الحواس الخمس – الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري

تحميل الكتاب

إنتبه: إضغط على زرار التحميل وانتظر ثوان ليبدأ التحميل.
الملفات الكبيرة تحتاج وقت طويل للتحميل.
رابط التحميل حجم الملف
إضغط هنا لتحميل الكتاب
2MB

مقدمة

لكل إنسان خمس حواس جسدية يناظرها خمس حواس روحية يخلقها الروح القدس فى الإنسان المؤمن فى المعمودية، وبها يستطيع أن يقدّس الحواس الجسدية الموجودة فى طبيعته. أى يصير له بُعد روحى لكل حاسة من حواسه الجسدية الموجودة فيه.. لهذا قال معلمنا بولس الرسول: “إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ” (2كو5: 17). وقد قال السيد المسيح: “اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ” (يو3: 6).

فالإنسان الجسدانى تتقوى حواسه الجسدية وتقود حياته، أما الإنسان الروحانى فتكون حواسه الروحية هى الأقوى وهى التى تقود مسيرة حياته.

إن الروح القدس يخلق فينا بالفعل هذه الحواس وينميها بعد ذلك بوسائط النعمة الروحية.

وقد ترمز الحواس الخمسة الروحية المنيرة إلى مصابيح الخمس عذارى الحكيمات. والآنية الممتلئة من الزيت ترمز إلى امتلاء قلب الإنسان من الروح القدس؛ فالقلب هو الإناء الذى يمتلئ بالنعمة الإلهية حيث ينير الروح القدس الحواس لأنها هى السراج الذى يستنير بهذه النعمة الإلهية. فالحواس التى يعمل فيها الروح القدس تجعل الجسد مقدسًا منيرًا خاليًا من شوائب الخطية وظلمتها، لذلك قيل عن الأبرار “حِينَئِذٍ يُضِيءُ الأَبْرَارُ كَالشَّمْسِ فِي مَلَكُوتِ أَبِيهِمْ” (مت13: 43).

فهناك ارتباط بين الجسد المضيء المنير والحواس المضيئة.

الرب يمنحنا الحواس المضيئة بصلوات صاحب القداسة البابا شنودة الثالث أطال الرب حياته.

دخول السيد المسيح الهيكل

16 فبراير 2008م     مطران دمياط وكفر الشيخ والبرارى

8 أمشير 1724     ورئيس دير القديسة دميانة ببرارى بلقاس

يتكلم السيد المسيح فيما يتعلق بحواس الجسد ويقول: “فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا. وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا” (مت6: 22، 23). هذا الكلام ينطبق أيضًا بالنسبة للحواس كلها وليس عن العين فقط.

يتلامس الإنسان مع العالم المحيط به بخمس حواس؛ النظر، والسمع، واللمس، والشم، والتذوق. هذه الحواس الخمسة تجعله يشعر بما حوله، وإذا فقد حاسة منها يمكن تعويضها بأخرى..

بمعنى أنه إذا فقد الإنسان حاسة النظر مثلاً، يمكنه عن طريق اللمس أن يعرف الأشياء، كما هو الحال فى طريقة برايِل لتعليم كفيفى البصر القراءة بالحروف البارزة عن طريق اللمس. أو من الممكن أيضًا لهذا الضرير، بسماعه لصوت شخص، أن يعرفه من صوته. والعكس أيضًا صحيح؛ لأنه إذا فقد الإنسان مثلاً حاسة السمع، يمكنه تعويضها بالنظر؛ فإن انفجرت قنبلة فى المكان ربما لا يسمع صوتها، ولكن يمكنه أن يرى الانفجار وما يعقبه من آثار. وإن كان شخص آخر لا يسمع ولا يرى، فعن طريق حاسة الشم أو التذوق؛ يمكنه أن يعرف نوع الطعام المطبوخ مثلاً.. فربما حاسة واحدة تكفى لأن يدرك الإنسان ما يحدث حوله. ولكن إذا فقد الإنسان كل حواسه سوف لا يدرى بما يحدث حوله، حتى ولو انفجرت قنبلة فى مكان قريب منه. هكذا تكون حالة الإنسان ذى الحواس الروحية المعطّلة.. من أجل ذلك كثيرًا ما ركّز السيد المسيح فى كلامه عن الحواس. إذ أن الحواس هى أبواب ومنافذ للجسد.

