ الغفرانات لم يقولوا كل ما يتناقله الناس عنهم هنا وهناك، ولكن كان عليهم على الأقل أن يُرشدوا الناس الى الصواب والحق، وأن يُعبّروا عن آرائهم بوضوح أكثر، وأن يتكلّموا عن الغفرانات باعتدال وهدوء على حسب كلام القوانين الكنسية.

-33-

على الإنسان ان يحذر حذراً بعد حذر أولئك الذين يقولون أن الغفران الذي يمنحه البابا هو تلك الهبة الإلهية التي لا يُقدّر ثمنها إذ بها يتصالح الإنسان مع الله.

هنا يهاجم لوثر رئيس أساقفة مدينة ماينتس الألمانية ألبرِخت المفوّض العام لصكوك الغفران التي أصدرها البابا ليو العاشر. وكان البرِخت هذا قد أرسل الى المفوّضين الفرعيين مجمل تعليماته وقسم الغفرانات الى اربعة أقسام أو اربع نعمٍ رئيسة، والى نعمٍ أخرى فرعية أقلّ قيمة. ومما جاء في مجمل تعليماته:

“إن أول نعمة من النعم الرئيسية غفران جميع الخطايا غفراناً تاماً. ليس هناك نعمة يمكن اعتبارها أعظم من هذه. فبإمكان الخاطئ المحروم من نعمة الله ان يحصل على المغفرة البالغة حد الكمال ونعمة الله الفائقة من جديد.” ويعلّق لوثر على ذلك ويقول: “إني أدعوهم كفرة هرطوقيين مدمّرين، فهل هناك أمر أبعد عن الصلاح وأعظم كفراً من القول بأن غفرانات البابا وسيلة من وسائل النعمة وتؤاتي الإنسان المصالحة مع الله؟” ومما يُشير الى أن ألبرِخت لم يكتب بدافع المكر بل بدافع الجهل هذه العبارة: “يحصل الإنسان بواسطة هذه النعمة (أي النعمة الأولى ، المغفرة التامة) على المغفرة الكاملة”. ماذا يقصد بذلك؟ إنه يفسّر الماءَ بالماءِ. ليس إلاّ الله وحده هو الأعظم، ولكن رئيس الأساقفة ألبرِخت يخلط بين نعمة الله ونعمة البابا خلطاً مشوّشاً باستعماله الألفاظ ذاتها.

ومما يتبع في الكتاب ذاته هذه الكلمات: “إن مغفرة الخطايا هذه تُلغي جميع العقوبات المستحقّة في المطهر”. أي ان للبابا سلطة المفاتيح على المطهر. وقد سبق وتكلمت عن هذا الموضوع ما فيه الكفاية. وهناك أيضاً الكلمات التالية: “ومع أنه ليس هناك عمل من الأعمال يُساوي قيمة هذه النعمة، لأن هبة النعمة الإلهية لا تُقدّر بثمن…” . أنظر كيف يجعل البابا غفرانه معادلاً لنعمة الله. ولكنه يرمي بذلك الى الربح المادّي والى جمع النقود. وهو يسمح أيضاً للفقراء بالحصول على هذه النعمة، ولكن بعد أن لا يتركوا باباً إلاّ ويطرقوه للحصول على النقود. وهنا مرة أخرى يفتح أبواب السماء بالغفرانات. والخلاصة: “طنجرة لقيت غطاءها”.

-34-

لا تتعلّق هبات الغفرانات ونعمها إلاّ بالعقوبات التكفيريّة التي يفرضها البشر.

هذه القاعدة واضحة بما فيه الكفاية على حسب القاعدة الخامسة والقاعدة العشرين.

-35-

إن أولئك الوعّاظ الذين يعلّمون الناس أنّ لا حاجة لهم الى أي شيء يحملهم على الندامة إذا هم أرادوا شراء تحرير النفوس من المطهر والحصول على امتيازات الاعتراف، إنما يعلّم أولئك الوعّاظ  تعاليم غير مسيحية.

اعترفت سابقاً بأنه بالإمكان الغاء العقوبات حتى للذين لم يندموا ندامة حقيقية. ولكن هناك فرق كبير بين إلغاء العقوبات وافتداء النفوس وتحريرها. في حالة الغاء العقوبات يحصل المرء على شيء جيد صالح. وفي حالة تحرير النفوس يعمل المرء شيئاً جيداً صالحاً. لكن عمل الإنسان الشرير لا يمكن أن يرضي الله إذا كان هذا الإنسان نفسه لا يُرضي الله. كما هو مكتوب (تك 4: 4): “فنظر الرب الى هابيل وقربانه”. ومن الأمور المنافية للكتاب المقدس أن يعمد خادم إبليس الى إعتاق أحد أبناء الله ويقوم بذلك حتى باسمه تعالى. كما أنه من المضحك ان يقوم العدوّ  بالتشفّع لأحد أصدقاء الملك. ما هذا الجنون! يبالغون في قيمة العقوبة التي هي غير نافعة للخلاص، بينما يحطّون من قيمة الخطايا التي تستوجب الندامة، وهي الأمر الوحيد الذي لا غنى عنه.  قد سبق وقلت أنه بإمكان أي إنسان أن يهب الخطاة صكوك  التوبة وإلغاء العقوبات. ولكني لم أقل أنه ينبغي حثّ الناس على شراء هذه الأشياء ولا حتى أن يسمحوا لهم بشرائها، كما يفعل بائعو الغفرانات المتجوّلون إيّاهم. وبرهاني على ذلك هو كالآتي:

تحثّ كل تعاليم المسيح على التوبة والندامة، وعلى أن خير البرّ عاجله.كما يقول يشوع بن سيراخ (5 : 8): ” لا تؤخّر التوبة الى الرب، ولا تتباطأ من يوم الى يوم”. ويقول الرب نفسه: “فاسهروا إذاً لأنكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة” (متى 25: 13). ويقول الرسول بولس: “فلنجتهد أن ندخل تلك الراحة”(عب 4 : 11). ويقول الرسول بطرس: “فبما أن هذه كلها تنحلّ أيّ أناس يجب ان تكونوا أنتم في سيرة مقدّسة وتقوى. منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب” (2 بط 3 : 11 – 12). إن الرسل علّموا هذه الأمور لأنهم كانوا يتوقون إلى هذا العمل، ليس من أجل جمع النقود، بل من أجل خلاص النفوس.

لو كان اولئك المعلّمون الكذبة رعاةً صالحين ومسيحيين حقيقيين لكانوا يبذلون جهدهم في السعي الى إرشاد الخاطئ الى خوف الله والى الفزع من الخطيّة، ولا يكفّون عن البكاء والصلاة ناصحين ومؤنّبين حتى يكسبوا ولو نفساً واحدة من نفوس الإخوة. وإذا وُجد هناك أحد الأشخاص ممن يُصرّ على عمل الشر ولكنه يستمر في إعطاء النقود، فهذا  الأمر  يُلزم البائعين المتجوّلين بأن يُلقوا بالنقود في وجهه وبأن يقولوا مع الرسول: “لست أطلب ما هو لكم بل إياكم” (2 كو 12: 14). وبأن يقولوا أيضاً: “لتكن فضتك معك للهلاك” (أع 8 : 20). وبأن ينفروا منه ويتباعدوا عنه، لأنه يستحق ذلك.

لكن الأمر الذي نراه على أرض الواقع مختلف. لأن عطارد  يصرخ من بعيد: ” لا، بل علينا أن نتصرّف هكذا: إذا وافانا الخطاة معتمدين على وسطاء جديرين (المقصود النقود)، سيكونون واحداً منا، قادرين على فعل ما نقدر نحن على فعله، حتى على إعتاق النفوس، ولو كان هذا الفعل يتعارض مع  المسيح والرسل. وبينما هم يهلكون من فَوره، سنضحك ونهلل لأننا ظفرنا بهديّتهم وتأكّدنا منها. هذه هي محبتنا لشعب المسيح وإخوته، وهذه هي طريقتنا في تدبّر النفوس ، وهي طريقة جديدة بالنسبة لهم سيتعرّفون عليها، أي طريقتنا في الشفقة والحنو، إنها طريقة اللاشفقة واللا حنوّ”.

-36-

كلّ مسيحي يشعر بالتوبة الصادقة هو حقّ بالمغفرة التامّة وبإلغاء العقوبة إلغاءً كاملاً، حتى بدون صكوك الغفران.

وإلاّ يتعرّض أولئك الناس الذين ليس لديهم هذه الصكوك، وكذلك الأشخاص الذين يرفضون شراءها، إلى خطر فقدان خلاصهم. وهو افتراض خاطئ لأن أمراً أو وصيّة لم يصدرا بخصوص الغفرانات، بل بإمكان الناس ان يقبلوها او يرفضوها. أما التائبون التوبة الصادقة فإنهم يمتثلون لأوامر الله لأنهم يستغنون بتوبتهم عن كلّ شيء آخر.

ولكن، هناك قوم يقاطعون في الكلام ويُبدون معارضتهم بهذه الملاحظة الماكرة: هذا صحيح لو كان البابا هو وحده الذي وضع العقوبات الكنسية، وهم لا يقصدون بها عقوبات الصليب الواردة في الإنجيل: الأصوام والأسهار وغيرها من عقوبات التأديب، بل تلك التي لم يفرضها الله. ويُضيفون بقولهم انّ دور البابا هو دور المعلن وليست سلطته إلاّ سلطة إعلانية محضة، فهو لا يفرض أية عقوبات ولا يلغيها. وبطريقة أخرى يعلّمنا بائعو الغفرانات تعليماً مغايراً لتعليم المسيح أي “كل ما أربطه أنا تحلّونه أنتم”.

-37-

يشترك كل مسيحي حقيقي، إن كان حياً أو ميتاً، في جميع نِعم المسيح والكنيسة وبركاتهما، إنها هبة يهبها الله بدون صكوك الغفران.

من المستحيل أن يكون الإنسان مسيحياً إلاّ إذا امتلك المسيح. فإذا ربح المسيح، تصبح حينئذٍ جميع فوائد المسيح ملكاً له. يقول القديس بولس (رو 13: 14): ” إلبسوا الربّ يسوع المسيح”. ويقول في (1 كو 3 : 21 – 22 ): “إن كلّ شيء هو لكم، بولس كان أم أبلّوس أم الحياة أم الموت”. ويقول أيضاً في ( 1 كو 12: 27): “وأما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفراداً”. ويصف الكنيسة في أماكن أخرى “أننا نحن الكثيرين خبز واحد جسد واحد لأننا جميعنا نشترك في الخبز الواحد، (شركة جسد المسيح) (1 كو 10: 17 – 16). ونقرأ في نشيد الأنشاد (2 : 16): ” حبيبي لي وأنا له”. بالإيمان بالمسيح يصبح المسيحي روحاً واحداً وجسداً واحداً مع المسيح، “فيصيران جسداً واحداً (تك 2 : 24)، وإنّ هذا لسرٌّ عظيم. أقول هذا من نحو المسيح والكنيسة” (اف 5 : 31 – 32).

لذلك، بما أن روح المسيح يسكن في المسيحيين، مما يجعل الإخوة شركاء في الميراث، وجسداً واحداً، ومواطنين مع المسيح، فهل يمكن أن لا نكون شركاء في جميع فوائد المسيح؟ إن كل ما هو خاصّ بالمسيح نفسه إنما هو مُستمدّ من الروح الواحد. وبالتالي يستطيع المسيحي بواسطة غنى رحمة الله الآب التي لا تُثمّن أن يتمجّد مع المسيح وأن يَدّعي كل الأمور الخاصة بالمسيح ملكاً له وحقاً لايشك فيه أحد. فالبرّ والقوّة والصبر والتواضع وحتى جميع استحقاقات المسيح بدون استثناء هي ملك له باتحاد الروح وبالإيمان به. ولا تعود جميع خطاياه خاصّة به، بل بفضل ذلك الاتحاد مع المسيح بعينه، يُبتلع كل شيء في المسيح. وهذه هي ثقة المسيحيين ، وهذا هو فرح ضميرنا الحقيقي، أنه بواسطة الإيمان لا تعود خطايانا خاصتنا نحن بل خاصة المسيح، الذي وضع الله عليه خطايا جميعنا. فهو حمل جميع خطايانا (اش 53: 12)، وهو “حمل الله الذي يرفع خطيّة العالم” (يو 1: 29). وهكذا يُصبح برّ المسيح برّنا نحن. إنه يَضع يده علينا فنشفى ونحيا (مر 5: 23). ويبسط ثوبه علينا ويغطّينا (راعوث 3: 9)، هذا المُخلّص  المبارك الى جميع أجيال دهر الدهور. آمين.

في الواقع لا تتم هذه الشركة في فوائد المسيح، التي هي مصدر الفرح الشديد، ولا يطرأ هذا التغيير على الحياة، وهو مبعث الابتهاج ، إلاّ بالإيمان. وفضلاً عن ذلك ليس باستطاعة إنسانٍ أن يُعطي هذه الشركة ولا يستطيع إنسان أن ينزعها أيضاً. ونظراً لهذه الحقيقة فإني أعتقد أن الأمر قد أصبح واضحاً بما فيه الكفاية، أن هذه الشركة لا تهبها سلطة المفاتيح ولا تُقتنى بفضل صكوك الغفران. بل إن الله وحده هو الذي يهبها قبل الغفرانات وبدونها. وهو الذي يمنح الحرّيّة والغفران قبل حرّيّة الكنيسة وغفرانها. وعلى مثال ذلك يهب الله الشركة في فوائد المسيح وهباته قبل أن يمنحها البابا.

ماذا إذاً يَمنح البابا وبماذا يُشارك؟ وجوابي هو: عليهم أن يقولوا كما سبق وقلت في القاعدة 6 الخاصّة بإلغاء العقوبات، أي إنه يمنح هذا الإلغاء بالإعلان فقط. وإني اعترف بأنني لا أفهم أيّة طريقة أخرى يمكنهم أن يُعبّروا بها عن مشاركته. وسأعطي تفسيري في  القاعدة التالية.

– 38-

ومع ذلك لا ينبغي للمرء على الإطلاق أن ينتقص من قدر مغفرة البابا وبركته، لأنهما، كما قلت (في القاعدة السادسة) إعلان المغفرة الإلهية.

إن صيغة الإعلان على شكل صكوك الغفران العامّة ليست ضرورية، لأن الإعلان الذي يصرّح به الكاهن في الاعتراف هو كافٍ ويحصل به الاستغناء عن سواه. ومع انني أعتقد أن الجميع يسلّمون بهذه الفرضيّة ويعتبرونها صواباً وموافقاً، إلاّ أنني لا أودّ أن أقول أن عمل البابا لا يعدو إعلان الغفران الإلهي وإعلان هبات المسيح والموافقة عليها، لأن هذا القول أولاً لا يعدو تصريحاً بأن سلطة مفاتيح الكنيسة لا قيمة لها، ويجعل كلمة المسيح في الواقع عقيمة بدون جدوى عندما يقول: “فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماوات. وكل ما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السماوات” (متى 16: 19). فعبارة “إعلان” عبارة بسيطة لا تفي بالمطلوب. وقد سبق وأشرت الى ذلك في القاعدة السادسة. وثانياً، لا أودّ أن اتكلم بهذا الأسلوب كي لا تتلبّس الأمور على الشخص الذي يُوجّه إليه الإعلان، حتى لو كانت مغفرته ومصالحته مؤكّدة أمام العموم وأمام الكنيسة.

