مُسْتَقْبَلِيَّاتُ الكَنِيسَةِ – القمص أثناسيوس فهمي جورج

كارت التعريف بالمقال

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب القمص أثناسيوس فهمي جورج
التصنيفات الخدمة الكنسية - اللاهوت الرعوي, مبادئ الخدمة الروحية
آخر تحديث 12 مايو 2020

مُسْتَقْبَلِيَّاتُ الكَنِيسَةِ

(ورقة عمل).

رؤيتنا المسيحية للمستقبل هي جوهر رجائنا الحي نحو الأفضل، من أجل التقدم إلى ما هو قدام؛ بتبصر واستشراف يساعد في توجهات إرسالية الكنيسة للخليقة كلها. رؤية سبّاقة واعية وفاهمة لاحتياجات متطلبات الزمان لمواكبتها؛ من أجل أن تعد وتهيئ لله شعبًا مستعدًا.

لذلك يهتم علم المستقبليات في الكنيسة بقراءة الواقع (علامات الأزمنة) للتجاوب مع ما يقوله الروح للكنائس (رؤ ٢: ٧)؛ ملتمسين الحضور الإلهي كل حين، وعمل مشيئته التي أتت بنا إلى هذه الساعة حاضرة أمس واليوم وإلى الأبد، في خِضَمّ ما نعيشه نحو المستقبل البشرﻱ.

لقد ”أَعْطَانَا اللهُ عَقْلاً ولِسَانًا وعَيْنَيْن وأُذْنَيْنِ وقَلْبًا للتَّفْكِيرِ“ (بن سيراخ ١٧: ٥) حتى نتاجر بوزناتها في خدمة كنيسة الرجاء المتجهة إلى الحاضر؛ بقوة الروح القدس الذﻱ يُضرم الوعي في تفاعل ملتزم بفعل الله في قرار الإنسان ”عَزُّوا عَزُّوا شَعْبِي“ (إش ٤٠: ١)، في عالم منازعات وحروب ومتاهات وإرهاب وأصولية ومعوقات الاتصال بالله؛ وأجواء إباحية وشرور؛ أضحت مقبولة كجزء من طبيعة الحاضر، والمتزامن مع مأزق العصيان على قوانين الكنيسة، وانتقال الأجواء العصرية إلى داخلها؛ بحجة إغراء الناس واجتذابهم.

لهذا اهتمت الكنيسة الناهضة بمراجعة رؤيتها النبوية، ”لتَهْدِمَ وتَقْلَعَ وتَنْقُضَ“ (إر ١: ١٠) وتشهد للحق وتؤوِّن مستقبل مجيء الرب الأبدﻱ كغاية مستقبلها، حتى لا تفقد هيبتها ومناداتها بالتوبة؛ منحصرة أمام جبروت وسطوة أغلال المادية والحداثة، وحتى لا تترك مسئوليتها في إيقاظ الخطاة؛ مهادِنة المتهاونين والبعيدين بالناعمات؛ كي تدللهم وتسترضيهم، دون أن تشهد للحق بحب ووداعة.

فمن المؤسف أن تَتَعَلْمَن الكنيسة بدلاً من أن تُكَنْسِن هي العالم، فتفرط في أنشطة مخلوطة بالبعد الاجتماعي والاقتصادﻱ؛ على حساب دورها الخلاصي والرعوﻱ الصميمي، حيث حدث انحدار في بقاع كثيرة من العالم شرقًا وغربًا؛ أدَّى إلى فقد الكنائس دورها في الكرازة والتعليم.. فبدلاً من أن توقظ وتنهض الشعوب من غفلتها، رضيت بنصف هزيمتها لتتفادَى الانقراض بهزيمة كاملة على المدى الطويل، بينما عمل كنيسة المخلص أن تفعل أفعال الخلاص من دون مهادنة؛ لأنه ”لاَ اتِّفَاقَ لرُوحِ اللهِ مَعَ بَلِيعَالَ“ (٢ كو ٦: ١٥).. تبكيتًا للعالم على خطية وبر ودينونة، وعلى عدم الانتفاع بالخلاص في صور المظاهر الشكلية المحسوسة أو النظرية وإلاعلامية، بل عاملة بروح الله ”بِرُوحِي يَقُولُ رَبُّ الجُنُودِ“ (زك ٤: ٦)، روح التخصيب والإثمار والتقدم والتأييد والإدراك وخبرة المعرفة والتجديد والتحويل؛ التي تقودنا إلى واقعية الإنجيل أو إلى إعادة إحياء حقيقي للحياة، لتحل محل برمجة وتقنية وقناعات وكود أخلاق هذا الزمان.

ومن هنا أتت أهمية وضع منهاج مستقبلي يقوم على تسليمات التقليد الرسولي الآبائي، حتى لا تتباعد الكنيسة يومًا فيومًا عن أصولها الأولى، وينفصل ماضيها عن حاضرها؛ ومن ثَمَّ عن مستقبلها، فتفقد وظيفتها كحارسة للخلاص... تطوف البحر والبر ثم يُنزع منها الملكوت (مت ٢٣: ١٥) (مت ٢١: ٤٣) لتكريس التهاون وتكرار الأخطاء؛ والفتور بالتقادم يُكسبه شرعية من دون يقظة وفحص منا.