الحواس منافذ الجسد

قال السيد المسيح: “كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ” (مت5: 28)، وبذلك حذّر السيد المسيح من حاسة النظر وتأثيرها على الإنسان.

هكذا أيضًا بالنسبة للسمع؛ فإذا سمع الإنسان كلامًا باطلاً أو شريرًا، أو كلامًا دنسًا، أو كلام حقد أو كراهية، هذا قد يؤثر عليه من الداخل. فليست العين فقط هى التى يمكنها أن تجعل الجسد مظلمًا، لكن أى حاسة من الحواس؛ فالكلام الشرير الذى تسمعه يمكن أن يدنس الجسد كله، من أجل ذلك يقول جسدك كله يكون مظلمًا. لذلك يجب أن يحفظ الإنسان حواسه.

اليمين واليسار

عندما قال السيد المسيح: “وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ.. فَيُقِيمُ الْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْجِدَاءَ عَنِ الْيَسَارِ” (مت25: 31-33). سيقيم الخراف عن يمينه؛ هؤلاء الذين لهم الحواس المقدسة. ويقيم الجداء عن يساره؛ أولئك الذين لهم الحواس الشريرة.

بل أيضًا اليمين واليسار يذكّرنا باللص اليمين واللص اليسار.. قال اللص اليمين: “اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ” (لو23: 42). أما اللص اليسار فظل يُعيِّر السيد المسيح وقال له: “إنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا” (لو23: 39).

فالأفضل أن تكون للإنسان حواس ميتة بدلاً من أن تكون صحيحة وتُستخدم للخطية. لذلك قال: “وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي جَهَنَّمَ النَّارِ وَلَكَ عَيْنَانِ” (مت18: 9). فإن كنت لا تستطيع أن تقلع عينيك بالفعل نظرًا لاحتياجك لها، فاقلع بالأولى النظرة الشريرة التى يمكن أن تدنس الجسد كله، واهرب من مسببات العثرة والشهوة الردية.

كما أن اليد اليمنى لها خمسة أصابع، فكذلك سيكون نصيب أصحاب الحواس الخمسة الروحية المنيرة عن يمين الملك المسيح؛ إذ يقيم الخراف عن يمينه. وهذا ينطبق أيضًا على مثل الخمس عذارى الحكيمات والخمس الجاهلات.

وهكذا كما أن اليد اليسرى لها خمسة أصابع، فأصحاب الحواس الخمسة المظلمة سيكون نصيبهم عن يسار الملك المسيح؛ إذ يقيم الجداء عن يساره “وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. فَيُقِيمُ الْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْجِدَاءَ عَنِ الْيَسَارِ” (مت25: 31، 33).

عن طريق هذه الحواس الخمسة عمومًا -التى هى البصر، والسمع، والشم، واللمس، والتذوق- نتصل بالعالم الخارجى، فيجب علينا أن نحافظ على هذه الحواس بلا دنس، وبلا عيب وذلك بعمل الروح القدس فينا.

الذى يعيش بالجسد فقط، يضعف كيانه الروحى، ويقول معلمنا بولس الرسول: “لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهَذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ” (غل5: 17). فلابد أن تصوم الحواس خاصة فى فترات الصوم..

بين الجسد والروح

كما أن الجسد يحتاج إلى الطعام المادى ليحيا وينمو، هكذا أيضًا الروح تحتاج إلى الغذاء الروحى لكى تحيا وتنمو.

لهذا قال السيد المسيح: “لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ” (مت4: 4). وبقوله: “لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ” كان يقصد أنه إلى جوار الخبز المادى اللازم لحياة الإنسان من جهة جسده، فإن هناك كلمة الله لحياة الإنسان من جهة روحه.

وقال أيضًا السيد المسيح: “اَلْكلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ” (يو6: 63)، وقال: “أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ” (يو6: 51). فنحن نحيا بكلام الله فى الأسفار المقدسة، كما نحيا بالشركة فى التناول من جسد الله الكلمة.

