حرق مكتبة اسكندرية – الأستاذ بيشوي فخري

كارت التعريف بالمقال

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب الأستاذ بيشوي فخري
التصنيفات قسم التاريخ, موضوعات تاريخية
آخر تحديث 11 أكتوبر 2019

حريق مكتبة الأسكندرية بين الظالم والمظلوم.

يُعزي الفضل فى إنشاء مكتبة الاسكندرية إلى بطليموس الاول سوتير، لنقل الآداب والعلوم اليونانية إلى مصر. وكان فى الاسكندرية خلال العصرين اليونانى والرومانى أعداد لا تحُصى من المكتبات الصغيرة بجانب مكتبتان أساسيتان: الاولى هى المكتبة الكبرى وكانت بالبروكيوم بالحى الملكى بالقرب من موقع المكتبة الحالية، والثانية هى الصغرى بمعبد السرابيوم بالحى الشعبى (حى كرموز حاليا). وقّدر عدد الكتب بالمكتبة بنحو 24800 مجلد فى السرابيوم و490 ألف مجلد فى البروكيوم بحسب "تزتزيس"، أما تقدير "أولوس جليوس" فقد بلغ 700 ألف مجلد، وتقدير "سينيكا" 400 ألف مجلد. حصلت عليها المكتبة بعدة طرق منها: الشراء والهدايا والترجمه والمصادرة وأحيانا كرسم دخول من السفن لميناء الاسكندرية وأحيانا أخرى بالاحتفاظ بالكتب المستعارة دون إرجاعها لآصحابها. إلا أن حريق أسطول يوليوس قيصر (47ق. م) ألتهم الكثير من كتب المكتبة بلغ حوالي 400 ألف لفافة موجوده بالمخازن والذي يعتبر أول تخريب غير مقصود للمكتبة، وحاول يوليوس قيصر تعويض هذه الخسارة بإهداء الملكة كليوباترا 200 ألف مخطوطة من مكتبة برغامس سنة (41ق. م). فأنتعشت المكتبة جزئيًا مرة أخرى.

ويوجد حريق آخر غير متعمد للمكتبة كان في عهد الإمبراطور أورليانوس 273م، حيث دمر جانبًا كبيرًا من المدينة بعد اضطرابات من جانب المسيحيين، وتكرر الأمر في عام 296م. وقال بعض المؤرخين كانت فى عصر الإمبراطور المسيحى ثيؤديسيوس الكبير (378 – 395 م.). وربما هذا ما يدعيه بعضاً من الكُّتاب غير المدققين , بأن المسيحيين وعلى رأسهم البابا ثاؤفيلس البطرك الـ (23) من باباوات الإسكندرية فى عام 391 م , وبأمر من الإمبراطور ثيؤديسيوس المسيحى هم الذين أحرقوا المكتبة.. إلا أن المؤرخين القادمى الذين تحدثوا عن هدم المعابد الوثنية لم يشيروا من قريب أو بعيد لحريق مكتبة السرابيوم، بل شهد التاريخ بوضوح إستمرار المدرسة الفلسفية الوثنية فى موقعها فى منطقة السرابيوم وتدريس الفيلسوفة الوثنية "هيباتيا" حتى عام 415م أى بعد حادثة هدم معبد السرابيوم المثبت تاريخيأ أنه كان عام 391م. فصمت التاريخ وصمت إعداء البابا ثيوفيلس شهادة منهم لعدم تعرض البطريرك لمكتبة السرابيوم. كما إن أعمال الحفائر الحديثة لموقع السرابيوم (1895م) لم يكشف عن وجود أثر لآى حريق بالمنطقة تماشيًا مع روايات التاريخ بأنها أحداث هدم للمعبد وليس عملية حرق للمكتبة. ولا يمكننا أن نغفل شهادة أبيفانيوس اسقف قبرص الذى كتب فى كتابه (على الاوزان والمقاييس) عام 392م - أى فى العام التالي لأحداث تخريب السرابيوم - فى الفصل الثاني عشر عن المكتبة الابنه وما تحتويه من كتب، وأيضًا شهادة "أفطونيوس" الكاتب السرياني الذي زار الاسكندرية بعد تخريب معبد السرابيوم وكتب عنها أنها مفتوحة طول النهار وتحدث عن الخدمات التى تقدمها المكتبة هناك لجمهور المدينة كلها، وشهادة أوروسيوس الأسباني الذي زار مدينة الاسكندرية سنه 414م ورأى مكتبة السرابيوم وغيرها من مكتبات المدينة وشهد بما رآه وقد أقتبس شهادته "كيرلس مقار" أول بطريرك قبطى كاثوليكى فى مقاله عن سرابيوم الاسكندرية ونقلتها عنه المؤرخة المعاصرة ايريس حبيب المصرى. وكلها شهادات بوجود مكتبة السرابيوم بعد أحداث هدم معبد السرابيوم.

