الاستشهاد في فكر الآباء – مارتيريا-القمص أثناسيوس فهمي جورج

كارت التعريف بالكتاب

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب القمص أثناسيوس فهمي جورج
التصنيفات أدب مسيحي, أقوال الآباء, الحياة الروحية المسيحية - اللاهوت الروحي, الشهداء والإستشهاد, تأملات روحية مجمعة, دراسات آبائية مجمعة, سير قديسين مجمعة, سير قديسين وشخصيات, كتب مقروءة أون لاين
عدد الصفحات 220
آخر تحديث 22 أكتوبر 2023
تقييم الكتاب 4.9 من 5 بواسطة فريق الكنوز القبطية

تحميل الكتاب

إنتبه: إضغط على زرار التحميل وانتظر ثوان ليبدأ التحميل.
الملفات الكبيرة تحتاج وقت طويل للتحميل.
رابط التحميل حجم الملف
إضغط هنا لتحميل الكتاب
3MB

الاستشهاد في فكر الآباء – مارتيريا-القمص أثناسيوس فهمي جورج


تقديم

الاستشهاد قصة المسيحية وشهوِة المسيحيين، فشكرًا لله أبينا السماوي الذي سمحت إرادته الصالحة الكاملة الطوبانية، بهذه الدراسة الشيقة التي نتنسم فيها رائحة دماء شهداء الكنيسة البَرَرَة، أرواح المُكملين، الأبرار المكتوبين سحابِة الشهود.

وقد اعتمدت في هذه الدراسة على مراجِع كثيرة، بقصد التمتُّع الروحي ببركات وأمجاد أبطال الكنيسة من الشهداء والمُعترفين، الذين سُجِّلت سِيَرِهِم بالدماء.

ويتناول هذا البحث البنية العامة لعِلْم المارتيرولوچي، من حيث حياة الكنيسة في عصور الاستشهاد، وسلسلة الاِضطهادت العشر في العصر الروماني، وكيف كان موقف المسيحيين الأُوَل وسط الاِضطهاد، وكيف أعدَّت الكنيسة أولادها للاستشهاد؟

وكذا مفهوم الشهادة إنجيليًا وكَنَسِيًا وتاريخيًا وليتورچيًا وآبائِيًا، وأخيرًا مجالات شهادتنا اليوم…

المسيح ربنا الشاهِد الأمين، يجعل هذا العمل لمجد اسمه القدوس، لنكون له شهودًا أُمناء حتى النَّفَسْ الأخير، بطِلبات وشفاعات خورس الشهداء والمُعترفين، وبصلوات أبينا الطوباوي المُكرَّم البابا شنوده الثالث بابا الأسكندرية وبطريرك الكرازة المرقُسية، له المجد في كنيسته إلى الأبد أمين.

كلمة شكر

شُكرًا لله أبو ربنا ومُخلِّصنا يسوع المسيح الذي سمحت إرادته باكتمال هذا البحث… فله وحده المجد كل المجد.

وكلمة شُكر ومحبة لحبيبنا جزيل البركة نيافة الأنبا بنيامين – أسقف كرسي المنوفية والنائِب البابوي بالأسكندرية، الذي تفضَّل بالرغم من الأعباء التي تثقَّل بها كاهله بمراجعة هذا البحث وأضاف له من عِلْمه اللاهوتي وعُمقه النُسكي وخِبرته الروحية الشاهدة التي تدعونا إلى أن نمتثِل به، كما هو بالمسيح الشاهِد الأمين..

يشجعنا على الدراسة والاجتهاد، ويشملنا بأُبوته التي لا تُقارن، ويسنِدنا بصلواته ومحبته العجيبة، ليُعطيه الرب القوة، وليؤيده بالنعمة، من أجل الخدمة وبُنيان ملكوت الله.

وإنه لمن دواعي سرورنا أن تتزامن مراجعة نيافته لهذا البحث، مع ليلة احتفالنا بعيد جلوسه الرابع عشر، على كرسي إيبارشية المنوفية، ليحفظه الرب بسلامٍ وعدلٍ في كنيسته المُقدسة.

← وقد قام بعمل الجمع التصويري الأستاذ مجدي اسحق خليل.

وإنَّ بنوتنا البارة للأب الموقر القُمص تادرُس يعقوب من أجل محبته وتعطفاته الجزيلة.

وأننا لمدينون بالشُكر لجناب القمُص سيداروس عبد المسيح وكيل الكلية الإكليريكية بالمنوفية، من أجل إسهاماته وملاحظاته القيِّمة، كما ونشكر الذين تعبوا في هذا العمل وبالأخص أُسرِة كوبي سنتر والعاملين فيه..

وللثالوث القدوس كل المجد والكرامة إلى الأبد أمين،،،

المؤلف

حياة الكنيسة في عصور الاستشهاد | بداية المخاض

لقد قال المسيح رب المجد لتلاميذه ”يُسلِّمونكُم إلى ضيقٍ ويقتلُونكم وتكونون مُبغضين من أجل اسمي. والذي يصبُر إلى المُنتهى ذاكَ يخلُص“ (مت 24: 9).

وبهذا يكون المسيح رب المجد قد أوضح طبيعة الحياة معه، ونوعية المِحن والضِيق الذي سينال كل من يشهد لإنجيله، ومن ناحية أخرى أظهر عِظَم مكافأة مُحبيه الذين حفظوا صبره وإيمانه ”اِفرحوا وتهللوا لأنَّ أجركم عظيم في السموات“.

لذلك نجد أنَّ التلاميذ بعد ما كرزوا بالمسيح قُبِضَ عليهم وقُدِّموا للمُحاكمات ”فلما سمعوا حنقوا وجعلوا يتشاورون أن يقتلُوهم“ (أع 5: 33)، ولكن التلاميذ ”ذهبوا فَرِحين لأنهم حُسِبوا مُستأهلين أن يُهانوا من أجل اسمه“ (أع 5: 41).

لقد حلَّت التجربة الأولى بالكنيسة باستشهاد إستفانوس الذي سبَّب ألمًا عظيمًا للكنيسة، وضِيقًا وتشتيتًا للجميع… ولكن هذا التشتُّت أصبح بركة للعمل الكرازي، لأنَّ الذين تشتَّتوا جالوا مُبشرين بالكلمة..

ويُعد الشهيد إستفانوس رئيس الشمامِسة الذي رُجِمَ سنة 36 م (أع 8)، ويعقوب الكبير بن زبدي الذي قتلهُ هيرودِس بالسيف سنة 44 م. (أع 12: 2) من أشهر الشهداء.

وكأنما منح هذا الاستشهاد الكنيسة قوة لتمتد أُفقيًا وتفترِش أراضي جديدة تنضم لحساب الملكوت، وصارت شهادة الدم سبب بركة للكنيسة المُقدسة بعد أن أصبح دم الشهيد بِذار للإيمان بالمسيح، وبعد أن أصبح الضيق والتشتُّت كرازة وبشارة لاسم المسيح رب الكنيسة وعريسها.

ثم جاءت التجربة الثانية بقتل يعقوب بن زبدي أخي يوحنا الحبيب، إنه ثمن التبعية للمسيح والشهادة لاسمه العظيم القدوس لكي يتبارك ويرتفِع..

وهنا تعمَّق في وجدان الكنيسة الأولى أنَّ الاستشهاد ليس أمرًا استثنائيًا ولا جزءًا إضافيًا، بل ضرورة حتمية للإيمان المسيحي… فجميع الذين يعيشون بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهدون… ويقول لسان العِطر بولس الرسول، أنه يحمِل في جسده سِمات الرب يسوع، التي هي جروحه وآلامه المُخلِّصة المُحيية، لذلك يُوصي الكنائِس والمؤمنين أن يحملوا إماتات الرب حتى تظهر حياة يسوع فيهم (2كو 4: 10).

وبانتقال الرعيل الأول من التلاميذ والرسل، الذين استُشهِد غالبيتهم، تسلَّمت الكنيسة ذخيرة حيَّة من التعاليم والتقاليد التي تحِث المؤمنين على الشجاعة والصبر والجَلَدْ، وتحبَّب إليهم الموت لأجل اسم المسيح، فيستعذِبون الألم لينالوا المجد، بالاِتحاد بذبيحته بواسطة الاستشهاد.

وازدادت الشجاعة في بعض القديسين حتى صارت شوقًا وتلهُفًا إلى الاستشهاد، وانتقل الآلاف من دمنهور إلى الأسكندرية المدينة العُظمى لكي يستشهِدوا، والقديس أبا فام الجندي لمَّا دُعِيَ للاستشهاد، لَبَسَ أفخر ثيابه، وقال ”أنَّ هذا هو يوم عُرسي“.

والقديس أغناطيوس الأنطاكي، خاف أن تأخذ المؤمنين الشفقة عليه فيحرموه من حلاوِة الاستشهاد، بل وازدادت قيمة الاستشهاد لمَّا اكتشفت فيه الكنيسة كرامة تجعل صاحبها على مستوى كرامة الرسل، الذي وعدهم المسيح أنه متى جلس على كرسي مجده سيجلسُون على اثني عشر كرسي، وكان أول من أعلن هذه الكرامة الشهيد الأنطاكي أغناطيوس -أحد الآباء الرسوليين- عندما ذهب ليستشهِد وقال:

”لقد ابتدأت أن أكون تلميذًا للمسيح“

وأكَّد العلاَّمة أكليمنضُس السكندري، في أواخِر القرن الثاني، أنَّ الاستشهاد عقيدة راسخة في الكنيسة، ولم يعُد للكنيسة شرف أعظم من تقديم الشهداء للسماء، إذ ليس هناك ما يُعادِل كرامتهم..

ولمَّا تزايد عدد الشهداء، رأت الكنيسة أنَّ كلمة ”شهيد“ وحدها ليست كافية للتعبير عن كرامِة الذين دفعوا دمائِهِم ثمنًا للإيمان وغلبوا العالم بكلمة شهادتِهِم، فألحقت بها صفات أخرى مثل:

الكامِل – المغبوط – الطوباوي – السعيد… وغيرها من الألقاب التي أضفتها الكنيسة على شُهدائها.

وكان الشهداء يرون أنَّ الاستشهاد هو أقصر طريق يؤدي إلى الأفراح الأبدية.. . إنها مجرد لحظات يكونون بعدها في أحضان آبائنا إبراهيم وإسحق ويعقوب، في نور القديسين، حيث مجد إلهنا وحيث لا تقف أمامه خليقة صامته.

كانوا يرونه شَرِكة في آلام المسيح وفي موته، وأيضًا شَرِكة في مجده، لذلك كان كثير من الشهداء يرون أكاليلهم ومجد السموات وابن الله قائِم عن يمين العظمة، فكانوا يثقون بالإيمان بما أعدُّه الله لمُحبي اسمه القدوس..

لقد رأى هؤلاء الكاملون شُهداء المسيح، أنَّ الاستشهاد خير تعبير عن محبتهم لله وصِدق رجائهم الذي مَلَك على قلوبِهِم، فما كانوا يرون الموت إلاَّ انطلاقًا من سجن الجسد، بعد أن كشف لنا ربنا يسوع المسيح قائِد الشهداء وربهم عن أعماق مفهوم الاستشهاد الحقيقي، وبعد أن خرج غالِبًا ولكي يغلِب..

عائلة الله عبر التاريخ

لم يقف الشيطان الذي واجه السيِّد المسيح على جبل التجربة، مكتوف الأيدي أمام امتداد الكنيسة شرقًا وغربًا، فَرَاحَ يشِن عليها موجات من الاِضطهادات والمُقاومة، فحرَّك رئيس هذا العالم الملوك والأباطرة ضدها..

وسجَّل سِفر أعمال الروح القدس (الإبركسيس) ما تعرَّضت له الكنيسة من أتعاب ”وحدث في ذلك اليوم اضطهاد عظيم على الكنيسة“ (أع 8: 1).

وأيضًا ”في ذلك الوقت مدَّ هيرودس الملك يديهِ ليُسِئ إلى أُناسٍ من الكنيسة فقتل يعقوب أخا يوحنا بالسيف… وعاد فقبض على بطرس أيضًا… ولمَّا أمسكهُ وضعهُ في السجن“ (أع 12: 1-4).

وتوالت الاضطهادات في عصر الدولة الرومانية من القرن الرابع الميلادي، أيام الأباطرة: نيرون (سنة 64 م)، تراجان (106 م)، وكان أشدها هولًا اضطهاد دقلديانوس (284 م)، وقيل أنَّ عدد الذين استُشهِدوا في عصره بلغ (144 ألفًا). وقال آخرون أنه (800 ألف)، ولكن بالرغم من أهوال الاضطهادات، ظلَّت كنيسة الله تنمو وعدد التلاميذ يتكاثر جدًا (أع 6: 7).

لأننا إذ نصير مسيحيين، نرى مجد الآلام التي بها نتشبه بموته، لذلك استشهد القديسون عبر التاريخ اِختياريًا…

وتميزت أسماء المسيحيين في القرون الأولى بأنهم التلاميذ، المؤمنون، المُختارون، القديسون.. وثمة أمر هام ينبغي أن نُشير إليه ألا وهو أنَّ الاسم علامة من العلامات الأساسية للشخصية، ولذلك سجل يوسابيوس القيصري أنَّ الشهيد سانكتوس Sanctus وهو شماس من كنيسة ڤيينا عندما سُئِل عن بلده واسمه، وهل هو عبد أم حُر، أجاب إجابة واحدة ”أنا مسيحي“ (ك 5: 1)، وسجل ذهبي الفم نفس الإجابة على نفس الأسئلة التي وُجِّهت إلى الشهيد لوقيانوس (عظة 46 في مدح الشهيد لوقيانوس: 2 – 6)، وهؤلاء الشهداء هم أهل العقيدة dogma الذين حفظوا وديعة الإيمان بالدم… . الذين ذهبوا إلى العالم أجمع وكرزوا بإنجيل الملكوت للخليقة كلها الذين دعوا العالم كله إلى شخص المسيح ابن الله الوحيد، الراعي والفادي والمُخلِّص، الذي ليس بأحد غيرهِ الخلاص، حيث ملكوت النور والفرح الأبدي الذي ليس من هذا العالم..

وهكذا تحالفت قُوى الشر مُجتمعة ضد المسيح والمسيحيين. فوقفت ضد الكنيسة، وتمت نبوة المُرنم ”قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا على الرب وعلى مسيحه“، فماذا كانت النتيجة؟ ”الساكن في السموات يضحك بهم“ (مز2).

إضطهاد الوثنية للكنيسة المسيحية

ما أعجب هذه الكنيسة الفتية!! فبعد كل هذا الذي تحملته، بقيت راسخة على مدى الدهور!! ما أكثر وأعتى العواصِف والتجارب التي حاولت أن تعصِف بها، لكنها في كثرِتها وعُنفوانها شهدت لاسم الله في الكنيسة من جيل وإلى جيل وحتى الآن، لصِدق نبوة المسيح مَلِكنا وربنا ورب الجميع، الذي وعدنا:

”أنَّ أبواب الجحيم لن تقوى عليها“

لقد مرت الكنيسة في عصور الاستشهاد بعشرة حلقات من الاِضطهاد وخرجت منها قوية مُرهبة كجيش بألوية، وقد اعتاد المؤرخون والكُّتاب المسيحيون منذ القرن الخامِس الميلادي تقدير الاضطهادات بعشرة أحقاب على مدى حوالي المائتين والخمسين عامًا خرجت منها الكنيسة وأبواب الجحيم حقًا لم تستطِع أن تقوى عليها..

ومن كثرِة المُعاناة التي تحمَّلها المؤمنون، كانت الكنائِس تُشيَّد على دِماء الشهداء (الجماعة الحيَّة)، واحتفظ لنا القديس چيروم باسم جميل لمبنى الكنيسة وهو (مجمع الشهداء) أو Conciliabula Martyrum.

ويقول لكتانتيوس في دِفاعه عن المسيحية أنه في زمان اضطهاد دقلديانوس كان الوثنيون قد قرروا ”سفك دم المسيحيين حتى أنهم في فريچيا أحرقوا جماعة كاملة في الكنيسة حيث اعتادوا أن يجتمعوا“، ويسجِل أرنوبيوس نفس الكلام في دِفاعه ويقول ”لماذا تحرِق كُتبنا المُقدسة في النار؟ لماذا تُهدم كنائِسنا وتُحرق؟“.

الاضطهادات العشرة التي عبرت على الكنيسة في العصر الروماني

الاضطهاد الأول تحت حكم الإمبراطور نيرون سنة 64 م.

الاضطهاد الثاني تحت حكم الإمبراطور دوميتيان سنة 81 م.

الاضطهاد الثالث الذي بدأ في عصر تراجان سنة 106 م.

الاضطهاد الرابع تحت حكم مرقس أوريليوس أنطونيوس عان 166 م.

الاضطهاد الخامس الذي بدأ مع ساويرس عام 193 م.

الاضطهاد السادس في عهد مكسيميانوس التراقي سنة 235 م.

الاضطهاد السابع في عهد ديسيوس سنة 250 م.

الاضطهاد الثامن على يد فاليريان الطاغية سنة 257 م.

الاضطهاد التاسع في عهد أوريليان سنة 274 م.

الاضطهاد العاشر في عهد دقليديانوس سنة 284 م. | بدء التقويم القبطي على رسم الشهداء

الاضطهاد الأول تحت حكم الإمبراطور نيرون سنة 64 م.

أمر بحرق مدينة روما على أيدي جنوده وضُباطه وخَدَمُه، وأثناء احتراق المدينة العظيمة صعد إلى برجٍ عالٍ وأخذ يلعب على أوتار قيثارته ويُغنِّي على حرق روما، ولمَّا عاد إلى وعيه وأدرك فِعلتُه الشنعاء، ألقى بالذنب على المسيحيين في مملكته، وكان هذا هو المُبرر لبدء أول اضطهاد مُنظَم ضد المؤمنين بالمسيح..

ومن الأسماء التي يذكُرها التاريخ من شهداء هذا العصر: القديسان بولس وبطرس الرسولان العظيمان، والقديس مارمرقُس الرسول كاروز الديار المصرية (رغم أنه استُشهِد بمصر عام 68 م بيد رومانية ومصرية)، أرسترخُس المقدوني، تروفيموس من أفسس الذي آمن على يد بولس الرسول وشريك خدمته، ويوسف المُلقب برسابا، حنانيا أسقف دمِشق – الذي لاقى الرسول بولس –، وكل هؤلاء من عِدَاد السبعين رسولًا..

لقد أحدث نيرون كرنڤال من الدِماء لم يشهده العالم قط حتى أنَّ البعض قالوا أنَّ ما حدث كان إجابة قُوات الجحيم لحركِة التبشير المُثمِرة التي قام بها بطرس وبولس الرسل.

ومن المشاهِد الوحشية في تعذيب المسيحيين على يد نيرون أنه كان يُشعِل النار فيهم ويتركهم يُضيئون كالمشاعِل لتسلية الجماهير .. وصار نيرون أول مُضطهدي الكنيسة.

الاضطهاد الثاني تحت حكم الإمبراطور دوميتيان سنة 81 م.

شن الاِضطهاد الثاي ضد المسيحيين تحت حكم الإمبراطور دوميتيان سنة 81م، ومن بين شُهداء ومُعترفي هذا العصر: سمعان الأسقف الذي جلس على كرسي أورشليم خليفة للقديس يعقوب الرسول (مات مصلوبًا)، القديس يوحنا الرسول الذي عُذِّب بالزيت المغلي ثم نُفِيَ إلى بطمُس حيث رأى رؤياه وسجلها في سفر الرؤيا..

وفي عصره صدر قانون صريح: ”لا يُفرج عن مسيحي أمام المحكمة ما لم يجحد دينه“.

وفي عهده كان يُلقى باللوم على المسيحيين بسبب أي مجاعة أو زلزال أو وباء يحدث في البلاد.

ويُؤكد التقليد الكنسي والقديس إيريناوس وچيروم ويوسابيوس أنَّ دوميتيان اضطهد كنائِس آسيا الصغرى، ومن بين الذين استُشهِدوا إبان عهده أنسيموس وديونيسيوس الأريوباغي – الذي آمن على يدي بولس الرسول في مجمع آريوس باغوس بأثينا والذي منه أخذ لقبه – الأريوباغي – مع امرأة أخرى اسمها دامرس (راجِع أع 17).

الاضطهاد الثالث الذي بدأ في عصر تراجان سنة 106 م.

في هذا الاِضطهاد الثالِث تقدَّم رجل وثني مُثقف مشهور اسمه ”بليني الثاني“ وكتب إلى الإمبراطور يُدافِع عن المسيحيين، لأنه يُحكم عليهم بالموت وهم لم يأتوا أي ذنب ضد القانون الروماني..

حرَّم تراجان المسيحية نهائِيًا.. وفي عهده صُلِب سمعان أسقف أورشليم سنة 108 م، وهو في سِن المائة والعشرين، وفي نفس هذه السنة استشهد الأسقف الأنطاكي أغناطيوس الرسولي الذي خَلَفْ الرسول بطرس على كرسي أنطاكية وأُلقِيَ للوحوش الضارية في الكلوسيوم، ثم ازداد الاِضطهاد قسوة وضراوة في عهد هادريان خليفة تراجان حيث استُشهِد في أيامه حوالي عشرة آلاف مسيحي.