فلسفة الصوم

الصوم الحقيقى هو صوم إنسان غير منشغل بالجسد على الإطلاق “فَإِنْ كَانَ لَنَا قُوتٌ وَكِسْوَةٌ فَلْنَكْتَفِ بِهِمَا” (1تى6: 8) نكتفى بأقل شيء، كما قال السيد المسيح لمرثا: “مَرْثَا مَرْثَا أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ. وَلَكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ” (لو10: 41، 42).. كثيرًا ما نُضيِّع وقتاً كثيرًا، كان يجب أن نستفيد به خاصةً فى الأصوام.

إن صوم الحواس يُقدّسها، فقد قال السيد المسيح: “إِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً؛ فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا. وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا” (مت6: 22، 23). فإن كنت تصوم عن بعض الأطعمة ولكن عينك تنظر إلى العالم؛ يتدنس جسدك.

ليتنا فى الصوم نتدرب ألا نشاهد البرامج المعثرة بالتليفزيون لأنها أكثر شيء يحل الصوم.. “مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ” (مت11: 15).

الإنسان الروحى يعرف حقيقة الأمور، وليس لديه وقت لهذه الأشياء. إن كان أحد مرتبطاً بعمل روحى؛ أو بصلواته بالمزامير، يمكنه أن يشاهد قداس العيد فى التليفزيون، يكفى هذه المشاهدة ليسمع كلمة ربنا ويأخذ بركة. فالتليفزيون ليس هو خطية فى حد ذاته، إنما العِبرة فيما تأخذه منه وتتأثر به. إن كان أحد يشاهد نشرة الأخبار ليسمع خبرًا مهمًا يريد أن يعرفه، لا خطأ فى هذا. فلسنا نحارب الجهاز نفسه، لكننا نحارب الأسلوب الخاطئ فى استخدام الجهاز. لابد من الحرص فى استخدام هذه الأشياء، قال القديس بولس الرسول: “كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تُوافِقُ. كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تَبْنِي” (1كو10: 23). هناك أمور تبنى وأخرى تهدم، أهم ما فى الأمر هو الهدف.

فصوم حاسة البصر؛ هو ألا تنظر للناس نظرة شهوانية شريرة. وليس هذا فقط بل مجرد تطلعك لما حولك بروح الفضول، هذا يسبب نوعًا من إفطار الحواس. وماذا يستفيد الصائم وهو لا ينقطع عن مشاهدة وسائل الإعلام كالتليفزيون؟

كذلك بالنسبة لحاسة الشم: إذا تعوّد أحد على استخدام العطور، فعلى الأقل فى فترات الصوم لا يستخدم هذه الروائح لكى يحيا الصوم فى طابع نسكى وتقشف يبعد فيه عن تنعمات الجسد وحواسه، حتى الأمور التى ليست فى حد ذاتها خطية، ولكن فى أوقات معينة لابد أن يبعد عنها ليعطى فرصة لحواسه الروحية أن تتقد بنار الروح القدس وتستنير بالنعمة الإلهية.

أيضًا فى صوم حاسة التذوق، لا توجد خطية فى الأطعمة الدسمة كالزبد واللبن والجبن واللحوم وغيرها؛ لكن لا تؤكل فى فترات الصوم. فالصوم ليس كما يظن البعض أنه عدم الأكل، أو تغيير نوع الطعام. لكنه انقطاع كامل عن الطعام ثم تناول أطعمة نباتية. فالطعام بكل أنواعه ليس خطية فى حد ذاته، ولكن الإنسان الذى يصوم ويصلّى؛ يشعر بحرارة العبادة؛ حرارة الروح؛ فيستطيع أن يدخل إلى أعماق العبادة الروحية، ويتذوق حلاوة ربنا.

أتعجب لمن ينشغل فى أسبوع الآلام بتجهيز أطعمة ومأكولات متنوعة تمهيدًا للإفطار فى عيد القيامة! كيف تستطيع العين أن تنظر هذه الأطعمة فى هذا الأسبوع؟! أذية وخسارة روحية كبيرة تلحق بالإنسان الذى لا يستطيع أن يفهم قيمة هذه الأيام المقدسة، هذا من ناحية الفم أو حاسة التذوّق..

لكن أين صوم اللمس؟ أين صوم الأذن؟ أين صوم الجسد كله؟!