أعتقد أن الإنسان الذي وقع في الخطيّة يجد صعوبة قصوى في أن يثق برحمة الله، لأنه يشعر بثقل الخطيّة تضغط عليه وتحمله على اليأس، فيُمسي ميّالاً الى التفكير بغضب الله أكثر من التفكير برحمته. ومن ناحية ثانية، كان يميل قبل أن يُخطئ الى التمتّع بالثقة وكان يفكّر بالرحمة أكثر من الغضب. فالإنسان يتصرّف تصرّفاً خاطئاً في الحالين. إنه يخاف بعد أن يُخطئ في حين ينبغي له أن لا يخاف بل ان يكون مفعماً بالأمل. وإنه واثق بنفسه قبل أن يُخطئ في حين ينبغي له أن لا يكون واثقاً بل خائفاً.

وهناك مثل على الانحراف البشري نجده على نحو ملائم في قيامة المسيح، حين كان على المسيح أن يُثبت قيامته لتلاميذه ببراهين عدّة حتى يوطّد نفسه في قلوبهم. فأوّل إعلان بقيامته كان ظهوره للنساء. وأما التلاميذ فنظروا إليه نظرة السخافة كأنه أمرٌ منافٍ للعقل. وعلى مثال ذلك تبدو الثقة للخاطئ أمراً ضعيفاً قد لا يُصدّق. ومما يشقّ عليه أكثر،  أن يؤمن بأنه شريك في فوائد المسيح وهباته، وهي التي تفوق الوصف، وأنه “شريك الطبيعة الإلهية” (2 بط 1: 4)، كما يقول القديس بطرس. إن عِظم قَدر هذه الفوائد توقع المرء في الريبة وتُثير فيه الشكوك، ومما يقوّي هذه الشكوك حقيقة الشرور الفظيعة التي اقترفها، وأكثر من ذلك حقيقة النّعم الجمّة التي أسبغت عليه، والتي جعلته إبناً لله، ووارثاً للملكوت، وأخاً للمسيح، ورفيقاً للملائكة، وسيّداً للعالم. وإني أسألكم، كيف يمكن للمرء أن يؤمن بصدق هذه النّعم والبركات، حين يستحوذ عليه ثقل الخطيّة فتأخذ نفسه تبلى وتنخر، ويشعر هو بأنه مجترف نحو الهاوية؟ لذلك، ونظراً لهذا الوضع، يكون قرار سلطة المفاتيح ضرورياً، إذ من شأنه أن يحمل الإنسان على أن لا يؤمن بذاته، بل عليه أن يثق في قرار سلطة المفاتيح الكنسية وما يبلّغه الكاهن. وسيّان بالنسبة لي إذا كان حامل المفاتيح جاهلاً أو ثرثاراً أو وقحاً. المهمّ في الأمر أن يؤمن المسيحي إيماناً قوياً، لا بسبب الكاهن أو سلطته، بل بسبب كلمة ذاك الذي لا يكذب: “كل ما تحلّونه…(متى 16: 19)”. لا يُمكن أن  تُخطئ سلطة المفاتيح لدى هؤلاء الناس الذين يؤمنون بتلك الكلمة. لكنها تُخطئ لدى أولئك الذين لا يؤمنون بفعاليّة مغفرة الكاهن. إفرض أن أحداً من الناس لم يكن نادماً ندامةً كافيةً أو إنه اعتقد ذلك، ولكنه آمن بثقة تامة بأنه حصل على المغفرة التي وهبها إياه الكاهن. إنني شخصياً أعتقد أن هذا الأمر ممكن حدوثه. لأنّ إيمان هذا الإنسان هو الذي يؤاتيه المغفرة المطلقة لأنه يؤمن بذاك الذي قال: “كلّ ما..(متى 16: 19)”. وفضلاً عن ذلك إن الإيمان بالمسيح يبرّرك دائماً، حتى لو كان الكاهن غير كفؤ ويُعوزه حسّ المسؤولية عندما قام بمراسيم معموديّتك. وعلاوة على ذلك، إنك لو لم  تعتقد أنك نادم بما فيه الكفاية (لأن هذا الأمر ليس بإمكانك ولا ينبغي لك أن تثق بنفسك)، ولكنك آمنت بذاك الذي قال: “مَن آمن واعتمد خلص (مر 16: 16)”، فإني أقول لك أن إيمانك بكلمة المسيح هذه تجعل معموديتك معموديّة حقيقيّة، مهما كان شعورك بندامتك.

وبالتالي، الإيمان ضروري دائماً وفي كل ظرف من الظروف. إنك تحصل على قدر ما تؤمن. وهذا هو فهمي لما يقصده معلّمونا بقولهم أن الأسرار المقدسة هي علامات النعمة الفعّالة، وذلك ليس بسبب إجراء المراسم، بل بسبب الإيمان بها، وهذا ما يؤكّده أيضاً القديس أوغسطينوس، إذ يقول: “مِن أين للماء هذه القدرة العظيمة على تطهير الجسد وتنقية القلب إلاّ من الكلمة، ليس من التلفّظ بالكلمة بل من الإيمان بها”. وهكذا المغفرة أيضاً، إنها فعّالة، لا لكونها خضعت للمراسيم، ولا بسبب الشخص الذي يقوم بهذه المراسيم، ومهما أخطأ هذا الشخص أو لم يُخطئ، ولكنها فعّالة بسبب الإيمان بها. وليس هناك أيّ مجال للتحفّظ مهما كان مصدره ( أي البابا) مما يمكنه أن يمنع هذا الإيمان من الحصول على المغفرة، إلاّ إذا كان الإيمان نفسه معدوماً وكان يستخفّ بالمغفرة. وأتابع وأقول : إذا وقع الخاطئ في الحيرة وفي اختلاطٍ لا مخرج منه، وإذا أنّبه ضميره إلى حدّ يجعله يظنّ أن كل ما يفعله شرّ، أقول أن هذا الإنسان لا ريب قريبٌ من التبرير وأن حاله هذه هي بداية النعمة. ولذلك وجب عليه أن يفرّ ويلجأ الى سلطة المفاتيح طلباً للعزاء  ولراحة الضمير، لأن سلطة الكاهن تؤاتيه السلام وتمنحه الثقة بأنه يُشارك في فوائد المسيح والكنيسة. وإن كان أحد لا يؤمن بفوائد المسيح والكنيسة عن طريق مغفرة الكاهن، أو إن كان يشكّ في الحصول عليها، فهو يضلّ الطريق وقد أضلّه عدم إيمانه وليس سلطة المفاتيح، فيُنزل بنفسه عقوبة الهلاك لأنه يُنقص الله وكلمته حقّهما ومصداقيّتهما. ولا ينمّ عمله وسلوكه إلاّ على عدم توقيرهما وعلى ازدرائهما الى أقصى حدّ. وبالتالي يكون عدم ذهابه للاعتراف وطلب المغفرة أفضل من ذهابه بدون الإيمان، كما هي الحال أيضاً في المعمودية والعشاء الرباني، إذ يقول الرسول ( 1كو 11 : 29): “لأن الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق، يأكل ويشرب دينونة لنفسه”. لذلك ليست الندامة ضرورية بقدر الإيمان. وفي ما يتعلّق بالمغفرة، فالإيمان يحصل على فائدة أعظم بكثير مما تحصل عليه الندامة، مهما كانت هذه بحماسة شديدة. وهنا يستشهد لوثر بتصريح أحد اللاهوتيين واسمهJean Gerson والذي اقتبسه من كتابه: “يلزم المرء بأن لا يثق بأنه أدرك حالة الخلاص بمجرّد قوله أنه نادم على خطاياه. بل بأن يوجّه أهتمامه الى التشوّق الى سرّ التوبة تشوّقاً شديداً، حتى إذا حصل عليه يؤمن بأنه حصل على المغفرة”. إن ما قصد Jean بما قاله عن قبول السرّ بتشوّق، هو الإيمان بالكلمة التي يرغب المرء في سماعها وفي أن يسمعها فعلاً. إحذر إذاً من أن تتكل على ندامتك ولا بحالٍ من الأحوال، بل إتكل فقط على كلمة مخلّصك الرؤوف البالغ الأمانة، يسوع المسيح! قد يغرّك قلبك ويخدعك، ولكنه هو لا يخدعك. إذا كانت هذه الكلمات لا تُفهم فهماً صحيحاً فإني أخشى ضياع نفوسٍ كثيرة، بسبب هؤلاء الرجال ذوي الجهالة القصوى ممن يثرثرون ويُخطِئون خطأ فاضحاً عندما يُروّجون الأعمال والندامة، ويتركون الإرشاد الى الإيمان. إنهم يسرعون بالتصدّق بالغفرانات والإشراك في هبات الكنيسة بدون تمييز وبدون أي سؤال يوجّهونه للتائب.

لذلك ليس من الضروري سؤال التائب: “هل أنت نادم؟” بقدر ما هو ضروري سؤاله: “هل تؤمن بأنك تحصل على الغفران بواسطتي؟”: وعلى هذا النحو سأل يسوع الأعميان (متى 9: 28): “أتؤمنان أني أقدر أن أفعل هذا؟” ويقول يسوع في (مر 9: 23): “كل شيء مستطاع للمؤمن”. وبرهان هذا الإيمان الأكيد يُرى خصوصاً في حال أولئك الناس ذوي الضمائر المضطربة والذين يشعرون بعجزهم عن الاتكال على انفسهم. فالذين يأسفون هم الوحيدون المستحقّون التعزية. والشخص الوحيد الذي يجب حثّه على الإيمان بمغفرة خطاياه هو ذلك الشخص الذي يرتجف خوفاً من أن خطاياه قد تُمسك.

أختم كلامي عن هذه القاعدة فأقول، إن رأيي هذا لا يُقلل سلطة المفاتيح، كما اتهمني البعض، بل يُعيدها من زاوية التوقير الزائف والاستبداد، الى المكان اللائق بقدرها وحبّها. فكل إنسان يعرف فائدتها، وهي الفائدة التي فيها كل الخير، لا يسعه إلاّ أن يضمّهما الى صدره، ويقبّلها بدموع الفرح. لماذا إذاً نرفع من قدر البابا حامل المفاتيح، ولماذا نُمضي قضاءنا عليه في الوقت نفسه بأنه شخص توّاقٌ الى السلطة؟ ليست المفاتيح مفاتيحه هو بل مفاتيحي أنا، قد أعطيتها لخلاصي ولتعزيتي، وهي هبة تمنح السلام والراحة. وأما بما يتعلق بالمفاتيح ذاتها، فإن البابا خادمي وكاهني. وكونه بابا لا يحتاج الى المفاتيح، لكني أنا أحتاج اليها. أما المتملّقين فيُعلون من شأن البابا ويجعلون كل الأمور راجعة اليه، ولا يهتمون بحاجتنا الى العزاء، بل كل همّهم إشباع غرورهم وحبّهم السلطة. إن عملهم هذا يحوّل القوّة القادرة على تعزيتنا الى قوّة تخيفنا. إننا نرى اليوم أن كل الأمور أصبحت رأساً على عقب، ومع ذلك لا ندرك أن أوقاتنا هذه أوقات تعيسة، لأنها تُسيء استعمال أفضل الأمور وتُحوّل حالها الى أردأ الأحوال.

-39-

من الصعب جداً حتى على أعلم العلماء اللاهوتيين أن يوصّوا الناس بسخاء هبة الغفرانات، وبالحاجة الى الندامة في الوقت نفسه.

السبب الذي حملني على هذه القاعدة موجود في القاعدة التالية.

-40-

إن المسيحي النادم ندامة حقيقية يرغب في أن يتمم العقوبات بمحبّة صادقة تكفيراً عن خطاياه. ولكن هبة الغفرانات السخيّة تخفف العقوبات وتلطّفها مما يجعل الناس يكرهون العقوبات  – أو على الأقل تعطيهم الذريعة الى أن يكرهوها.

أنظر الى النادم ندامة حقيقية، إنك تراه يطلب الانتقام من نفسه بحماسة شديدة بسبب خطاياه التي اقترفها ضد الله. ويبلغ به هذا الحماس الى درجة تحملك على الشفقة عليه. وفي الواقع يجب نصحه بالعدول عن موقفه هذا  خشية أن يهلك نفسه، كما قرأنا عن مثل هذه الحالات وشاهدناها. ويكتب القديس هيرونيموس (جيروم)، أنه نفسه اختبر هذه الحال وكذلك باولا . وقد مرّ داود في مثل هذه التجربة، عندما قال للملاك  الذي ظهر له حاملاً السيف: (2 صمو 24: 17): “لتكن يدك عليّ وعلى بيت أبي”.

بإمكان المرء أن يرى كم هو صعب على المتعلّمين أن يأخذوا الوسط بين كراهيّة العقوبات ومحبّتها، أي أن يعلّموا الناس ويُقنعوهم أن يحبّوها وإن كانت بغيضة. أما بائعو الغفرانات فلا يكترثون إلاّ بالمكسب وجمع المال، يُخيفون الناس بالعقوبات باذلين كل ما في وسعهم من جد وحماس ، بينما لا يُعيرون أيّ اهتمام لتعليمهم محبّة الإنجيل. فيوصلوا الناس الى حال لا يجدون فيها مهرباً من محاولتهم للتخلّص من هذه العقوبات بكل  الطرق الصعبة والمُكلفة.

والسؤال الآتي يطرح نفسه: “ما قولك في الناس الذين يقومون بالحجّ الى روما والقدس والأماكن المقدّسة الأخرى، من أجل الحصول على الغفران؟” وجوابي هو: هناك عدة أسباب تدفع الناس الى حج الأماكن المقدسة، ولكنها قلما تكون  منطقيّة وشرعيّة.

السبب الأول شائع أكثر من غيره، وهو حب الاستطلاع، من أجل مشاهدة أمور غير مألوفة والسماع عنها. وينبع هذا الطيش وخفّة العقل من الملل من الخدمات التعبّديّة واعتيافها. ولو لم تكن الحال هكذا لوجد الحاج غفراناً أفضل بكثير في موطنه، ولو بقي يُعيل عائلته لكان أقرب الى المسيح.

السبب الثاني محتمل أكثر من سابقه، لأنه بدافع الحصول على الغفران. ولكن الذين يقومون بهذه الزيارات يستاهلون السخريّة لأنهم يُهملون المسيح والقريب في موطنهم، فهم ينفقون عشرة أضعاف من النقود في الغربة، ولا يحصلون على نتائج او فوائد تُذكر. فكان الأجدر بهم أن يبقوا في موطنهم ويتأمّلوا في قول الكتاب المقدس: “لأن المحبة تستر كثرة من الخطايا” (1 بط 4 : 8). وكذلك قول الرب نفسه (لو 11: 41): “بل أعطوا ما عندكم (الفائض) صدقة، فهوذا كل شيء يكون لكم نقياً”. وهذا في الحقيقة يفوق أضعاف أضعاف جميع الغفرانات التي يأتون بها من القدس وروما.

السبب  الثالث هو التشوّق الى تحمّل الألم والمشقّة بسبب الخطيّة، وإني أعتقد أن هذا يحدث نادراً. وبإمكان المرء أن يُجهد نفسه ويوقع بها العذاب في موطنه، ولو لم يكن الحج أمراً باطلاً في مثل هذه الحالة.

السبب الرابع فهو سبب فاضل، لأن الباعث على الحج تفاني الإنسان في التقوى من أجل تكريم القديسين وتمجيد الله وتهذيب النفس، وليس الباعث حب الاستطلاع.

إنه ليسرّني أن النذور التي يوجبها الإنسان على نفسه من حجّ أو غيره، بالإمكان تبديلها بعقوبات أو بأعمال أقل تكلفة وأخفّ حملاً. ليت تبديلها يتمّ مجاناً.

– 41-

ليكن الواعظ متنبّهاً في وعظه عن  الغفرانات الرسولية (البابوية)، خشية أن يعتقد الناس خطأً أن الغفرانات أفضل من أعمال المحبة الأخرى.

