أَدَبُ الرِّحَلاَتِ والزِّيَارَاتِ إِلىَ بَرَارِﻱّ مِصْرَ – القمص أثناسيوس فهمي جورج

كارت التعريف بالمقال

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب القمص أثناسيوس فهمي جورج
التصنيفات أدب مسيحي
آخر تحديث 12 مايو 2020

أَدَبُ الرِّحَلاَتِ والزِّيَارَاتِ إِلىَ بَرَارِﻱّ مِصْرَ

مَاجَتْ أرض مصر بأحداث هائلة صنعت التاريخ؛ وتدثرت بحنين البركة لترابها وحجارتها، التي تزودت بذكريات إلهية، منذ أنْ جاء إليها وعاش فيها الأنبياء ورؤساء الآباء، ومنذ أن أتى إليها المسيح مخلصنا طفلاً، فصار لحَفَنات ترابها ولإسمها ذكرَى تبرح تباريح الذكرى لمواضع مقدسة؛ ضربت بجذورها في أعماق الوعي الكنسي على مدى الأجيال، وكأن الله جعلها ليقول كلمته فيها؛ ويمتد منها ملكوته الأبدﻱ، كي نحيا فيها ونأتي إلى مواضعها ونتبارك من هياكلها وأبوابها وأعتابها وعبق جدرانها مع ملايين العابدين ”ساكنين وزائرين“ حيث بصمات البركة الإلهية، وأصداء الصلوات والدموع والعرق ودم الشهداء، وثمار القداسة المتراكمة تملأ المكان، برُفات القديسين ومواطن جهادهم ونسكهم، بدءً من خط سير العائلة الإلهية.

”عَبِيدُكَ قَدْ سُرُّوا بِحِجَارَتِهَا وحَنُّوا إِلَى تُرَابِهَا“ (مز ١٠٢: ١٤)، لأنها الحقيقة الأبقَى والأعظم بنعمة الحياة الحاضرة، والشاهدة على ميراث تقوًى متوارث ومتراكم، صار لنا أمسَ واليوم وإلى الأبد، وهو لنا وللآتين من بعدنا؛ إرثًا ومزاجًا روحيًا، لو سكتنا عنها لصرخت وتكلمت الحجارة؛ واصفة ومجسِّمة عراقة تاريخها المجيد والمزدهر بالكمال الروحاني، والزهور الرائعة التي للصلاح العملي؛ والتعليم والتدبير؛ وكمال خوارس جيش القديسين الذين أناروا ليل هذا العالم كالنجوم اللامعة.. فكانوا نجومًا مشعة بنور المعرفة الإلهية؛ في سيرتهم الحلوة وقوانينهم ومناهجهم التقشفية، وهيئة ملابسهم وأجسادهم الناسكة وتدبيرهم اليومي.

لقد أتى أدب الرحلات تدوينًا لزيارات الرحالة، التي سجلت ترميز الأماكن؛ ونقلت الحسي فيها إلى معنوﻱ، والسكون إلى حركة.. وقد أثْرَتْها الكتابات بالتداعيات الملازمة لمعاينة الجبال والمغاير والجدران. فلا نراها مجردة كما هي في بقاع أخرى... لكننا نراها مفعمة بالأحداث والذكريات وعبق التاريخ القدسي؛ في الأرض التي ماجت برجال الله من الأنبياء والآباء، الذين سكنوا الصوامع والمناسك والديارات، وشهدوا لمحبة الله العاملة فيهم وعلى الدوام في كل البشر (عب ١٣: ٨، ١كو ١٢: ٦).

غسلوا الأقدام؛ وصاموا وصلوا وسجدوا؛ وعلموا واستضافوا وتتلمذوا؛ وعرفوا اللغات وتآلفوا مع الوحوش؛ كأنبياء جُدُد وكغروس تلتفّ حول الشيوخ والآباء الكبار، تاركين إنجيلاً معاشًا وسِيَرًا تقية؛ سلكت وصايا الرب؛ سامعين عاملين بالكلمة. فلم يوجد ساعة من النهار أو الليل إلا وفيها ساهرين بطول مصر وعرضها، حتى أقاصي الصعيد التي ظللتها السحابة السريعة الخفيفة، وأرجفت أوثان مصر عندما ذاب قلبها داخلها (إش ١٩: ١)، والتي فيها سُمعت أصداء الصلوات وهذيذ التسابيح وقرع الأجراس في بقاعها الدسمة.