من أجل ذلك يجب أن تصوم حاسة اللمس أيضًا، فمن له حاسة اللمس الروحية؛ يتلامس مع محبة الله، ويتلامس مع قداسة الله ويشعر ويحس بوجوده.

وهكذا لابد أن تصوم أذن الإنسان عن سماع أحاديث العالم، فمجرد سماع أى حديث غير الأحاديث الروحية يُعتبر إفطارًا لحاسة السمع. يجب أن نأخذ الصوم بطريقة جدّية.

تعطيل حواس الجسد

يقول الكتاب: “قَدِّسُوا صَوْمًا. نَادُوا بِاعْتِكَافٍ”(يؤ2: 15). تقديس الصوم بمعنى تخصيص أيام الصوم للرب، أى أن تصوم كل حواس الإنسان؛ تنشغل كلها بالسماويات. قال القديس بولس الرسول: “إِنَّ بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَالْعَذْرَاءِ فَرْقاً: غَيْرُ الْمُتَزَوِّجَةِ تَهْتَمُّ فِي مَا لِلرَّبِّ لِتَكُونَ مُقَدَّسَةً جَسَدًا وَرُوحًا. وَأَمَّا الْمُتَزَوِّجَةُ فَتَهْتَمُّ فِي مَا لِلْعَالَمِ كَيْفَ تُرْضِي رَجُلَهَا” (1كو7: 34). فإن كان الزواج ليس بخطية، ولكنه يتعطَّل فى فترة الصوم لتنشغل الحواس كلها بالرب، فالعذراء تمتلئ آنيتها أكثر وأسرع من المتزوجة. ولكن المتزوجة لديها الفرصة لتملأ آنيتها من الزيت وتضيء مصباحها فى فترات الصوم والاعتكاف؛ فى أوقات الصلاة والخلوة “لاَ يَسْلِبْ أَحَدُكُمُ الآخَرَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى مُوافَقَةٍ إِلَى حِينٍ لِكَيْ تَتَفَرَّغُوا لِلصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ ثُمَّ تَجْتَمِعُوا أَيْضًا مَعًا لِكَيْ لاَ يُجَرِّبَكُمُ الشَّيْطَانُ لِسَبَبِ عَدَمِ نَزَاهَتِكُمْ” (1كو7: 5).

فلابد أن تخرج من الصوم وقد صرت إنسانًا جديدًا تختلف عما كنت عليه فى بداية الصوم. يمر العمر ويتقدم بك وليس هناك أى تغيير! لماذا؟ لأنك بالصوم تبنى بيد ثم تهدم بالأخرى بتدنيس أو بإفطار باقى الحواس كالنظر والسمع كما أوضحنا، فما الفائدة إذن؟!! ماذا يكون الحال إن بنى أحد البنائين بالطوب، وبينما هو يبنى ويضع قوالب الطوب الواحد فوق الآخر، يأتى آخر يفكك ويهدم ما يبنيه؟ هذا ما يحدث فى حياتنا الروحية إذ أننا نهدم بأيدينا كل ما نبنيه، وكأننا لم نفعل شيئًا!

حتى وإن كانت الحاسة فى حد ذاتها ليست خطأ مثل حاسة التذوق أو غيرها من حواس الجسد الخمسة؛ لكن تعطيلها بالصوم السليم يُنشِّط الحواس الروحية النظيرة لها.

فبينما لا تجد العين شيئًا يجذبها أو تشتهيه؛ تتعطل حاسة النظر الجسدية، فينشط النظر الروحانى والتطلع للإلهيات. يعطّل الإنسان حاسة التذوق لكى يتذوق حياة العشرة مع الله. من أجل ذلك حاسب نفسك كل يوم ماذا ترى عينك خاصةً فى فترات الصوم.

نادوا باعتكاف

“قَدِّسُوا صَوْمًا. نَادُوا بِاعْتِكَافٍ” (يؤ2: 15) فلماذا هذا الاعتكاف؟ ولماذا خرج الآباء إلى البرية، فى المغائر وشقوق الأرض؟ ذلك لأنه فى البرية، فى الصحراء لا يرى الإنسان أمامه سوى الرمال. وماذا فى الرمال لكى تشتهيه العين؟! يجلس فى مغارة فى شقوق الأرض. فماذا يشتهى فى جدرانها؟! ليست الجدران سوى جزء من الجبل. حتى المزروعات لا توجد فى البرية أمام عينيه.. كأن العالم غير موجود! لهذا قال الآباء: [إن مجرد نظر القفر يبطل فى النفس أوجاع الشهوة الردية].