أرغب في أن أقول للناس ما يلي: أنظروا أيها الإخوة، ينبغي أن تعرفوا أن هناك ثلاثة أنواع من الأعمال الصالحة والتي يمكنكم القيام بها بإنفاق النقود.

ألأوّل، وهو في المقام الأوّل والرئيسي، أن تُعطي الفقراء أو تُقرض أحد جيرانك المحتاجين، وعلى العموم أن تمدّ يد المساعدة لأيّ إنسان وقع في الضيق أو أصابه الألم، مهما كانت حاجته. إن هذا الفعل من الأهمّية بمكان، حتى أن بناء الكنائس يجب أن يتوقّف إزاءه وكذلك التبرعات من أجل تزيين الكنيسة أو شراء آنية جديدة لها.

النوع الثاني، والذي يأتي في المرتبة الثانية من الأهمّية فهو بناء الكنائس والمستشفيات ودور الخدمات الاجتماعية.

والنوع الثالث والأخير هو شراء الغفرانات إذا رغبت في ذلك. إن النوع الأول من هذه الأعمال الصالحة قد أمر به المسيح. ولكن ليس هناك أمر إلهي بالنوع الأخير.

ربّ أحدهم يعترض ويقول: “إن الوعظ على هذه الطريقة يجعل دخل بيع الغفرانات ضئيلاً جداً”. وأنا أجيب: صدقت! ولكن ما الغريب في الأمر؟ لأنّ البابوات لا يسعون إلاّ الى خلاص النفوس وتعزيز عمل الخير، وليس الى جمع النقود، كما توضح ذلك الغفرانات التي يمنحونها عند تكريس الكنائس والمنابر. وأقول بكل صراحة، كل مَن يعلّم الناس خلافاً لهذا الأمر، لا يكون معلّماً بل مضللاً يستغوي الناس بالأماني الكاذبة.

-42-

يجب تعليم المسيحيين أن البابا لا يقصد، ولا في أيّ حالٍ من الأحوال، انّ شراء الغفرانات يضاهي أعمال الرحمة.

البابا في نظري هو الثقة في إقامة التفاهم المتبادل بين الكنيسة وبين جمهور المؤمنين، وذلك عندما يُخاطبنا من خلال القوانين الكنسية. ولكن ليس هناك أي قانون كنسي يعلّم أن الغفرانات تضاهي أعمال الرحمة. وفوق ذلك، إنّ قيمة الأمر الإلهي  تفوق جداً أيّ أمر يصدر عن بشر. هذه الحقيقة تجعل القاعدة أو الفرضية واضحة كل الوضوح.

قد يعترض معارض فيقول: “لكن بيع الغفرانات يهدف الى أعمال التّقى والصلاح، كالمساهمة في بناء أحد الأبنية الدينية أو في افتداء الأسرى، وهذه أمور جديرة بالتقدير”. وجوابي هو: أنا لا أتكلّم عن العمل بل عن الغفرانات. إن الأعمال التي ذكرتها يُمكن عملها بدون الغفرانات، لأنها ليست متّصلة بالغفرانات اتصالاً ضرورياً. وليست هناك فائدة تُجنى من الغفرانات الخالية من أعمال التُقى والصلاح. ولكن الأعمال بدون الغفرانات فإنها ذات قيمة وتؤتي فائدة. في الحالة الأولى، أي الغفرانات،  نجني نحن فوائد لنا،  وفي الحالة الثانية، أي أعمال الصلاح، نُعطي الفوائد لآخرين. . الأولى تخدم الجسد، والثانية تخدم الروح. الأولى تلبّي رغباتنا وطبيعتنا وتُسرّها، والثانية تلبّي إرادة النعمة الإلهية وتُسرّها. ولذلك لا تُضاهي الغفرانات ذاتها أعمال الرحمة ولا تشابهها.

أنا لا أقول أن الغفرانات في حد ذاتها شريرة ومؤذية، لكن إساءة استعمالها مؤذٍ، لأن الناس لا يُقبلون على عمل الرحمة إذا لم يحصلوا بالمقابل على الغفرانات. وهكذا تصبح الغفرانات الهدف الذي يرمي اليه الإنسان. وعلى الأصحّ ينبغي للإنسان أن يقوم بعمل الرحمة عن طيبة خاطر إكراماً لله. ولا ينبغي له أن يقبل الغفرانات إلاّ تلك التي تُمنح له مجانا وليس بدل المساهمة المالية. وهكذا يجب على الإنسان ان لا  يشتري الغفرانات، كما يجب على الكنيسة أن لا تبيعها. وإلاّ يُصبح الأمر تعاملاً تجارياً شنيعاً، كعمل سمعان الساحر (أع 8: 9 – 24)، الذي أراد شراء موهبة وضع الأيدي بالنقود.

في الوقت نفسه، على المؤمن ان يحذر إساءة فهم الغفرانات، مما قد تقود الى عبادة الأوثان. لأن تعليم الناس إذا هم دفعوا نقودهم ينجون من العقاب، لا سمح الله بأن يعلّم هذا التعليم، يجعل الكثيرين يفهمونه على هذا النحو الخاطئ،  مما يُصبح جلياً أنهم لا يتبرّعون إكراماً لله، بل خوفاً من العقاب الذي يُصبح صنمهم ويُقرّبون له القرابين. وقد حدث هذا الأمر في روما الوثنية حيث كان الناس يقرّبون قرابينهم للإلاهات المؤذيات مثل فيريس، وكان قد شيّد لها ثلاثة هياكل في روما. يحدونا هذا الخطر على الاحتياط للمحافظة على الكنيسة كي لا تدخلها مثل هذه البدع.

-43-

يجب تعليم المسيحيين أن إعطاء الفقير وإقراض المحتاج أفضل من شراء الغفرانات.

أعتقد أن هناك إجماع عام على صحّة هذه القاعدة وعلى القاعدتين السابقتين والاثنتين التاليتين.

ولكن عامة الناس لا تسمع مثل هذا التعليم وإن كان بديهياً، وهذا ما حملني على ذكره.

-44-

لأن أعمال المحبّة تنمّي المحبّة وتجعل الإنسان إنساناً أفضل، لكنّ الغفرانات لاتجعل الإنسان أفضل بل تعفيه من العقوبات فحسب.

-45-

يجب تعليم المسيحيين أن من ينظر إنساناً محتاجاً ويجوز مقابله ويتركه، بل يدفع نقوده مقابل الغفرانات، فإنه لا يشتري غفران البابا بل غضب الله.

من يَفعل هذا الأمر فإنه يتصرّف على نحو متعارض مع الفقرة الواردة في (1 يو 3 : 17) حيث يقول الرسول: “مَن رأى أخاه في فاقةٍ فحبس عنه أحشاءه فكيف تحلّ محبة الله فيه؟” لكن المغالطين يُفسّرون الفاقة المذكورة هنا بأنها الفاقة القصوى حيث تُعدم كل الفرص لإظهار المحبة ومدّ يد العون. ولكن لو كان هؤلاء المغالطون انفسهم في فاقة سطحية بسيطة، لرغبوا في الحصول على المساعدة. فينطبق عليهم قول السيد (متى 7: 12): “كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم إفعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم”.

-46-

يجب تعليم المسيحيين : إذا لم يكن لديهم نقود فائضة تزيد على حاجتهم، فإنهم ملزمون بأن يحفظوا ما يكفي احتياجات عائلاتهم، وأن لا يبذّروها إسرافاً في شراء الغفرانات.

يقول الرسول: “إن كان أحد لا يعتني بخاصّته ولا سيما أهل بيته، فقد أنكر الإيمان، وهو شرّ من غير المؤمن” (1تيمو 5: 8). لكن هناك الكثيرون ممن يُعوزهم الخبز واللبس اللائق ، ومع ذلك ينقادون الى ضجيج وعّاظ الغفرانات المضلّل فيَسلبون أنفسهم ويزيدون فقرهم، من أجل أن يزيدوا غنى بائعي الغفرانات.

-47-

يجب تعليم المسيحيين أن شراء الغفرانات إختياريّ، وليس أمراً إلزامياً.

لقد قلت تكراراً ان الغفرانات على قائمة الأمور المسموح بها ولكنها ليست مفيدة. يسمح بها على نحو ما يُسمح بكتاب الطلاق (تث 24: 1 – 4 )، وكتاب تقدمة الغيرة (عدد 5: 15)، كما وردا في العهد القديم.

-48-

يجب تعليم المسيحيين أنه عندما يمنحهم البابا الغفرانات، فإنه يحتاج الى صلواتهم ويرغب فيها أكثر مما يرغب في نقودهم.

قد يضحك معلمونا ومعهم البلاد الخاضعة للسلطة البابوية وأعوان الإدارة البابوية وشركائها على هذه القاعدة. ومع ذلك، لا أراها إلاّ صواباً وحقاً، لأن البابا يرغب قبل أي شيء آخر في صلوات رعاياه، كما رغب الرسول بولس عدة مرات وطلب من رفقائه المسيحيين. وإن هذا الأمر أحد الأسباب الذي يُبرّر منح الغفرانات أكثر من بناء ألوف الكاتدرائيات. لأنه إذا أخطأ البابا فإنه يجرّ الضرر الكبير على الكنيسة كلها، وها هو الآن عرضة لذلك،  لأنه محاط بل محاصر من أعداد كبيرة من الأهوال المفزعة والأبالسة والناس الأشرار، ممن يشيعون بصوتهم السامّ ويقولون: “من غير المحتمل ولا يمكن افتراضه أن يُخطئ هذا الشخص البارز الممتاز”. وفي الواقع يفترض الناس ان البابا لا يُخطئ، ويُسلّمون بهذه العصمة، ولكن افتراضهم مشكوك في حقيقته. وقد كتب القديس برنارد  عن هذا الموضوع الى البابا إيجينيوس على نحو شيّق للغاية في كتابه “رأي وتفكير” consideration .

-49-

يجب تعليم المسيحيين أن غفرانات البابا نافعة لهم ما داموا لا يضعون ثقتهم بها، ولكنها لا طائل فيها مطلقاً إذا تركوا مخافة الله واستغنوا عنها بسبب الغفرانات.

عندما قلت أن الغفرانات نافعة، لم أقصد أنها نافعة لجميع الناس، بل قصدت “الشيوخ والغيورين على أعمال التبرير”. إن إعفاء مثل هؤلاء من العقوبات خير  من أن يتحملوها كارهين. وبرغم ذلك، بما أنهم مُنحوا حقّ الاختيار لشراء الغفرانات تفادياً لشرّ أكبر، لا ينبغي لهم أن يبتهجوا ويتمتّعوا بها ويشعروا بالأمن والتحرّر من الخطر واضعين ثقتهم بها.

تأمّل خطر الغفرانات: هناك المبشرون بها يُنادون بما هومخالفٌ لقدسيّة الصليب وحقّ مخافة الله ، فترى الناس يُهرعون الى شرائها ويعتدّون بها ويحسبونها إنجيل الله المقدّس. ولكنها في الواقع ليست من الله، كما يقول الرب نفسه: “أنا أتيت باسم أبي فلم تقبلوني. وإن أتاكم آخر باسم نفسه تقبلونه” (يو5 : 43).

وأودّ أن أضيف هذا البرهان: هناك إنسانٌ يعمل أعمال المحبّة بغيرة وحماسة شديدتين، لكن حتى هذا الإنسان لا يستطيع أن يعتمد على هذه الأعمال ولا أن يشعر بالثقة بخلاصه بفضلها. فواعَجَباً حتى أيّوبُ الصّدّيق يُصرّح:  “تخوّفت من كل أعمالي لعلمي بأنك لن تبرّرني” (9: 28). ويقول صاحب المزمور (112: 1) وكذلك كاتب (سفر ام 28: 14): ” طوبى للإنسان الذي يخشى الرب في كل حين”. فكم بالأقل يجب أن نضع اتكالنا على الغفرانات التي هي أقلّ قيمة من تلك الأعمال بكثير. إني لا أجد طريقاً الى فهم الثرثارين إيّاهم إلاّ أنهم يخدعوننا كي يبتزّوا المال، إنهم يشبهون الوبأ الذي يتفشّى في الدّجى (2 تس 2: 11 و مز91: 6).

-50-

يجب تعليم المسيحيين، أنه لو علم البابا بابتزاز المال الذي يسلبه وعّاظ الغفرانات قهراً، لفضّل أن تُحرق كاتدرائية القديس بطرس وتُترك خراباً، بدل أن يبنيها بجلد خرافه ولحمهم وعظمهم.

بعد أن طلب “صيّادونا الطرائد بالحرص والاستقصاء”، وفرضوا على كل مسيحيّ مبلغاً معيّناً من المال على حسب وضعه المادّي، تمادوا في غيّهم وطلبوا الزيادة، فعلّموا النساء أن يخرجن ويستعطين، وذلك ضدّ إرادة أزواجهن. وكذلك علّموا الرهبان المستجدّين أن يطرقوا جميع الأبواب ويجمعوا النقود بالجهد، حتى إذا كان ذلك خلافاً لموافقة رئيس الدير. وبلغ بهم الأمر، كما يُقال، إلىحثّ الناس على بيع ثيابهم وعلى الاستقراض من أي مصدر كان.

ورأيي هو: الغفرانات أتفه جميع ممتلكات الكنيسة، لا طائل فيها، ولا هي أهل للإهتمام بها ولتقديرها، والأسوأ من ذلك أنها مؤذية الى أبعد حدّ عندما يفقد أصحابها كل شعور بالخوف. ولذلك أشعر بأن هذا التعليم أهل للّعن ومخالفٌ لوصايا الله. لأن على المرأة ان تلتزم الخضوع لزوجها وعدم مخالفة إرادته في أيّ أمر من الأمور، حتى ولا في شراء الغفرانات، التي هي في غنىً عنها. وكذلك على الأخويّة الذين في سلك الرهبنة أن يقوموا بخدمتهم بالطاعة، حتى لو حصلوا بطريقة أخرى على تاج الشهادة. لا يقصد البابا أيّ شيء آخر. إنما هناك الذين يزوّرون كلامه ويقلبون الحقائق. فليعبّر شخص آخر عما في نفسه من مشاعر السخط وليصبّ جامَ غضبه، أما أنا فأتمالك نفسي وأحبسها عن فعل ذلك. وأرغب في أن أقول هذا الأمر الواحد: إنتبه أيها القارئ العزيز الى وعظهم المسموم الذي يحمل الناس على الاعتقاد أن الخلاص ونعمة الله الأكيدة معتمدان على الغفرانات، فيجعلون الأعمال الصالحة التي هي أهل للمكافأة والتقدير وكذلك وصايا الله عديمة الجدوى.

هل كانت رغبة البابا في أن يجرّد رعاياه الذين أوكلوا الى عنايته، حتى يظهر جلدهم مقابل أمور تافهة عقيمة؟ أو هل كانت رغبته في ذبحهم وهلاكهم عن طريق أولئك “السارقين اللصوص” كما يدعوهم المسيح (يو 10: 1)؟ ومن أصدق ما يُقال هذه العبارة: “الراعي الصالح يجزّ خرافه ولكنه لا يسلخها”. (قالها القيصر طيباريوس (عام 14-37م) ووردت العبارة في كتاب حياة طيباريوس للمؤلّف سوطونيوس). أما بائعو الغفرانات فلا يكتفون بسلخ الناس، بل يلتهمونهم ويبتلعون أجسادهم وأرواحهم معاً. “جوفهم هوّة، حلقهم قبرٌ مفتوح، ألسنتهم صقلوها..” (مز 5: 9).

-51-

يجب تعليم المسيحيين أن البابا مستعدّ عن طيب خاطر، بل على حسب ما يُمليه عليه الواجب، أن يُعطي من ماله الخاص، ويعوّض الكثيرين ممن تملّقهم بائعو الغفرانات المتجولون وانتزعوا نقودهم، حتى ولو اضطرّ إلى بيع كاتدرائية القديس بطرس.