أما المرشح الآخر الذي ينسب له حريق مكتبة الاسكندرية فهو "عمرو بن العاص"، فهو بشهادة بعض مؤرخين العصور الوسطى قام بحرق المكتبة بناء على طلب "عمر بن الخطاب" ومن ضمن هذه الاخبار ما ذكره الرحالة الفارسى عبد اللطيف البغدادي الذي قضى سنوات فى التدريس بالأزهر، وذهب إلى دمشق مع صلاح الدين الأيوبي ثم عاد الى بغداد وكتب مذكراته نحو سنة 1200م فعند وصفه لعمود السوارى قال: "(انه الاثر الوحيد الباقى من ذلك البناء الفخم الذى علم فيه أرسطاطليس وتلاميذه من بعده) ثم أضاف هذا الطبيب البغدادى ( وهناك كانت تقوم المكتبه التى حرقها عمرو بن العاص بأمر عمر رضي الله عنه"). وكتب "أبو الفــدا" فى أوائل القرن الرابع عشر الميلادي نفس الأمر.

أما المؤرخ العربي تقى الدين المقريزى (1364 - 1442م) فى كتابه الخطط قال فى حديثه عن مكتبه السرابيوم: "أنها كانت مدرسة للمعرفة، وأنها كانت تحتوى على المكتبة التي أحُرقت بواسطة عمرو بنصيحة الخليفة عمر".

أما أمر الخليفة عمر بن الخطاب ونصيحته لعمرو بن العاص فقد ذكرها العديد من الكتُّاب منهم القاضي جمال الدين ابو الحسن في كتابه "تراجم الحكماء"، و "تاريخ التمدن الاسلامي" لجرجي زيدان، أن عمرو أعجُب بكلام رجل فيلسوف اسمه يحيي، فقال له يحيي يومافكتب عمر الى عمرو يقول له: (واما الكتب التي ذكرتها فان كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، وان كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة أليها فتقدم بإعدامها). فشرع عمرو بن العاص في تفريقها على حمامات الإسكندرية واحراقها في مواقدها فذكروا أنها استنفذت في ستة اشهر. راجع الغدير 6 / 301 - 302 والفهرس لابن النديم ص 334 وراجع ابو الفرج ابن العبري، تاريخ مختصر الدول، الدولة التاسعة، طبعة 1899، ص 175 - 176. ويجب الملاحظة ان هذه القصة محذوفة من الطبعة التي أصدرتها دار المشرق عام 1992.

وهو قول مشابه لعمر عن مكتبة فارس: "أطرحوها فى الماء. فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه، وإن يكن ضلالا فقد كفانا الله" (مقدمة بن خلدون: كتاب 1: باب6، فصل 13).

ويبدو أن الأمر مستقر فى ضمير بعض المتطرفين بإحراق كل كتاب يختلف معهم فى الفكر والمذهب، فلم يقتصر الامر عبر التاريخ على حرق الكتب المسيحية بل طال الأمر مكتبة الجامع الازهر الاسلامية عندما كانت غالبيتها شيعية. لآن الفاطميين - وهم الشيعة - الذين أسسوا الازهر ومكتبته عام972م. فلما سقطت الخلافة الفاطمية وتأسست الدولة الأيوبية وعادت مصر إلى المذهب السُّني، تبددت مكتبة الأزهر بناء على أمر صلاح الدين الأيوبي وضاع تراث الشيعة الأسماعليين، وكان تصرفهم مبررًا بم حدث مسبقًا بتوصيات عمر حول حرق مكتبة الفرس والاسكندرية.

ويقارن الدكتور "الفريد بتلر" بين حريق العربان لمكتبتي ديرى الانبا انطونيوس والانبا بولا بالفاجعة الأشد هولاً وهى حرق مكتبة الاسكندرية بيد فقال: "... ضمن الجبال المنعزلة فى أقصي الصحراء الشرقية عند البحر الاحمر ديرا أنطونيوس وبولا اللذان احتويا فى الماضي على مكتبات بالغة الغنى بالكنوز القديمة الى الحد الذي يجعل فقدانها مدعاة بالاسى بدرجة أقل قليلا من التدمير الابعد المدى للمكتبة الكبرى بالاسكندرية على يد عمرو..." (الكنائس القبطية القديمة فى مصر، المجلد 2، صـ240 "النسخة الانجليزية")، ولكن بتلر عاد وتراجع عن كلامه عندما نشر كتاب "الفتح العربى لمصر" ليبرئ عمرو من حادثة حرق المكتبة مستندًا لرأى جيبون – أول من أتهم البابا ثيوفيلس بحرق المكتبة - وهو الرأى الذي يستند عليه غالبية المؤرخين المعاصرين الذين شككوا فى روايات المؤرخين القدامى الأقرب للحدث، وكتُّاب العصور الوسطى من أحفاد العرب والأحداث المشابهه فى فارس وتمسكوا برأى جيبون وبتلر!... على أن ما يستحق الحرق حقًا هو هشيم الجهل بنار العلم، لتستضئ عقول أبناء من صنعوا أعظم الحضارات، حتى لا يتسنى لنا الوقت لمحاسبة من لا نملك أدانتهم إلا بحروف!