الاضطهاد الرابع تحت حكم مرقس أوريليوس أنطونيوس عام 166م.

حيث كان الشهداء يسيرون بأقدامِهِم المجروحة الدامية فوقَ الأشواك والمسامير والقواقِع المُدببة.

وفي هذا العهد استُشهِد القديس بوليكاربوس أسقف أزمير، تلميذ القديس يوحنا الحبيب، ويوستينوس الفيلسوف، وبلاندينا السيدة المسيحية من ليون بفرنسا.

وقيل في وصف حياة المسيحيين في هذا العصر: ”اِضطهاد فوق الأرض، وصلاة تحت الأرض“، نسبة إلى بِدء استخدام السراديب الخفية تحت الأرض للعبادة والقُداسات والاِجتماعات الروحية بعيدًا عن أنظار الشرطة الرومانية، وقد انتشرت هذه السراديب في روما والأسكندرية ونابلُس وسيسليا (صقليَّة) وأفريقيا وآسيا الصغرى.

كان هذا الإمبراطور Marcus Aurelius يرى في المسيحية خُرافات مُصطنعة، فملأت جُثث الضحايا الطُرُقات، ومن أشهر الذين استُشهِدوا في هذا العهد، الفيلسوف المُدافِع يوستين الشهيد سنة 166 م. والأسقف بوثينوس والصبي بونتيكوس.

الاضطهاد الخامس الذي بدأ مع ساويرس عام 193 م.

بدأ مع تولِّي ساويرُس العرش عام 193 م.

كان ساويرُس قد شُفِيَ من مرض شديد على يد مسيحي، فحفظ الجميل للمسيحيين على وجه العموم، لكن التحيُّز الأعمى للوثنيين من أتباعه وخضوعه لغضب الغوغاء، سُرعان ما قلبه على المسيحيين، كما أنَّ سُرعِة انتشار المسيحية في الإمبراطورية أثارت حفيظة الوثنيين، فأراد الإمبراطور إرضاء حقدِهِم، لكن بالرغم من هذا الاِضطهاد فإنَّ الإنجيل ووصاياه السامية تألَّق تألُقًا شديدًا في حياة المسيحيين اليومية.

وقد قال العلاَّمة ترتليان المُدافِع المسيحي الذي عاش في هذا العصر: ”اِبحثوا لي عن مسجون مسيحي واحد في سجون الإمبراطورية مُتهم بتهمة أخرى غير كونِهِ مسيحيًا“.

وفي هذا العصر استُشهِد ڤيكتور أسقف روما (201 م.)، ولاونديوس والد الفيلسوف المسيحي السكندري أوريجانوس، وكثيرون من تلاميذ أوريجانوس، وكذلك القديسة بوتامينا العفيفة والضابِط الروماني باسيليدس الذي تأثَّر بقداسِة القديسة بوتامينا وحَفَظَهَا للعفة وكرامِة جسدها وآمن بالمسيح، وإيريناؤس أبو التقليد الكنسي أسقف ليون بفرنسا، وبربتوا السيدة المُتزوجة الشابة التي تبلُغ من العُمر 22 عامًا ورفيقتها فيليستاس السيِّدة الحامِل ورُفقائِهِما، واسكليباس أسقف أنطاكية وكاليستوس وأوربان أسقفا روما المُتتابِعان (224 م، 232 م).

أصدر الإمبراطور مرسومًا بمنع المسيحيين من تبشير غيرهم فحلَّت الاضطهادات في مصر وشمالي أفريقيا، حيث قدَّمت لنا كنائِس تلك الأقاليم أينع زهورها على مذبح الاستشهاد.

الاضطهاد السادس في عهد مكسيميانوس التراقي سنة 235 م.

كان هذا الإمبراطور Maximian دمويًا، فمكَّن الشعب من اضطهاد المسيحيين، وأمر بقتل الأساقفة والرعاة ظنًا منه أنَّ هذه هي نهايِة المسيحية..

ولم تعرِف البشرية في كل تاريخها شُهداء كشُهداء المسيحية الذين نالوا الجعالة من أجل ثباتهم في الإيمان إلى النَّفَسْ الأخير.

الاضطهاد السابع في عهد ديسيوس | داكيوس سنة 250 م.

أصدر الإمبراطور ديسيوس (داكيوس) Decius مرسومًا، يُحتِّم فيه ضرورة إعادِة ديانِة الدولة الوثنية، وكل من لم يخضع لهذا المرسوم عرَّض نفسه لبربرية وحشية غاية في العنف.

وساد اضطهاد عام وشامِل في عهده، اِستشهد فيه طغمة كبيرة من الشهداء الذين تمسَّكوا بإيمانهم ومحبتهم للمسيح العريس السماوي بغيرة عجيبة وشجاعة نادرة مُذهلة، وكان الولاة أكثر شراسة مع الأساقفة والرعاة والخدام، الذين أخذوا بركِة الاستشهاد حُبًا في الله.

ومن أشهر شُهداء هذا العصر القديس مرقوريوس أبي سيفين وبابيلاس الأنطاكي…

الاضطهاد الثامن على يد فاليريان الطاغية سنة 257 م.

نفى فالريان الأساقفة والقسوس والشمامِسة، بعد أن أعدم كثيرين منهم، وجرَّد المسيحيين من مناصِبهم… وكل من أصر وتمسَّك بديانته بَتَرْ رأسه.

تمعن في إذلال المسيحيين، فقيدهم ونفاهم ليعملوا في ضِيَاع الإمبراطورية، وحرَّم الاِجتماعات الدينية..

ومن أشهر شُهداء ذلك العهد، الشهيد الأفريقي كبريانوس القرطاچي أسقف قرطاچنة.

ونُفِيَ أيضًا في ذلك العهد البابا ديونيسيوس الأسكندري في منطقة خفرو في مجاهِل صحراء ليبيا، وقد رافقه في منفاه عدد غير قليل من أبنائِهِ المصريين.

وفي عام 260 م توفى ڤاليريان الطاغية وخَلَفُه غالِّينوس ابنه، وتمتعت الكنيسة – مع بعض الاِستثناء – بسلام في أيام حكمه الذي دام سنوات قليلة.

الاضطهاد التاسع في عهد أوريليان سنة 274 م.

أوِّل الشهداء في عصره كان فيلكس أسقف روما، وأغابتيوس أحد أغنياء روما الكُرماء ثم خَلَفْ أوريليان الإمبراطور تاسيتوس ثم بروبوس الذي قُتِل في عاصفة رعدية، فخَلَفَهُ ابناه كارنيوس ونوميران، وخلال كل هذا تمتعت الكنيسة بالسلام.

أصدر أوريليان مرسومًا بقتل المسيحيين كان من أثره مذابِح مُروعة في أماكن شتى ويذكُر يوسابيوس المُؤرخ الكنسي أنَّ الفترة التي تلت أوريليان وانتهت بارتقاء الطاغية الإمبراطور الدموي، كانت فترة هدوء وسلام نِسبي في الكنيسة، إلى أن أتى دقلديانوس المُتوحِش الذي شن سلسلة من المتاعب الضارية بهدف سحق الكنيسة المسيحية، فَسَجَنْ جميع رؤساء الكنائِس وعذَّبهم ليُرغِمَهُم على جحد الإيمان ومحو المسيحية.

الاضطهاد العاشر في عهد دقليديانوس “ديوكلتيانوس” سنة 284 م. | بدء التقويم القبطي على رسم الشهداء

نظرة في تُراثنا التاريخي نصل بها إلى عام 284 م. التي اعتلى فيها دقلديانوس Diocletian العرش الإمبراطوري في روما Rome، تُرينا أنه في البداية أظهر تعاطُفًا كبيرًا مع المسيحيين، وفي عام 286 م. أشرك مكسيميان Maximian معه في الحكم ليكون إمبراطور الشرق ومنذ ذلك الوقت ذاق المسيحيون كأس الاستشهاد واصطبغوا بها ثانيةً، مثل زوئي زوجة السَّجان، التي كانت تعتني بالشُهداء الذين تحت حراسة زوجها ثم تنصرت، فعُلِّقت على شجرة تشتعِل بالنار في جذعها، ثم أُلقِيت في نهر وقد عُلِّق حجر كبير في عُنُقها.

وفي عام 286 م. اِستُشهِدت الكتيبة العسكرية الطيبية عن آخرها وكان كل أفرادها من أبناء الأقصر، لأنهم رفضوا الإذعان لأمر الإمبراطور مكسيميان بتقديم الذبائِح للأوثان والنطق بالقَسَمْ على إنهاء المسيحية في بلاد الغال -التي أرسل إليها أفراد هذه الكتيبة- وكان ذلك في 22 سبتمبر عام 286 م.

وأصدر دقلديانوس مع زميله غاليروس Galerius منشورًا بهدم كل الكنائِس المسيحية وإحراق الكتب الكنسية، واعتبار المسيحيين خارجين عن القانون.

وفي 25 نوڤمبر عام 311 م. وبأمر الإمبراطور مكسيميان الذي كان يملُك على الشرق استُشهِد البابا بطرس البطريرك السابِع عشر في خلافِة مارمرقُس الرسول.

ويقول يوسابيوس المؤرِخ الكنسي، أنَّ في مصر كان يوجد جمع غفير لا يُحصى من المؤمنين مع زوجاتِهِم وأطفالِهِم ممن عانوا من كل أنواع العذابات والموت من أجل الإيمان.

وفي عصر دقلديانوس قام أريانوس والي أنصِنا بتعذيب عدد كبير من المسيحيين في بلاد الصعيد منهم: الشهيدة دُولاجي الأُم وأبنائها، والقديس أبو قلتة، والأنبا بضابا الأسقف وغيرهم آلاف آلاف..

ويذكُر التاريخ أنَّ هذا الوالي قد تنصَّر إثر معجزة باهرة حدثت له آمن على أثرها بالمسيح، وأرسل إلى الإمبراطور دقلديانوس رسالة يُجاهِر فيها بإيمانه ويندم على كل الاِضطهاد الذي أوقعه على المسيحيين، فأمر الإمبراطور بقتله.

ويقول المُدافِع والعلاَّمة ترتليان عن تقييمه لعدد شُهداء مصر من المسيحيين: ”لو أنَّ شهداء العالم كله وُضِعوا في كفة ميزان، وشهداء مصر في الكفة الأخرى، لرجحت كفة المصريين“.

ويُقدَّر عدد شهداء الأقباط بحوالي ثمانمائة ألف شخص.

وعبَّر أيضًا العلاَّمة ترتليانوس عن قوة المسيحية ونقاوة فضائِلها ومدى انتشارها بلا سند من قوة زمنية، وهو الذي عاصر الاضطهادات دون أن يرى نهايِتها – بقوله ”دِماء الشهداء بِذار الكنيسة“.

لقد كان امتناع المسيحي عن بعض ممارسات الحياة الوثنية كفيلًا بكشف أمره وهكذا كان يُمات كل ساعة. . وهكذا كانت الشهادة كل النهار، كل خطوة تنطوي على اعتراف حَسَنْ وشهادة أمينة لله لذلك كان سيف الموت مُسلَّط دائِمًا على رِقاب المسيحيين -بحسب تعبير العلاَّمة ترتليان- لأنه لا يجوز للمؤمن أن يشترِك مع الوثنيين في الملبس والمأكل أو في أي مظهر، علاوة على امتناع المؤمنين عن بعض الحِرَف التي لها صِلة بعبادة الأصنام، وتركهم لها فجأة كان يُعرِّضهم للمحاكمة العامة..

وقد أورد كلٍ من يوسابيوس القيصري في تاريخه الكنسي والعلاَّمة ترتليان والشهيد يوستين الشهيد في دفاعياته كيف كان المسيحيون يُستبعدون من المناصِب العامة ومع ذلك كانوا يُحبون الإمبراطورية ويُصلُّون من أجل العدل والسلام، ولكنهم لا يعبدون الأباطرة، مُظهرين غيرة شديدة نحو الإيمان.

واعتُبِرَت المسيحية أبشع جريمة يموت من أجلها كل من دُعِيَ عليه اسم المسيح، فضلًا على أنَّ الدُهماء والغوغاء اضطهدوا الكنيسة أشد اضطهاد، وها التاريخ يُعيد نفسه، فأحيانًا بالاِقتحام والسلب، وأحيانًا بالتحطيم والحرق والسطو، كما حدث في زمان البابا ديونيسيوس الأسكندري.

أخيرًا لا بُد أن نُشير إلى أنَّ تلك الاضطهادات، هي الحرب التي صنعها الوحش مع الخروف الجالِسة عليه امرأة سَكْرَى من دم القديسين ودم شُهداء يسوع
(رؤ 17: 3).

ويذكُر التقليد الكنسي أنه في سنة 313 م. وفي مدينة ميلانو صدر مرسوم للتسامُح مع المسيحيين، يُعرف باسم ”مرسوم ميلان“ أُعطِيت به الحرية الدينية للمسيحيين، وكان هذا على يد الإمبراطور قسطنطين المُحِب للإله، الذي يُعتبر آخر الأباطِرة الوثنيين وأول المسيحيين.

لقد تفاقم الإحساس بالمرارة من الاِضطهاد الطويل الذي عانت منه الكنيسة، وقد كان ترتليان والشهيد يوستين والمُدافِع لكتانتيوس أول من دافع عن حرية العقيدة، وواجهوا الوثنيين بأنَّ (الدين أساسًا هو مسألة إرادة حرة وأنه ينتشر بالإقناع لا بالفرض، بالتعليم لا بالقوة الجبرية).

موقف المسيحيين في وسط العالم في أيام الاضطهاد

عدم مقاومة الشر

الصلاة

المحبة

الارتباط السري بين الصلاة وقبول الآلام

الاستعداد للآلام بفرح

عدم مقاومة الشر

تلخَّص موقف المسيحيين في عدم المُقاومة ولا حتى ظِل المُقاومة، وبالطبع دون أي مُقاومة مُسلحة.

التزم المسيحيون تجاه الاضطهاد المُنظَّم ضدهم بالتطبيق المُباشِر والبسيط لمبدأ ”لا تُقاوموا الشر“ فتركوا أنفسهم بهدوء وتسليم للإبادة وأحنوا رؤوسهم ورِقابِهِم للسيف لا صاغرين بل فَرِحين غالبين الآلام، الأمر الذي أدهش الوثنيين.

وعندما أدركتهم الضيقات قبلوا الموت بقلب راضِ وأحنوا رؤوسهم للسيَّاف بلا مُقاومة ولا حتى مُجادلة، وهم شاكرين قابلين الآلام، حتى ارتجف الجنود من شدة إيمانِهِم.

تعال لترى معي إستفانوس العظيم رئيس الشمامسة وأول الشهداء ماذا قال لراجميه؟ ”يارب لا تقِم لهم هذه الخطية“.

فكما غفر المسيح ربنا ورب الجميع لصالبيه لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون، هكذا فَعَلْ إستفانوس شهيد المسيحية الأول، وهكذا سلك كل شهود وشُهداء المسيح.. شهادِة الحق بوداعة، شهادِة الدم بلا مُقاومة ولا حتى مُجادلة..

إنَّ الاضطهاد والآلام هِبة وهدية مُقدمة من الرأس إلى أعضاء جسدهِ حتى تنمو الكنيسة بلا مُقاومة ولا إكراه، بل بالحب والكرازة وبشارِة الفرح.

الصلاة

كانت الصلاة هي حصنهم المنيع سواء الصلاة الفردية أو الصلوات الجماعية (الليتورچيَّة)، لأنها سلامهُم الوحيد، مواظبين على الصلوات مُدركين وِحدتهم الروحية مع رب المجد يسوع وفي ذلك كمال الفرح وكثرِة التعزية فأي فرح يشملنا لأننا شُركاء المسيح ومن أجله نتألم!!.. ”نالني ضيق وحُزن وباسم الرب دعوت“ (مز 116).

حتى أنَّ كثير من الشهداء صلُّوا لكي ينالوا عطيِة الشهادة فنالوها، وصلُّوا لكي يهِبهُم الله روح النُّصرة عندئذٍ رأوا ولمسوا عمل الله في شهادتِهِم، واقترنت العبادة بحدوث المُعجزات والعجائِب، بنعمة الرب العاملة فيهم.

ازدهار الكِتابات اللاهوتية والروحية:

في عصور الاستشهاد، صاحب الصلوات والعبادة ازدهار الكِتابات اللاهوتية والروحية لأنَّ الآلام والاضطهاد كما قال القديسون هي بمثابِة معصرِة العنب أو فرك الزهور ذات الرائِحة الطِّيِبة فهي تُسفِر عن رؤية روحية ومعرفة إلهية لأعماق حقائِق الإيمان… لذا نجد الآباء المُلتمسين أو المُدافعين Apologists مثل أكليمنضُس السكندري والعلاَّمة أوريجانوس وهيبوليتيس والبابا ديونيسيوس السكندري وخُلفائِهِم وتلاميذِهِم الذين ازدهرت كتاباتِهِم اللاهوتية والدفاعية وكذا رسائِلهم مثل رسائِل كبريانوس وأوريجانوس (الحث على الاستشهاد) والمُدافِع ترتليان (ترياق العقرب Scorpiacum)، ودِفاعات لكتانتيوس ويوستين الشهيد وغيرِهِم من الآباء الذين تركوا لنا تُراثًا حيًا.

المحبة

إنَّ الثبات والاحتمال والوداعة التي أثبتها المُعترفون والشهداء بلا استثناء أمام أعدائِهِم، كانت خبرة المحبة المسيحية الحقيقية..

لم يثوروا ولم يتمردوا، بل أحبَّ الشهداء أعدائِهِم، وشهدوا بمحبتهم قبل أن يشهدوا بدمائِهِم وصمودِهِم وصبرِهِم ووداعتِهِم، فالتزم الكل بأعمال المحبة وهم في عمق أتون الاضطهاد، ومحبة لكل المُضطهدين والمُقاومين، فغلبوا بمحبتِهِم مُعذبيهم الذين اقتبلوا الإيمان لمَّا رأوا ولمسوا محبة شُهداء المسيحية، الذين حسبوا العالم كله نِفاية من أجل فضل معرفة الله، وحسبوا الشتائِم منفعة لهم، والاضطهادات بركة الحياة وشهادِة الدم أقصر طريق للأبدية.

فالاستشهاد حُب مُنسكِب بالروح القدس في قلب الشهيد، حُب لرب المجد يسوع، وحُب للمُضطهدين والمُضايقين، فكثيرون قد تُسفك دمائِهِم وليس لهم نصيب مع الشهداء وكثيرون لم تُسفك دمائِهِم يُشارِكون الشهداء أكاليلهم..

إنَّ هناك قُوة جبارة دفعت شُهداءنا لقبول الآلام، تلك هي المحبة التي جعلتهم يتقدمون الصفوف، وهناك من كانت قلوبهم تلتهِب حُبًا نحو الرب، ولم تُتَح لهم فرصة لسفك دمائِهِم.

لقد أحبوا فاستحقوا، ولم يفصلهم عن محبة المسيح لا عُلو ولا عُمق ولا خليقة أخرى… فغمرتهم محبِة الفادي ليشهدوا حتى الدم لمحبتهم من أجل الرجاء العتيد.

الارتباط السري بين الصلاة وقبول الآلام

يظُن البعض أنَّ الاستشهاد عمل بطولي مثله في هذا مثل الأعمال البطولية الأخرى في كافة الميادين… لكن الاستشهاد المسيحي يتميز بأنه شَرِكة حقيقية مع آلام رب المجد يسوع المُتألِم… فالصلاة تنتعِش وتزكو رائِحتها في معصرة الاضطهادات إذا كانت بحق شَرِكة في الآلام والعذابات…

فهل نحن الآن نعيش بنفس الروح الإنجيلية الآبائية والرسولية التي تسلمناها في بدايِة المسيحية؟ هل نعيش ببساطِة الإيمان بقوة الروح وخبرِة المخافة وقبول الألم بشكر وصلاة؟

هذا الاختبار السرِّي اجتازه المسيحيون الأوائِل ببساطة لذلك تمجَّد الله في آلامهم وعذاباتهم وأظهر لهم قُّوته ومجده، حتى أنه كلما كان اضطهادهم شديدًا كلما كان عيدهم بهيجًا، وكان المكان الذي يذوقون فيه أشد العذابات لابد أن يُقيموا فيه أهم الاحتفالات.

ولقد ميَّز المسيحيين ظاهرتان واضحتان، هما شهوِة الاستشهاد ومحبة البتولية، تلك الروحانية العميقة التي عاشوها والسمو العجيب الذي حققوه باحتقار الجسد فحيث الاستشهاد لابد أن توجد الطهارة، لذلك كانت الحياة الرهبانية هي ظِل الاستشهاد، وجاءت الرهبنة بعد عصر الاستشهاد مباشرةً، وكأنَّ الاستشهاد والشهادة لم تنتهي… بل مستمرة وحتى مجيء ربنا يسوع الثاني ليأخذ كنيسته.