كذلك ضعف وسطحية التعليم أدَّى إلى تنازل الكنائس في الغرب حتى ابتلعتها الانحرافات وأرهقتها العثرات، فشَحُبَ وجه الكنيسة النسكي وانحصرت دعاوَى التكريس (كمًّا وكيفًا) إلى أن وصلت إلى حد مُحزن؛ نتج عنه غلق وبيع مباني كنائس كثيرة في أوروبا... أما على الجانب الفردﻱ فإن هبوط المستوى الروحي واضمحلال القدوة والمُثُل الإنجيلية، تسبب في الانحرافات الأخلاقية؛ وقتل مواهب العبادة بين المؤمنين ووأد النمو الروحي، الذﻱ يتواكب مع خطر الاكتفائية والإلحاد وعدم الممارسة.

ومن هنا أتت دراسة المستقبليات لتضع آليات لخدمات التعليم اللاهوتي، كي تتلاءم لغتها وبرامجها مع الأجواء العقلية والنفسية السائدة، ليتم تطوير أُطُرها؛ فتتعامل مع ما طرأ من مستجدات شملت المفاهيم والأفكار والآراء... وقد تم وضع أوراق لعمل حساب نفقة العمل المستقبلي كوسائط علمية منظمة، تعالج موضوعات محددة بشكل متكامل، تتجمع فيها الأساسات المتصلة بموضوعات الدراسة المطلوب معالجتها مستقبليًا، والتي يلزم فيها الوضوح والتحديد لمجمل الآراء حول الأعمال المستهدفة.

هذه الأوراق هي أبحاث تحدد الموضوعات عبر الكتابات والمراجع والدراسات السابقة؛ لعمل مسودات مناسبة المواصفات في شكلها ومضمونها ومحتواها، قياسًا بالزمن المحدد للعرض. مراعية للمرونة والانفتاح عند إعداد هذه الأوراق من جهه عِلميتها ومناسبتها للأهداف ولظروف الدارسين، وما يتصل بها من محتوى قابل للتعديل والتطوير؛ وفقًا لواقعية الأهداف واستيفاء المضمون بالمحتوى الملائم؛ حتى تساعد الدارسين على الاستفادة من التنظير وتحويله للتطبيق في الواقع الإجرائي، وهو ما تُظهره الورقة في عنوانها والجهة المهتمة وتاريخ إعدادها وتوثيقها؛ لأن الرؤَى المستقبلية لا بُد أن تحتويها النقلة المنطقية التي تنتج عن الأسلوب التقريرﻱ لأﻱ ورقة عمل ناجحة، تساهم في وجود رؤًى جديدة متاحة ومركَّزة ومجمعة ومرتبة وواضحة وسليمة ونافذة ومتفاعلة مع فكر واختصاص نظراء البحث.

وأﻱ إطار نظرﻱ لورقة العمل، يمهد للانتقال من أفكار الواقع الحاضر إلى مستقبل أفضل يتقدم إلى ما هو قدام. فنركض ضمن سباق إيجابي في طور التشكيل، لنستكشف الاتجاهات والتأثيرات المتداخلة لتسير عجلات المستقبل. وتأتي الدراسات البحثية عبر العصف الذهني والفرضيات المحتملة وأشجار تحديد الصلة، التي تساهم في وضع تصور مستقبلي؛ ينطلق من خبرات مساعدة للاستعداد لما هو قدام؛ لأن العمل الارتجالي يغض الطرف عن الدرس والبحث؛ ويركن إلى التحجر التواكلي والرؤية الضيقة، لكن التحرك الإيجابي دائمًا ينطلق من (حساب النفقة) لدراسة مفردات الزمن في بعدها المستقبلي، من بداية إلى بدايات لا تنتهي، متجهة لانتظار المجيء الثاني في ملء التاريخ ونهاية الأزمنة، التي تنتظرها الخليقة بفارغ الصبر عند تجلي أولاد الله.

حاجتنا إلى دراسة المستقبليات، كي نستقرئ بها المستجدات لبلورة صيغة تصورية لمعطيات الغد الأبدﻱ، ولترسم إجابات عن سبب الرجاء الذﻱ فينا (هنا والآن) لأن مستقبلنا الكنسي ليس مجهولاً؛ لكنه يسعى ليكون أكثر ثمرًا وحصادًا.. كنيسة كارزة حاضرة بلا انعزال عن عصرها؛ واعية لتياراته ولا تجهل حِيَل إبليس ومعقولاته المبتكَرة، مدركة مسئوليتها الإيمانية تجاه كل نفس بإخلاص لما تسلمته.. غير مفرطة في إنجيلها وعقيدتها ولا في سلوكها وحياتها.. بأمانة تنتزع من أرضها زوان الفكر؛ وتسعى بثبات أمام المعوقات والمقاومات والمهلكات... مكثفة عملها الروحي والكرازﻱ في أطراف البلاد وقُراها ومهجرها وقاراتها الكونية الإنترنتية. مدركة الأخطار المحدقة التي تستلزم إعادة اكتشاف آبائها وتراثها وأنظمتها وطقوسها وتثاقفها. مشجعة للبحث والدرس وترقية التعليم، منفتحة على إمكانيات العصر لتوظيفها ضمن خطتها الخلاصية، متجاوبة مع تطورات خدمة الطفولة والشباب والأسرة.