فى فترة الصوم المقدس؛ كان الآباء القديسون فى الأديرة يأخذون كل واحد منهم كتبه وبعض الخبز الجاف، ويخرج الأب إلى الصحراء؛ إلى البرية الداخلية، لكى يقضى الأربعين المقدسة سائحًا فى البرية، لا ينظر أحدًا من الرهبان، ولا ينظر شيئًا من أمور العالم، ولا يعود إلاّ يوم جمعة ختام الصوم، ليشترك فى الأيام التالية فى صلوات البصخة المقدسة.

وهذا مكتوب فى سيرة القديس زوسيما القس عندما تقابل مع القديسة مريم المصرية التى صارت سائحة بعد أن عاشت فى البرية زمانًا طويلاً.. كانت مقابلتهما أثناء خلوته فى أيام الأربعين المقدسة، وهذا كان بترتيب من عناية الله لنعرف سيرة هذه القديسة التائبة.

لذلك فى فترة الصوم الانقطاعى إن استطاع الإنسان أن يغلق على نفسه؛ يدخل مخدعه ويغلق بابه ويقدّم صلواته ذبيحة حب يشتَّمها الله رائحة رضى وسرور؛ فهذا هو الصوم والاعتكاف.

لكن إن كان أحد يتجول فى الشوارع بلا داعٍ؛ لن يستفيد شيئًا من صومه. كلما أُتيحت لك فرصة ووجدت وقتاً لتعتكف فيه، اغتنم هذه الفرصة ولا تضيّعها، على الأقل تعتكف يوم أجازتك الأسبوعية، إن لم تستطع أن تعتكف فى باقى الأيام لسبب العمل وضرورة المعيشة. وبالنسبة لربة المنزل من الممكن أن تعتكف فى منزلها بدلاً من أن تنشغل بإعداد الكثير من الأطعمة، ويكفى عمل صنف واحد فى وقت قليل لتتفرغ وتعتكف باقى اليوم. لأنه كيف يكون هذا صومًا أمام أصناف كثيرة متنوعة من الأطعمة؟!

كيف تنشغل الحواس بالله ؟

يقول الآباء القديسون: {سكِّت لسانك ليتكلم قلبك، وسكِّت قلبك ليتكلم الله} ربما يصلى إنسان ويكلّم الله فقط، ولكن ليس لديه الاستعداد أن يسمع صوت الله، فالصلاة هى حوار بين الله والإنسان. فهل ينصت الإنسان ليسمع صوت الله بعد أن يدعوه؟

ومن الأمور التى تجعل مخيلة الإنسان روحيةً هى التأمل فى جراحات السيد المسيح.. يقضى الإنسان خلوته متأملاً فى جراحات المسيح وفى محبته مثلما قال معلمنا بولس الرسول: “أَنْتُمُ الَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ قَدْ رُسِمَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوبًا” (غل3: 1) يصير هذا المنظر ليس فقط أمام عينيه، إنما تنطبع صورته فى فكره ومخيلته على الدوام. وحتى فى أحلامه يرى أمورًا مثل هذه وإن لم تكن رؤى ولا إعلانات فعلى الأقل ينشغل الفكر نفسه بالأمور الإلهية.

يظن الكثيرون أن صلوات التسبحة خاصة بمرتل الكنيسة فقط، لكن حقيقة الأمر؛ التسبحة هى جزء من القداس، وجزء من الصلوات اليومية.. من يا تُرى يصلى التسبحة اليومية؟ بل أعجب من هذا إن صلى أحد هذه التسبحة يعتقدون أنه ينوى أن يترهّب! وكأنه لا يستطيع أحد أن يعيش حياة الصلاة إلاّ الرهبان! وهذه تصبح كارثة إن كان لا يوجد أحد يعبد الله سوى الرهبان، فماذا يفعل باقى الشعب؟!. لذلك فالكنيسة تعلم الشباب والشابات فى فصول التربية الكنسية أن يحفظوا التسبحة، وأن يُصلّوا بالمزامير. ويجب على الوالدين أن لا يقاوموهم.