وأكَّد الاستشهاد على صِدق الإيمان المسيحي فلو أنه مجرد خُرافات مُصطنعة لِمَا قدَّم هؤلاء الشهداء دماءِهِم رخيصة من أجل محبة الملِك المسيح، هو تألم وهم يتألمون من أجله.

الاستعداد للآلام بفرح

كانت نفسية الشُهداء والمُعترفين فَرِحة وشُجاعة واثقة، تسندهم المعونة الإلهية التي وعد الله بها جميع المُضطهدين من أجل اسمه (لو 21: 21).

لقد أحس المُعترفون بشرف تألُّمهم (في 3: 10 ؛ كو 1: 24) مُتطلعين إلى المجد العظيم الذي ينتظرهم وينتظر جميع الذين يُحبون ظهوره أيضًا.. وقد تعزُّوا من الرؤى العظيمة المُشجعة، والتي جعلتهم يرون أكاليلهم ويتطلعون لميراثهم الأبدي حيث المسكن المُستعِد في المدينة التي لها الأساسات.

لقد استعذبوا الألم وسعوا ورائه، فبهروا العالم كله لا في قبولهم الآلام واحتمالهم العذابات المُرَّة، بل بفرحِهِم بها وشكرهم عليها وسعيهم ورائها كعطية، فحوَّلوا السجون إلى كنائِس يُسمع فيها صوت التسبيح… ليُعطينا الرب أن نفرح في الضيق وأن نُسبِّح في الألم، عالمين أننا نتألم لنتمجَّد..

كثير من الأُمهات كُنَّ يرفُضنَ الاستشهاد، إلاَّ بعد الاطمئنان على استشهاد أبنائِهِنَّ أمام أعيُنهِن خوفًا عليهم من البقاء بين الوثنيين، وكثيرون أرسلوا يُشجعون أقربائِهِم في السجون ويحسدونهم على نعمة الاستشهاد، حقًا إنَّ الآلام صعبة لكن الانشغال بالمسيح الإكليل واللؤلؤة يُعطي للألم لذة وللنَّفْس سلام وثبات.

لقد عانق الشُهداء الموت في فرح وهدوء وتسليم عجيب أذهل مُضطهديهم، بعد أن أيقنوا حلاوة المجد الأبدي والميراث الذي ينتظرهم.

ويُمكننا أن نقول أنَّ كل من تمتَّع بخلاص الله العجيب اتحد بالمُخلِّص المصلوب يُصلب عن العالم، ومن مات عن العالم تمتَّع بالعِشق الإلهي والفرح.

كيف أعدت الكنيسة أولادها للاستشهاد؟

إنَّ الاستشهاد اختبار تَقَوِي يومي يحيا فيه المؤمن، والكنيسة كجسد المسيح المُتألِم، يلزمها قبول سِمَات المسيح الرأس حتى تكون لها شَرِكة الحُب الحقيقي والوحدة التي بين العريس المُتألم وعروسه، بين الرأس والجسد (الأعضاء).

لذلك الكنيسة العروس تُكمِّل نقائِص شدائِد المسيح بالألم (كو 1: 24) فالمسيح هو العريس والرأس وحجر الزاوية…

ولمَّا كانت الكنيسة أُم جميع المؤمنين، لذلك سلَّمت أولادها صراحة الإيمان، وجعلتهم يستعدون للمعركة الروحية غير واضعين أمامهم سوى مجد الحياة الأبدية وإكليل الاعتراف بالرب، غير مُهتمين بما يُقابلهم من عذابات، لأنها ستكون كتلك التي عبرت وانتهت…

ولأنَّ الحرب قاسية وشديدة تلك التي تُهدد جنود المسيح، لذلك هيَّأتهم ليشربوا كأس دم المسيح اليومي حتى يُعطيهم إمكانية تقديم دمهم مسفوكًا لأجله، لأنَّ من قال أنه ثابِت فيه ينبغي أن يسلُك كما سَلَكَ ذاك (1يو 2: 6).

المسيح عريس الكنيسة ورأسها وأُسقفها هو الذي يُتوِج خُدامه الذين أُعِدَّت أفكارهم وحياتهم للاعتراف والاستشهاد … فهو لا يرغب في دَمِنَا بل يطلُب إيماننا.

لهذا حرصت أُمنا البيعة المُقدسة على إعداد أولادها للاستشهاد لا بخوف كالعبيد بل بحُب كما يليق بأبناء أحرار، فيا لها من كنيسة مجيدة ومُطوبة تلك التي صار فيها دم الشُهداء مُمجدًا!!

لقد كانت بيضاء قبل استشهاد هؤلاء العِظَام، والآن بعد أن أعدَّتهُم الكنيسة للشهادة فشهدوا، صارت قُرمُزية بدم الشُهداء، ولم يعُد ينقُصها زهور بيضاء ولا زنابِق حمراء. . لذلك تُجاهد الكنيسة لتُعِد أولادها بجهاد عظيم غير مُتزعزِع لأجل المجد، فينال أولادها أكاليل بيضاء بجهادِهِم في غير زمن الاستشهاد، وينالون أكاليل قُرمُزية مُخضبَّة بدِماء شهادتِهِم في زمن الاستشهاد، عندئذٍ يكون في السماء لكلٍ منهم زهوره التي يتمجد بها جنود المسيح.

دور الكنيسة في الاستعداد للاستشهاد

كان دور الكنيسة الأساسي الذي قامت به أثناء الاضطهادات المُريعة التي صادفتها خلال الثلاثة قرون الأُولى، هو إعداد أبنائها لاجتياز تلك الاضطهادات التي كانت في عهد الأباطرة المُضطهدين:-

(1) نيرون سنة 64 م.
(2) دوميتيان سنة 81 م.
(3) تراجان سنة 106 م.
(4) أوريليوس سنة 161 م.
(5) ساويرُس سنة 193 م.
(6) مكسيميانوس سنة 235 م.
(7) ديسيوس سنة 250 م.
(8) ڤالريان سنة 257 م.
(9) أورليان سنة 274 م.
(10) دقلديانوس سنة 303 م. لكنه سالم الكنيسة منذ تَوَلِّيه سنة 284 م. حتى سنة 303 م.

ومن إحصائية قام بها بعض المؤرخين للسنوات التي عاشتها الكنيسة تحت الحرمان والاضطهاد، تبيَّن ما يأتي:-

القرن الأول سِت سنوات اضطهاد ، مُقابِل 28 سنة تسامُح.
القرن الثاني 86 سنة اضطهاد، مُقابِل 14 سنة تسامُح.
القرن الثالِث 24 سنة اضطهاد، مُقابِل 76 سنة تسامُح.
القرن الرابِع 10 سنوات اضطهاد ، حتى صدور مرسوم ميلان.

فالكنيسة عاشت تحت الحرمان والاضطهاد والمُطاردة ابتداءً من عصر نيرون سنة 64 م إلى سنة 313 م، حتى مرسوم ميلان السلامي الذي أصدره قسطنطين الكبير… ومع أنَّ الاضطهادات لم تكن بدرجة واحدة في العُنف، إلاَّ أنَّ الكنيسةمن سنة 249 م حتى تملَّك قسطنطين الكبير ذاقت اضطهادات ومُطاردات ومذابِح عظيمة.

وكانت الأجيال المُتلاحِقة تُدرِك تمامًا أنها تعيش تحت خطر الاستشهاد الذي ينبغي الاستعداد له… فكان هذا واجب الأساقفة وقادة الكنيسة من إكليروس وعلمانيين.

فكانت تُلقِن أولادها إنهم مُجاهدون لأنَّ حياة المُجاهِد تستوجِب التدريب على النُسك والجهاد.. ويذكُر التاريخ والتقليد الكنسي أنَّ هناك شُهداء لم يكونوا مُستعدين ولا مُدربين لذلك عجزوا عن الشهادة، وكذلك نجد أنَّ القديس كبريانوس الأسقف والشهيد سنة 249 م يُؤكد على حمل سلاح الله.. فصار تدريب الكنيسة الروحي المُستمر هو الاستعداد للموت وتصفية النَّفْس.

وتكلَّم أيضًا العلاَّمة ترتليان عن مبدأ الاستعداد بقوله: يجب أن تجعل النفس تألف السجن وتُمارِس الجوع والعطش وتقبل الحرمان من الطعام حتى يمكن للمسيحي أن يدخل السجن، بنفس الكيفية كما لو كان خارجًا منهُ حالًا، فيصير تعذيب العالم لنا ممارسة عادية… فلنمضي للجهاد بكل ثقة دون جزع كاذِب، وليصير الجسد مُدرع بسلاح فيوجد يابسًا. لذلك نقرأ في سيرِة الشهيد يوحنا الهرقلي أنه عاش كيوحنا المعمدان بتولًا، والشهيد أنبا إيسي من صعيد مصر الذي فضَّل البتولية وحذا حذو أُخته تكلة.

الكتاب المقدس المُعاش

كما وحرصت الكنيسة على أن يهتم أولادها بالكتاب المُقدس، يحملونه وينسخونه ويعيشونه، فالكنيسة تُغذِّي أولادها بكلمة الحياة منذ حداثتهم ليشُبُّوا بقلوب مُستنيرة لا يهابون الوُلاة بل بجرأة مُنقطِعة النظير يشهدون للمسيح الراعي والفادي والمُخلِّص.

وقامت الكنيسة بتصوير أمثلة وقصص العهد القديم على الفرسكا والرخام والنقش على الأحجار لتعميق الأثر الإنجيلي في قلب الشعب عن طريق الرؤية الروحية، ومن أبرز المناظِر الإنجيلية التي ركِّزت عليها الكنيسة في أزمِنة الاضطهاد:

الفتية في الأتون.

دانِيال النبي في جُب الأُسود.

يونان في بطن الحوت.

تلك المشاهِد التي تُلهِم الثقة بالمعونة الإلهية وتُوحي بنجاة إعجازية اقتناعًا بخلاص الرب الذي يصنعه في حينه، فيتم التعليم عن طريق تصوير أمثلة وقصص العهد القديم، من أجل التلمذة على الكتاب المُقدس (الإنجيل المُعاش).

ففي سيرِة شُهداء سكيلِّلي شمال أفريقيا الذين استُشهِدوا بقرطاچنة سنة 180 م يسأل الوالي ساتورنينوس أحدهم: ما هذا الذي تحمِله على صدرك؟ أجاب سبارتوس: كُتُب ورسائِل مُعلِّمنا بولس…

والقديسة تكلة الشهيدة من صعيد مصر تُوصي ابنها أبولونيوس بالاهتمام بالكتب المُقدسة للبيعة.

الثقافة الروحية والتعليم الكنسي

واهتمت الكنيسة أيضًا بدراسِة الحقائِق اللاهوتية، وكان التعليم الكنسي مهمة البطارِكة والأساقفة، وهنا برزت في التاريخ الكنسي شخصيات عظيمة أمثال المُدافِع يوستين الشهيد، والعلاَّمة أوريجانوس، والقديس كيرلُس الأورشليمي، والقديس كيبريانوس أسقف قرطاچنة الشهيد الأفريقي، والقديس البابا كيرلُس الأول عمود الدين، والبابا العظيم أثناسيوس الرسولي الذي لُقِّب بمُؤسس المسيحية الثاني…

ولمَّا كانت الثقافة الروحية والتعليم الكنسي مُتأصِل لدى الشعب بل وحتى لدى العامة، لذا تمسَّك الشُهداء بعقيدتهم حتى الدم مُحتملين العذابات والتقطيع.

فكيف لشعب لم يتعلَّم عقيدته ولم يعرِف إيمانه أن يُقدم شهادِة دم أو شهادِة فم (كرازة)؟… وكنيستنا كنيسة العِلم واللاهوت كانت سبَّاقة في تعليم أعضائها العقيدة القوية وتسليمهم صراحِة الإيمان المُسلَّم مرَّة للقديسين.

وكانت الكنيسة تُوزِع مقالات وكتابات أعدَّها مُعلِّمو البيعة بخصوص الحث على الاستشهاد للتذكير بالوصايا والمواعيد الإلهية والأمجاد السمائية، وتعليم الشعب حقائِق الإيمان وجوهر العقيدة، مع التحذير من الضعفات..

وقد انبرى آباء الكنيسة وقاموا بدور عظيم، مثل القديس أنطونيوس الكبير الذي أرسل عدَّة رسائِل إلى الكهنة والشمامِسة يحثهم على تشجيع المُعترفين وتثبيتهم في الإيمان.. فقامت بمهمة تثبيت المُعترفين في سجونِهِم وتعزيتهم في وسط ظلام السجون، مع تقديم العون لهم والسهر على روحياتِهِم.

وعلَّمت الكنيسة أولادها حياة التسبيح والتهليل حتى إذا تقدموا في حلبِة الاستشهاد، امتزجت دماؤهم بالصلوات والتسابيح المُفرِحة واحتفظوا بشجاعة ناصعة بلا عيب. . فبلغوا إلى الموت مُسبِحين الحي إلى أبد الآبدين، ثابتين غير هيَّابين ولا مهزومين في الإيمان، بعزم الإرادة والاعتراف وسط القيود، بتسبيح شكر يُتمم مجد الاستشهاد.

وقد اهتمت الكنيسة اهتمامًا خاصًا لا يتناقص بمن هم في السجون، الذين اعترفوا بالرب اعترافًا حسنًا، وخدمت هؤلاء البواسِل، واعتنت بأجساد من فارقوا الحياة وانتهوا نهاية مجيدة في السجون، أو ماتوا قبل التعذيب، فشجاعتهم ليست أقل ممن عُذِّبوا، بعد أن قاسوا ما كانوا عازمين ومُستعدين أن يُقاسوه واعترفوا وصبروا إلى النهاية.

الثبات في روح الحب للجميع حتى المُضطهِدين

كما وسلَّمت الكنيسة أبناءها روح الحُب، من خلال موائِد (الأغابي) ، وافتقاد السجون وزيارِة المُعترفين ورعايتهم عن طريق ولائِم المحبة (الأغابي) والتي كانت تُقام بالسجون.

لم تُعلِّم الكنيسة أولادها التذمُر بل كانت تُثبِّت فيهم روح الحب للجميع وبالأخص للمُضطهدين، وتُصلي من أجل أولادها لأنها تعرِف ضعف البشرية ونقصها… وعلِّمت الكنيسة أولادها البُعد عن الإثارة حتى أنَّ القديس بطرس خاتِم الشُهداء قدَّم نفسه للاستشهاد خِفية، حتى لا يثور الشعب ضد المُضطهدين، ولكن في الوقت عينه دافعت الكنيسة عن أولادها، وكتب الآباء باستفاضة دفاعيات قُدِّمت بشجاعة للولاة الوثنيين، دون أن يحرضوا أو يُثيروا الشعب.

ركِّزت الكنيسة في برنامجها الروحي على أنَّ الصوم يُعلِّم الاستشهاد، لذلك علِّمت أولادها الجهاد والنُسك، لأنه كيف لإنسان أن يُقدِّم دمه وهو لم يتدرب أن يصوم أو يعطش من أجل الله، وكيف للنَّفْس التي لم تتهذب بالجهاد والأصوام والتداريب أن تتقدم بثبات أمام الأتون والهنبازين والصُلبان وكل صنوف العذابات، فالنُسك كحياة زُهد هو المدرسة الأُولى التي تتلمذ فيها المسيحي استعدادًا للاستشهاد.

ولأنَّ كنيستنا كنيسة نُسكية علِّمت المسكونة كلها النُسك والرهبنة، لذلك هي أيضًا أُم الشُهداء، التي بتدريبها لأبنائها على الصوم والجهاد جعلت منهم مُصارعين وشُهداء، فلا يخافون من أي عدو خارجي، لأنهم انتصروا على أنفُسهم فغلبوا العالم كله، والنُّصرة إنما تبدأ من داخل…

لم تنسَ الكنيسة الرعاية الاجتماعية لأُسَر الشهداء، من خلال حياة الشَرِكة (الكينونيا) κοινωνία، فكان الأغنياء يضمون إليهم المُشردين، وكان البطارِكة والأساقفة يتخفون في ملابِس الفقراء ويزورون الأُسَر المُشرَّدة ويُقدِّمون لهم العطاء، مع مُتابعة هذه الأُسَر اجتماعيًا وروحيًا ومساعدتهم ماديًا. . حتى أنَّ العلاَّمة ترتليان في رسالته إلى بعض المُعترفين الذين في السجون، يقول لهم ”أنَّ الكنيسة لم تترُككُم مُعوزين شيئًا“.

عمل الرعاية والخدمة في الكنيسة

ونستطيع أن نقول أنَّ الذين يجرأون على تقديم عمل نبيل للشُهداء وسط الأخطار، تهون عليهم حياتهم إذا تعرَّضوا للاستشهاد.

أيضًا قامت الكنيسة برعايِة المُعترفين، وسهرت على الذين قدَّموا حياتهم ثمنًا للإيمان بالثالوث القدوس ونالوا العذابات.. اهتمت بهم وهم في السجون وتحت المُحاكمة.

ولم يفُت الكنيسة أن تقوم بالرعاية النفسية لأبنائها المُقبلين على الاستشهاد، سواء بالافتقاد للمحبوسين، أو بمُساندتهم روحيًا بالعِظات والرسائِل التي تحِث على الثبات وتُوضِح بركات الاستشهاد، فضلًا على اهتمام الكنيسة بإقامِة الصلوات الخاصة من أجل طلب مراحِم الله ومعونته من أجل هؤلاء الشُهداء أبناء الكنيسة، مع تسجيل يوم استشهاد كُلًا منهم حتى يمكن الاحتفال بتذكاره بين الشُهداء.

وقامت الكنيسة بالرعاية الروحية لهم، ونبِّهت المُعترفين والشُهداء إلى الاحتراس من المديح والسقوط روحيًا، وإيقاظ وعيهم ببركات الألم، حتى أنَّ كبريانوس الشهيد بعث رسالة للمُعترفين يقول فيها ”كأننا نحن محبوسين بينكم، لأننا بالقلب معكم… نفتخِر بافتخاركم“.

ركِّزِت الكنيسة على الأعضاء الضعيفة، والمُرتدين والجاحدين، بالإرشاد والصلوات والافتقاد وبمزيد من الرعاية.

واهتمت الكنيسة بالرعاية الروحية وتجديد النفوس وشحنها روحيًا عن طريق الحث والتعليم الروحي، كذلك اهتمت ببُناء النفوس في الإيمان الأقدس من خلال الاجتماعات الروحية، والمواظبة على الصلاة، وخدمِة التعليم والوعظ والليتورچيات.

حثت الكنيسة أولادها على حياة التوبة (الميطانيا) من أجل قبول بركِة ونِعمة الاستشهاد، وقدِّمت لهم الإنجيل (كيريجما) مشروحًا بالآباء ومُعاشًا في القديسين، وأيضًا حفِّزتهم على الخدمات المُتنوعة (دياكونيا) من أجل نمو الكنيسة بالنعمة والتعليم، ولم تُهمِل الكنيسة خدمة التدبير الرعوي (الأيكونوميا) بالافتقاد والرعاية المُركزة لكل نفس من أجل خلاصها وإعدادها للشهادة (مارتيريا) من أجل اسم المسيح…

وثِمة ركيزة هامة أعدَّت بها الكنيسة أولادها، تلك هي العبادة الليتورچية، التي يختبِر فيها كل عضو اتحاده بالرأس وبالأعضاء سواء كانت الأعضاء المُنتصرة في السماء، أو الأعضاء المُجاهدة على الأرض.. فتدرب أولادها على المواظبة الليتورچية والتقدُّم إلى شَرِكَة كأس المسيح وجسده. . لأنه بهذا فقط يُمكنهم أن يسفكوا دماءِهِم لمن سُفِكَ دمه عنهم، وحرصت الكنيسة على أن تُقدِّم الزاد السمائي أي الجسد والدم لنفوس الذين يتقدمون إلى الشهادة سواء في السجون أو أماكن الاستشهاد، فكانت تُقدِّم الأسرار للمؤمنين قبل الاستشهاد لأنهم لابد أن يستعدوا ويتسلحوا لأجل الجهاد.. وكيف أنَّ شخصًا لم يتحِد بالمسيح الذبيح يصير هو نفسه ذبيحة وكيف أنَّ الذي لم يُواظِب على شَرِكَة كأس دم المسيح أن يُقدِّم هو دمه؟

لذلك لم تترُك الكنيسة أولادها بدون ذخيرة دفاعية، بل ليصطفوا فِرَقًا فِرَقًا تحت سِتار جسد ربنا يسوع المسيح ودمه، تُشبِعهم الكنيسة من الزاد السمائي (الافخارستيا) دِرعهم الحصين، وبهذا الاهتمام الشديد كانت تُعِد أبنائها للاستشهاد، مُعتنية بتكوينهم الروحي والأخلاقي والأدبي وبمعرفتهم للكتاب وعَيْشُه لكي تُكمِل ذبيحة الذين يعترفون بالمسيح يسوع ويضمن عبورهم تلك الضيقات والعذابات بروح مسيحية عالية.