أذاب القديس أمبروسيوس  الآنية المقدّسة لافتداء الأسرى وتحريرهم. وكذلك وهب القديس باولينوس  كل ممتلكاته الهائلة، وكان غنياً جداً، الى الكنيسة.. وفي هذه الأيام، اللهمّ، كم من الناس يحملون الحطب، أو ينقلون نقط الماء الى البحر، من أجل أن يُلقوا فلس الأرملة في صندوق الكنيسة، صندوق ديانة العالم بأسره، كما يسمّيها القديس جيروم.

-52-

إنه لعبثٌ أن يعتمد المرء على صكوك الغفران من أجل الحصول على الغفران، حتى لو وضع مندوب الغفرانات، أو حتى البابا، نفسه رهناً عنده.

إنهم يجرؤون على الدّفاع عن هذا التعليم الرهيب البشع ولا يستحون من فعلهم هذا، فيسلبون الناس مخافة الله، ويسلّمونهم من طريق الغفرانات الى غضب  الله، وإنهم يعارضون قول ذلك الحكيم: “لا تكن بلا خوفٍ من قِبل الخطيئة المغفورة” (يشوع بن سيراخ 5: 5)، وقول صاحب المزمور: “من الذي يتبيّن الزلاّت؟” (مز 19: 12). ليت كل عظة تهلك وتزول الى الأبد التي تُقنع الإنسان بأنه يجد الأمان والثقة في أيّ شيءٍ مهما كان، ما عدا رحمة الله المجرّدة الطاهرة والتي هي المسيح. ها جميع القديسين لا يخافون فقط بل يصرخون قانطين يائسين: “لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لا يتبرر قدامك حيّ” (مز 143: 2). وقد اخترع بعضهم القصّة التالية جواباً على دوّامة الباطل هذه، وهي لا تخلو من الصحّة كل الخلوّ، قال: وصل أحد الأموات الجحيم، وكان يحمل رسائل الغفران، فطلب الإعتاق والخلاص بفضل هذه  الرسائل. فجاء إبليس ليقابله، وبينما كان يقرأ الرسائل أمام حرّ النار، أذاب لهيبها الشمع الذي يُختم به والتهمته مع الرسائل التي خُتم عليها وهي في يدي إبليس، فجرّ ذلك الشخص معه إلى أسفل الجحيم.

-53-

إن الذين يمنعون الوعظ بكلمة الله منعاً تاماً في بعض الكنائس، حتى يكمل الوعظ عن الغفرانات في الكنائس الأخرى، إنما هم أعداء المسيح والبابا.

إن رغبة البابا في أن يُبشّر بكلمة الله فوق كل شيء وفي كل مكان وزمان، لواجب من واجباته وهدف من أهدافه. فإنه يعرف أن المسيح قد أمره بذلك. كيف يُمكننا إذاً أن نُصدّق أنه يُعارض المسيح نفسه؟ لكن وُعّاظنا يجترئون  على اعتقاد ذلك، كما هم يعتقدون شتّى الأمور الأخرى.

-54-

إنه لمن دواعي الاستهانة بكلمة الله والاستخفاف بها، أن يُخصّص في العظة الواحدة وقت للكلام عن الغفرانات مماثل للكلام عن كلمة الله أو حتى أطول منه.

هذا واضح بما فيه الكفاية، نظراً لسموّ منزلة كلمة الله، ولضرورة التبشير بها. بينما الوعظ عن الغفرانات لا طائل فيه ولا هو ذو قيمة تُذكر.

-55-

من غير ريب ، أن رأي البابا في الاحتفال بالغفرانات، إذا تمّ بجرس واحد وموكبٍ واحد وطقس دينيّ واحد، فمن البديهي ان يحتفل بالتبشير بالإنجيل، بمئة جرس ومئة موكب ومئة طقس دينيّ، لأن الغفرانات عديمة الأهمية، أما الإنجيل المقدس فهو أعظم الأمور وأهمّها.

ليس في الكنيسة مما يجدر الاهتمام به أعظم من الإنجيل، لأن الكنيسة لا تملك شيئاً أثمن منه وأنفع. ولذلك كان الإنجيل الشيء الوحيد الذي أمر به المسيح تلاميذه في أوقات عديدة مختلفة. ويقول بولس الرسول (1 كو 1: 17): “إن المسيح لم يُرسلني لأعمّد بل لأبشّر بالإنجيل”. كذلك أمر المسيح بأن يُحتفل بسرّ العشاء الرباني فقط من أجل إعلام الناس به والإخبار عنه وجعلهم يذكرونه، كما يقول بولس الرسول في (1 كو 11: 26): “فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تُخبرون بموت الربّ إلى أن يجيء”. إن إلغاء السرّ أفضل من عدم المناداة بالإنجيل. وقد قررت الكنيسة أن لا يجري الاحتفال بسرّ العشاء الرباني بدون قراءة الإنجيل. لذلك وضع الله أهمّيّة على الإنجيل أعظم من السرّ المقدّس، لأن الإنسان لا يعيش حياة الروح بدون الإنجيل، ولكنه يعيشها بدون السرّ. “ويحيا الإنسان بكل كلمة تخرج من فم الله” (متى 4:4)، وكذلك يعلّم الرب نفسه هذه الحقيقة بتفصيل تامّ في الأصحاح السادس من إنجيل يوحنا. الإنجيل المقدّس، إذاً، يُجدّد المؤمنين الذين أصبحوا جزءاً أو عضواً في جسد المسيح. لأن الإنجيل هو سيف الروح، الذي يخترق الجسد، ويُبدّد مملكة الشيطان، ويَغنم ممتلكات الأقوياء، ويُنمي جسد الكنيسة. أما السرّ المقدّس فإنه يُساعد الذين ينعمون بالحياة فقط، بينما يؤاتي الإنجيل المساعدة للجميع. كانت الكنيسة الأولى تسمح لطلاّب المعموديّة والمرضى والمتلبّسين بالشيطان أن يبقوا إلى ما بعد قراءة الإنجيل، وثم كانوا ينصرفون من الكنيسة، حيث يبقى فيها الذين يقتربون الى مائدة الرب.

-56-

إن كنوز الكنيسة التي يُخرج منها البابا الغفرانات ويوزّعها، لم يتمّ بحثها بالتفصيل مع المسيحيين، ولا هم يعرفونها المعرفة الكافية.

أدرك أنني أواجه هنا معارضةً قويّة، وأسمع المناداة بالحكم عليّ بالموت مرّة أخرى. لأنني بعد أن دافعت عن قضايا كثيرة بيّنة وبادية للعيان، وأكّدتها بإيراد الدليل والحجّة، آخذ الآن في بحث القضايا الغير مألوفة والتي لم يتمّ الاطّلاع عليها على نحو جيّد، علّني أصل الى الحق، وبإمكان القارئ أو السامع او الباحث المدقّق في أمور الفساد الهرطوقي أن يكون شاهدي.

-57-

من الجلي أن الغفرانات ليست كنوزاً مؤقّتة ومحدودة المدّة، لأن الكثيرين ممن يبيعونها لا يوزّعونها مجاناً حتى تنفق، بل يقومون بجمعها فقط.

الاختبار يجعل هذه القاعدة حقيقة واضحة.

-58-

وليست هي استحقاقات المسيح والقديسين، لأن هذه الاستحقاقات تنشئ دائما، وحتى بدون البابا، النعمة للإنسان الباطني، والصليب والموت والجحيم للإنسان الخارجي.

إن جوهر هذه القاعدة راسخ في قلوب جميع المعلمين تقريباً، وحقيقتها عزيزة عليهم. لذلك سأبحثها بكل تفصيل وبكل حزم وثقة.

أولاً : بما يتعلّق باستحقاقات القدّيسين:

مما يقال أن القديسين ساهموا في أعمال صالحة أثناء حياتهم تزيد على ما كان مطلوباً منهم لخلاصهم. أي أنها لم تفرض عليهم ولم يكن عملها واجباً عليهم ولم تتم المكافأة عليها لحد الآن، بل أودعت خزينة الكنيسة، وهكذا أصبحت تؤاتي الناس بعض التعويض عن طريق الغفرانات.

إني أعارض هذا الزعم في مناقشتي التالية:

1- هذا يعني أن سلطة المفاتيح في هذه الحالة لا يصدر عنها أي غفران، بل يقتصر عملها على تحويل الأعمال، الأمر الذي يُعارض كلمة المسيح: “كل ما تحلّونه..” (متى 16: 19). ولوكان هناك بالفعل  أعمال خلّفها القديسون مما يُمكن استعمالها لخلاص الآخرين، لما تركها الروح القدس ضياعاً، بل وهبها للمحتاجين الى المساعدة.

2- ليست هناك أيّة أعمال من أعمال القديسين لم تتم مكافأتها، لأن الله يكافئ الإنسان أكثر مما يستحق. كما يقول القديس بولس: “فإني أحسب أنّ آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجدِ العتيدِ أن يُستعلن فينا” (رو8: 18).

3- ليس هناك أحد من القديسين ممّن أتمّ وصايا الله على نحوٍ وافٍ وكافٍ في هذه الحياة. وبناءً عليه لم يقوموا بأيّة أعمال فائضة، ولم يتركوا شيئاً لتوزيعه عن طريق الغفرانات. أعتقد أن الاستنتاج واضح بما فيه الكفاية، ولكني سأتابع برهاني حتى لا يبقى هناك أيّ مجال للشك.

أبدأ بقول السيد المسيح: “متى فعلتم كلّ ما أُمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون” (لو 17: 10). أما العبارة “عبد بطّال” فإنها تشير الى الشخص الذي عمل أقل مما هو مطلوب منه، وليس زائداً عليه. وأنتقل ثانياً الى (متى 25: 9): حيث قالت الحكيمات للجاهلات: “لعلّ الزيت لا يكفي لنا ولكنّ”. وثالثاً يقول الرسول بولس (1 كو3 : 8): “كل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبه”. فهو لا يقول “على حسب تعب شخص آخر”. ورابعاً ورد في رسالة غلاطية (6: 4 و 5): ” ولكن ليمتحن كل واحد عمله وحينئذٍ يكون له الفخر من جهة نفسه فقط لا من جهة غيره. لأن كل واحد سيحمل حمل نفسه”. وأيضاً يقول بولس في (2 كو 5: 10): “لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع”. وخامساً، يجب على كلّ قدّيس أن يحبّ الله علىقدر ما يستطيع، بل أكثر مما يستطيع، ولكن أحداً لا يفعل ذلك ولا يستطيع ذلك. سادساً، لم يعمل القديسون حتى في استشهادهم وموتهم وعذابهم أكثر مما هو مطلوب، ولم يتجاوزا المطلوب قط. سابعاً، لم يأتِ معارضيّ بأيّ برهان على دعم موقفهم إلاّ بسرد بعض الحالات، ولكنهم لا يستندون الى الكتاب المقدس أو الى معلّمي الكنيسة أو المنطق السليم.

وأستشهد الآن بأقوال الآباء القديسين فإنهم مصدر ثقة. وأبدأ

أولاً بقول القديس أوغسطين المأثور: “كل القديسين بحاجة الى أن يُصلّوا: (واغفر لنا ذنوبنا)، مع أنهم قاموا بأعمالٍ صالحة، لأن المسيح لم يستثنِ أحداً عندما علّمنا أن نصلّي”. ومن البديهي لم يترك هؤلاء الذين يعترفون بخطاياهم أيّ فائض من الاستحقاقات.

ثانياً، جاء في (مز 32: 2): “طوبى لرجلٍ لا يحسب له الرب خطيّة”. وفي المزمور ذاته (عدد 6): “لهذا يُصلّي لك كلّ تقيّ”. ويفكّر القدّيس جيروم (هيرونيموس) مليّاً بهذا المزمور ويعلّق عليه في أحد كتبه: “لو كان قدّيساً كيف أمكنه أن يُصلّي من أجل آثامه؟ ولو كان آثماً لماذا يُدعى تقيّاً وقدّيساً؟”.

ثالثاً، يقول القدّيس أوغسطينوس في كتابه “الانسحاب والانكماش” في الجزء الأول منه : “يحصل إتمام جميع الوصايا عندما تُغفر تلك الوصية التي لم يتمّ إنجازها”. فإنه ينفي أن القدّيسين قد أتمّوا كل الوصايا، إن إتمامها لا يحصل من قِبل الإنسان، بل عن طريق مغفرة الله.

رابعاً، يكتب المؤلّف نفسه في كتابه الاعترافات، الجزء التاسع: “الويل لحياة البشر، مهما كانت جديرة بالثناء والتمجيد، إذا كان الحكم عليها بدون الحنوّ والرّحمة”. أنظر كيف يُعوز القديسين أنفسهم الرحمة في حياتهم. ويُضيف أيوب على ذلك: “لأني وإن تبرّرت لا أجاوب بل استرحم ديّاني” (ص9: 15).

خامساً، يستشهد أوغسطينوس بعشرة من آباء الكنيسة الأوّلين، وذلك في كتابه ضدّ جوليان، وأيضاً في كتابه “بخصوص الطبيعة والنعمة”، ويورد هذه الآية المناسبة من الكتاب المقدس (1 يو 1: 8): ” إن قلنا أنه ليس لنا خطيّة نُضلّ أنفسنا وليس الحقّ فينا”.

بناءً على هذه الشواهد المذكورة، وهناك أخرى كثيرة لا يسع الوقت أن أعددها بالتفصيل، فإني استنتج أن ليس للقدّيسين فائض من الاستحقاقات، مما قد يُساعد الكسالى من المؤمنين. وإني أصرّح جزماً بأنني لا أشك في هذه الأمور التي قلتها الآن، بل أنا مستعدّ لأن أواجه الموت حرقاً في سبيل الدفاع عنها، وأؤكّد على أن كل معارض هو منشقّ عن الإيمان القويم. وأودّ في الختام أن ‎أورد مقطعاً من إحدى عظات القديس أوغسطين، التي ألقاها بمناسبة الاستشهاد قال: “ليست أعياد الشهداء غفرانات، بل عظات تحضّنا على الاستشهاد، كي لا نتردّد في محاكاة الشهداء ونأتي بمثل ما نودّ نحن أن نحتفل به”. وأضيف هذه الملاحظة أيضاً: إن الكنيسة هي شركة القدّيسين، يعمل كل فرد من أفرادها من أجل الاخر، كأعضاء في جسم واحد. وهذا ما فعله القديسون أثناء حياتهم، إذ كانوا يتشفّعون للآخرين.

ثانياً: أما بخصوص استحقاقات المسيح: إنها ليست من كنوز الغفرانات بل من كنوز الكنيسة، ولا ينكر هذه الحقيقة إلاّ المنشقّ عن الإيمان الصحيح. لأن المسيح هو فِدية العالم ومُخلّصه، وفي الواقع هو كنز الكنيسة الوحيد.

لا يوجد أيّ برهان يستند الى الكتاب المقدس والمنطق السليم على أن استحقاقاته مصدر الغفرانات التي توزّعها الكنيسة، الأمر الذي يعرّض الكنيسة إلى سخريّة أعدائها وأعداء صليب المسيح. ولذلك يقول القديس بطرس (1 بط 3: 15): “أنه يجب أن تكونوا مستعدّين دائماً لمجاوبة مَن يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم”. وينصح الرسول بولس تيطس (1: 9): “لكي يقدر الأسقف أن يعظ بالتعليم الصحيح ويُحاجّ المناقضين”. ولا يستند إصرار الكنيسة على الغفرانات إلاّ إلى رغبة البابا ورجال الكنيسة، وهو أمر لا يكفي لمواجهة المناقضين.