وهذا هو الوضع الطبيعى أن الشعب كله يسبح ويصلى وينشغل بالرب..

العصر الذى نحيا فيه

فى هذه الأيام توقّف الكثيرون عن تلاوة المزامير، إذ انشغلوا بأجهزة الراديو والتليفزيون. قديمًا كان الناس يقضون أوقاتهم فى منازلهم بجوار الكتاب المقدس، والأسرة كلها تصلى، ويستيقظ الأبناء ليجدوا الوالدين واقفين لصلاة نصف الليل بهجعاتها الثلاثة. ذاك الجيل السابق الذى امتلأت حياته بالصلاة والعبادة.. ولكن الآن بالرغم من النهضة الروحية الكبيرة الموجودة فى الكنيسة، لا يتركنا العالم. بل يسعى خلفنا بكل وسائله من أجهزة ومخترعات. فمثلاً يظهر جهاز كالراديو فينشغل به الناس نحو خمسين عامًا، ولم نلبث أن نستفيق من آثاره حتى ظهر جهاز التليفزيون..

بالتدريج صارت هذه الوسائل عند بعض الناس هى مصدر الإلهام! وبدلاً من اقتناء ذاك الهوائى “الإريال” لاستقبال الوسائل السمائية، صار فوق سطح كل منزل الهوائى الخاص بالتليفزيون. أين “الإريال” الروحى؟!..

وللأسف لم يكتفِ البعض بهذا، إنما سعوا لوضع الطبق “dish” غير المشفّر للاستقبال من محطات العالم كله. وبذلك ينشغل الإنسان طوال اليوم..

متى سيصلى؟! متى يستعد للملكوت والأبدية؟ هذا هو حال العصر الحالى!! ففى هذه الأيام إن وُجد من يحب الصلاة والمزامير، أو من يحب الخلوة مع الله، يقاومه الكثيرون. وإذا أحبّت فتاة أن تصلى وتختلى مع الرب، يقولون لها يبدو أنكِ تتطلعين للدخول إلى الدير. وكأن الصلاة مقصورة على الرهبان فقط! لكن حقيقة الأمر هو أن الصلاة واجبة للجميع ولا يوجد غير صلوة واحدة هى الخاصة بالرهبان تُزاد فى صلوات الأجبية هى “صلاة الستار”، أما باقى الصلوات السبعة يجب أن يصليها الشعب كله.

وبالنسبة للقنوات الفضائية؛ أصبح من اللازم أن توجد قنوات مسيحية أرثوذكسية لتملأ البيت من الصلوات والكلمات الروحية.

كيف تتواجد الحواس الروحية فى الإنسان؟

هذا الأمر شرحه السيد المسيح لنيقوديموس حينما قال له: “إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ” (يو3: 3)، بمعنى أن الروح القدس يخلق فينا فى المعمودية حواسًا روحية تؤهلنا لميراث الحياة الأبدية.

فلكل إنسان خمس حواس جسدية يناظرها خمس حواس روحية يخلقها الروح القدس فى الإنسان المؤمن فى المعمودية وبها يستطيع أن يقدّس الحواس الجسدية الموجودة فى طبيعته. أى يصير له بُعد روحى لكل حاسة من حواسه الجسدية الموجودة فيه.. لهذا قال معلمنا بولس الرسول: “إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ” (2كو5: 17). وقد قال السيد المسيح: “اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ” (يو3: 6).

فالإنسان الجسدانى تتقوى حواسه الجسدية وتقود حياته، أما الإنسان الروحانى فتكون حواسه الروحية هى الأقوى وهى التى تقود مسيرة حياته.

إن الروح القدس يخلق فينا بالفعل هذه الحواس وينميها بعد ذلك بوسائط النعمة الروحية.

أولاً : حاسة البصر الروحية

ومن ضمن الحواس الخمسة الروحية؛ حاسة النظر التى يمكن للإنسان أن يعاين بها ملكوت الله. فإذا كانت لديك النظرة الروحية السمائية المقدسة؛ وتستطيع أن تتطلع بعينى قلبك إلى الأمور المقدسة السمائية، فكيانك كله سيتأثّر بهذه النظرة المقدسة وينعكس هذا على سائر الحواس وكل أعضاء الجسد.