أخيرًا عَنَت الكنيسة بالحفاظ على ذخائِر الشُهداء وأجسادِهِم، مع جمع سِيَرهِم والحِفاظ على إيمانهم لأنه بركة الكنيسة كلها، مع الحِرص على كتابِة وثائِق سِيَرِهِم وأعمال شهادتِهِم وإرسال كل شهيد إلى بلده.


ديمومة الاستشهاد في المسيحية

أسباب انتصار المسيحية

سر انتصار الإيمان المسيحي | المحبة

الأساس الكنسي السرّي لديمومة الاستشهاد

القيم الروحية للاستشهاد المسيحي

أنواع شهادات كثيرة

معمودية الدم

الشهادة ذبيحة افخارستيا

قوة الاستشهاد وامتداد الكرازة

أسباب انتصار المسيحية

قدَّمت المُثُل المسيحية إجابة وشبع لأعمق أحاسيس البشرية، التي تمت بالفداء الذي أكمله المسيح، ويحكي لنا التاريخ قداسِة المسيحيين الأولين وطهارتهم وصلاحِهِم وسُمُوِهِم العجيب، تلك القِيَم الروحية المسيحية التي علَّمنا إياها السيِّد له المجد.

وإشراق الحياة المسيحية العملية التي مارسها المسيحيون وطبَّقوها بشجاعة وحُب وهدوء نادِر، وكذا المحبة التي أظهرها ومارسها المسيحيون نحو مُضطهديهم، حتى أنَّ يوسابيوس المُؤرِخ الذي عاش وسط الاضطهادات يُسجل لنا ”أنَّ النِساء لم يكُنَّ أقل من الرجال في الدفاع عن تعاليم الكلمة الإلهية ببسالة، حتى أنهنَّ نِلنَ نصيبًا مُتساويًا من الأكاليل من أجل الفضيلة“.

المُفارقة بين الديانات، لقد وجد الناس في تعليم الإنجيل والرُّسُل وآباء الكنيسة الأوائِل ما كان يُعوزهم وأشبع نِفوسِهِم، فالتعاليم السامية أسرت نفوس الناس ولكن بدون أن تُجبرهم بالقوة، وهكذا تكلمت المسيحية إلى قلوب الناس بطريقة لم ترقَ إليها أي ديانة أُخرى قط… . فالشهيدة بوتامينا اجتذبت بمحبتها ورِقتها وطهارِة جسدها الجندي باسيليدس ليصير شاهِدًا وشهيدًا، والشهيدة بربتوا التي لم تنسَ أن تُغطِّي جسدها بردائها الذي تمزَّق من تعذيب الثيران لها..

يا لها من مُفارقات عجيبة، جعلت الذين من خارِج يشهدون لإله المسيحيين..

جامعية الديانة المسيحية، كانت سبب في انتشارها، فخاطبت قلوب الناس جميعًا، وهذا يُعطينا الوجه الجديد لديانة تتميز عن الديانات التي سبقتها، هذا الوجه هو: الشخصية الجامِعة للمسيحية، فالدعوة هي للجميع، للفقير والعظيم، للمُتعلِّم والبسيط، وكل أحد يتجاوب مع الدعوة حسب قبوله واستجابته، وهكذا قدمت المسيحية لكل جنس ولون ولِسان ما يُشبِع اشتياقات روحه الأبدية.

أعطت سِجِلات قديسي الكنيسة العُظماء بُرهانًا على صِدق الإيمان وعلى القوة الإلهية التي يمنحها إله المسيحية للمؤمنين باسمه، والتي ترفعهم لأسمى درجات القداسة والطهارة والشهادة واختباراتِها.

ومن الأسباب الرئيسية أيضًا في انتصار المسيحية، أنَّ الاستشهاد لم يكن في متناول من يريده ويشتهيه، فالموت كان يُوافي المُعترِف في نهايِة الآلام، بعد جولات من الاضطهاد والتعذيب الجسدي والأدبي.. لذلك كان بعض الوُلاة والجنود والوثنيين عندما يرون صبر الشُهداء والمُعجزات التي تُصاحِب شهادتِهِم، كانوا يُؤمنون بالمسيح، كانت القيود الحديدية تنكسِر وتنفك من تِلقاء ذاتها، وكانت النيران تُطفأ سريعًا حينما يتقدمون إليها بثبات، وكان المُتفرجون ينظرون إليهم بدهشة يُوقرونهم، الأمر الذي دفع بكثيرين للإيمان بل وللشهادة حتى الدم.

سر انتصار الإيمان المسيحي | المحبة

إنَّ شهادِة الكنيسة المُضطهدة تكمُن في كونِها مُضطهدة وفي كونِها ذات رجاء، رجاء وفرح واثِق فيمن تؤمن به… كنيسة غير عدائِية ولا انقيادية للباطِل، لا ميل للذوبان في العالم.

رفضوا عبادة الأوثان، وكان مطلبهم الوحيد هو التمسُك بإيمانهم وعقيدتهم، عاشوا حياة الشَرِكَة المسيحية بتلقائية حرة لا إلزام فيها، كانوا مَثَلًا للحُب والعفة والقداسة والصلاح والصبر والتعفف والرحمة واحترام المحبة الزوجية، يسعون لأن يُقابِلوا الإساءة بالإحسان، وأن يخدموا الجميع بلا تفرِقة.

لقد باركوا الحياة وعرفوا كيف يجعلوها بركة للآخرين، حتى في أوقات الاستشهاد والألم.

يشهدون بنعمة الحياة الإلهية التي يحملونها في كيانهم والتي تُختبَر وتثبُت أمام جميع العذابات والمُفزعات والاضطهاد المُهين، وكل أنواع الآلامات كما في ساحِة الاستشهاد، هادئين فَرِحين ثابتين واثقين مُتشجعين، فصاروا للعالم مصدر حماية، وكل الإهانات التي يُلاقونها جعلتهم أداة خِصب للعالم… بِذار الله، صورته، أولاده الوارثين، لهم مهمة من أجل القصد الإلهي السامي نحو العالم كزرع مُقدس حفظ كل وصية بحسب تعبير العلاَّمة أكليمنضُس السكندري.

وبالجملة نستطيع أن نقول أنَّ المحبة التي لمسها المُعانِدون في شُهداء المسيحية، جعلتهم يتساءلون من هو إله المسيحية هذا؟ إنه إله المحبة الذي أرسلنا كغنم في وسط ذِئاب، لكي تفترِسنا الذئاب الكثيرة فتتحوَّل هي إلى غنمات…

كثيرون منا يُقدمون الخد الآخر، لكنهم لم يتعلَّموا كيف يُحبون ضاربيهم، فلنُصلِّ إلى الله لكي يُعيننا على رِضاه.

ولعلنا نلمس سِر انتصار الإيمان المسيحي من قصة الأربعين شهيدًا شُهداء مدينة سبسطية… القصة الذائِعة الصيت التي تحدَّث عنها القديس باسيليوس الكبير فقال: ”كم تجتهدون لتجدوا شخصًا واحدًا قويًا في صلاته، لكي يرفع من أجلكم صلاة إلى الآب، هوذا أربعون يُصلُّون معًا بصوتٍ واحد…

أيها المُتألِم اهرب إليهم..

أيها المُبتهِج أسرِع نحوهم..

المُتألِم سيجد راحة، والمُبتهِج سيُحافِظ على أفراحه…

هيا ارفعوا تضرعاتكم مع هؤلاء الشُهداء… أيها الرجال احذوا حذوهم… أيها الآباء صلُّوا لكي يكون لكم إيمان مثلهم… . وأنتُنَّ أيتها الأُمهات، فلتأخُذنَ درسًا من هذه الأُم الرائِعة، هي أُم لواحد من هؤلاء الشُهداء… رأت الجميع وقد ماتوا فقد أخذتهم البرودة وكان ابنها لا يزال حيًا…

أتى المُعذبون لكي يحملوا الأجساد، فلم يأخذوا ابنها على أمل أن يغيَّر رأيه ويرتد، رَفَعَتُه هي بنفسها ووضعته في العربة ليُساق مع رُفقائِه إلى الحريق… بالحقيقة إنها أُم شهيد“.

تلك هي قوة انتصارات الإيمان المسيحي، في عمل الصلاة وطلب الشفاعة وانتشار الكرازة وثبات العقيدة…

الأساس الكنسي السرّي لديمومة الاستشهاد

الكنيسة هي الأساس السِّرِّي Mystical للشُهداء، ففيها يتدرب الشهيد أمينًا على رسالِة القيامة مُتمسِكًا بعهد الافخارستيا، يعيش الوصية ويتذوق حياة الكنيسة، يتحد بالمسيح كيانًا وصميميًا واتحاديًا، إلى وقت أوان الحصاد والشهادة بالدم، فهم بركة وحِصن وأعمدة الكنيسة…

إنَّ المسيحيين الأوائِل كانوا يُقتلون ولكنهم بهذا يربحون الحياة الدائِمة، يُحتقرون لكنهم في هذا الاحتقار يجدون مجدهم… يُفترى عليهم غير أنهم يتبررون، يُلعنون فيُبارِكون، والمسيحيون يحيون كمُقيدين في سجن العالم بكلمة شهادتهم.

لقد عاشوا مُتسلحين ومُستعدين للجهاد الذي يُثيره عليهم العدو، مُستعدين للشهادة كما شرح العلاَّمة ترتليان والشهيد كبريان بالأصوام والعطش والجوع دون جزع كاذب من جهة الجسد فلا يكون للتعذيب فرصة للتأثير لأنَّ المسيحي مُدرع بجسد يابِس من النُسك وله خوذة تقبل الضربات، وعُصارات جِسمه قد سبقته إلى السماء، والآن تُسرِع النَّفْس خلفها لتتمتع بالأحضان الأبوية.

لذلك حرصت الكنيسة على أن تُعِد أولادها في مدرسة الاستشهاد، حتى إذا أتى الحاصِد ومعه منجله للحصاد يجد الثمر قد نضج…

القيم الروحية للاستشهاد المسيحي

لقد كانت المطابِق والسجون في عصور الاضطهاد غاية في البشاعة، عبارة عن أماكن محرومة من الهواء والنور، تنتشِر فيها القاذورات والأمراض بشكل يفوق الوصف، حتى أنَّ كثيرين ماتوا بسبب الازدحام والتكدُّس والخنق لعدم تجدُّد الهواء.

قيود حديدية، خنق، جوع، عطش، مقطرة، الإلقاء في المحارِث الداخلية والمطابِق المُعتِمة الأكثر سوادًا من الظلمة، الضَّيِقة الجهات حيث الليل الأبدي ورُعبة الموت… وبالرغم من كل ذلك، كانت القيود للمسيحيين كالقلائِد الإيمانية ”مرحبًا بالسلاسِل التي هي أغلى من قلائِد الذهب!!!“.

حتى أنَّ البابا بطرس السابِع عشر عندما زار القديس صرابامون في سِجنه داخل زنزانته قبَّله وقبَّل جراحاته وقيوده، وهو ما حدث مع أغناطيوس الأنطاكي.

ومن بين القِيَم الروحية التي سادت في وسط الآلام نجد الأغابي `agapy والافتقاد والتشجيع والحرارة الروحية وعدم التهيُّج، ويذكُر التاريخ الكنسي أنَّ القديس يوليوس الأقفهصي كرَّس كل ثروته وخُدَّامه لافتقاد المسجونين بالإسكندرية والترفيه عنهم، وكتابِة محاكمة وقضية كل شهيد والعناية بجسده، والاحتفاظ بهذه الذخائِر المُقدسة.

هؤلاء الشُهداء أحبوا المسيح وسفكوا دماءِهِم من أجله، كانوا أقوى من مُعذبيهم وأشجع من مُضطهديهم حيث ذروة التشبُّب الروحي، وخاصة بافتقاد السماء ورؤية رب المجد يسوع وسحابِة الغالبين، مما أثار دهشة الوثنيين، وجعلهم هم يُؤمنون بالمسيح ربنا وسط التهليل والتسبيح والدماء الطاهرة.

يا لها من عصور أُشعِلت فيها النيران في المسيحيين بعد أن دهنوهم بالقار والزيت والصمغ وسمَّروهم في الأعمدة ليُضيئوا كالمشاعِل لتسلية الجماهير.

إلاَّ أنَّ الشهداء تمسَّكوا بالحياة الأبدية (2كو 4: 17 + 1كو 7: 29)، وبأنهم غُرباء (1بط 1: 17) عالمين نهايِة الضيقات التي تؤول لمجد عظيم في السماء (يو 12: 25)، فزهدوا كل شيء عالمي (1تي 6: 7)، واشتهوا الانطلاق (في 1: 21)، محبة في الملك المسيح (يع 4: 4 ؛ 1كو 7: 31 ؛ أع 20: 24).

وعندما اقتُيدَ الشهداء القديسون إلى الأسكندرية، تبعهم القديس العظيم أنطونيوس كوكب البرية تارِكًا مغارته قائِلًا: لنذهب نحن أيضًا إذا ما دُعينا لذلك، وتاق إلى الاستشهاد ولكنه إذ لم يشأ تسليم نفسه خدم المُعترفين في المناجِم والسجون، وكان يُصلي لكي يصير هو نفسه شهيدًا، لذلك كان يبدو عليه كأنه حزين لأنه لم يستشهِد ولكن الرب كان يحفظه لمنفعتنا، لكي يصير مُعلِّمًا للكثيرين عن النُسك، وعندما كف الاضطهاد أخيرًا، استُشهِد المغبوط بطرس بطريرك الأسكندرية السابِع عشر خاتِم الشُهداء، وانصرف أنطونيوس العظيم واعتزل العالم ثانيةً في مغارته، وكان هناك كل يوم يستشهِد بضميره ويُجاهِد جهاد الإيمان.

ووسط كل هذه الأحداث كانت المُعجزات تُصاحِب الاستشهاد، حتى أنَّ حُكام كثيرين آمنوا (مناس وهرموچين حاكما الأسكندرية، أركانيوس والي سمنود، وسوكيانوس والي أتريب، وأريانوس والي أنصِنا وچنيانوس والي القيروان).

بل وآمنت جموع كثيرة على اثر استشهاد مارجرجس وبفنوتيوس المُتوحِد، ومكاريوس ابن الوزير، وأباهور القِس البردنوهي الذي بسبب معجزة استشهاده أكمل 920 شخصًا شهادتهم، لقد صار الاستشهاد شهوة، حتى أنهم كانوا يُسرِعون إلى الحكام والوُلاة مُعلنين مسيحيتهم دون أن يبحث عنهم أحد، أو يستدعيهم أو يقبُض عليهم، ”عُذِّبوا ولم يقبلُوا النجاة لكي ينالُوا قيامةً أفضل“ (عب 11: 35)، حتى أنَّ القديس أبو فام الأوسيمي الجندي لَبَسَ لُبَاس عُرسه يوم استشهاده فَرِحًا مسرورًا بلقاء الملك المسيح.

إنها شجاعة الاستشهاد التي أذهلت الجموع المُشاهِدة للحرب الإلهية السمائية الروحية، فالمُعذبون أكثر شجاعة من مُعذبيهم، لقد غلبت الأعضاء المُمزقة الآلات التي مزقتها، وأضحت بعض الوحوش مُستأنسة لهؤلاء الشُهداء، بعد أن تكلم الروح القدس على أفواهِهِم، فكانوا عُظماء في بساطتِهِم وقداستِهِم وقوة إيمانهم وسط كل المخاطِر.

وإن كان الشُهداء قد قُتِلوا بالسيف وبالصلب وبالنار.. إلاَّ أنَّ الله لا يتخلى عن قديسيه ولا يتركهم في أيدي الأشرار، وإن كان الجسد قد سُلِّمَ لهم، إلاَّ أنَّ النَّفْس خرجت ظافرة مُنتصرِة، لقد رأى الشُهداء أنَّ الموت هو بِدء التلمذة الحقيقية، والذين أكملوا عمل الشهادة تمتَّعوا بالتلمذة الحقيقية للسيِّد.. . وصار إكليل الشهادة هو ذروة climax حياة الإنسان المسيحي على الأرض فهو الجعالة التي ينبغي أن يطمع فيها الجميع.

لم يكن المسيحيون يختلِفون مع السلطات بل كانت شهادتِهِم ضد العالم، من منظور أسخاتولوچي وليس سياسي، فعاشوا بروح مجيئية.. (الشيطان عدوهم، والباراقليط المُدافِع والمُحامي عنهم)..

فقدَّموا الكنيسة – التي هم أعضاؤها المُخلَّصون – كأُم عذراء عفيفة تشهد للحق، وفي نفس الوقت كان الشيطان يُثير الحكام والعامة لتعذيبهم، وتلك هي أسلحته، وهذه هي غلبتهُم..

أنواع شهادات كثيرة

كنيستنا تنوعت فيها وتعددت أنواع الشهادة وفِئات الشُهداء، شهادِة حياة، شهادة من أجل الثبات في الإيمان، شهادة من أجل الحِفاظ على العفة والطهارة، شهادة من أجل التَّمسُك بالعقيدة.

فهذه بوتامينا العذراء العفيفة التي حلفت برأس الإمبراطور أن لا يجردوها من ثيابها، بل يَدَعُوها تنزِل في القار قليلًا قليلًا، حتى يروا أية قوة احتمال أعطاها المسيح الذي لم يعرفوه، وتلك هي بربتوا من قرطاچنة التي عندما أُلقِيَت للثور الهائِج الذي ضربها بقرونه وسقطت على الأرض نصف ميتة، لم تنسَ أن تُغطي جسدها بردائها المُمزق.

وهذه ثيودورا التي حفظت طهارِتها وسعت وراء إكليل شهادتها وڤيرونيا العذراء التي من دير قُرب أخميم، حفظت عِفِتها وتكريسها بحيلِة الزيت.

والقديس بولس الأسقف 351 م، الذي نُفِيَ وقُتِلَ من أجل الدفاع عن العقيدة ضد الأريوسيين.

ومما هو جدير بالذِكر أنَّ كنيستنا أُم الشهداء قدَّمت للسِفر السمائي خمسة آلاف راهب مع أسقفهم الأنبا يوليان بصحراء أنصِنا على يد الحاكم مرقيان مدة الاضطهاد الذي آثاره دقلديانوس وأعوانه.

إنَّ شهداء العصور الأولى لم يخافوا الموت بل كانوا يصيحون وهم في طريق الاستشهاد ”الشُّكر لله Deo Gratlas“ لأنَّ أمانِة شهادتِهِم تهِبهُم المُجازاة والجعالة… وعذابات الشهيد لها قيمتها، فنقرأ في التقليد المسيحي عن ”معمودية الدم“.

ذلك أنَّ دم الشهيد يُطهِّر مَنْ لم يقتبِل معمودية الماء، ويمحو خطايا مَنْ اعتمد فعلًا بالماء كمعمودية ثانية، وتُقِر الديداكيَّة ”التقليد الرسولي“ رُتبة الذين يعتمدون بالدم.

معمودية الدم

جاء في الوصايا والقوانين التي وضعها ربنا يسوع المسيح والتي وردت في التقليد الرسولي ”بالديداكيَّة“:-

”إن أُلقِيَ القبض على أحد لأجل اسمي وهو موعوظ، ويسعى في طلب قبول نعمة المعمودية فلا يرتاب الراعي، بل يُعطيه العِماد، ولا يضطرب، فإذا قُتِل وهو في القيود، ولم يقتبِل بعد نعمة العِماد الثاني الفوقاني يكون قد اعتمد بدمه“.

إنها الصبغة التي يصطبِغ بها من يشهد للمسيح المُخلِّص، الصبغة الأولى للجميع (الماء والروح)، والصبغة الثانية لمن أُعطِيَ لهم (بالدم).

الشهادة ذبيحة افخارستيا

لقد كانت الشهادة اقتداء بآثار المسيح رب المجد وشَرِكَة كأس آلامه، حتى أنَّ القديس أغناطيوس شهيد أنطاكية كان يعتبِر الاستشهاد ذبيحة افخارستيا، لذلك اشتاق أن يكون هو نفسه افخارستيا.. تلك هي ذبيحة إيماننا لأنَّ ”الذينَ يتألمون بحسب مشيئة الله فليستودِعوا أنفُسهم كما لخالِقٍ أمين في عمل الخير“ (1بط 4: 19).

ويُشير أسقف أنطاكية الشهيد، إلى أهمية هذا التفسير الافخاريستي للشهيد، وكذلك القديس إيريناؤس أبو التقليد الكنسي..، لذلك كان كل شهيد يشهد:

”أنا إنسان حر ولكن عبد المسيح“.

مُتشبِه بصبر المسيح المُخلِّص، بينما الوثنيون يصيحون مُرددين الموت للمسيحيين.

ويُمكننا أن نقول أنَّ شهادِة الدم كما أنها معمودية ثانية، هي أيضًا ذبيحة افخارستيا.