وينطبق ما سبق وقلته عن استحقاقات القديسين على موضوع استحقاقات المسيح، إذ يقتصر عمل الكنيسة على تحويل الاستحقاقات من أشخاص الى آخرين. أما القانون الكنسي فيقول في كتاب “في ما يتعلّق بالندامة” (cum ex eo) : “إن الغفرانات تُضعف التكفير المتعلّق بالندامة”، ولا يقول: “إنّه يحوّل”. كما أن هذا التحويل لا ينطبق على قول المسيح: “كل ما تحلّونه أنتم…”. ثم إن إتّخاذ استحقاقات المسيح من أجل إلغاء بعض العقوبات الكنسية لا يدلّ إلاّ على عدم إيلاء استحقاقات المسيح الاحترام اللائق بها، لأن إلغاء العقوبات، وهو يمنح للكسالى فقط، من أرخص ما تملكه الكنيسة، ولكن استحقاقات المسيح الجليلة الأهمّيّة فقادرة على أن تهب الخلاص بدون سلطة المفاتيح.

يقول القدّيس توما الأكويني والقديس فنتورا أنه لا يوجد هناك أمر بشراء الغفرانات وهي أقلّ أهميّة من الأعمال الصالحة. إذاً ليست الغفرانات أعمال المسيح. وبخصوص ما يقوله المناهضون، فإني أنصح القارئ أن يتبع تعليم القديس يوحنا (1 يو 4: 1): “لا تصدّقوا كل روحٍ بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله”.

ومما يبرهن على أن استحقاقات المسيح ليست كنوز الغفرانات، هو أنّ أحداً من المؤمنين لا يحصل على نعمة الندامة بدون ان يحصل في الوقت نفسه على استحقاقات المسيح. إنه يكتسب كنز هذه الاستحقاقات قبل أن يتسلّم الغفرانات، ولا تنفعه هذه الأخيرة شيئاً بدون الأولى. لأن المؤمن يرجع الى نعمة الله عن طريق الندم، كما رجع الابن الضالّ إلى أبيه الذي استقبله بكل شوق ومحبة (لو 15: 11 –32). ونقرأ في رسالة رومية (8: 32): “كيف لا يهبنا الله أيضاً معه (أي مع ابنه) كل شيء‎؟”

وأخيراً، أشير الى أن برهان هذه القاعدة موجود في كلماتها هي، أي أن استحقاقات المسيح والقديسين تعمل عملاً ثنائيّاً بدون البابا، إنها تُحدث عملاً مميّزاً بها، وعملاً آخر مخالفاً عنها. فالأعمال التي تتميّز بها هي النعمة والبرّ والحقّ والصبر واللطف، وهذه ظاهرة في روح الإنسان الذي سبق الله فعرفه وعيّنه. لأن برّ المسيح واستحقاقاته تؤتي التبرير ومغفرة الخطية، كما يقول يوحنا المعمدان: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطيّة العالم” (يو1 : 29). ويقول اشعياء (43: 24و 25): “لقد استخدمتني بخطاياك وأتعبتني بآثامك. أنا أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي، وخطاياك لا أذكرها”، أي إنه يمحوها باستحقاقات آلامه.

وأودّ أن أسلّم بأن استحقاقات المسيح كنز، إذا جاز هذا التعبير، وأفضّله على غيره من التعابير، ولكني لا أقصد به كنز الكنيسة بل كنز الله الآب، لأن المسيح أحرز لنا بتشفّعه أمام الله غفران الخطايا.كما هو مذكور على نحو رمزي (أيوب 42:8): “لأني أرفع وجهه” أي أقبل توسّطه. ويقول الرسول (عب 12: 24): “قد أتيتم إلى وسيط العهد الجديد يسوع والى دم رشٍّ يتكلّم أفضل من دم هابيل”. لأن دم هابيل يصرخ طالباً الغضب والانتقام، أمّا دم المسيح فيصرخ طالباً الرحمة في تشفّعه لنا.

وتعمل استحقاقات المسيح عملاً مخالفاً له، وهذا ما يدعوه اشعياء (28: 21): “ليعمل فعله فعله العجيب، وليعمل عمله عمله الغريب”. أي إن اسحقاقات المسيح تُحدث الصليب والجهد العسير وكلّ أنواع العِقاب، وفي الأخير الموت والهلاك للجسد لكي يبطل جسد الخطية (رو 6: 6)، ويقول الرسول أيضاً (كولوسي 3 : 5): ” أميتوا أعضاءكم التي على الأرض”، لأن كل من اعتمد في المسيح وتجدّد عليه أن يكون مستعدّاً لاستقبال آلام المعاملات القاسية وحتى الموت، الى حدّ أننا “من أجلك نُمات اليوم كلّه. قد حُسبنا مثل الغنم للذبح” (مز 44: 22). وكذلك (مز 38: 17): “وأنا قريب من الزّلل، ووجعي لديّ كل حين”. وهكذا ينبغي لنا أن نكون مشابهين صورة ابن الله (رو 8: 29)، وإن كل من لا يحمل صليبه الخاص ويتبعه لا يستحقّه (متى10: 38)، حتى ولو كان مملوءاً بكل أنواع الغفرانات.

ينتقل لوثر الآن ليشنّ غارةً شعواء على اللاهوت السكولاستي ، فيسمّيه اللاهوت الخدّاع، من هنا ترى أنه منذ أن ظهر اللاهوت السكولاستي أخذ لاهوت الصليب أو لاهوت الشهادة يبطل وأخذ كل شيء ينقلب رأساً على  عقب. إن لاهوت الصليب ( اللاهوت الذي يتكلم عن الله المصلوب والخفي)، يعلّم أن الآلآم المريرة والمعاملات القاسية التي تنزل بالإنسان وتحمل معها شتّى أنواع الإذلال والموت خسفاً، إنّما هي أثمن الكنوز، وتفوق جميع الذخائر المقدّسة، والتي قد كرّسها ربّ هذا اللاهوت نفسه، ليس بمقاساتها بجسده الفائق الطهارة فحسب، بل بتقبّله إيّاها بسرور إلهيّ مقدّس وعن طيبة خاطر، وقد ترك لنا هذه الذخائر لنقبّلها ونطلبها ونعانقها حبّاً. يا لهناء  الإنسان الذي يعتبره الله أهلاً لأن يُعطى ذخائر المسيح، أو على الأصحّ ذلك الإنسان الذي يُدرك أنها أعطيت له، فقد أصاب الحظ السعيد حقاً ويقيناً. ومَن من الناس لم تُعرض عليه؟ كما يقول القديس يعقوب (1: 2): “إحسبوه كلّ فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوّعة”. لأنه ليس جميع الناس نالوا هذه النعمة وهذا المجد وحصلوا على هذه الكنوز، بل المختارون من ابناء الله فحسب.

كثيرون هم الذين يحجّون الى روما والأماكن المقدّسة ليشاهدوا رداء المسيح، وعظام الشهداء وأماكن القديسين وذخائرهم  التي خلّفوها، وهي أمور نؤكّد على عدم إدانتها. ولكن مما يبعث على الأسى الشديد أننا لا نتعرّف في الوقت نفسه الذخائر الحقيقيّة ولا نقدّرها حق التقدير، ألا وهي الآلآم وتحمّل البلايا التي قدّست عظام الشهداء وذخائرهم وجعلتهم أهلاً للتوقير العظيم. إن عدم تمييزنا هذه الذخائر الحقيقيّة يحول دون الحصول عليها عندما تُقدّم لنا في موطننا، بل يجعلنا نرفضها بكل قوّتنا ونطردها عنا. وكان الأجدر بنا أن نطلب من الله بدموع متواصلة مخلصة أن يعطينا هذه الذخائر البالغة القدسية، وهي الهبة المعدّة لأبناء الله المختارين. ويتغنّى المزمور السادس عشر والمزمور الثمانون بصليب المسيح وآلامه وهما لا يتغنيان بسواها.

إن كانت ذخائر البشر وكنوزهم تُحفظ في أوعية الذهب والفضّة والحجارة الكريمة والحرير، فكم بالحري ينبغي حفظ ذخائر المسيح وكنوزه في أوعية سماويّة، أوعية حيّة نابعة من العقل، أوعية خالدة ونقيّة ومقدّسة، أي في قلوب المؤمنين التي لا يضاهيها في الثمن كل ذهب وكل حجر كريم. لكن اللاهوتي السكولاستي المُفاخر المتباهي لا يُدرك الإله المصلوب الخفي وحده كما أدركه الرسول بولس ( 1كو 2: 2)، الذي يرى ويتكلّم عن أمور الله التي أظهرها للوثنيين، وكيف أن طبيعته الغير منظورة بالإمكان إدراكها بالأمور التي تُرى (رو 1: 20)، وكيف تكون قدرته السرمديّة ولاهوته حاضرتين في كل مكان. أما اللاهوتي المفاخر المتباهي فإنه يتعلّم من أرسطو أن الإرادة تبغي الخير، وأن الخير جدير بالمحبة، بينما الشر جدير بالكراهية. ويتعلّم أن الله هو الخير الأعلى وجدير بالمحبّة الى أبعد الحدود، ويختلف في الرأي عن لاهوت الصليب والشهادة، إذ يُعرّف معنى كنز المسيح بأنه يُلغي العقوبات ويصفح عنها، وهي أمور جديرة بالكراهية الشديدة. ويقابله لاهوت الصليب والشهادة فيعرّف معنى كنز المسيح بأنه فرض الواجبات والالتزام بالعقوبات، وهي أمور جديرة بكل تقدير ومحبّة. ولا يزال لاهوت المباهاة والمفاخرة يتقاضى النقود مقابل كنزه، بينما لاهوت الصليب والشهادة يؤتي استحقاقات المسيح مجانا. لكن الناس لا يُعيرون لاهوت الصليب والشهادة أيّ اهتمام، بل يعتبرونه مستأهلاً للرفض والاهمال.

ولكن من يحكم بين هذين الإثنين، لنعرف إلى أيّ منهما ينبغي أن نُصغي؟ أنظر، ها النبي اشعياء يقول (66: 4): “وأنا أيضاً أوثر ما يسخرون منه يقول الرب”. ويقول الرسول بولس (1 كو 1: 27): “إختار الله الضعيف من العالم ليخزي القوي”. أما إذا رضي المرء بهذا الحكم واعتبره صواباً فلا يبقى لنا شيء إلاّ أن نعترف بالحقيقة، وهي أن كنوز الغفرانات تؤتي أعظم الأذى والضرر إذا اعتبرت غافرة لجميع العقوبات، وليس للعقوبات التي تفرضها الكنيسة فحسب. فليس هناك أذىً أعظم من إزالة صورة ابن الله وحرمان الناس تلك الكنوز التي اعتزّت بها القدّيسة Agnes  واعتبرتها مفخرة السعادة والبركة، وأشارت إليها بأنها حجارة كريمة وجواهر جميلة وعقود ثمينة الخ.

-59-

قال القدّيس لورنتيوس  (لورنس) أن فقراء الكنيسة كنوز الكنيسة. ولكنه تكلّم على حسب استعمال الكلمة في عصره وزمانه.

إن لكلمة “كنز” معنىً مختلفاً اليوم، فالناس لا يصفون الفقراء بأنهم كنوز الكنيسة. ونشير بهذه الكلمة الى الدويلات والمقاطعات التي وهبها القيصر قسطنطين وقفاً وراثياً للكنيسة، (وذلك عام 321، واتسعت جداً فيما بعد. وفي العصور الوسطى المتأخّرة استعملت الوثيقة الزائفة المسمّاة “هبة قسطنطين” والتي ترجع الى القرن الثامن، من أجل الدّفاع عن حقوق البابا الشرعيّة بصفته ملكاً زمنيّاً. وبعد أن دمجت في القانون الكنسي أدخل عليها Paucapelea بعض التحريفات في النص. ويشير لوثر الى هذا الشخص بالجزء الأخير من اسمه Palea  ومعناه القشر المفصول عنه الحنطة بعد الدرس، ولذلك يتلاعب بالكلام ويقول عن ميراث البابا ، أي هذه المقاطعات التي ورثها ، كأنها “قشر بدون حبّ”. لذلك يقول الله في المزمور الثاني (عدد8) مشيراً الى المسيح: ” إسألني فأعطيك الأمم ميراثاً لك وأقاصي الأرض ملكاً لك”. وقد قصد بما قاله المدن والبلدان الممتدّة من مشرق الشمس الى مغربها. ولا ينبغي لأحد أن يتكلم عن أمور الكنيسة الروحيّة بأسلوب آخر، لئلاّ يبدو لنا كأنه يتكلم بلسان أعجميّ مُبهم، على رغم إشارة القديس لورنتيوس الى ممتلكات الكنيسة وثروتها، مع أنه لم يتكلم على وجه الحصر.

-60-

إننا نقطع جزماً بأن مفاتيح الكنيسة هي ذلك الكنز، إذ هي هبة استحقاقات المسيح للكنيسة.

لو سمّي استحقاق المسيح أيضاً سلطة المفاتيح، لكان المعنى واضحاً. لأن أحداً لا يشكّ في أن كل ما أعطي للكنيسة إنما هو عطية استحقاق المسيح.

-61-

لا شكّ في أن سلطة البابا وحدها تكفيه لكي يلغي العقوبات ويمنح الحلّ في القضايا التي احتفظ بها لنفسه.

برهان هذه القاعدة هو الصيغة التي اعتاد البابوات استخدامها في إصدار المراسيم وقضايا الحلّ والربط، والتي لا تتضمّن أيّة إشارة الى استحقاقات المسيح، بل كلّ ما يقوله البابا هو: “نابع من كامل سلطته، ويقين معرفته، ومبادرته الخاصّة”.

وبرهان آخر هو الرأي السائد أن منح الغفرانات يتمّ بناءً على كلمة المسيح: “كل ما تحلّونه…” (متى16: 19). ويعتقد أصحاب هذا الرأي أن كلمة المسيح هذه ليس لها فعاليّة إلاّ إذا أعطت البابا سلطة منح الغفرانات. ولكنهم يتمسّكون بأن كنز الغفرانات ومصدرها هما استحقاقات المسيح. أما كلمات الرب فلا تشير الى استعمال الاستحقاقات، بل الى السلطة فقط.

لو كان رأيهم صائباً، لكانت استحقاقات المسيح تنطبق أيضاً على حالات الحلّ والربط الأخرى، مثلاً على ذلك،  أن يقوم البابا استناداً الى وظيفته الكهنوتية بأن يحرم ويحلّ، ويرسم الكاهن ويجرّده من سلطته، ويصدر المراسيم ويُلغيها، ويأمر وينهي، ويمنح الإعفاء ويُجري التغييرات ويصدر التفسيرات. ولكن هذه القضايا ليست بحاجة الى استحقاقات المسيح لأنها تستند الى كلمة الرب (متى16: 19) وحدها. فإذا لم تكن استحقاقات المسيح ضروريةّ في هذه الحالات، بل يكفيها سلطة المفاتيح وحدها، فكم بالحري يصدق هذا الأمر على إلغاء العقوبات الكنسية التي هي ليست إلاّ حلاّ وإلغاءً. ومما يجدر باستحقاقات المسيح أن تطبّق لتشمل القضايا ذات القيمة، كمنح الإعفاء لإنسان كان محروماً، وإفساح المجال له ليعود ويُشارك في فوائد المسيح والكنيسة.

-62-

كنز الكنيسة الحقيقي الأكيد هو إنجيل مجد الله ونعمته، إنه الإنجيل الفائق القداسة.