إن لكل شبر في برارﻱ مصر حكاية مع التاريخ، لا تنفكّ عن ذلك المكان الماثل للعيان، بل وكذلك محطات سَيْر العائلة المقدسة.. فجميعها مفعمة بعبق الحدث لكل عين متشبعة بالإيمان؛ وكل أنف مفعم ببخور الروح، وكل عقل متجه صوب الإلهيات، فترى الأماكن مجردة من متعلقاتها، وتدرك ما حدث على أديم هذه الأرض المباركة.

لقد تغلغلت الرحلات للمواقع المقدسة، وروت كتابات زيارات الرحالة أسرار وقائعها؛ فيما هم متجولين وسط الأسرة السماوية على الأرض، عندما اتضحت لهم مشاهدات واقعية، في الأعداد والأنماط والأعمال والشخصيات والوظائف والأشكال؛ والأعمال الطقسية والمعيشية والحِرَفية؛ والخدمات الليتورجية الدياكونية والإيكونومية بداخل التجمعات والمزارات.. كذلك وصفوا أنشطة الكتابات والرسومات والنقوش والذوق الفني والمادﻱ والفكرﻱ، الذﻱ عكس وجدان وتأملات وأحاسيس واقع كنيسة مصر الأولى؛ والتي أوضحت حقائق عميقة؛ الحنين والاشتياق، بملاحظات عينية وسمعية وبصرية، اقتحمت صمت البرارﻱ العميق، راصدة تعداد سكان البرارﻱ الذﻱ كان مساويًا لعدد سكان المدن في ذلك الزمان. فيا لعظمة أرض مصر التي رش مسيحنا البركة في أرضها.

احتوى أدب الرحلات زيارات الرحالة التي وصفت رحلات وجولات طويلة شملت البرية الجوانية وإسقيط شيهيت وكينوبيات نتريا والقلالي بوادﻱ النطرون والتي كانت ميناء خلاص. أتوا وحَجُّوا إليها وعاينوا روايات ومناظرات، ألهبت قلوبهم غيرة؛ لرؤيتهم جيوش الملائكة المصطفّة في ترتيب كامل. محقِّقين فرح البرية وبهجة القفر وأزهار النرجس وترنم العاقر بولادتها.. حتى انجذب كثيرون منهم وآمن وثنيون؛ اقتداءً بسيرة هذه الحياة السامية وبعمل المعجزات، وواسطة سلامهم ومواظبتهم على الأسرار الإلهية العجيبة، في نسك ومعرفة وخبرة.

هذا وزخر أدب الرحلات بإستقراء الأحداث والجدران والأصداء والأوصاف والنزعات التسجيلية والسردية وومضات الصور المشهدية؛ بتوصيفاتها المبدعة للأماكن التي جعلها العلي مقادسه وموضع سكناه.. فأتت كتابات الرحالة بانورامية واسعة الشمول الجمالي.

ومن المعروف أن القديس باسيليوس الكبير وروفينوس وميلانية وجيروم وبلاديوس وكاسيان وجرمانوس وساويرس الأنطاكي ومار أفرام السرياني وكثيرين، أتوا إلى مصر وعاينوا أجواء روحانية كنيستها المجيدة.. كذلك ما كُتب أعطَى في جملته صورة قصصية وأقوالاً تصنفت ضمن المجموعات المعروفة بأقوال الأباءThe Apophthegmota Patrum، والتي لا زلنا نقتني منفعتها، ولا زالت موضع اهتمام ودراسة العلماء لتراث الآباء، بالإضافة إلى وثائق الرحلات الهامة التي سجلت تاريخ الرهبنة في مصرHistoria monochorm in Aegyto ووصفت رحلات حقيقية لبراهين منطقية؛ صوَّرت عبقرية الزمان والمكان: مواقع ومدن وشهادات طبوغرافية وتواريخ وأعمار وذكريات وحوارات تفصيلية.