وعندما نأتي إلى القديس كبريانوس شهيد قرطاچنة الذي اعتبر أنَّ الافخارستيا هي سلاح الشُهداء، نجده يُعلِّمنا قائِلًا ”لنُسلِّح اليد اليُمنى بسيف الروح حتى ما ترفُض بشجاعة ذبائِح الأوثان المُميتة“، وعندما حُوكِم كبريانوس قال الوالي ”قررنا أنَّ سليوس كبريانوس يُقتل بالسيف“، أجاب كبريانوس ”Deo Gratlas الشُّكر لله“.. وهذه هي الافخارستيا والذبيحة الحقيقية، وهذا هو التفسير الافخاريستي للقديس كبريانوس.

وتُعتبر صلاة بوليكاربوس أسقف سميرنا، وهو على كومة من الحطب المُهيئة لحرقه، مَثَلًا من أجمل الأمثلة على الفكر الافخاريستي الذي يُحرِّك قلبه وهو يتقدم للشهادة ”أيها الآب الذي للابن المُبارك المحبوب يسوع، أُبارِكك لأنكَ جعلتني أهلًا أن أُحسب في عِدَاد شُهدائك، وأن أُشارِك في كأس مسيحك من أجل الحياة الأبدية“.

قوة الاستشهاد وامتداد الكرازة

لقد أصبح الاستشهاد قُوة للعمل الكرازي، وسببًا في نمو الكنيسة وامتدادها، فكان الرب يضُم كل يوم للكنيسة الذين يخلُصون، وصار الاستشهاد بِذار الكنيسة وبُرهان عملي على صِدق إيماننا المسيحي والفضيلة المسيحية التي عاشها هؤلاء الشُهداء الطوباويون، والمُعترِفون المغبُوطون والبواسِل، هؤلاء الشجعان البررة، أرواح الأبرار المُكملين المُتسربلين بالبأس وقوة العزيمة والرجاء… الذين تحمَّلوا الآلام والإهانات بفرح تعجَّب له مُعذِبوهم، وملأوا الساحات بدمائِهِم فاندهش الوُلاة والحكام وآمنوا بالمسيح الذي آمن به هؤلاء المُتسابقون على الفردوس. وما أكثر إقرارات التوبة التلقائية للمُشاهدين، فنحن نعرِف ذلك عن الذي قاد يعقوب ابن زبدي للمُحاكمة، والجندي باسيليدس عند استشهاد بوتامينا وغيرِهِم.

لم يحتملوا هذه الآلام بقوَّتِهِم الخاصة ولا بقُدراتِهِم الجسدانية، بل بعمل وفِعْل روح الله القدوس الذي عمل فيهم وبهم، فصار فضل القوة من الله لا منهم، حتى أنَّ المُعجزات التي تزامنت مع شهادتِهِم صارت سببًا في امتداد الكرازة وإيمان الكثيرين بالمسيح يسوع.

كان الشهداء أقوياء فلم تُثنيهم العذابات عن إيمانهم بل أخذوا من العذابات قوَّة للثبات في المعركة الروحية والسباق نحو المسيح العريس الحقيقي السماوي، مُمتلِئون بالحيوية والشجاعة التي تفوق قُدرِة البشر، مُتوشِحون بأسلحة الإيمان، فكانوا أكثر قوَّة من مُعذبيهم، بالحقيقة عزيز هو الموت الذي يشتري الأبدية مُقابِل الموت، كم كان المسيح فَرِحًا وكم يسُرُّه أن يُحارِب ويغلِب في شخص هؤلاء الشُهداء، لقد كان حاضِرًا بنفسه في تلك الشهادة التي أُثيرت من أجل اسمه.

لقد أعان وقوَّى وثبِّت وبعث الحيوية في نفوس شهدائهُ وأبطاله، حتى أنَّ قوِّة شهادتِهِم ثبِّتِت الذين في الإيمان، وجذبت الذين هم من خارِج، عندما لمسوا وعاينوا قوَّة واقتدار إله المسيحيين، والذي غلب مرة الموت لأجلِنا ما بَرِحَ ينتصِر فينا، ينتصِر في كرازتنا، ينتصِر في جهادنا اليومي وشهادتنا له، ينتصِر في امتداد الكنيسة والتعميق الحادِث في الخدمة والرعاية، فمثال موت الشُهداء يُؤثِر فينا لأنهم أعضاؤنا ولنا معهم شَرِكَة، وعزيمتهم الثابتة تصنع عزيمتنا.

فلا شيء يستطيع أن يحوِّلنا عن إيماننا، لا سيف القاتِل ولا صليب الضيق، ولا أنياب الوحوش الضارية، ولا القيود، ولا النار، ولا العذاب بأي نوع، وبقدر ما يزيدوا في آلامنا بقدر ما يزداد عدد المؤمنين والتلاميذ، هذا ما سجله لنا القديس يوستين الفيلسوف والمُدافِع المسيحي، بعد أن اعترف قائِلًا: ”وإذ رأيتهم جسورين بإزاء الموت.. . فهمت أنه ما كان ذلك ممكنًا قط لو أنهم كانوا قد عاشوا في الرذيلة“.

إنَّ الحبَّة الحقيقية ليس لها ما يسنِدها، لكنها تملُك في داخلها جنين الحياة، بحسب المنطِق البشري لها صورِة الضعف كمن لا سلطان لها، فإستفانوس أول الشهداء، حبَّة الحنطة، يكمُن فيه جنين الحياة، بعمل روح الرب الساكن فيه، فعندما رُجِمت الحبَّة ظهرت رائِحة يسوع في حلاوتها ”يارب لا تقُم لهم هذه الخطية“، فماذا حدث؟ حدث أنَّ الذين تشتتوا من جراء هذه الضيقة جالوا مُبشرين بالكلمة، فنمت الكنيسة وامتدت، ويقول هيبوليتس: ”لقد امتلأ كل العالم دهشة عندما نظر هذه الأعاجيب، وأقبل عدد كبير للإيمان بواسطة الشُهداء، بل وأصبحوا هم بدورِهِم شُهداء“.

ويذكُر التاريخ أنه بقدر ما كانت أعضاء المسيح تتألَّم وتُضطهد ويُفترى عليها، بقدر ما كانت الكنيسة نامية، لأنها تشهد بآلامها أنها كنيسة المسيح المصلوب القائِم من بين الأموات.

وبقدر ما تتحِد الأعضاء المُتألِمة برأسها المُتألِم بقدر ما تصير الكنيسة أمينة وحية وكارِزة بعريسها الذي سفك دمه ليشتريها ”هذه التي اقتنيتها لك بالدم الكريم الذي لمسيحك“.

وبقدر ما يشهد أعضاء الكنيسة للمسيح المصلوب والقائِم من بين الأموات، بقدر ما يقترِب فيها البعيد، ويثبُت فيها القريب، ويخدم فيها الثابِت، فيمتد ملكوت الله ويكون واضحًا في كل الأرض، فالكرَّام يقطع أغصان الكرم المُثمِرة حتى تأتي بثمر أكثر، يُنقيها ويُقلِّمها، وهذا يُصيِّرها أكثر حيوية وأكثر إثمارًا، ولمَّا كان المسيح هو الذي يغلِب وينتصِر في الشُهداء فإنَّ النُّصرة تعود دلالتها وثمارها ليس على الشهيد نفسه فقط بل على الكنيسة كلها، فتنعم بالسلام والأثمار وانحسار قوَّة الشيطان.

لقد تقدَّم المسيح مَلِكنا أمامنا، وانتصر لحسابنا وجعلنا نتحارب مع عدو مهزوم وقد انتزع الغلبة لحسابنا، حتى نقتفي آثاره ونستعين بقُوته ومعونته الإلهية وقُدرته المُطلقة، ومن ثم نُتوج حسب مواعيده الصادِقة غير الكاذِبة… فالمسيح إلهنا صُلِب لكن اسمه لم يُبَد، بل زرع اسمه كالبذور لتجثو له كل ركبة ما في السموات وما على الأرض وما تحت الأرض، ويُعلِن كل لسان أنَّ يسوع المسيح رب وإله وفادي…

والشيطان رئيس هذا العالم، عدو كل خير، يُثير الاضطهادات حول الكنيسة، حتى يقضي على كنيسة المسيح أي يموت جسد المسيح (الكنيسة) – وهكذا تُسفك الدماء المُقدسة لكي تنمو الكنيسة وتزداد… وهو ما نقوله في خِتام قراءِة الإبركسيس“Pra[ic  (سِفر أعمال الروح القدس) ”لم تَزَل كلمة الرب تنمو وتزداد في هذه البيعة وكل بيعة..“.

وبالرغم من المُقاومات والاضطهادات والمتاعِب والتهديد والوعيد وكل المُضايقات، لم تتحقق مشورة عدونا إبليس، بل انتشرت المسيحية في كل بِقاع العالم، وتبددت الوثنية وتحطمت..

فآلام الكنيسة تؤول إلى الخير، والامتداد إلى ما هو قُدَّام، حتى تُصبِح كنيسة مُرهبة كجيش بألوية طالعة من البرية مُعطرة بالمُر واللُبان (بالآلام) وكل أذرَّة التاجِر.

ويُعلِّمنا القديس أوغسطينوس أسقف هيبو: ”أنَّ الضيقات مُفيدة، كمشرط الجرَّاح الذي هو أفضل من أوقات اليُسر“، وهنا فقط نُدرِك كيف أنَّ الضيق أنشأ في الكنيسة صبرًا وتذكية.

لقد كان صدى الاستشهاد قويًا، من حيث التشجيع وقوة الإيمان وانتشار الكرازة وثبات العقيدة، لأنَّ المسيح هو الذي ينتصِر في الشهيد مُجددًا، شهادة لتدبير الخلاص واستمراريته، لأنَّ شهادِة الشُهداء هي شهادة للمسيح لكونه هو المُتكلِّم والمُتألِّم فيهم، إنها النُّصرة المُحققة الأكيدة على الشيطان الذي يُحارِب كنيسة المسيح (جسده)… فشكرًا لله أبينا الذي أعطانا عزاءًا كامِلًا بالنعمة وحفظ كنيسته فلن تتزعزع إلى الأبد..

ولم يكد القرن الثالث يأتي إلى نهايته، إلاَّ وكانت المسيحية – وبالرغم من كل الاضطهادات والمُحاصرات – قد انتشرت وامتدت على كل المستويات، الأمر الذي أذهل الأباطرة أنفُسهم..

إنها بحق كنيسة مُضطهدة ولكن يغمُرها الفرح، لا عدائية فيها ولكنها لا تذوب في العالم، والمسيحيون في العالم لكنهم لا يحيون بحسب العالم، بل هم مواطنوا السماء، يحبون كل الناس، حتى الذين يضطهدونهم ويتنكرون لهم ويذمونهم.. إنهم يُقتلون، ولكنهم بهذا يربحون الحياة الأبدية، يحيون كمُقيدين في سجن العالم، بيد أنهم هم الذين يصونون العالم بصلواتهم ومحبتهم، يشهدون بنعمة الحياة الإلهية في أعماقهم وكيانهم والتي تُختبر بالآلام وتُمتحن بالضيقات…

لذلك تقول الرسالة إلى ديوجنيتس Diognetus من القرن الأول:

”ألا ترى كيف يُلقى المسيحيون للوحوش الضارية بغية حملُهم على إنكار الرب، ولكنهم بالموت ينتصِرون، ألا ترى أنهم كلما عُوقِبوا كلما ازداد عدد الذين يعتنقون إيمانهم، كل هذه ليست أعمال البشر بل هي معجزة الله وهي دليل ظهوره في الجسد“.

الشهادة كتابيًا | الشهادة في حقبة العهد الجديد

أطفال بيت لحم الشهداء

مفهوم كلمة “شاهد”

القديس إسطفانوس أول الشهداء

الشهادة في رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين

الشهادة في سفر الرؤيا

أطفال بيت لحم الشهداء

بدأ العهد الجديد بشهادة فاخرة للمسيح يسوع، تزامنت مع ميلاده الإلهي،

إنها شهادة شُهداء بيت لحم الأطفال الذين استُشهِدوا من أجل المسيح دون أن يدروا وهم لم يعرِفوا أن يتكلموا بعد، وذويهم يبكون موتهم كشُهداء،

والمسيح جعلهم خليقين بأن يكونوا له شهودًا، مُتسربلين بالثِياب البِيض كجيش…

أي هبة عظيمة هذه!!

وبأي استحقاقات فاز هؤلاء الأطفال بالنُّصرة؟

إنهم وهم لم يعرفوا أن يتكلموا بعد صاروا شهود إيمان للمسيح وإذ أعضاؤهم لم تَزَل غضَّة لم تكن كُفئًا لخوض المعارِك بعد، إلاَّ أنهم فازوا بإكليل النَّصر..

مفهوم كلمة “شاهد”

استُعمِلت كلمة ”شاهِد“ في العهد الجديد كما يتضح في (مر 14: 63 ؛ مت 26: 65)، بمعنى الشهادة أمام القضاء والمُحاكمات لذلك صاح رئيس الكهنة قائِلًا: ”ما حاجتنا بعد إلى شهود“، كذلك الحال في أعمال الرسل (6: 13) عن شهادِة الزور التي أُقيمت ضد إستفانوس رئيس الشمامِسة، وكذلك جاء لكلمة ”شاهِد“ استعمال هام في رسالِة بولس الرسول ”أمسِك بالحياة الأبدية التي إليها دُعِيت أيضًا واعترفت الاِعتراف الحَسَن أمام شهودٍ كثيرين“ (1تي 6: 12)، وهو اعتراف المعمودية وربما الرسامة التي قَبَلَهَا تيموثاوس وبُناءًا عليها استلم التقليد.

ولكن لوقا البشير أعطى كلمة ”شاهِد“ بُعدًا جديدًا عندما ذكر قول السيِّد المسيح لتلاميذه ”وأنتم شهود لذلك“ (لو 24: 48)، وعاد في سِفر الأعمال يُؤكد نفس الحقيقة ”ستنالون قُوَّة للشهادة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لي شُهودًا“ (أع 1: 8)، فشهادِة التلاميذ تبدأ من أورشليم حتى أقصى الأرض وهي عن وقائِع حياة المسيح وآلامه على الأرض، كما اتضح من أول كرازة لبطرس الرسول بعد حلول الروح القدس مُخاطِبًا الشعب ”يسوع هذا أقامه الله ونحن جميعًا شُهود لذلك. ورئيس الحياة قتلتموه الذي أقامهُ الله من بين الأموات ونحن شُهود لذلك“ (أع 2: 32 ؛ 3: 15).

فكان شرط التلمذة للرب يسوع هو ”الذين اجتمعوا معنا كل الزمان الذي فيه دخل إلينا الرب يسوع وخرج منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنَّا يصيرُ واحد منهم شاهِدًا معنا بقيامتهِ“ (أع 1: 21 – 22).

لقد صار الواقِع الإنجيلي إعلان روحي، فليست الشهادة شهادة لعقائِد ولا لأساطير ولا لتأمُلات ولا لفلسفات بل لأحداث أخذت واقِعها في ظِل التاريخ. فأصبحت الكرازة الإنجيلية شهادة، والشهود لهم صِفة مُميزة إذ عاصروا الأحداث واختيروا خصيصًا لهذا الغرض، واُعطوا كل الإمكانيات التي تُهيِّئ لهم الشهادة بها (لو 24: 48 ؛ أع 5: 32)، وقُوَّة الشهادة رهن لموعِد الآب من السماء لذلك عليهم أن يلبثوا في أورشليم حتى يلبسوها.

وبحلول الروح القدس يوم الخمسين انطلقت الشهادة بقوَّة، فالجماعة الرسولية شهود رؤية عاينوا ولمسوا ”يسوع الذي من الناصرة.. . جَالَ يصنع خيرًا.. نحن شُهود بكل ما فعل“ (أع 10: 38 – 39)، وللتأكيد على المغزى الخلاصي لهذه السيرة مُجمله ”أوصانا أن نكرِز للشعب ونشهد بأنَّ هذا هو المُعيَّن من الله ديَّانًا للأحياء والأموات له يشهدُ جميع الأنبياء أنَّ كل من يُؤمِن به ينال باسمِهِ غُفران الخطايا“ (أع 10: 42-43).

ونتقابل مع معانٍ أخرى كثيرة عن الشهادة في حقبِة العهد الجديد، فقد استمرت آلام المسيح الرأس في حياة المُؤمنين به أعضاء جسده المُمجد السِّرِّي، فهم أنبياء العهد الجديد ”فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم“ (مت 5: 12)، وكان لابد لأعضاء جسد المسيح (الكنيسة) أن يُعدُّوا لحَمْل الصليب كشرط للتلمذة والتَّبعيَّة لهم (مر 8: 34 ؛ مت 6: 29 ؛ لو 9: 23)، لكي يحيوا بحسب الروح والإيمان الذي سُلِّمَ إليهم مرة (يه 3).

ركِّزِت الأناجيل دومًا على مصير التلاميذ وما ينتظرهم من ألم واضطهاد اقتداءً بالسيِّد والمُعلِّم (مر 13: 9 – 13 ؛ مت 24: 9 – 13 ؛ لو 21: 12 – 19)، وكان بطرس ويعقوب أول مثالين، وإذ ليس التلميذ أفضل من مُعلِّمه لذا كان من الحتمي أن يتألم تلاميذ المسيح كما تألم هو ”إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم“ (يو 15: 20)، فليس للمسيحي على الأرض سوى الآلام والموت ويُؤكد التلميذ بولس أنه سيقوم ويحظى بمجد المسيح ”مُتمثلين بنا وبالرب“ (1تس 1: 6)، وفي سِفر الأعمال وكذا في الرسائِل البولُسيَّة Pauline epistles أي رسائِل بولس الرسول، يتضح الجانِب الكفاري في آلام الإنسان المسيحي، فلم يعُد الاضطهاد سبب حزن أو خوف بعد، بل غدًا متوقعًا كسِمة أساسية للعصر المسيحي الذي يحيونه، بعد أن صار الألم بركة ومجد، والاضطهاد من أجل المسيح فرح وسرور..

ونرى التلاميذ فَرِحين مُتهللين عند بِدء اضطهاد هيرودس أغريباس سنة 44 ميلادية، كما فَرِحوا عندما حُسِبوا مُستأهلين أن يُهانوا من أجل اسمه (أع 5: 41، قابِل 9: 16).

كلمة ”شاهِد“ في كتابات القديس يوحنا الرَّائي:

ونظرة إلى الاستعمال الخاص لكلمة ”شهادة“ في كتابات القديس يوحنا الإنجيلي نرى كيف تطور مفهوم كلمة ”شهادة“ حتى انتهى إلى إعلان المضمون الأساسي للإنجيل الذي اعتُبِر من وجهة نظر الإيمان واقِع عملي أسَّسهُ الله، واقِع على أعلى مستوى يستحيل التحقُّق منه على مستوى الحدث الأرضي.

وقارِئ إنجيل يوحنا ورسائِله يحِس أنَّ كاتِبها شاهِد عيان للأحداث ومُتلامِس معها ”قد رأينا ونشهد ونُخبِركم“ (1يو 1: 2)، فالشهادة للمسيح بحسب فِكْر يوحنا الإنجيلي تعتمِد على الإيمان به ”من يُؤمِن بابن الله فعنده الشهادة في نفسه“ (1يو 5: 10).

القديس إسطفانوس أول الشهداء

نتقابل مع كلمة ”شهيد“ لأول مرة بمعناها الكنسي التقليدي ”شهيد“ في قول الرسول بولس عن إستفانوس ”وحين سُفِكَ دم إستفانوس شهيدك كنت أنا واقِفًا وراضيًا بقتله“ (أع 22: 20)، لقد شهد إستفانوس للحق الإنجيلي وقدَّم بُرهانًا على الإيمان المسيحي أقوى من كل شهادة الرؤية والحِس واللمس.

فإستفانوس لم يكن ضمن التلاميذ لكن لمَّا اختير ضمن السبعة شمامسة ظهرت قوَّة شهادته في محاورته مع اليهود، وكيف كان يفحمهم حتى امتلأوا حقدًا مُفترين عليه، وفي لحظِة استشهاده ”شَخَصَ إلى السماء وهو مُمتلِئ من الروح القدس فرأى مجد الله ويسوع قائِمًا عن يمين الله“، ومن فَرَحه بهذه الرؤية الفريدة صاح للجموع الحاقِدة ”ها أنا أنظُر السموات مفتوحةً وابن الإنسان قائِمًا عن يمين الله“ (أع 7: 55 – 56)، نعم لقد شاهد المسيح في المجد فصار بعد ذلك شهيدًا.

وموت المسيح في منظور إستفانوس الشهيد، يُمثِّل ذروة آلام الأنبياء في العهد القديم ”أي الأنبياء لم يضطهدهُ آباؤُكم وقد قتلُوا الذين سبقوا فأنبأوا بمجيء البار الذي أنتم الآن صرتم مُسلِّميهِ وقاتليهِ“ (أع 7: 52)، وامتثالًا بمسيحه صلى رئيس الشمامسة إستفانوس من أجل أعدائِهِ طالِبًا لهم الصفح (أع 7: 60)، لذلك مُنِح أن يرى مجد المسيح في لحظات استشهاده الأخيرة (أع 7: 56)، وكما في رؤيا حزقيال، رأي ابن الإنسان قائِمًا عن يمين الله، فاستفانوس شهيد ونبي، وكان يُلقب ”بالشهيد الكامِل The perfect martyr“ في تقليد الكنيسة في القرن الثاني.