لا يعرف القسم الكبير من الكنيسة إنجيل الله معرفة جيّدة. ولذلك يلزمني أن أتكلّم عنه بتفصيل أوسع. لم يترك المسيح للعالم شيئاً سوى الإنجيل. ولم يترك للذين دعاهم ليكونوا خدّامه مما يُنتفع به كالنقود الفضّية والأمناء والوزنات والدنانير أو ثروة أخرى، مشيراً الى هذه الكنوز أنها زمنيّة وأنّ الإنجيل هو الكنز الحقيقي الثابت الدائم. يقول الرسول بولس (2 كو 12: 14): “إنه يذخر لأولاده”. ويتكلّم المسيح عن الإنجيل كأنه كنز مخفىً في حقل (متى13: 44)، وبما أنه مخفىً فإنه في الوقت نفسه مُهمل.

وعلاوة على ذلك: وحسب ما جاء في رسالة رومية (1: 3-6)، إن الإنجيل يُبشّر بابن الله المتجسّد، وقد أعطي لنا بدون استحقاق، ونلنا به الخلاص والسلام. إنه كلمة الخلاص، وكلمة النعمة، وكلمة العزاء، وكلمة الفرح، إنه صوت العريس والعروس، كلمة الخير، وكلمة السلام. يقول اشعياء (52: 7): “ما أجمل على الجبال أقدام المبشّرين المُسمعين بالسلام المبُشّرين بالخير المسمعين بالخلاص”. ولكن الناموس هو كلمة الدّمار، وكلمة الغضب، وكلمة الحزن، وكلمة الكآبة، وهو صوت الحاكم والمدّعى عليه، إنه كلمة الاضطراب والتململ، وكلمة اللعنة، حسب قول الرسول بولس: “الناموس هو قوّة الخطيّة” (1كو 15: 56)، وكذلك  في الرسالة ذاتها (4: 15): “لأن الناموس يُنشئ غضباً”، وفي

(7: 5و13) “إنه ناموس الموت”. لا يؤتينا الناموس شيئاً سوى الضمير الشرّير، والقلب القلق، والصدر الذي يضيق عن الهمّ بسبب خطايانا، وهي أمور يُشير إليها الناموس إشارةً ولكنه لا يُزيلها، وليس باستطاعتنا نحن أن نزيلها. ولذلك يأتي إلينا نور الإنجيل، نحن الذين نُعاني الأسر، ويَغمرنا الحزن، ونرزح تحت وطأة اليأس الرهيب وضغطه الشديد، فيقول لنا: “تقوّوا لا تخافوا..” (اش 35: 4)، و”عزّوا، عزّوا شعبي” (اش40: 1)، و”شجّعوا صغار النفوس (1تس5: 14)، و”هوذا إلهكم” (اش40:9)، و”هوذا حمل الله الذي يرفع خطيّة العالم” يو1: 29). لاحظ ذاك الذي وحده يتمم الناموس عنك، والذي جعله الله برّك وقداستك وحِكمتك وفداك، وصار أيضاً كذلك لجميع المؤمنين به (1كو1: 30). فعندما يسمع الضمير الخاطئ صوت هذا الرسول بنغمته  العذبة وعبيره الزكيّ، تعود إليه الحياة، ويطفر يرتفع هنا وهناك، ويصرخ صراخ الفرح ممتلئاً ثقةً. فلا يعود يخاف الموت ولا انواع العقوبات المرتبطة بالموت، ولا الجحيم. أما اولئك الذين ما زالوا يخافون العقوبات، فإنهم لم يسمعوا المسيح وصوت الإنجيل لحد الآن، بل يسمعون صوت موسى وليس سواه.

لذلك ينبع مجد الله الحق من هذا الإنجيل. وفي الوقت نفسه نتعلّم أن تكميل الناموس لا يكون بأعمالنا، بل يتمّ بنعمة الله الذي شملنا برأفته بالمسيح، إنه لا يتمّ بالأعمال بل بالإيمان، ليس بأشياء نُعطيها لله، بل بكل ما نناله من المسيح ونشاركه فيه. يقول البشير يوحنا (1: 16): “ومن ملئه نحن أخذنا”، كما أننا شركاء في استحقاقه.

-63-

لكن من البديهي أن هذا الكنز بغيضٌ شديد البغض، لأنه يجعل الأولين آخِرين (مت20: 16).

يدمّر الإنجيل الأمور الموجودة، فهو يُخزي الأقوياء والحكماء، ويصبّ عليهم البلاء، ويجعلهم يتقلّصون فيحيلهم الى العدم وإلى الضعف والى الحماقة، لأنه يعلّم التواضع والصليب. وهكذا يقول صاحب المزمور (9: 5): “إنتهرت الأمم، أهلكت الشرير، محوت اسمهم الى الدهر والأبد”. فلينفر جزعاً من أمام قانون الصليب وحكمه جميع الذين يجدون سعادتهم في الأمور الأرضيّة وفي أعمالهم الخاصة، وليتشكّوا: “إن هذا الكلام صعب” (يو6: 60). إن اولئك الذين يرغبون في أن يكونوا ذا قدر مرموق وعظماء وأقوياء في أعين أنفسهم وفي أعين الناس، والذين يعتبرون أنفسهم “الأوّلين”، فلا غرو من أنهم يجدون كلام المسيح هذا كلاماً بغيضاً الى أبعد الحدود.

-64-

ومن ناحية ثانية، من البديهي أن يجد كنز الغفرانات كلّ قبول وترحيب، لأنه يجعل الآخرين أوّلين.

يعلّم كنز الغفرانات الناس أن يرتجفوا خوفاً من العقوبات، وإنه يحرّرهم حقاً من العقاب الذي لا ينزل إلاّ بالأبرياء. لأن أحداً من الناس لا يحتاج الى الغفرانات إلاّ عبد العقوبات، أي ذلك الإنسان الذي لا ينظر اليها شزراً ولا تحتقرها نفسه الأبيّة، بل تُرهقه عُسراً حتى يهرب من أمامها كما يهرب الطفل هلعاً من ظلال الليل والعتمة. ومع ذلك يُخلّى سبيله، في حين يخضع الأبرار لشتّى أنواع العقوبات.

-65-

لذلك كنوز الإنجيل شباك كان يُصطاد بها في ما مضى أناسٌ أغنياء .

قال الرسول: “إني لست أطلب ما هو لكم بل إياكم” (2كو12: 14). ويقول الربّ لسمعان وأخيه: “هلمّ ورائي فأجعلكما صيّادي الناس” (متى 4: 19). إن هذه الكلمة العذبة الحلوة تُرشد الإرادة وتَفتنها، بل تحمل المرء على أن يسلّم إرادته للمسيح تسليماً تاماً. وهناك صورة القديس بطرس في روما يظهر فيها صياداً، وقد كتبت هذه الجمل تحتها: “أدير دفّة سفينتي – هي الكنيسة أميلها من جهة إلى أخرى- كل أقاليم العالم هي بحري- الكتاب المقدس شبكتي-الإنسان هو السمك”.

-66-

لكن من ناحية أخرى، كنوز الغفرانات شباك يُصطاد بها في الوقت الحاضر ثروةُ الناس.

أعتقد أن ما سبق قوله يوضح هذه القاعدة. فإلغاء العقوبات لا يجعل الإنسان أكثر فضلاً مما كان، ولا يرفعه إلى درجة أعلى في التقرب من الله. إن كلمة المسيح وحدها هي التي تستطيع ذلك. أما إلغاء العقوبات فكلمات إنسان يمنح الحلّ والإعفاء، لكنه لا “يصطاد” ولا يربط. إن بائعيها لايصطادون إلاّ النقود وليس النفوس مطلقاً. لكن الرب يقول لسمعان (لو 5: 10): “لا تخف، من الآن تكون تصطاد الناس”.

لا أقصد أن أشجب مشروع التبرّع بالنقود هذا، ولكن حيث أن حملة التبرّع هذه أقل هبات الكنيسة قيمة ومركزاً من بين الهبات والمراكز التي تتولاّها، وحيث أنها ليست جديرة بنيل إكليل المجد في الحياة الآتية، وإن كانت تُدرّ دخلاً متواضعاً في هذه الحياة، فإنّ عناية الله تُعنى بأن لا تترك شيئاً بدون جزاء. إن الغفرانات كانت تُمنح للناس مجاناً في ما مضى.

-67-

إن الغفرانات التي يهلّل لها الخطباء المهيّجون ويُعزون لها أعظم النّعم، قد يفهمها المرء وقد تتصوّر له أنها كذلك حقاً، وذلك وفق مقدار الرّبح الذي تدعمه وتُعزّزه.

قد قلّ حياء تجار الغفرانات الجهّال السفهاء، فأقدموا على أن يسمّوا أقلّ الأشياء قيمة بأنه أعظمها. وتركوا الناس  يحكمون بأنفسهم في هذه الأمور ويفهمونها بقدر ما يمكنهم ذلك. وكانت النتيجة أن أخطأ الناس إذ اعتقدوا

أنه يمكنهم الحصول على هبة نعمة الله عندما يشترون الغفرانات. أما التجار أنفسهم فإنهم لا يشرحون الغفرانات ولا يفهمونها خشية أن يضطروا الى مناقضة أنفسهم، أو أن ينكشف كذبهم ويفتضح أمرهم، لأنهم ادّعوا أن أتفه الأمور هي أعظمها قيمة.

-68-

ولكنها في الحقيقة أقل النعم أهميّة وأتفهها إذا قيست وقُدّرت بنعمة الله وتقوى الصليب ورحمته.

إنها في الواقع لا طائل تحتها وباطلة إذا تمّ قياسها بنعمة الله، لأن عملها نقيض نعمة الله. وبرغم ذلك ينبغي لنا أن نتحمّلها ونصبر عليها من أجل الكسالى وبطيئي القلب، كما أشرت سابقاً.

-69-

الأساقفة ورعاة الأبرشيات ملزمون بأن يسمحوا لمندوبي الغفرانات البابويّة بالدخول بكل احترام.

إن الواجب يُلزم المرء الخضوع للسلطة البابوية واحترامها في كل الأمور. يقول الرسول بولس: “فمن يُقاوم السلطان فإنما يعاند ترتيب الله. والمعاندون يجلبون دينونة على أنفسهم” (رو13: 2). وقد قال الربّ نفسه: “مَن سمع منكم فقد سمع مني، ومن احتقركم فقد احتقرني” (لو10: 16). لذلك يجب على الإنسان أن يخضع في الأمور الصغيرة أيضاً، وليس فقط في الأمور الكبيرة. وهكذا يتّضح أنه علينا أن نولي المراسيم البابوية الاحترام وأن لا نتجاهلها، حتى ولو كانت غير مُنصفة. كما قال الإمبراطور شارلمان (كارل الكبير): “يجب تنفيذ كل ما تم فرضه من أحكام، مهما كان ذلك عسيراً”. وإننا نرى هذا العسر في الكنيسة اليوم، إنها ترزح  تحت وطأة أعباءٍ لا حصر لها، ولكنها تتحملها بسكون وبكل صلاح وتواضع.

ومع ذلك، ينبغي أن لا يفهم أحد هذا الكلام أنه يُنشئ عنده ضميراً خاطئاً، أي أن يعتبر هذه القضايا الجائرة عادلة ومُنصفة. وقد صدر عن البابا مرسوم مفاده أن بعض القضايا مما تعتبرها الكنيسة مُلزمة، قد لا تكون مُلزمة في نظر الله، ويأمر البابا بتحمّلها وتنفيذها. وفي هذه الحال يجب اعتبارها عقاباً يقبله الإنسان باحترام، على أن لا ينشأ عنه ارتباك الضمير. وعلينا للسبب نفسه أن نحترم الله في تقبّل كلّ أعمال العنف التي تنزل بنا في الحياة الدنيوية أيضاً، وأن لا نُقابلها بعدم المبالاة ولا نحتقرها. بل يجب علينا أن نحترم المراسيم الغير منصفة والأعباء المفروضة، وذلك ليس من أجل تلك الكلمة “كل ما تربطونه..”(متى 16: 19)، بل تتميماً للمبدأ الذي وضعه الرب: “بادر الى موافقة خصمك ما دمت معه في الطريق (كن مراضياً له سريعاً)”، (متى5: 25). وقال أيضاً: “مَن لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً” (متى5 : 39)، ونقرأ في (رو12: 19): ” لا تنتقموا لأنفسكم…لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الربّ”. إن هذا الموضوع بالغ الأهمية، ويحتاج الى وقت أطول وإلى بحث آخر.

-70-

ولكنهم مُلزمون بدرجة أكبر بأن يُحكموا نظرهم وسمعهم إحكاماً شديداً، خشية أن يعظ هؤلاء الرجال مبتكرات خيالهم، عوضاً عما جاء في رسائل تفويض البابا الموجّهة إليهم.

لا يقصد البابا أن يعتبر الناس الغفرانات أكثر من قيمتها الحقيقيّة. إنه راضٍ بأن يمنح هذه القيمة عن طيبة خاطر، لكنه لا يذكر مقدار القيمة التي تعادلها ولا في أيّ مكان، لأن ذلك يتعلّق به شخصياً. لكن وعّاظنا يذهبون الى أبعد من ذلك. فهم يتباجحون ويباهون من على منابرهم بأن قيمة الغفرانات تفوق جداً ما تساويه في الحقيقة. ويؤكّدون على ذلك مستندين الى الكتاب الذي صدر حديثاً بهذا الخصوص، وهو كتاب اسقف مدينة ماينتس، واسم الكتاب “مجمل التعليمات”. وينشأ من تصرّفهم هذا أن ينقاد الشعب اليهم ويصدّقهم. ولذلك يجب على الأساقفة أن يحولوا دون هذه الأحلام ومبتكرات الخيال، خشية أن تدخل الذئاب حظيرة غنم المسيح، كما عليهم أن يمنعوا وعّاظ الغفرانات من عرض أي شيء على الناس إلاّ ما جاء في رسائل تكليف البابا.

-71-

فَليكن من يتكلّم ضدّ الحق، بما يتعلّق بالغفرانات البابوية،  محروماً من شركة المؤمنين ومستوجباً اللعن.

مع أنّ منح الغفرانات أمرٌ ضئيل، مقارنةً بنعمة الله، ومع أنه يغاير قول وعّاظ الغفرانات الذين يجترئون ويرفعون أصواتهم عالياً، فبرغم ذلك، من يعارض هذا الإجراء البابوي بجفوة الكلام، فإنه يعاند السلطة الكنسية بتكبّره وعجرفته. وقد قيل بما فيه الكفاية بخصوص الغفرانات، ويبقى أن ننتظر قرار الكنيسة بشأنه. ولكن مهما قد يكون القرار النهائي، فإنه لواضح جليّ أن الغفرانات ليست إلاّ إرخاء العقوبات الزمنية وتلطيفها، وأنها أرخص هبة تهبها الكنيسة، وخاصة للذين غُفرت خطاياهم. أما غفران الخطيّة فهو أعظم هبة على الإطلاق بعد الإنجيل. لا يبالي معارضيّ هذه الحقيقة البتّة، لأنهم لا يعرفون عنها شيئاً

-72-

أما مَن يحتذر من وعّاظ الغفرانات، ويتدخّل ويكفّهم عن فجورهم وفسوقهم، فليكن مباركاً.