المولود من الروح هو روح

لكى يرى الإنسان الله لابد أن تكون له العين الروحية. فالخطية الأولى أعمت بصيرة الإنسان. وفى قصة المولود أعمى (يو9) إشارة إلى أن كل إنسان يُولد فى عمى روحى، بالرغم من أن كل مولود له روح، لكن السيد المسيح قال: “الْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ” (يو3: 6) كان يقصد أن كل من اعتمد قد أخذ طبيعة جديدة؛ وقد صارت لروحه حواس تشعر بالله وتتعامل معه. وهذا هو معنى المولود من الروح هو روح. لم يعد لديه عمى أو صمم روحى، إنما صارت روحه فعَّالة فى حياته.

فالإنسان المولود من الجسد لا يستطيع أن يعاين الأمور الروحية، أما الإنسان الذى قد اعتمد فقد أخذ طبيعة جديدة وقلبًا نقيًا، وأصبح فى استطاعته أن يعاين الله بهذا القلب النقى.

أحيانًا كثيرة يعلن الله للإنسان عن أشياء بينما عيناه مغلقتان؛ لكنه يرى إعلانًا سماويًا، لذلك قال: “طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ” (مت5: 8). ليس بالضرورة أن تكون عينا الإنسان مفتوحتين لكى يرى الأمور السمائية لكنه يراها بعينى قلبه، فمقابل العينين الجسديتين توجد عينان روحيتان.

إن كانت عينك بسيطة

ربط السيد المسيح بين استنارة الجسد وحاسة النظر.. ركّز على حاسة واحدة وقال من الممكن أن الجسد كله يكون نيّرًا أو مُظلمًا حسب قدسية حواسه.. فإذا كانت عينك شريرة فجسدك كله سيتدنس بالخطية؛ القلب سيتدنس، الفكر سيتدنس، وكذلك سائر الحواس كلها، لأن الكيان البشرى كله مرتبط ببعضه “مَتَى كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً؛ فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا. وَمَتَى كَانَتْ شِرِّيرَةً، فَجَسَدُكَ يَكُونُ مُظْلِمًا. اُنْظُرْ إِذاً لِئَلاَّ يَكُونَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظُلْمَةً” (لو11: 34، 35) فإن كانت عينك نيّرة أو بسيطة فجسدك سيكون نيّرًا لأنه سيكون ممتلئًا من الروح القدس.. عينه بسيطة ممسوحة بالروح القدس؛ تنظر نظرة مقدسة ولا تشتهى هذا العالم، تتطلع نحو السمائيات، تتطلع إلى كل ما هو مقدس؛ كل ما هو طاهر؛ كل ما هو مجيد؛ كل ما هو جليل (انظر فى4: 8).

وهكذا إن كانت عيناك مملوءتين من العالم، كيف تستطيع أن ترى مجد السماويات؟! فطالما انشغلت العينان بنظر العالم ومباهجه وشهواته لن تستطيعا أن تعاينا مجد الملكوت وأمجاد السماويات. من أجل ذلك يقول: ” إِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً؛ فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا”.

وماذا تعنى العين البسيطة؟ تعنى عين لا تشتهى العالم “لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ” (1يو2 :16).

العين البسيطة هى العين الخالية من الطمع، الخالية من الشهوة، العين التى لا تنظر إلى الدنيا ولا تتمسك بها “وَالْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ” (1يو2: 17).

فالعين التى تمتلئ من النظر إلى العالم كيف تتطلع إلى أمجاد الملكوت؟! من أجل ذلك مارس القديسون تدريب تعطيل الحواس الجسدية.

البصيرة الروحية ونقاوة القلب

“طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ الله” (مت5: 8)، لكى يقتنى الإنسان نقاوة القلب؛ لابد له أن يقتنى نقاوة الحواس أولاً. أى يحفظ حواسه الجسدية من العثرات والشرور، وأن يمتلئ من الروح القدس، وتتقوى حواسه الروحية وتنمو، وتصير قادرةً على التطلع نحو السماويات.