وكثيرًا ما أشار الدارِسون إلى مغزى ودلالِة الآيات التي تصِف استشهاد إستفانوس، فعندما بدأ يتحدث مع السنهدرين Senhedrin صار وجهه كوجه ملاك (أع 6: 15)، وهكذا أعلن مجد الله المحفوظ للأبرار الذين سيشتركون في الحكم يوم الدينونة.

ونرى في القديس إستفانوس سِمات ثلاث حدَّدها بعض الشارحين فيما بعد تُميِّز الشُهداء وتجعل للكنيسة الحق في إطلاق هذا اللقب عليهم:-

  1. 1. الامتلاء من الإيمان والروح القدس (أع 7: 5)، فالشهادة للمسيح ليست بالعقل والذاكرة أو بالكلام إنما بالروح القدس روح الحق الذي من عند الله ينبثِق ويشهد للمسيح ويذكُر بكل أقواله وأعماله ”هو يشهدُ لي وتشهدون أنتم أيضًا“ (يو 15: 26 – 27)، لأنه لا يقدِر أحد أن يقول أنَّ يسوع رب إلاَّ بالروح القدس (1كو 12: 3)، لذلك لم يحظَ إستفانوس بمجرد رؤية لما لا يُرى بل قدَّم دليلًا على انسكاب الروح القدس الذي كان بدوره يُعلِن نهايِة الدهر بحسب التقليد.
  2. 2. الكرازة بالمسيح والمُجاهرة العلانية بالإيمان، والدعوة للتوبة ونوال نعمة المعمودية على اسم المسيح (أع 7: 37، 51).
  3. 3. تقديم الحياة بالكامِل كبرهان على صِدق الشهادة بالصلاة والصفح وطلب الغُفران وعدم التذمر ورؤيِة المجد العتيد بفرح (التجلي الرؤيوي)، تلك هي الشهادة لآلام المسيح وشَرِكَة المجد العتيد أن يُعلن.

الكرازة الإنجيلية والشهادة في بدايات المسيحية:

ارتبط تحمُّل الآلام من أجل الإيمان والكرازة في ذهن القديس بولس بعمل الشهادة witnessing للإيمان، فلكلٍ منهما نفس الدرجة من الأهمية وهما مُتحايكين معًا لا ينفصِلا عن بعضِهما البعض.

فبعد صعود السيِّد المسيح، استمرت الشهادة خلال الروح القدس الذي يشهد للمسيح (يو 15: 26)، ويتكلم على أفواه المسيحيين عندما يقفون أمام الوُلاة والملوك، تمامًا مثلما تكلم قديمًا على أفواه الأنبياء.

وقد كان المجيء الثاني، في فِكر المسيحي الأول، يتضمن استعلان المسيح كقاضي المسكونة كلها، الذي سيأتي إلى العالم في نار لهيب ويُجازي لأنَّ له النقمة على الذين لا يعرفونه، يسكُب سخطه ونقمته على الأمم التي لم تعرِفه (أر 10: 25).

وقُرب نهايِة القرن الأول، عندما كان الاضطهاد قد بدأ فعلًا، كتب الرسول بولس رسالته إلى العبرانيين، وكتب يوحنا الرائي رؤياه. . وهو منفي في بطمُس، وكلاهُما (أي العبرانيين والرؤيا) يُلخِص ويُقدِّم لنا رؤيِة الكنيسة الأولى للاستشهاد، بعد أن اصطبغا بالصبغة المجيئية الانقضائية (الأسخاتولوچية).

الشهادة في رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين

يتضح في رسالِة بولس الرسول إلى العبرانيين الارتباط المُباشِر بين آلام وموت المسيحيين وبين طبيعة وموت المسيح الكفارية ويستهِل بولس الرسول رسالته بأنَّ المسيح قد مات (عب 1: 3) لأنه بدون سفك دم لا تحصُل مغفرة (عب 9: 22)، والمسيح ربنا المُصارِع العظيم الذي غلب الشيطان وسحق رأسه إلى الأبد وجعلنا نتحارب مع عدو مهزوم بعد أن انتزع الغلبة لحسابنا وطرحه أرضًا هو ذبيحة كل الذبائِح..

لقد صار المسيح كمال الذين يشهدون للحق بالإيمان، فسدُّوا أفواه الأُسود (11: 33)، ورُجِموا ونُشِروا (11: 37) (إشعياء النبي)… إنها إشارة إلى المسيح رئيس الإيمان ومُكمِّلهُ الذي احتمل الآلام من أجل السرور الموضوع أمامه.. وتلك هي دعوتنا أن نُحاضِر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا (12: 1) وأن نُقاوِم حتى الدم مُجاهدين ضد الخطية (12: 4)، لأنَّ الارتداد هو دوس دم ابن الله (10: 29)، هو خطية جميع الخطايا وأفظعها.

الشهادة في سفر الرؤيا

يكتُب لنا القديس يوحنا في سفر الرؤيا من منظور مَنْ عاين نهايِة الدهر، ورأى ملكوت الله قد أتى فعلًا، لقد كان هو نفسه منفي من أجل كلمة الله ومن أجل شهادِة يسوع المسيح (1: 2)، لذا فقد كانت له شَرِكَة في مصير هؤلاء الذين شهدوا فعلًا (6: 9 ؛ 12: 17 ؛ 20: 4)، وفي نظرته إلى حِفْظ وصايا الله وإلى الشهادة ليسوع المسيح كان يراهُما شيئًا واحدًا (12: 17)، وكانت الشهادة Witness بالنسبة له، هي السبيل إلى الاستشهاد Martyrdom.

ورأى تحت المذبح نِفوس الشُهداء (6: 9)، وأنتيباس الأمين الذي اضطهده أوچين ففاز بإكليل الشهادة (12: 13)، بدم الخروف وبسبب كلمة الشهادة حتى الدم.

لقد طالب الشُهداء بالانتقام ”حتى متى أيها السيِّد… لا تقضي وتنتقِم لدمائِنا“، لكن هناك العتيدين أن يقتلُوا مثلهم وهكذا امتدت الشهادة وستمتد إلى مجيء المسيح عندما يشترِك معه الشُهداء في القضاء فيُلقي عَبَدِة الأوثان في البُحيرة المُتقِدة بالنار والكبريت الذي هو الموت الثاني (21: 8).

الشهادة في المنظور الكنسي

إنَّ الشُهداء تابِعون للمسيح ربنا الشهيد الأول الذي أطاع حتى الموت موت الصليب، ووضع نفسه طواعية باختياره وإرادته ”لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخُذها أيضًا“.

لذلك قَبَل الشُهداء الآلام بإرادتهم محبة فيمن مات من أجل خلاصِهِم فبكَّروا إلى ساحات العذاب باختيارِهِم وقبولهم ”التكريس والاختيار“، إنه التعبير عن المحبة الصادِقة المُكرسة والمُخصصة للمسيح، التي هي ركيزة حمل الشهادة لمُخلِّصنا الصَّالِح، إنه تقديس النَّفْس وتقديمها إيجابيًا بالموافقة والقبول الكامِل، لأنَّ الشهادة أولًا وقبل كل شيء مُشاركة واتحاد مع المسيح الذبيحة الكاملة الحقيقية والتي بدونها لن تُقبل أيَّة ذبيحة، إنه الاتحاد الكياني والصميمي بشخص المسيح ربنا وإلهنا ومُخلِّصنا ومَلِكنا كلنا.

هؤلاء الشُهداء غلبوا الشيطان بدم الحمل وبكلمة شهادتهم ولم يحبُّوا حياتهم حتى الموت، وحفظوا لنا وديعة الإيمان مع كل سحابِة المُعترفين، وديعة نقية بلا عيب أو انحراف، لذلك لاقوا الكثير من الأهوال والأتعاب لأجل ثباتِهِم في الإيمان المُسلَّم مرَّة للقديسين.. وفي الوقت الذي كان فيه الوُلاة والحُكام يتفننون في تعذيبهم، كانت الكنيسة ثابتة صامدة غير مُتزعزِعة… . وبالرغم من نهش الذئاب لها، كان الحِملان في السراديب تحت الأرض يصلُّون ويتقدمون للأسرار، ويصومون (جماعيًا) من أجل هذه الذئاب!!!

فالكنيسة في مُستودع الشُهداء وأُم الشُّهداء جميعًا، التي أعدَّت من أولادها قديسين وجعلت من أعضائها شهود وشُهداء، غرست فيهم التلمذة على الإنجيل ورضَّعِتهم لبن العقيدة العديم الغِش، ودرَّبِتهم على النُسك والبتولية والأصوام، وعلَّمتهم المحبة والصلاة والسلوك بوداعِة الحِملان، وجعلتهم يُمارِسون الشَرِكَة والأغابي والتسبيح ورعايِة المُحتاجين ومُساندة الأعضاء الضعيفة والمُرتدَّة…

لذلك اجتمع شعب إسنا كله مع أسقفه، وتناولوا من الأسرار الإلهية استعدادًا لمعركِة الاستشهاد، فدم يسوع المسيح هو الذي أعطى للشهادة قُوَّة وجسارة عجيبة، دم المسيح المسفوك في كأس التناول هو الذي يُعطي للشُّهداء القُدرة على سفك دمائِهِم، جسد المسيح المكسور على المذبح من أجل خلاصنا في الصينية، هو الذي يهِبهُم النعمة والقوَُّة والمعونة والغلبة وشَرِكَة الحياة الأبدية وعدم الفساد وغُفران الخطايا…

الاستشهاد سرّ كنسي

تعتبِر الكنيسة شهادِة الدم معمودية، فهي سِر من أسرارها يُعادِل سِر المعمودية، والموعوظ الذي يُسفك دمه قبل أن يتعمَّد يُحسب استشهاده عِمَادًا (حسب تعبير المُدافِع ترتليان).

فالاستشهاد صبغة أي (بابتِزما) معمودية، لذلك يقول العلاَّمة ترتليان في مقال (ترياق العقرب) الذي كتبه ضد الغنوسيين الذين يُسميهم بالعقرب لأنهم كانوا يستهينون بالاستشهاد: ”إنَّ الاستشهاد ميلاد جديد تربح فيه النَّفْس حياتها الأبدية“.

ويقول العلاَّمة أوريجانوس السكندري عن الاستشهاد بسفك الدم باعتباره واسِطة للنعمة، إنه ”واحد من سبع طُرُق لمغفِرة الخطايا“، ويقول أيضًا ”عالمين أنَّ خطايانا التي اقترفناها بعد المعمودية يرفعها استشهادنا بالدم فهو معمودية الدم الثانية“.

ويعتبِر العلاَّمة أوريجانوس الاستشهاد امتدادًا لصلاة جحد الشيطان التي نُصليها في ليتورچيا المعمودية، فيقول: ”فإذا كنا قد جحدنا آلهة الأوثان والشيطان، كيف نحنِث ذلك مرة أخرى؟….. وإذا أنكرنا المسيح على الأرض، فسيُنكرنا حتمًا في السماء، أمَّا الذين يعترفون به علنًا، فسيأخذهم معه في الفردوس“.

وأكَّد القديس كبريانوس على سرائِرية الاستشهاد عندما قال: ”في استشهاد الموعوظين بسفك الدم تقوم الملائكة بطقس التعميد، لأنَّ عِمَاد الماء هو مغفرة الخطية وعِمَاد الدم هو إكليل الفضائِل…“.

ويقول أيضًا القديس كيرلُس الأورشليمي ”أي إنسان لم يقبل المعمودية ليس له خلاص إلاَّ الشُهداء، الذين يدخلون الملكوت بدون الماء، لأنَّ المُخلِّص في تقديمه الخلاص للعالم على الصليب طُعِن في جنبه فأفاض منه دم وماء، فالذين يعيشون في وقت السلام يلزمهم أن يعتمِدوا بالماء، والذين في وقت الاضطهاد يعتمِدون بدمِهِم، لأنَّ الرب اعتاد أن يدعو الاستشهاد عِمَادًا، قائِلًا ”أتشربان الكأس التي أشربها أنا وتصطبِغان (تعتمِدان) بالصِبغة (بالمعمودية) التي أصطبِغ بها أنا“ (مر 10: 38)“.

وهناك علاقة سِريَّة حميمة بين سِر الافخارستيا والاستشهاد، فالشهيد إذ يرى في التناوُل السِر الذي تتحقق بواسطته الشَرِكَة مع الله في المسيح يسوع، لأنَّ كل من يأكل منه يحيا به وتكون له الحياة الأبدية ”يُعطَى عنَّا خلاصًا غُفرانًا للخطايا وحياةً أبدية لكل من يتناول منهُ“. . يُقبِل على الموت بيقين عدم الموت ورجاء الحياة الأبدية التي لا يقوى عليها الموت، وأيضًا لا تكمُل احتفالات الكنيسة بتذكارات الشُهداء إلاَّ بالافخارستيا.

ولأنَّ الاشتراك في سِر الافخارستيا هو شَرِكَة في موت المسيح، وقيامته بالأكل من جسد الرب المكسور ودمه المبذول المسفوك، لذا فمسيرة الشهيد مُتماثلة تمامًا مع وليمة العشاء الرباني، فهي تستمِد كل قيمتها من آلام المسيح ربنا، فيُصبِح المسيح بالنسبة للشهيد ليس الإله الصامِت المُمتلِئ غموضًا بل هو ذاك الذي أدركناه، الذي هو غايِة الطريق، الألفا والأوميجا، الذي بالرغم من أنَّ طبيعته واحدة إلاَّ أنها تطلب كثيرين، ليتمتعوا بغِناه ومجده وشَبَعه وقُوَّته اللانهائية والغير موصوفة.

والاستشهاد ذبيحة افخارستيَّة اختبرها القديس أغناطيوس الأنطاكي الذي وصف الاستشهاد وصفًا ليتورچيًا:-

”الشهادة ضحية كفَّارية أُقدِّم نفسي ذبيحة، حِنطة تصير خُبزًا“

لذلك قدَّم الشهيد أغناطيوس نفسه ذبيحة وقُربانًا للذي قدَّم نفسه ذبيحة وقُربانًا من أجلِنا.

الشهادة في المبنى الكنسي

والمذبح في المبنى الكنسي أصبح دعوة للاستشهاد، والتناوُل هو الدُّعامة الروحية لمواجهة تجرُبة الاستشهاد، ومن عصر الاستشهاد المجيد تأتي صلاة تكريس رائِعة، في خدمة ليتورچية سِر المعمودية الخاصة بكنيستنا القبطية أُم الشُهداء، فقبل التغطيس مباشرةً:

”باسم الآب والابن والروح القدس … عبيدك الذين قدَّموا أبنائهم على مذبحك المُقدس الناطِق السمائي رائِحة بخور تدخل إلى عَظَمَتِكَ“.

فالوالِدان يُقدِّما أبناءهم ذبيحة للرب، وتُقدَّم كل نفس ذبيحة للمسيح منذ اليوم الأول لولادِتها وعضويتها في الكنيسة، من خلال رَحِم الكنيسة التي هي المعمودية.. فهل نحن نعيش السِّر؟ وهل نعي طقوس كنيستنا ونُدرِك أعماقها المُذهِلة؟ وهل نحن بحق ذبائِح ومذابِح مُقدسة للسيِّد؟ رائِحة بخور تدخل إلى عَظَمَتِهِ.. ويُقدِّم التاريخ الكنسي القبطي المُمارسة العملية لهذه الصلاة، عندما يُحدِّثنا عن الأُم دُولاجي التي قدَّمت أولادها الأربعة ذبائِح حيَّة لله، والشهيدة رِفقة التي استشهدت مع أولادها الخمسة، وكذلك الشهيدة يوليطة التي قدَّمت ابنها كيرياكوس شهيدًا للمسيح، وزكريا الطفل الشهيد الذي من أخميم، الذي أُحرِقَ هو وأبوه وبسببهما آمن كثيرون.

ولأنَّ الكنيسة كنيسة شهادة شُيِدَت على دِماء الشُهداء، أي الجماعة الحيَّة، لذلك احتفظ لنا القديس إيرينموس چيروم باسم جميل لمبنى الكنيسة وهو ”مجمع الشُهداء أو Conciliabula Martyrum“، الذي كان يُزيِّن بالزهور وأغصان الشجر في المناسبات الخاصة بتذكارات الشُهداء..

واحتفظ لنا المُؤرِخون المسيحيون في القرن الرابِع بحقيقة هامة وهي إكرام الشُهداء، وكانت الكنيسة الجامِعة في كل مكان تشعُر بجِراح الاضطهاد، ولكنها كانت ترفع رأسها في اعتزاز، فقد خرجت من حمَّام الدم مُعترِفة بالإيمان الرسولي، ولذلك عندما جاء السلام بمشور ميلان سنة 317 م، الذي سمح للمسيحيين بممارسة عبادتِهِم، سارعوا بالبحث عن أماكن استشهاد الرُّسُل والآباء الذين ماتوا تحت التعذيب، وأقاموا عليها كنائِس كانت تُسمَّى Martyrium، وهكذا سجَّل لنا المُؤرِخ الكنسي أڤاميا في مدينة خلقدونية، أنه قد دُفِنَت شهيدة في نفس الكنيسة التي عُقِد فيها مجمع خلقدونية 451 م، بل سجَّل لنا يوسابيوس المُؤرِخ أنَّ كنيسة القيامة التي بناها الإمبراطور قسطنطين الكبير كانت تُسمَّى ”شهادِة المُخلِّص Martyrium Salvatoris“ لأنَّ رأس الكنيسة وعريسها الذي اقتناها له بالدم الكريم، أكمل عمله الخلاصي بالاستشهاد والشهادة.

وهكذا اجتهد الإمبراطور قسطنطين بإقامِة عدد من الكنائِس في القسطنطينية جمع فيها ما أمكن الحصول عليه من أجساد الشُهداء.

وعن هذه الحقيقة التاريخية يقول القديس أُغسطينوس أسقف هيبو: ”نحن لا نُشيِّد معابِد للشُّهداء كأنهم آلهة، وإنما نحن نُشيِّد أماكِن للتذكار لأنهم وإن كانوا قد ماتوا بالجسد، إلاَّ أنَّ أرواحهم حيَّة في المجد.. كما أننا لا نبني المذابِح في هذه الأماكِن لكي نُقدِّم عليها ذبائِح للشُّهداء لأننا لا نُقدِّم ذبائِح إلاَّ لإلهُّم وإلهنا وربنا ورب الجميع“.

ومدح القديس أُغسطينوس أحد كهنته المعروف باسم أراديوس Eradius لأنه بنى كنيسة تذكارًا لشُهداء شمال أفريقيا على نفقته الخاصة.

وإذا عُدنا إلى الوثائِق القديمة المُعاصِرة للاضطهاد، لوجدنا أنَّ سبب بُناء هذه الكنائِس إنما يعود إلى اضطهاد دقلديانوس، حيث كانت أغلب اجتماعات الكنائِس تُعقَد في المقابِر وحيث كانت كلمة ”المقابِر“ مُرادِف لاسم الكنيسة. وهذا الارتباط (بين الكنيسة والمقابِر) ارتباط تاريخي فقبل منشور ميلان كان المسيحيون يهربون إلى المقابِر ليُتمِّموا الصلوات والليتورچيات بها هربًا وخوفًا وتقديسًا للأسرار التي قد يعتدي عليها الأُمميون – راجِع القانون 34 من قوانين مجمع Eliberis وهو مجمع مكاني صغير عُقِد أثناء شدة الاضطهاد في عهد دقلديانوس – وهذا هو السبب في وجود تشريعات رومانية قديمة صدرت أثناء اضطهاد دقلديانوس، تمنع عقد اجتماعات في المقابِر وهو ما جاء في المُدونة القانونية الرومانية تحت بند (اجتماعات المقابِر): ”بخصوص اجتماع المسيحيين في المقابِر يمنع بُناء معابِد فوق القبور أو أن تُزيَّن هذه القبور بزينة خاصة، أو أن يحضر أسقف أو من يرأس اجتماع أو أن تُقام صلوات أو طقوس من أي نوع“… وبسبب هذه العادة القديمة ظهرت الكنائِس في المقابِر في عصر السلام، ومن المعروف أيضًا أنَّ القديس أُغسطينوس كان يعِظ في الكنيسة التي بُنِيَت فوق المكان الذي استشهد فيه القديس كبريانوس، والذي كان يُعرف باسم (قبر أو مزار كبريانوس) وهو الاسم الذي وُرِد في مجموعة عظات القديس أُغسطينوس (راجِع عظة 94، 237 في شرح المزمور 38 والتي أُلقِيَت في مزار كبريانوس . Cypriani Mensam

ومن المعروف أيضًا أنَّ هذا المزار ضم أيضًا نفس المذبح الذي كان القديس كبريانوس الشهيد يُصلي عليه، والذي نُقِل إلى مكان استشهاده، ووُضِع في المزار حسب شهادِة القديس أُغسطينوس – (عِظة 113 من مجموعة العِظات المُتفرقة، المُجلد الخامِس عامود 1250 من كتابات أُغسطينوس) – حيث يقول:

”أنَّ أهل قرطاچنة اجتمعوا اليوم هنا في مزار الله حيث قبر الشهيد كبريانوس القرطاچي، في يوم الاحتفال بتذكار استشهاده“.