كانت الكنيسة في ما مضى تُبالغ في عقوبة المرء حتى على أقلّ الانتهاكات وأبسطها، لأنه لم يكن في الكنيسة تلك الوحوش الهائلة، والهاوية السحيقة، وبيع المناصب الكهنوتية وشراؤها، ولا الأبّهة الفارغة، وأعمال القتل وغيرها من دواعي البغض والمقت الشديد، التي نراها اليوم. فإذا كانت الانتهاكات الصغيرة يُعاقب عليها أشدّ العقوبات، فبأيّ شدّة يجب  معاقبة أولئك الناس الذين يعطون الأسلحة لا للأتراك وقُطاع الطرق الذين  يتربّصون لحجّاج روما، بل يعطونها للشياطين والعفاريت، إنهم لا يموّلونهم بأيّ نوع من الأسلحة الرخيصة، بل بأسلحتنا الخاصّة بنا، أي بكلمة الله، فإنهم يلوّثونها بنسيج خيالاتهم وابتكار أرواحهم التي طُبعت على الشرّ والجهل، كما قال فيهم اشعياء (40: 19)، يحوّرون كلمة الله ويسبكونها تمثالاً ويحوّلونها إلى صنم للعبادة، فلا تعود أداةً تجذب النفس وتُقرّبها من الله، بل آراءً خاطئة تُغريها وتقودها الى الضلال. وقد شكا القديس جيروم (هيرونيموس) من سوء استعمال الكتاب المقدّس الذي أصبح غير مقيّد بل متاحاً لجميع الناس، لكن ليس للتعلّم منه بل لتمزيقه، فيقول: “يدّعي الجميع فَنّ تفسير  الكتاب المقدس، فترى العجوز الثرثارة والرجل المسنّ الواهن الضعيف، والسوفسطائي المغالط، وذاك الذي يحمل الناس على الضجر لأنه يبالغ في كلامه. وبالاختصار، جميعهم يدّعون بوقاحة إتقان التفسير والمعرفة، ويُعلّمون الناس قبل أن يتعلّموا هم أوّلاً، وهكذا يُمزّقون الكتاب المقدّس إرباً إرباً”. فإن كان الذين يَحولون دون وصول الناس الى روما يُخطئون خطيّة شديدة القبح، فكيف تكون عاقبة الذين يَحولون دون وصول الناس الى السماء؟ يفعلون ذلك ليس بتعليمهم الخسيس والجدير بالازدراء فحسب، بل بأفعالهم الفاحشة القبيحة أيضاً. وأين يذهب أولئك الذين لا ينتهكون حرمة الوثائق البابويّة بل الكتب المقدسة الإلهية؟ يقول الرب: “فإنكم أخذتم مفتاح المعرفة، فلم تدخلوا أنتم والدّاخلين منعتموهم” (لو11:  52). لذلك كان المجاهدون في سبيل تنقية الكتاب المقدس جديرين بالبركة، الذين يعملون على إخراجه من ظلمة الآراء اللاهوتية السكولاستيّة والمنطق البشري، والإفضاء به الى النور اللائق به. إن كلامنا هذا قد يجعل الناس ينظرون الينا نظرة السخط كأننا أصحاب بدع في مبادئنا وأساليبنا، مثل أتباع بيلاجيوس   والدونستيّة .

-73-

كما أن البابا يفور غضباً ويتهدّد ويتوعّد مَن تُسوّلهم أنفسهم طلب الوسيلة بأيّة حيلةٍ  ممكنة ليسيئوا بها الى بيع الغفرانات.

أقول مرة أخرى ما قد سبق وقلته، أن على المرء أن يُذعن متواضعاً لسلطة المفاتيح، ويميل اليها بلطف ولا يتهوّر ويقاومها، مهما كان قصد البابا الشخصي، والوجه الذي ينويه من قرب أو بُعد. إن المفاتيح سلطة من الله ويجب احترامها، سواءٌ أكان استعمالها على نحو صحيح أم بطريقة غير مناسبة.

-74-

لكنه يُعنى بأن يُرغي ويُزبد أكثر بكثير علىأولئك الذين يتّخذون الغفرانات ذريعة إلى إنزال الأذى بالمحبّة والحق المقدّسين.

إن كان احترام سلطة المفاتيح واجباً علينا كل الوجوب ونلزمه على أنفسنا كل اللزوم، لكن هذا الواجب ينبغي أن لا يحملنا على الجبن وعدم استنكار سوء استعمال السلطة. لقد كان جميع القديسين يحترمون السلطة الدنيويّة بهذه الطريقة نفسها، والتي دعاها الرسول بولس بأنها سلطة من الله، وقال أن السلاطين الكائنة إنما رتّبها لله (رو 13: 1 – 7)، وقال هذا الكلام حتى أثناء الاضطهادات والعذابات التي أنزلتها تلك السلطة بالمسيحيين . ومع ذلك كانوا دائماً وباستمرار يستنكرون سوء استعمالها. وكان المسيحيون الأوائل يحملون السلاطين على الشعور بأعمالهم الشريرة، وقد أظهروا ذلك باستشهادهم معبّرين به عن براءتهم واعترافهم وإيمانهم. كما يقول القديس بطرس (1بط4: 15): “فلا يتألّم أحدكم كقاتل أو سارقٍ أو فاعلِ شرّ”. فإذا أقدمت الكنيسة أو البابا على حرمان شخص من الأشخاص من شركة المؤمنين بدون سبب، يجب على ذلك الإنسان أن يقبل هذا القرار ولا يدين السلطة، ولكنه في الوقت نفسه لا يقبله الى حدّ احترامه واعتباره عملاً صالحاً، أو أن يوافق ويصادق عليه، حتى ولو اضطرّ الى ان يموت محروماً.

لكن الحرمان يجب أن ينزل بالذين يعظون ويطنبون في مدحِ الغفرانات ويَصفونها بأنها هباتٌ يَمُنّ بها الله على الناس. وليست ممارساتهم هذه إلاّ معارضة الحق والمحبّة،  اللذين وحدهما يؤاتيان الإنسان نعمة الله ومنّه. ليت الغفرانات يُعدم وُجودها كي لا تنتشر هذه الأفكار وما يبتدعه الخيال. إنه يمكننا ان نكون مسيحيين بدون الغفرانات، لأنها تنقل آراءً من شأنها أن تصيّرنا خارجين عن الدين. ومن المؤكّد أن البابا لا يعتقد شيئاً ولا يرغب في شيء إلاّ أن تعمّ المحبة المتبادلة والرأفة الصادقة بين الناس قبل كل شيء آخر، وهكذا تتطوّر من هذه المحبة وهذه الرأفة وصايا الله الأخرى، فتزدهر في جوّهما، ومن ثَمّ يُمكن البابا أن يمنح الغفرانات. ولكنّه قد غُرّر به، لأن المحبة والرأفة والإيمان لم تعد تفتر فقط بل أصبحت غير موجودةً بيننا. ولو علم البابا بذلك لأمر بإزالة الغفرانات والتخلّص منها. وإني أشهدُ الربّ يسوع على قولي بأن أغلب الناس لا يعلمون أن أعمال المحبة أفضل من الغفرانات. بل العكس هو الصحيح، إنهم يعتقدون أن شراء الغفرانات أفضل عمل يُمكنهم أن يفعلوه. ليس هناك المعلّمون المُخلصون الذين يصحّحون اعتقاد الكفر والدّمار هذا. وليس هناك سوى وعّاظ الغفرانات والمروّجون لها يحثّونهم على شرائها بالتصويت العالي بأبواقهم.

-75-

من الحماقة القصوى اعتبار الغفرانات البابويّة نافذة المفعول وتمنح الإنسان الغفران الكامل والبالغ منتهى الحدود، حتى لو كان ذلك الإنسان، على سبيل افتراض المستحيل، قد انتهك حرمة والدة الإله.

إني مضطرّ الى أن أدعو أصحاب هذه المعتقدات بالحمقى، ويجب علينا أن نطلب المغفرة من العذراء المقدّسة، لأننا أجبرنا على التفكير بهذه الأفكار وقولها، وليس هناك مهرب للتفادي من هذا القول. وإني لا أعرف أيّ عمل من الأعمال الشيطانيّة الذي كان سبب هذه الإشاعات التي يُطلقها الناس عن الغفرانات البابويّة. كنت أفضّل أن استغرب هذا الأمر على أن أصدّقه، لكن أناساً موثوقاً بهم أكّدوا لي على الوعظ به في أماكن مختلفة. ولا أقصد بهذه القاعدة أن أوجّه اللوم الى أحد ممن يخطب في الناس، بل أحذّر الناس من هذا الاعتقاد، وأياً كان مصدره، فإن هذا الاعتقاد البغيض يجب أن يُقابل بكلّ إدانةٍ واستنكار.

يستند الوعظ الحقيقي الى الإنجيل فقط، وينشأ منه أن يرى الإنسان الخطية على حقيقتها وحجمها الكبير, مما يقوده الى مخافة الله والى الندامة التّامّة الملائمة. وأخيراً، ما الحكمةُ في العبارات الرنّانة الطنّانة المنطوية على المبالغة في جدوى إلغاء العقوبات الذي لا طائل تحته، من أجل رفع شأن الغفرانات. بينما لا يكاد الوعظ عن حكمة الصليب يتجاوز الهمس من الكلام، مع أنّ حكمة الصليب بالغة الفائدة. وفضلاً عن ذلك، اعتاد الناس البسطاء القلب أن يقدّروا كلمة الله ويقايسونها بمقدار الأبّهة والإشارات المعبّرة التي تواكب الوعظ، وهو أسلوب وعّاظ  الغفرانات، في حين لا يقوم هؤلاء بتفسير الإنجيل بأيّة حماسة على الإطلاق. وهكذا يجعلون الناس لا يتوقّعون شيئاً من الإنجيل المقدّس، بل يتوقّعون كل شيء من الغفرانات.

 -76-

بل نقول العكس ، ففي ما يتعلّق الأمر بالإثم، تعجز الغفرانات البابويّة عن محو أصغر الخطايا العرضيّة.

لم أشأ أن أصرّح بهذا التصريح لو لم أقصد به الرأي الذي ورد في القاعدة السابقة وأن أجعله رأياً بغيضاً جداً. فالأمر واضح مع ذلك، ان الله وحده هو الذي يغفر الإثم. لذلك لا تغفر السلطات الكنسية تلك الخطايا الكبيرة، بل تُصرّح بغفرانها فقط، ولا تلغي السلطات إلاّ العقوبات المفروضة على تلك الخطايا. وأقول هذا حسب تفسيرهم. أمّا رأيي الخاص فقد أبنته بوضوح كافٍ في ما سبق وذكرته أعلاه. ويقتضي الحال هنا أن أتكلّم أكثر عن الخطيّة العرضيّة، لأنها لا تُقدّر في يومنا هذا إلاّ تقديراً ضئيلاً، ويكاد الناس لا يعتبرونها خطية على الإطلاق. ومما أخشاه أن الكثيرين ممن ينامون مطمئنّين في خطاياهم ولا يرون أنهم اقترفوا الخطايا الكبيرة سيلاقون هلاكاً عظيماً. فإني أقول باختصار: إن الإنسان الذي ما فتئ يخاف ويتصرّف كأنه ملآن بالخطايا المميتة، يكاد لا يخلص أبداً، كما يقول الكتاب المقدس (مز 143 : 2): “لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، يا رب، فإنه لن يتبرّر قدامك حيّ (أي أحد من الأحياء)”، فالخطايا العرضيّة، كما يسمّونها على العموم، ليست وحدها التي لا تثبت أمام قضاء الله، بل حتى الأعمال الصالحة لا تثبت أيضاً، لأن كليهما ( الخطية العرضية والعمل الصالح) يعوزهما شفقة الله وحنوّه. لذلك يجب أن نتعلّم من الخوف أن نتأوّه ونشتاق الى حنوّ الله، ونضع إتّكالنا عليه. أما إذا وضعنا ثقتنا بضميرنا الخاص بدل رحمة الله، فلا نعود نعي أيّة خطيّة عظيمة قد اقترفناها. إن مثل هؤلاء الأشخاص سيلاقون دينونة رهيبة.

-77-

إن القول بأن حتى القّديس بطرس لا يستطيع أن يمنح نعماً أعظم، لو كان هو بابا الوقت الحاضر، إنما هو قول تجديف على القدّيس بطرس والبابا.

-78-

بل نقول عكس ذلك تماماً، فالبابا الحالي وكلّ بابا يملك النعم الأكبر، أي الإنجيل وقوّات روحيّة ومواهب شفاء الخ، كما هو مكتوب في (1كو12: 28).

إن جميع الذين يملكون هذه الهبات هم تحت سلطان البابا ويدينون له بالولاء والطاعة، وبإمكانه أن يرسلهم أنّى يشاء، حتى لو لم يكن يملك هذه الهبات. كم يكون البابا أعظم رحمةً وانعطافاً لو يمنح المغفرة، ويلُغي العقوبات المنصوص عليها في القانون الكنسي، لجميع المسيحيين مجاناً، فيعيد لهم الحرّيّة. ويقضي على استبداد أصحاب المناصب ممن يتعاطون السيمونيّة (بيع وشراء الامتيازات  الكنسية). ولكنه قد لا يكون قادراً على هذه الأمور، لأنّ “السيّدة في البلدان صارت تحت الجزية” (أي خادمة) (مراثي1: 1). ولكن إن كنا جديرين بالحصول على هذه الحرّيّة فإنّ “يمين الرب ارتفعت، يمين الرب صنعت ببأس” (مز 118: 16)

– 79-

إن القول بأن الصّليب المزيّن بشعارات النبالة البابويّة، والذي يرفعه وعّاظ الغفرانات منتصباً عالياً، يُعادل قيمة صليب المسيح، إنما هو قول تجديف.

مَن من الناس لا يرى مدى وقاحة هؤلاء الرجال؟ وهل الذين يفعلون هذه الأفعال يستنكفون من فعل أيّ شيء آخر؟ وهل يودع الى عنايتهم النفوس التي حصلت على الخلاص بدم المسيح؟ إن صليب المسيح يؤتي العالم كلّه الحياة ويُدمّر الخطيّة. ولكن الصليب المجهّز بشعارات النبالة البابويّة، لا يمنح إلاّ إلغاء بعض العقوبات. فهل ينبغي لنا اعتبار العقوبات الأبدية مساويةً للعقوبات الزّمنية في القيمة؟ ولكن لماذا أواصل ملاحقتي لهذه الأمور الهائلة المفزعة، التي لا تستطيع حتى السماء أن تتحملها، والتي انتشرت في كل اتّجاه؟

-80-

إن الأساقفة ورعاة الأبرشيّات واللاهوتيين الذين يسمحون بانتشار هذا الكلام الفارغ بين الناس، سيضطرون الى دفع ثمن عملهم.

أصبح المرء في هذه الأيام يخاف من سلطة الكنيسة، إنه يخاف من العقاب على الإساءة الى كرسي روما، وإنه عقاب بسيف ذي حدّين. ولكن لماذا هذا الخوف الذي يحمل المرء على السّكوت؟ يقول  الرب (متى10: 28): “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها”. ويقول أيضاً (متى10: 32): “كل من يعترف بي قدّام الناس أعترف أنا أيضاً به قدام أبي الذي في السماوات”. لذلك أراني أتشوّق الى معرفة الشخص الذي ابتدع تفسير سلطة المفاتيح بانها السيف ذو الحدّين، أي الحدّ الروحي والزمني. إنه لم يقصد بالروحي المعنى الذي عبّر عنه الرسول في قوله أنه “سيف الروح الذي هو كلمة الله” (أفس6: 17). لكن تفسيره يجعل البابا يظهر كرجل متسلّحٍ بسلطة مزدوجة، وليس كأبٍ محبٍّ لنا، فلا نرى فيه إلاّ طاغيةً جبّاراً. إنّ هذا التفسير لجدير بأن يُلقى في الجحيم.

ولكن الآباء الأوّلين منعوا رجال الإكليروس من حمل السلاح منعاً باتّاً . (ملاحظة: تأكيداً على ذلك المرسوم الذي أصدره البابا غريغوري  الحادي عشر، (corpus Iuris Canonici, II, col. 449. . وإني أتساءل: لماذا لا نفسّر سلطة المفاتيح على النحو ذاته بأنها إفاضة الثروة العالمية من جهة، والثروة السماويّة من جهة أخرى. وهذا يعني حسب قول الكتاب المقدس أن السيف السماوي هو سيف المعرفة “القادر على هدم الحصون وتفنيد الآراء وكلّ علوّ يرتفع ضد معرفة الله” (2كو10: 4و5). واما ثروة الكنيسة الزمنيّة فينبغي لنا أن نحافظ عليها حتى يتوقّف المبذّرون عن تبديدها وتفريقها إسرافا.