ويذكُر أيضًا القديس يوحنا ذهبي الفم بطريرك القسطنطينية :

”أنَّ شعب مدينة كاملة يخرُج كله مُسرِعًا إلى المقابِر حيث كنائِس (قبور) الشُهداء“.

ويقول بفصاحتِهِ المعروفة ”أننا لا نُفارِق هذه القبور حتى تُستجاب الصلوات، هنا عند هذه القبور يخلع الملوك تيجانهم لكي يصلُّوا إلى الله طالبين النصر.. وهكذا نال الشُهداء والرُّسُل في موتِهِم كرامة الملوك“، ويقول أيضًا في نفس العِظة أنه في مدينة روما نفسها ”يُسرِع الملوك والأُمراء وكل العُظماء وقُوَّاد الجيش للصلاة في قبر صياد السمك (بطرس) وصانِع الخِيام (بولس)، أمَّا في القسطنطينية فإنَّ العُظماء من الملوك الذين يلبِسون التيجان، كانوا يتمنون أن يُدفنوا بجوار الشُهداء الذين كانوا في حياتهم أحيانًا من الخدم أو العبيد أو صيادي السمك“.

وهكذا حوَّل الاضطهاد، القبر إلى كنيسة، وصار مكان الموت والعذاب بُقعة مُقدسة، بل صار اسم القبر مُرادِف للكنيسة والمذبح كما نرى عند سُقراط المُؤرِخ، والقديس البابا أثناسيوس الرسولي، ويبدو أنَّ هذه العادة القديمة بدأت في شمال أفريقيا، لأنَّ أوِّل إشارة لها وردت في كتابات ترتليان (حوالي 195) الذي أشار إلى أن قُنصُل شمال أفريقيا الروماني هو الذي منع المسيحيين من الاجتماع والصلاة في المقابِر، حيث كانت الكنائِس قد بدأت تنتشِر في المكان الذي يُدفن فيه الشُهداء، وفي شرح چيروم لسِفر حزقيال النبي يقول أنه وهو شاب صغير كان يدرس في روما، ويذهب للصلاة يوم الأحد في قبر الرسولين بطرس وبولس.

ويربُط القديس أُغسطينوس بين المذبح والذبيحة، وبين جسد المسيح كذبيحة وبين الشُهداء، مُعتبِرًا أنَّ أقدر من يُمثِّل جسد المسيح كذبيحة هم الشُهداء!!

لذلك كان المذبح يُسمَّى باسم واحد من الشُهداء، مثل كنيسة أُغسطينوس التي كانت تحتوي على مذبح باسم كبريانوس الأفريقي الشهيد… فالعلاقة والصِلة الروحية بين المسيح له المجد والشُهداء والمذبح هو السيِّد نفسه الذبيحة الباقية إلى الأبد، والذي جمع في نفسه الشُهداء والمُعترفين والقديسين جميعًا، وصار بالنسبة لهم الرأس (أف 1: 22)، الذي تنمو منه كل الأعضاء والتي هي بدورها أعضاء شهيدة تحمِل علامات المسيح وجوهر حياته الغالِبة للموت، هؤلاء جميعًا بسبب المعمودية والافخارستيا يتحوَّلون إلى ذبائِح حيَّة ناطِقة بالشهادة الحَسَنَة أو الموت، لذلك تُقام المذابِح بأسمائِهِم لتشبُّهِهِم بالمسيح المُخلِّص، ويُصبِح القداس إعلان شهادة أو استشهاد نقول فيه ونُردِّد: ”بموتِكَ يارب نُبشِر وبقيامتكَ المُقدسة…“.

قبل استدعاء الروح القدس، تضع الكنيسة خِتم الاستشهاد أي الإيمان الصحيح على كل واحد فيها لكي يأتي الروح القدس ويُنير بقوَّتِهِ الإلهية معالِم هذا الخِتم بالذبيحة السماوية أي ذبيحة الشُّكر فيرى كل مُؤمِن كيف صار الحال الذي هو فيه، وكيف أنه مدعو للشهادة والتبشير بموت المسيح والاعتراف بقيامتِهِ وصعوده إلى السموات..

عندئذٍ نتحِد نحن كذبائِح بالذبيحة السماوية من خلال المعمودية والميرون والافخارستيا..

وهذا العالم السرائِري الكنسي (الاستشهاد) ليس لأحد عُذر التهرُّب منه (كما جاء بالدسقولية) لأنه ميلاد جديد تربح فيه النَّفْس حياتها الأبدية..

وكل المدعوين للمذبح مدعوين ليكونوا ذبائِح، لأنهم ليسوا من هذا العالم بل هم مُواطِنون سمائيون (مواطنيتهم في السماء)، وهم أعضاء إسرائيل الجديد المفدي، مُتحدين بالذبيحة الإلهية خلال المعمودية والافخارستيا..

الروح القدس والاستشهاد

ارتبطت كلمة ”شهيد“ في العهد الجديد منذ استشهاد إستفانوس أوَّل الشُّهداء وحتى الآن، بقبول الموت من أجل الاعتراف بالمسيح كإله وخصوصًا إذا كان ثمن هذا الاعتراف هو الحياة كلها، تحقيقًا للقول ”لا يستطيع أحد أن يقول يسوع رب إلاَّ بالروح القدس“ (1كو 12: 3).

وعلامِة حضور الروح القدس الأكيدة في الاستشهاد هي فرح الشُهداء في الضيق، وحُب المُعاندين، وعدم إدانِة أحد، والابتهاج بالتعبير لأنَّ روح المجد والله يحِل عليهم (1بط 4: 12)..

لذلك أدَّى الشُهداء شهادتِهِم بقوة الروح القدس، ومن المُستحيل أن يشهدوا للمسيح ما لم يكن ذلك بالروح القدس، الذي صارت الشهادة والاستشهاد أسمى مواهِبه.

ولأنَّ الكنيسة هي بيت الحمامة ومُستودع النعمة، والوسط الفريد والوحيد للروح القدس، لذلك يتربى الشُهداء داخِلها، حيث الروح القدس الذي يُقدِّس الأسرار، فحيث الروح القدس هناك تكون الكنيسة، وحيث الكنيسة هناك الروح القدس، والذين لا يتشاركون في الروح القدس لا يرضعون من لبن أُمهم الكنيسة المُقدسة مُربِيَة الشُهداء، ولا شهادة من غير فِعْل الله القدوس الذي يمنح الشُهداء قُوَّة الشِهادة..

الشهادة في التاريخ الكنسي القبطي

منذ استشهاد الآباء لأولين الرسولين وما بعدهم، والكنيسة تُعيِّد لهم، مُعتبِرة أنَّ يوم شهادتِهِم هو يوم ميلادهم الحقيقي، وهو ما نُسميه ”مولِد الشهيد“ وهذا التعبير قديم في كنيستنا التي تعتبِر موت الشهيد ليس موتًا بل حياة أبدية، ولهذا احتمل الشهيد الذي نُعيِّد لِتذكاره كل عذاب مُستعذِبًا الألم مُحتقِرًا الموت.

لذلك نجد التاريخ الكنسي يُقنِّن أعياد الشُهداء ويُحدِّدها كنسيًا، لنجتمِع فيها ونحتفِل بتذكار ميلاد (استشهاد) الشهيد… بالفرح والتهليل مُتذكرين أنواع آلامه فيكون عِبرة لأبناء الكنيسة كلها..

ويتأكد هذا فيما قاله العلاَّمة ترتليان عن بولس الرسول وميلاده ثانيةً بميلاد جديد في روما لأنه جاز آلام الموت هناك.. من أجل هذا حرصت الكنيسة على إقامِة تذكار آلام الشُهداء في أيام استشهادهم مع عمل سِجِلاَت للتأريخ.

وكان المُؤرِخون الأوائِل بغِيرة ونشاط زائِد يهتمون بجمع سِيَر الشُّهداء واستوداعها تاريخ الكنيسة، الأمر الذي حفظ لنا قدرًا كبيرًا من أعمال شهادتِهِم..

ويذكُر تاريخنا القبطي أنَّ أوَّل من دوَّن حوادِث الاستشهاد في تاريخ الكنيسة القبطية هو القديس يوليوس الأقفهصي كاتِب سِيَر الشُّهداء الذي عاش في زمن الطاغية دقلديانوس كشاهِد عيان وشهيد، واهتم جدًا بتحديد تاريخ شهادتهم لعمل تذكاراتِهِم الكنسية، وبكتابِة سِيَر أعمال استشهادهم.

كان القديس يوليوس الأقفهصي ثريًا ويشغل منصِبًا كبيرًا في الأسكندرية، وأحب خدمة الأعضاء المُتألِمة، فخدم المُعترفين والشُهداء، يزورهم، يخفِّف آلامهم، يسِد احتياجاتهم، ويدفن أجسادهم.. ولأنه كان من الأثرياء، لذا كان يُساعده ثلاثمائة غُلام من الكَتَبَة والمُساعدين استخدمهم في تسجيل سِيَر الشُهداء وكتابتها وكان معه مِئتان من المُؤرخين.. وبعد أن استبقاه الله لهذا العمل العظيم، ظهر له السيِّد له المجد في رؤيا ليمضي إلى سمنود ويشهد له، وهناك صاحب استشهاده أعاجيب مُتنوعة، حتى قُطِعَت رأسه مع آخرين (ألف وخُمسمائة)..

مُبارك الله ربنا، الذي استبقاه من أجل ثباتنا وتعزيتنا ومن أجل ملكوته الأبدي الذي أعدُّه للذين يُحبون ظهوره..

ويذكُر التقليد أنَّ سِيَر أعمال شُهداء مصر مُحتواه في سنكسار cuna[arion يُسمَّى بسنكسار الأسكندرية الجامِع أو سنكسار هيرونيموس، الذي يستنِد إلى سِجِل أعمال شُهداء يوسابيوس القيصري المُؤرِخ الكنسي المشهور..

وهناك أربعة تقاويم قبطية تم نشرها بواسطة العالِم ماي Mai، واثنان آخران بواسطة العالِم سلوان، وكذلك توجد أعمال شُهداء جَمَعْها مشاهير مؤرخي الأقباط كان آخرهم الأنبا ميخائيل أسقف أتريب ومليج..

ولِسِيَر الشُّهداء طبيعة تاريخية، تُسمَّى في الأصول التاريخية بأعمال الشُّهداء Acts of Martyrs = Acta Martyrum ويُسجل في هذه الأعمال الحوارات التي دارت في المحاكِم بين القُضاة أو الوُلاة وبين الشُهداء، وأنواع العقوبات، وكل ما حدث من أعمال شهادة… كتراث للكنيسة وكِنز للبركة والتقوية والمعونة، فضلًا على تدوين كلِمات الشُهداء والرؤى التي تُعلَنْ لهم..

وهناك تقارير تاريخية ووثائِق كَتَبْها شهود العيان وسجَّلوا فيها بلغتِهِم ما سمعوه ورأوه، وكانت هذه التقارير تعتني بوصف آلام وعذابات الشُهداء وتُسمَّى بلغة التأريخ Passions or Martyria وكذا بعض القصص التي يرويها الآباء عن ظروف الاستشهاد في تعليم الشعب، وهذه القصص تُكتب غالِبًا في زمن مُتأخِر عن زمن الاستشهاد، وتُسمَّى بلغة التأريخ Legend أي رواية تاريخية. وهناك نوعان من روايات الاستشهاد، هما (أعمال) و(آلام) الشُهداء، فأعمال الشُّهداء تتضمن محاضِر جلسات المُحاكمة، والتي تحتوي على أسئِلة السلطات وأجوِبة الشُهداء عليها، مُسجلة بواسطة كَتَبِة المحكمة الرسميين، ثم الأحكام التي نطق بها القُضاة، تلك الوثائِق التي حُفِظَت في دواوين الدولة ومعروفة لدى الكُّتَاب الكنسيين مثل سيرة يوستينوس الشهيد، وسيرِة الشهيد كبريانوس.. وهذه المصادِر لها قيمتها التاريخية التي لا شك فيها بسبب واقعيتها وأصالتها..

أمَّا آلام الشُهداء فهي الروايات التي سَرَدْها شهود العيان المُعاصرين لها، ثم جُمِعَت ودُوِنَت بعد حدوثها بوقت قليل مثل قصة استشهاد بوليكاربوس، الذي سُرِدت سيرته قبل العيد السنوي الأوَّل لذكرى استشهاده… نصوص هذه الوثائِق التاريخية تحمِل لنا الأخبار كما سجلتها اليد الأولى، وتُعطينا أيضًا شهادة صحيحة عن إيمان الكاتِب والبيئة التي كان يتحرك فيها، ووعيه الخاص بتقوى الشُهداء..

وإلى جانِب التأريخ الخاص بالشُهداء، نجد أنَّ سِيَر الشُّهداء منذ العصور المُبكرة للكنيسة قد دخلت ضمن الصلوات الليتورچية القبطية، ولم يعُد من الممكن أن نحتفِل بتاريخ تِذكارهم إلاَّ في القداسات الإلهية.

وثائق تاريخية عن عصر وأعمال الشهداء | أنواع العذابات التي احتملوها

كتب لنا مُؤرِخو الكنيسة والثُقاة، عن أنواع العذابات والميتات التي اجتازها الشُهداء أحِباء المسيح الذين عُذِبوا ولم يقبلوا النجاة من أجل قيامة أفضل مع المسيح في الدهر الآتي والحياة الأبدية.

ولأنَّ الموت كان يُوافي الشُهداء والمُعترفين بعد سلسلة من الآلام والتعذيب الجسدي والنفسي والمعنوي، لذلك حفظ لنا تقليد الكنيسة (التاريخ الكنسي) أنواع العذابات الكثيرة التي احتملها الشُهداء ومنها:

(1)  قطع الرأس بالسيف.

(2)  الحرق.

(3)  الصلب.

(4)  الإلقاء للوحوش المُفترِسة.

(5)  الاستعباد.

(6)  النفي.

(7)  الجَلْد بالسِياط.

(8)  الضرب بالعصي.

(9)  الإلقاء في النيران.

(10)  الحبس في السجون.

(11)  الإلقاء في بُحيرات جليدية.

(12)  السلخ.

(13)  نشر الجسم.

(14)  صب القار المغلي.

(15)  بتر الأعضاء.

(16)  الشنق.

(17)  مرور العجلات المُسنَّنة فوق جسم المُعترِف.

(18)  السحل.

(19)  العصر بالهنبازين.

(20)  تشويه الأجساد.

(21)  دفن الإنسان حيًا.

(22)  العذابات المُخجِلة.

(23)  بقر بطون الحوامِل.

(24)  شطر المسيحي نصفين بشجرتين مُتقابلتين.

لقد قال الفيلسوف المسيحي يوستين الشهيد ”لا تكونوا غير عادلين حتى تحكموا علينا دون أن تسمعونا“، وبنفس المعنى قال لهم أثيناغوراس المُدافِع الأثيني ”أنتم تُنزِلون بنا العِقاب لمجرد كوننا مسيحيين“، ولكن بقدر وحشية العذابات ودمويتها بقدر الأمجاد والتعزيات والأكاليل التي التحف بها عبيد الرب.

نهاية المُضطهدين

احتفظ التاريخ بوثائِق تتضمن أحداث نهايِة مُضطهدي الكنيسة فقد كتب لكتانتيوس Lactantius المُدافِع المسيحي كتابًا أسماه ”نهايِة المُضطهدين De Martilus Persecutorum“ وكان هدفه من هذا الكتاب أن يُثبِت نهايِة الوثنية وصحة المسيحية التي جعلته يتنصَّر بعد أن كان وثنيًا.. وكتب كِتابه هذا لتمجيد اسم الله الذي لا يدع عصا الأشرار تستقِر على نصيب الصِّدِّيقين، وليبرُز الغضب الإلهي الذي وقع على مُضطهدي الكنيسة عروس الحَمَلْ، وكيف أنَّ الكنيسة التي اضُطهِدت قبلًا، نُهِضَت ثانيةً، بعد أن وضع الله نهاية لكل مكايِد الأشرار وجفَّف دموع الكنيسة، والذين جدِّفوا على الإلهيات طرحهم إلى أسفل، والذين عذَّبوا الأبرار ماتوا وسط الضربات الإلهية.

نيرون إنتحر في الثانية والثلاثين من عُمره، ولم يعرف أحد أين قبره.
دوميتيان قُتِل وهو على عرشه، بعد أن سلِّمه الله ليد أعدائِهِ، وشُهِّر به بعد أن مُحِيَ اسمه.
ديسيوس ذُبِح هو وابنه وأعداد غفيرة من جيشه، ونهشت الوحوش جسده.
ڤالريان أُخِذَ في الأسر ، وقضى بقية أيام حياته عبدًا أسيرًا.
أورليان ذُبِح بيد أقرب المُقربين إليه.
دقلديانوس أُصِيب بلوثة عقلية، فعُزِل بعد أن تجنَّن.
مكسيميانوس شنق نفسه مُنتحِرًا.
جالريوس ضُرِب بالقروح البَشِعة، وأخذ الدود يأكل جسمه.
يوليانوس مات مقتولًا برُمح في جنبه.

أين هؤلاء؟ إنهم ماتوا جميعًا شر ميتة، أمَّا هؤلاء، أحباء المسيح فقد ماتوا ميتة يُمجِّدون بها عريسهم السماوي…

الذين اضطهدوا، ذُلُّوا وسقطوا فماتوا… أمَّا الذين اضُطِهدوا، فتمجَّدوا وتكلَّلوا ليحيوا مع الحي إلى أبد الآبدين…

ويشهد المُؤرِخ شاف Schaff ”نحن لا نعرِف دِيانة أخرى استطاعت أن تصمُد هذا الزمان وتنتصِر على أعداء كثيرين بالقوَّة الروحية وحدها دون اللجوء إلى الوسائِل المادية“.

علم المارتيرولوجي Martyrology

للاستشهاد في المسيحية فلسفة روحية عميقة، تستنِد إلى حياة روحيَّة إنجيليَّة، وقد عالج آباء الكنيسة تلك الفلسفة التي تعلَّق بها المسيحيون من جميع الطبقات والثقافات والأجناس والأعمار..

ويضُم عِلْم المارتيرولوچي دوافِع الاستشهاد وفلسفته الروحية العميقة، لا كفكرة طارِئة ساذِجة اعتنقها بُسطاء المسيحيين، لكن كقصة الكرازة بالمسيحية..

إنه العِلْم الذي يفوح منه رائِحة مِسْك هؤلاء الشُهداء وعِطْر آلامهم، فيتناول سِيَر الشُّهداء وأعمال شهادتهم وأقوالهم وأدعيتهم وعذاباتهم وفِئاتهم، وموقِف الكنيسة من الاضطهاد، وسلوك المسيحيين في الكنيسة الأولى..

كما يتناول هذا العِلْم الآبائي تطور مفهوم الشهادة، وموقِف المسيحيين وسط العالم في حُقبة الاضطهاد، وكيف أعدَّت الكنيسة أولادها للاستشهاد،.. وبالجملة كل ما يخُص الأدب الاستشهادي..

لقد كان الاستشهاد شرارة مُنيرة، أُلقِيَت في أعماق نِفوس الآباء الداخلية، فاشتعل الحب فيهم، وصار العِشق الإلهي لهيبًا، يجتذِبهم إلى جماله غير المنطوق به، ليجعلهم شُهودًا وشُهداء، فحملت كنيستنا أمام العالم سِمَة التَّعدُّد والتنوع، ووقفت أمام العالم كابنة الملك المُلتحِفة بثِياب مزركشة، تُقدِّم شهادِة الدم التي كتب عنها آباء الكنيسة ومُعلِميها، لتلمس أوتار كثيرة لقلوب الكثيرين، بعد أن جاءت أعمال الشُهداء أمثلة حيَّة في الدفاع عن الإيمان المسيحي بكل مجاهرة، وكتب لنا عنها مُعلِّمو البيعة المُقدسة…

فكما تقدَّم كثير من المسيحيين من كل الفِئات والأعمار والثقافات للاستشهاد بفرح، كذلك انبرى آباء الكنيسة في الدفاع عن الإيمان، هؤلاء الآباء دُعوا بالمُدافعين The Apologists، ليردوُّا على الاتهامات ويكشفوا ضلال الوثنية وجمال روحانية المسيحية…

ويعتبِر القديس كوادراتِس Quadratus أقدم المُدافِعين المسيحيين، الذي قدَّم دِفاعه للإمبراطور هادريان، وأرستيدس Aristides من رجال القرن الثاني، وأرِسطون Ariston الذي دافع عن المسيحية ضد اليهود، والشهيد يوستين Justin الذي كتب دفاعين وحوار مع اليهودي تريڤو Tryho وغيرهم من المُدافعين..