مما يحملنا على الحزن أن نرى البدع والتفسيرات الخاطئة تدخل الكنيسة، مع أن الرسول بولس يقول، وكم هو  صادق في قوله، (1كو11: 19): ” لأنه لا بدّ أن يكون بينكم بدع..”.  ومن هذه البدع أن نعمد الى حرق أصحاب البدع والأخطاء بدل التخلّص من الأخطاء ذاتها، أي الأخذ برأي (Cato) بدل مشورة  Scipio Africanus   حول مصير قرطاجنة.

وبالرغم من ذلك، إننا نرى أخطاء كنيستنا ونُقرّ بها، ولكننا لا نجاوزها، كما فعل اللاوي والكاهن في قصة السامري الحنون خوفاً من أن يصيبهما الأذى. بل نحن لا نخاف من العدوى، ولا نخجل، ولا نهرب. بل تضطرنا المحبّة الى الوقوف بجانب كنيستنا والى أن نقدّم لها العون بالصلاة والدموع والتوبيخ والابتهال الى الله. كما يقول الرسول بولس (غل6 : 2): “إحملوا بعضكم أثقال بعض وهكذا تمموا ناموس المسيح”.

-81-

هذا الوعظ عن الغفرانات الغير مُلجم والمتّسم بقلّة الحياء، يجعل من الصعب حتى على المثقّفين أن يدافعوا عن البابا ويُبطلوا تشويه سمعته والافتراء عليه، وأيضاً أن يَردّوا على المؤمنين لواذع  أسئلتهم.

حتى لو كان أصحابي يدعونني شخصاً منشقّاً وغير مُتّسمٍ بالاحترام ومُجدّفاً، لأنني لا أفسّر كنيسة المسيح والكتب المقدّسة ولا أبرز معناها وفق اتّجاه الرأي الكاثوليكي، فبرغم ذلك أعتقد أنهم يخدعون أنفسهم، لأنني أعتزّ بكنيسة المسيح وأجلّها حقّ الإجلال، معتمداً بذلك على ضميري، ومن ناحية ثانية على كلمة الرسول بولس (1 كو 4: 4): “فإني لست أشعر بشيء في ضميري، ولكن الذي يحكم فيّ هو الرب”. ولذلك أنا مُكرهٌ على تأكيد هذه الأقوال بإيراد الدليل والحجّة، فإني شاهدت البعض ممن قد أفسدتهم الأفكار الخاطئة، وهناك آخرون شرّيبي المُسكر ممن يهزأون من كهنوت الكنيسة المقدّس ويجاهرون بالسخرية منه علانية. وقد نشأ ذلك من خزي وعّاظ الغفرانات الذي لم يعد يُطاق حمله. فإنه ينبغي لنا عدم إثارة جمهور المؤمنين ولا في أية حال من الأحوال، وعدم حملهم على كراهية الكهنوت. فإننا قد نغّصنا عليهم العيش بسلوكنا الفاضح لسنين عديدة خلت، أما هم فلا يزالون يحترمون الكهنوت (وللأسف، لا لسبب إلاّ خوفاً من العقاب).

-82-

مثلاً: لماذا لا يُفرغ البابا المطهر بدافع المحبّة، وهو دافع بالغ القداسة، ومن أجل حاجة النفوس الماسّة هناك، إن كان يُخلّص نفوساً هذا عددها مِن أجل مُجرّد النقود التعيسة الخسيسة لبناء كنيسة بطرس؟ الأسباب الأولى مبنيّة على الحق بكل ما في الكلمة من معنى، أما الثانية فتافهة وباعثة على السخافة الى أبعد الحدود.

ليس البابا بل خَزَنة الكرسي البابوي ممن يتولّون حفظ امواله وانفاقها هم الذين يستفزّون الناس ويحملونهم على هذا السؤال. لأنه، وكما سبق وقلت، ليس هناك أيّ مرسوم بابوي بهذا الخصوص. فيجب على الباعثين على هذا السؤال أن يردّوا هم جوابه. أما من جهتي فإني أودّ أن أجيب عن مثل هذه الأسئلة بكلمة واحدة، بقدر ما هو ممكن قوله كرامةً للبابا، أي أنه ليس هناك مَن يُخبر الناس بحقيقة الموضوع، ومما يحدث تكراراً أنهم ينقادون الى ما يُقال لهم من الأفكار الخاطئة.

-83-

سؤال آخر: لماذا تستمرّ إقامة الجنائز والاحتفالات بالذكرى السنويّة عن أرواح الأموات؟ ولماذا لا يَردّ البابا الأوقاف التي أوقفت من أجلهم أو يسمح باسترجاعها، نظراً لأنه من الخطأ أن تقام الصلاة من أجل المخلّصين والذين تم  إطلاقهم من المطهر؟

أعرف أن هناك آخرين كثيرين مثلي قد أتعبوا أنفسهم لإيجاد ردّ على هذا السؤال. لكن جهدنا المتكرر كان عبثاً. ومما قلناه لهم، إن كانت النفوس تطير من المطهر الى السماء، فإن القداديس المُقامة من أجلهم تُسهم في تمجيد الله، كما يحدث هذا الأمر في حالات موت الأطفال والرّضّع. وقد حاول كل واحد أن يُعطي جواباً آخر، ولكن أحداً لم يُعطِ الجواب الشافي، فأنا لم أقنع بهذه الأجوبة ولم أعتبرها صحيحة. ولذلك أحيل الأمر على من هم أكثر مني ثقافةً ليعطوا جواباً لجمهور المؤمنين.

-84-

سؤال آخر: أيّ صلاحٍ صلاح الله والبابا الجديد هذا، الذي يجعلهما يسمحان لإنسان عديم التقوى وعدوٍّ لهما بأن يفتدي من المطهر بالمال نفساً صالحة وعزيزة عليه. وكان أولى لهما بأن يخلّصا تلك النفس التقيّة المحبوبة بسبب تضايق الأمر بها ومن أجل المحبة الخالصة المححضة، وليس لأيّ اعتبار آخر.

-85-

سؤال آخر: لمّا كانت القواعد التكفيريّة الواردة في القانون الكنسي قد أصبحت مُلغاةً بحكم الواقع، ومنذ زمن طويل بسبب عدم الاستعمال، فلماذا يستمر استعمالها الآن بمنح الغفرانات مقابل النقود، كأنها لا تزال أمراً ذا صلاحيّة المفعول؟

-86-

سؤال آخر: لماذا لا يبني البابا كنيسة القديس بطرس، هذه الكنيسة الواحدة على الأقلّ، من ماله الخاص، بدل مال المؤمنين الفقراء، وهو يملك مالاً يفوق مال كراسوس  أغنى الأغنياء؟

أقول في ما يتعلّق بهذا السؤال والأسئلة المشابهة أنه ليس من اختصاصنا وصلاحيتنا الحكم والفصل في إرادة البابا، بل ولو كانت أحياناً خاطئة وجب علينا تحمّلها. ومع ذلك، لا بدّ من أن يُنبّه البابا ووعّاظ الغفرانات الى ضرورة عدم إعطاء الناس الفرصة ليقولوا مثل هذه الأقوال، كما فعل الكاهن عالي في الزمان القديم، إذ لم يردع ابنيه “عن خطيئتهم العظيمة أمام الرب، لأنّ الشعب ازدروا بذبيحة الرب” (1 صم 2: 17). لكن البابا لم يكن ينوي أبداً بناء كاتدرائيّة القديس بطرس بكل الأموال التي تمّ جمعها بجهد من الفقراء، بل كان أولئك الأشخاص وراء عمليّة الجمع هذه الذين أساءوا استعمال رغبته من أجل ربحهم الخاص. لو لم يكن الأمر كذلك لما كان من الضروري تدوين أقوال الناس خطّياً بخصوص تلك البناية. إن ابتزاز الأموال هذا لا يمكن أن يدوم طويلاً.

-87-

سؤال آخر: ما الغفران الذي يمنحه البابا أولئك الناس الذين ندموا الندامة الكاملة، واستاهلوا بها المغفرة التامّة والشركة في البركات بكل ما في الكلمة من معنى.

كان سبب طرح هذا السؤال هو قول الكثيرين من الناس وحتى المتضلّعين في القانون، أنهم لا يعلمون ما مغفرة الخطايا التي في حوزة سلطة المفاتيح.

-88-

هل هناك بركة تحصل عليها الكنيسة تفوق هذه البركة: لو كان البابا يمنح كل مؤمن هذه  الغفرانات والبركات مئة مرّة في اليوم، بدل أن يمنحها مرة واحدة ، كما هي الحال اليوم.

يسمع المرء الأقوال البالغة في الغرابة عن هذا الموضوع. فالبعض يظن أن خزينة الغفرانات تزيد بواسطة بيع صكوك الغفرانات، وهناك آخرون يناقضون هذا القول لأن الغفرانات تخرج من الخزينة وليست هي مدخولاً لها. ويقول آخرون أن مغفرة الخطايا عمل متواصل يتناول الخطايا فيجزّئها جزءاً جزءاً كما يتجزّأ الحطب إلى أقسام. وهكذا تصبح الأجزاء أصغر وأصغر. إني أعترف بأنني لا أعرف ما يجب قوله في هذا الموضوع.

-89-

بما أن البابا يطلب خلاص النفوس مفضّلاً ذلك على المال الذي يردُ من غفراناته، فلماذا يعلّق الغفرانات والإعفاءات التي كان قد منحها سابقاً ويضع حدّاً لمفعوليتها بصورة مؤقّتة، بينما كانت سارية المفعول وتعادل فعاليّة صكوك الغفرانات؟

هذا الأمر يثير استيائي ويقلق راحتي أكثر من أيّ شيء آخر. وأعترف بأن تعطيل الغفرانات السابقة كان السبب الأكبر لجعل الغفرانات تفقد قيمتها. أجل، لا أنكر أن كل ما يصدر عن البابا من قولٍ أو فعلٍ يجب احتماله، ولكن ما يحملني  على الأسى أنه لا يمكنني أن ابرهن أن كل ما يعمله البابا هو الأفضل. ومع ذلك لو أتيح لي أن أبحث بالتفصيل نوايا البابا، بدون الوقوع في مشكلة مع مرتزقته المأجورين، لكنت أقول واثقاً بأنه يجب اعتبار نزاهته وبعده عن السوء أمراً مفروغاً منه، ولكن الكنيسة بحاجة الى إصلاح، ليس الإصلاح الذي يقوم به رجل واحد، أي البابا، ولا هو عمل عدّة رجال، أي الكرادلة، كما حاول القيام به المجمع الأخير، (وهو المجمع العام الذي عُقد في روما في 12 جلسة وتخللها فترات فاصلة. وكان ذلك بين عامي 1512 – 1517)، بل هو إصلاح مسكوني يشمل العالم كله، بل في الواقع إصلاح يعمله الله وحده، فهو الذي خلق الوقت، وهو الذي يعرف زمان الإصلاح. أما في غضون ذلك، لا يمكننا إنكار هذه الأخطاء الجليّة ، لأن سلطة المفاتيح قد استعبدها الطمع والطموح، مما لا يمكننا أن نوقفه. يقول النبي (إرميا 14: 7) “آثامنا تشهد علينا”. وكذلك يقول الرسول بولس (غل6: 5) “ولأن كل واحد سيحمل حمل نفسه، (ستكون كل كلمة من كلماته حملاً عليه)”.

-90-

إن إسكات اعتراضات الجمهور اللاذعة بالقوّة، بدل الردّ عليها وإبطالها بإيراد الحجّة والدليل، من شأنه أن يعرّض الكنيسة والبابا الى سخريّة أعدائهما، ويجعل المسيحيين والكنيسة في غمّ وحزن.

من الأنسب جداً أن نتحمّل هذه المحن، وأن نصلّي من أجل الكنيسة، آملين الإصلاح المستقبلي. لأن كبح الناس وإخضاعهم للرقابة، وتخويفهم حتى نجبرهم على النظر الى هذه النقائص والرذائل الظاهرة كأنها فضائل ذات الدرجة الرفيعة، إنما هو أمر  شرّ من النقائص نفسها. ولو لم نكن مستاهلين العذاب الذي وقعنا فيه، لما سمح الله بأن يحكم البشر كنيسته حسب مشيئتهم لوحدهم، بل “لأعطانا رعاةً على حسب قلبه فيرعون الكنيسة بعلم وعقل” (إر3: 15)، “ويعطوننا مكيال القمح في حينه” (لو12: 42)، بدل الغفرانات.

-91-

ولذلك، لو كان الوعظ عن الغفرانات وفق نيّة البابا وقصده، لتمّ إبطال كلّ هذه الشكوك ودحضها، ولما وُجدت أصلاً.

كيف يكون ذلك؟ أي إذا كانت الغفرانات تُلغي العقوبات فحسب، ولم  تُعتبر أهلاً للتقدير والمكافأة، بل أقلّ قدراً من الأعمال الصالحة، لما كان هناك أي سبب يثير الشك حولها. أما الآن، وقد أعطيت قدراً كبيراً بالغ الحدود، فإنها تثير الأسئلة التي تحطّ من قدرها وتنتقص حقّها. لأن قصد البابا ونيّته لا يتعدّان كون الغفرانات غفرانات فقط.

-92-

إذن، بُعداً لجميع الأنبياء الذين يقولون لشعب المسيح: “سلام، سلام” ، ولكن ليس هناك سلام! (إرميا6: 14).

-93-

تبارك جميع أولئك الأنبياء الذين يقولون لشعب المسيح: “صليب، صليب”، حتى ولو لم يكن هناك صليب!

-94-

يجب حضّ المسيحيين على أن يجدّوا في اتّباع المسيح الذي هو رأسهم، وأن يسيروا على طريق الآلآم والموت والجحيم.

-95-

وهكذا ينالون الثقة الأكيدة بأنه  بضيقات كثيرة ينبغي أن يدخلوا ملكوت الله ، وليس بالشعور الزائف الذي يوقعهم في الوهم فيتخيّلوا الطمأنينة والسلام.

لقد قيل بما فيه الكفاية عن موضوع الصليب والعقوبات. لكن لا يكاد المرء يسمع عظة واحدة عن هذا الموضوع في هذه الأيام.

إلى القارئ العزيز المثقّف

لا تظنّ أنّ هذه الأمور قد نُشرت من أجلك، يا قارئي المثقّف ومتوقّد الذّكاء، (ولكن هل هناك ضرورة لهذا التنبيه؟)، كأني أخشى أن تبدو هذه القضايا قيقرونية لك . لا شك أن لديك أموراً أخرى تودّ أن تقرأها ومما توافق ميولك. لقد أُلزمتُ بأن أبحث هذه القضايا مع أندادي ونُظرائي، فننظر فيها معاً لأنها موضوع مشترك بيننا، وهي صريحة وقد صيغت بعبارات غير فصيحة. هذا مما شاءته السماء. ولم أكن أقصد مناشدة البابا في الإفصاح عن أفكاري وانطباعاتي الشخصيّة، لو لم أرَ أصدقائي يُعوّلون على سلطة البابا معوّلاً شديداً، ويستعينون به على إخافتي. وهناك أيضاً سبب آخر حملني على كتابة هذه المواضيع، وهو أن من واجب البابا الرسمي أن يجعل نفسه “مديوناً للحكماء والجهلاء، لليونانيين والبرابرة” (رومية1: 14). وداعاً. ( عام 1518).