كتب الفيلسوف يوستين عن تأثُّره العميق الذي انطبع في نفسه من رؤيِة الشُهداء المسيحيين فقال: ”في الوقت الذي كنت أستمتِع فيه بمبادِئ أفلاطون، وفي الوقت الذي كنت أستمِع فيه إلى المتاعِب التي يتكبدها المسيحيون، قلت لنفسي: حيث أني رأيتهم لا يرهبون الموت حتى وسط الأخطار التي يعتبِرها العالم مُرعِبة، فمن المُستحيل أن يكونوا أُناسًا يعيشون في الشهوة والجرائِم“.

وقال عن نفسه: ”لقد طرحت جانِبًا كل الرغبات البشرية الباطِلة ومجدي الآن في أن أكون مسيحيًا، ولا شئ أشتهيه أكثر من أن أواجِه العالم كمسيحي“.

لقد فنَّد يوستينوس كل ادعاءات اليهود وافتراءاتِهِم، وبيَّن أنَّ اليهودية لم تكن سوى مُقدمة للمسيحية، وأنَّ اليهود وِفقًا للعهد القديم عليهم أن يُؤمِنوا بالمسيح.

ويقول يوسابيوس القيصري عن استشهاد يوستين في مدة حكم أوريليوس سنة 161 – سنة 169 م أنَّ في ذلك اليوم كان معه ستة آخرون، ولما اقتُيدوا للوالي الروماني روستيكوس Rusticus:

قال يوستين: ”نحن لا يمكن أن نُلام أو نُدان لطاعِتنا وصايا مُخلِّصنا يسوع المسيح… لقد جاهدت أن أُحيط بكل العقائِد، ولكني آمنت بالعقيدة الحقيقية، أي تلك التي للمسيحيين، حتى لو كان يرفُضها الذين لديهم اعتقادات باطِلة… نعم أنا مسيحي وأرجو أن أنال هِبات الله إذا تحمَّلت هذه الآلام، إني مُتيقِن من هذا… لقد صلَّينا أن نتألم من أجل ربنا يسوع المسيح، لكي بهذا نخلُص، إنَّ هذا سيمنحنا ثقة وتأكيد لخلاصنا، عندما نقِف أمام منبر ربنا ومُخلِّصنا“… عندئذٍ ذهب الشُهداء القديسون إلى المكان المُعَد لهم وهم يُمجِّدون الله، حيث قُطِعَت رُؤوسِهِم.

كلمنت السكندري ومفاهيم استشهادية

وفي سنة 211 م.، كتب أكليمنضُس الأسكندري نُصحًا لليونانيين Protrepticus ليوضح لهم خِسَّة الوثنية فيقبلوا الإيمان المسيحي والاستنارة الروحية الفعَّالة… ولُقِب القديس أكليمنضُس الإنسان الحقيقي الذي له شَرِكَة اتحاد مع الله ”شهيدًا“، لأنَّ الاستشهاد في نظره ليس من بطولة الشهيد بل في الشهادة للحق المسيحي، الذي يجعل الشهيد يحتمِل بشجاعة آلامًا تفوق ما تحتمِله الطبيعة البشرية..

واعتبر القديس أكليمنضُس السكندري أنَّ المسيحي الحقيقي لا يضطرب من شيءٍ ما.. لا يخشى الموت ولا يخافه، لأنَّ له الضمير الصالِح الذي يهيَّأه لمُعاينة القوات السمائية.

وركِّز القديس على أنَّ الاستشهاد أمر أساسي في حياة كل مُؤمِن، لأنَّ الاستشهاد ليس مجرد سفك دم، ولا مجرد اعتراف شفوي بالمسيح لكنه مُمارسة كمال العِشق الإلهي..

واعتبر القديس أنَّ الجميع مدعوون للاستشهاد ولنوال الإكليل، نساءً ورجالًا عبيدًا وأحرارًا.

وقنَّن القديس أكليمنضُس الشهادة رافِضًا التقدُّم لها باندفاع وتهور، واعتبر أنَّ الاستشهاد كأس نشربه من أجل الكنيسة، لابد أن نُطيعه بسهولة، بعد أن نتحرر من الآلام مُقدمًا، ونروض المُضطهد ونُقنِعه بحب بلا مُقاومة..

تحدَّث القديس من واقِع خبرته الخاصة التي عاشها في عصر الاستشهاد ولمس ثمرته الحيَّة في حياة الكنيسة، فأكَّد على حتمية الاستشهاد واعتباره كمال المحبة وقانونية الشهادة العملية، مُعتبِرًا أنَّ الاستشهاد كمال teleiotes لأنَّ فيه يظهر كمال عمل المحبة، وأنَّ كل نَفْس تعيش في معرفة الله ومخافته تشهد بحياتها كما بالكلام..

والاستشهاد عند القديس أكليمنضُس خِبرة حياة يومية تُعاش وتُختبر حتى تبلُغ قمة العمل (عند الدم)، مُعتبرًا أنَّ الاستشهاد تنفيذ لوصايا الرب من خلال الحب، في كل عمل يُمارس طاعة لإرادِة المُخلِّص..

وبالجملة نجد أنه رأى في الاستشهاد إعلان لعمل التوبة اليومية، مُؤكِدًا على الحُب نحو الله في حياة وعمل الشهيد، مُعتبِرًا أنَّ من يقوم بإثارِة المُضطهدين يُحسب مُجرِمًا لأنه يُثير وحوش كاسِرة.

أوريجانوس العلامة ونفسية الاستشهاد

ثم جاء العلاَّمة أوريجانوس، الذي عاش في بيت له نفسية الاستشهاد، فقد أُلقِيَ القبض على لاونديوس أبيه ووُضِع في السجن، أمَّا ابنه أوريجانوس فكان يتوق أن ينال إكليل الاستشهاد مع والده، فمنعته أُمُّه من تحقيق رغبته بإخفاء ملابِسه.. فأرسل إلى أبيه يحثُّه على الاستشهاد قائِلًا له:

”إحذر أن تغيَّر قلبك بسببنا“

قُبِض على أوريجانوس سنة 250 م. في زمان الاضطهاد الذي أثاره ديسيوس، وأُلقِيَ في السجن ونالته عذابات شديدة، لكنه لم يستشهِد بل أُفرِجَ عنه، بعد أن وُضِع في طوق حديدي ثقيل ورُبِط بمقطرة أيامًا كثيرة.

كتب العلاَّمة أوريجانوس سنة 235 م. كِتابه ”الحث على الاستشهاد“، وقد أفرغ فيه خُلاصة اشتياقاته وخِبراته، وأرسله إلى صديقيهِ الحميمين أمبروسيوس وبروتوكيتس كاهن قيصرية، اللَّذينِ قُبِضَ عليهما، وطُرِحا في السجن، فوجَّه لهم مقاله Exhortatio Martyrium حث فيه على الاستشهاد وحذَّر من عبادِة الأوثان وقدَّم أمثلة للاستشهاد وتحدَّث عن وجوب الاستشهاد وأنواعه..

تكلَّم العلاَّمة أوريجانوس عن المُجازاة والجعالة المُعدَّة في السماء للمُضطهدين لأجل البِّر، وأشرك الطبيعة في فرحِة الشهادة لاسم الله، فوصف ابتهاج الملائِكة وتصفيق الأنهار بالأيادي وترنُّم الجِبال وتصفيق شجر الحقل بالأغصان من أجل الدفاع عن المسيحية…

اعتبر العلاَّمة أوريجانوس أنَّ الاستشهاد الكامِل ليس فقط علانية بل في الخفاء أيضًا كشهادة ضمير وإماتة من أجل الله..

دخل العلاَّمة أوريجانوس إلى مُشاركة الشُهداء أتعابهم، وتلمذ كثيرين فصاروا شُهداء، إذ يقول: وُجِدَ وقت كان فيه الناس مُؤمنين بحق، حيث كان الاستشهاد هو عقوبة حتى لمن يدخل الكنيسة.. ووقفت الكنيسة كلها دون أن تتزعزع، وكان الموعوظون يتلقون التعليم الإيماني وسط الاستشهاد، ونظر العلاَّمة أوريجانوس للاستشهاد على أنه أحد البراهين على صحة الحق المسيحي واستمرار لعمل الخلاص…

رأى العلاَّمة أوريجانوس أنَّ غُفران الخطايا يستحيل بدون العِمَاد، لكنه أُعطِيَ للُمعمدين معمودية الدم. وكتب عن الأمجاد التي كلَّلت الكنيسة وسط الضيق، واصِفًا غلبة الشُهداء للعذابات واعترافهم بغير خوف بالله الحي، والأعمال البطولية العجيبة التي كانت للمؤمنين القليلي العدد، لأنهم بحق مُؤمنين يتقدمون في الطريق المُؤدي للحياة، موضحًا أنه لابد أن يكون استشهادهم بحسب مشيئة الله وبتبصُّر وصحو ورزانة، فالرب يُعلِّمنا أنه ليس بعدم بصيرة يذهب أحد إلى ساحِة الاستشهاد…

تطلَّع إلى الاستشهاد كواجِب كل مسيحي يرغب في الاتحاد بالله، ويشتاق للساعة، حتى أنه قال في محاورته مع هيراقليدس: ”أحضروا الوحوش، أحضروا صُلبانًا، أحضروا نارًا، أحضروا عذابات، لنستريح مع المسيح“، ورأى العلاَّمة أوريجانوس أنَّ الاستشهاد مُؤسس على النموذج الأمثل للحياة كما حدَّدها الإنجيل.

ربط العلاَّمة أوريجانوس بين الاستشهاد وذبيحة الصليب، على اعتبار أنَّ ذبيحة الحَمَل لها انعكاسها في بذل دم الشُهداء الذين يبذلون دماءهم واعترافهم وغيرتهم على الصَّلاح، فالموت يُصبِح ثمينًا، ليس الموت العقيم غير المُثمِر في السماوات، بل ذلك الموت المُقدس من أجل الإيمان المسيحي.

رأى العلاَّمة أوريجانس ارتباط الشُهداء بالمسيح نفسه، وفي استشهادهم ضرورة للخلاص، وأنَّ كل من يبغى الخلاص ليسترِد روحه أفضل، يُقدم للموت، فكل من يحمِل شهادة يرتبِط مع من يشهد له ويصير واحدًا معه كالعريس والعروس، فالاستشهاد ذبيحة حُب مُرتبطة بذبيحة الصليب، لأنها ذبيحة غير مُنفصِلة عن ذبيحة المسيح نفسه..

وعن بركات الاستشهاد والاشتياق له يقول :

”من أجل المُكافأة أتمنى -لو كنت شهيدًا- أن أترُك ورائي أطفالًا وحقولًا وبيوتًا حتى يُمكنني أن أكون أبًا لأضعاف مُضاعفة من الأطفال القديسين، وأتمتع بهذه الأُبوَّة في حضرِة الله الآب“.

ويصِف العلاَّمة أوريجانوس نفوس الذين ماتوا على الإيمان بالمسيح، وهي في انطلاقها، كيف تسحق قُوى الشياطين وتُحبِط كل مكائِدهم ضد الناس، ويُؤكِد قائِلًا: أنَّ قُوى الشر تُعاني الانكسار بموت الشُهداء القديسين وكأنما صبرهم وحُسْن اعترافهم حتى الموت وغيرتهم على التقوى قد غلبت نِضال قُوى الشر المُتآمرة على الشهيد، وأنهت قُوَّتهم وأضاعتها، وكثيرون ممن أسقطوهم وألقوهم أرضًا كانوا يرفعون هاماتهم حرة مُتحررة من وطأة قُوى الشر التي جثمت على صدورهم وآذانِهِم… . طالما انتفع الكثيرون من موت الشُهداء بقُوَّة لا يمكن التعبير عنها.

وفي عام 250 م. بدأ الاضطهاد في حبريِة البابا ديونيسيوس بابا الأسكندرية الذي قدَّم لمسات سريعة لشُهداء الإسكندرية في ذلك الوقت وكتب رسالته إلى دومثيوس وديديموس، ورسالته إلى فابيوس أسقف أنطاكية.

استبقاه الله ليُشدِّد الشعب أثناء الاضطهاد وفي المجاعات والأوبئة، وبالرغم من القبض عليه، إلاَّ أنَّ شعبه حمله من يديه ورِجله ودفعوه دفعًا داخل البطريركية.

وفي نهايِة كل اضطهاد كان يضُم المُرتدين، بعد أن كتب دِفاعات ورسائِل كثيرة، وهو الذي رأى أنَّ الاستشهاد في الدفاع عن وحدة الكنيسة لأفضل من الاستشهاد لأجل الامتناع عن عبادة الأوثان، ففي هذا مُحافظة على خلاص نفس واحدة وفي تلك مُحافظة على خلاص الكنيسة كلها..

الاستشهاد من الأسرار الكنسية | الأنبا بطرس الأول

واعتبر البابا ديونيسيوس الكبير الاستشهاد سِر كَنَسِي لذلك قال: ”الشُهداء القديسون الذين هم الآن جُلساء المسيح وشُركاء ملكوته ومُشترِكون معه في الدينونة والقضاء هم وحدهم الذين خلصوا بدون معمودية“.

وعندما انتشر الطاعون في الإسكندرية، خرج المسيحيون من المخابِئ ومن السراديب، وهبُّوا عائدين إلى المدينة غير هيابين اضطهاد داكيوس وغالوس وفاليريان، ليقوموا بالعِناية بالمرضى من الوثنيين، يواسون العائِلات، ويُشدِّدون الذين على شفا الموت ويُغمِضون عيون الأموات ويحملونهم على سواعِدهم ليدفنوهم، وهم يعلمون أنهم بسبب العدوى سيُلاقون نفس المصير.. لذلك قال البابا ديونيسيوس الكبير: ”وكثيرون من الذين طبَّبوا المرضى سقطوا صرعى بنفس المرض، أنَّ المسيحيين كانوا أول من رقد بسبب شهامِة الحُب غير الهيَّاب للموت، وكان منهم قسوس وشمامِسة.. فهذا الموت مع الإيمان الذي صاحبه لن يكون أقل مجدًا من الاستشهاد“.

ونأتي بعد ذلك إلى عام 302 م.، حيث البابا بطرُس الأول الذي خدم وسط عواصِف الاضطهاد ومذابِح الاستشهاد العنيفة، فقد حلَّت الضيقات في الكنيسة، واستُشهِد فيها كثيرون وهرب البعض إلى الصحاري وسُجِن كثير من الأساقفة، وتهدمت الكنائِس.. حتى انتهت حياة البابا بطرُس شهيدًا وخاتِمًا للشُّهداء..

وضع الطوباوي بطرُس خاتِم الشُّهداء، بعض القوانين الخاصة بالذين جحدوا الإيمان، وقد جاءت هذه القوانين ضِمن رسالة فِصحية (Canonical Epistle (، وقد جاءت قوانينه الفِصحية الخاصة بالجاحدين للإيمان الراجعين بالتوبة تحمِل مفاهيم الكنيسة عن الاستشهاد، نذكُر منها أنَّ الاستشهاد لا يُغتصب بالإثارة، فالمسيحي الذي يُشعِل نار الاضطهاد بإثارته للمُقاومين إنما يدخل بإرادته في التجارُب..

كان القديس بطرُس مُحِبًا للاستشهاد، لكنه صلَّى ليتوقف الاضطهاد لئلا يخور الضُعفاء.. . وحسب البابا بطرُس نفسه غير مُستحِق أن يكون شهيدًا للرب، ولا أساقفته مُستحقين لهذه النعمة.

ولعلَّ أروع معنى للاستشهاد قد سجَّله في شهادته عندما انسكب على الأرض فَرِحًا يشكر ويُسبِّح الله من أجل نعمة الاستشهاد التي أنعم بها الرب على الأساقفة.

لقد صلَّى من أجل المُعترفين إذ خشى أن يضعف أحدهم فيعثُر المُؤمنين… صلَّى حتى تسنِدهم نعمة الله ليصيروا شُهود حق للإيمان بالمسيح…

كتب كثيرًا عن العذابات والقبض والسجون والضربات غير المُحتملة والأوجاع المُرعِبة واعتبرها علامات يسوع في أجسادنا، وحذَّر الذين حرموا أنفسهم من أن يتألموا على اسم المسيح…

ترتليان العلامة والاستشهاد

ومن الفكر السكندري المستيكي mystic ننتقِل إلى العلاَّمة الأفريقي ترتليان (من القرن الثاني المسيحي)، الذي كتب كتابات دِفاعية كثيرة، وكتب أيضًا في الحث على الاستشهاد، ورسالة دعاها ترياق العقرب Scorpiace وحض على الاستشهاد في الرسالة التي دعاها Ad Martyras، وكتب أيضًا رسالته في الإكليل De Corona وتفرَّع عن رسالِة الإكليل رسالة أخرى في الفرار من الاضطهاد De Fuje in Persecutione أجاب ترتليانوس فيها عن السؤال: أيجوز للمسيحي أن يفِر ويختبِئ في أثناء الاضطهاد؟

وكذلك كتب ترتليان ضد اليهود Adversus Judoeos والاتهامات التي وُجِهَت للمسيحيين.

وفي رسالة للمُدافِع ترتليان، كان قد وجَّهها للمسجونين لأجل الإيمان يقول:

لا تجعلوا انفصالكم عن العالم في السجن يرعبكم، لأنَّ العالم هو السجن الحقيقي، فأنتم لم تدخلوا سِجنًا بل عُتِقتُم من السجن الحقيقي، وإن كان السجن مُفعمًا بالظلام، لكنكم أنتم أنفُسكم نور، في السجن قيود لكن الله قد حرَّركم، فيه رائِحة كريهة، لكن أنتم أنفُسكم رائِحة زكية، تنتظِرون المُحاكمة لا على فم قاضي بل على فم الله، لأنكم ستدينون القُضاة أنفُسهم“.

واستطرد العلاَّمة ترتليان في مقاله ليصِف السجن بالبرية للنبي واعتبره مكانًا للخلوة، فيه الجسم محبوس لكن الروح طليق..

أفاض العلاَّمة في الكلام عن بركات الاستشهاد وكيف أنه معركة شرف، فيها الله رقيب، والروح القدس مدرب والجزاء إكليل أبدي وحق المواطنة السماوية..

ندَّد ترتليان بالوثنيين في دِفاعه عن المسيحية، لاعتبار اضطهاد المسيحيين فقط معركة اسم، ولأنَّ المسيحيين وحدهم هم المحظور عليهم أن يتكلموا لتبرِئة ذواتهم، دِفاعًا عن الحق..

وعن التعذيب يقول ”في حالِة المُتهمين الآخرين الذين يُنكِرون، تلجأون إلى التعذيب حتى ما يعترِفوا، أمَّا المسيحيون فهم وحدهم الذين يُعذبون حتى ما يُنكِروا…“.

ووصف العلاَّمة ترتليان السجن بأنه مسكن إبليس وجنوده، لكن عندما يدخُل فيه المُعترِفون يطرحوا الشر تحت أقدامِهِم.

لقد حث العلاَّمة ترتليان على الاستشهاد وكتب مقالاته ليهديها إلى الموعوظين الذين في طريقهم إليه، وحتى الغنوسيين الذين استهانوا بالاستشهاد وفضَّلوا الهرب منه كتب لهم ترياق العقرب، ليوضح لهم أنَّ الاستشهاد ميلاد جديد تربح فيه النَّفْس حياتها الأبدية.

اعتبر العلاَّمة ترتليان أنَّ دِماء الشُهداء بِذار الإيمان، ووجَّه كلامه إلى الحُكام الوثنيين قائِلًا: استمروا في تعذيبنا، اطحنونا إلى مسحوق، فإنَّ أعدادنا تزيد بقدر ما تحصدوننا! إنَّ دِماء المسيحيين لهي بِذار محصولهم، إنَّ عِنادكم هو في حد ذاته مُعلِّم لأنه من ذا الذي لا يتحرك بالتأمُّل فيما تعملونه ليستعلِم عن حقيقة الأمور، ومن ذا الذي بعد انضمامه إلينا لا يشتاق إلى التألُّم..

كتب العلاَّمة الأفريقي دِفاعًا مُطولًا عن المسيحية، مُوجِهًا إلى الوثنيين قائِلًا: ”إننا جسم واحد مُتماسِك بمقتضى سلوكنا التَّقوي المُشترك ورجائنا المُشترك… . إننا نُصلِّي من أجل الأباطِرة ومن أجل وزرائِهِم، ولأجل كل الذين في منصِب، وصندوق الخزانة تُجمع فيه التبرعات، التي يضعها كل واحد بسرور.. هذه العطايا مُخصصة لأعمال الرحمة، لا تُصرف على الولائِم والحانات، بل لمعونة الفُقراء ودفنهم ولسد أعواز المُعدمين… وبالإجمال كل الذين يُعانون من انكسار سفينة حياتهم، أو المُضطهدون لا لشئ إلاَّ لأجل إخلاصهم لكنيسة الله، فنعتني بهم كعنايِة الأُم برضيعها لأجل مُجاهرتهم بالإيمان“.