القلب النقى لا يشتهى شرًا، بل يشتهى معرفة الله. ولا يحمل ضغينة أو كراهية، بل يمتلئ بالحب.. شهوته دائمًا هى الخير؛ مثل قول الكتاب “شَهْوَةُ الأَبْرَارِ خَيْرٌ فَقَطْ” (أم11: 23).

يستطيع الإنسان الروحى أن يعاين ملكوت الله بالبصيرة الروحية، وبدون نقاوة القلب لا يستطيع أن يعاين الله الذى قال: “طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ” (مت5: 8). فإلى جوار عينى الإنسان الجسديتين يمكنه أن يرى بعينى قلبه؛ مثلما يُقال فى الكلام الدارج: }قلبى حاسس بالشيء الفلانى{ فمن الممكن للقلب أن يرى؛ وليس العينان فقط. وكذلك ممكن أن يدخل الملكوت من هو أعمى بالجسد، لو كانت لديه العين الروحية التى يستطيع بها أن يعاين الأمجاد السماوية، ولذلك قال السيد المسيح: “لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هَذَا الْعَالَمِ حَتَّى يُبْصِرَ الَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى الَّذِينَ يُبْصِرُونَ” (يو9: 39). ولذلك؛ القديسون فى صلواتهم فيما يغمضون أعينهم؛ يعاينون أحيانًا مناظرًا سماوية. ومن المحتمل أن يروا تلك المناظر أثناء نومهم أيضًا.. وما أكثر الأنبياء والقديسين الذين رأوا رؤى أثناء نومهم وأعينهم مغلقة، يرون بأعين قلوبهم وعقولهم وأرواحهم إعلانات سمائية.

ليس هذا فقط بالنسبة للقديسين، إنما أيضًا يذكر الكتاب المقدس أن فرعون رأى فى نومه حلمًا وقد فسّره له القديس يوسف الصديق، إذ رأى سبع بقرات سمينة وسبع بقرات هزيلة رقيقة اللحم.. (انظر تك41: 17-36). ونبوخذنصر رأى حلمًا أثناء الليل، تمثالاً عظيمًا رأسه من الذهب، وصدره وذراعاه من الفضة، وبطنه وفخذاه من النحاس، وساقاه من الحديد، وقدماه بعضها من الحديد والبعض من الخزف. وإذ بحجرٍ قُطع بغير يدٍ فضرب التمثال وسحقه.. وتحيّر الملك جدًا ولم يجد من يفسر له هذا الحلم إلا دانيال النبى (انظر دا 2).

رؤية الإعلانات السمائية

يحتاج الإنسان أن يفتح قلبه لكى يرى بعينيه الروحيتين أمجادًا سماوية وأسرارًا وإعلانات. فالإحساس الداخلى فى القلب بحضور السيد المسيح فى أوقات معينة، يرفع الإنسان من مستوى الأرض إلى مستوى السماء، ويرى إعلانات سماوية وملائكة وقديسين. ومن الممكن أيضًا أن يرى شيئًا من المجد كما قال القديس بولس الرسول: “أَنَّهُ اخْتُطِفَ إِلَى الْفِرْدَوْسِ، وَسَمِعَ كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا، وَلاَ يَسُوغُ لإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا” (2كو12: 4) متى رأى هذه المناظر؟ يقول: “أَعْرِفُ إِنْسَانًا فِي الْمَسِيحِ قَبْلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً” (2كو12: 2) بمعنى؛ أُختطف إلى الفردوس منذ أربع عشرة سنة ورأى هناك الأمجاد الروحية، واستطاع أن يرى هذه الأمور لأن عينيه الروحيتين كانتا تريان السيد المسيح أمامهما باستمرار.

معاينة الله

ذو القلب النقى يعاين الله. فنقاوة قلبه تقوده تلقائيًا إلى رؤية الله  فهل أنت من أصحاب هذا القلب؟

“طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ” (مت5: 8) قد يتبادر سؤال إلى ذهنك؛ ما معنى كلمة “يعاينون الله”؟ كيف أُعاين الله؟ وماذا أرى؟!! هل أرى مجد السيد المسيح قائمًا عن يمين العظمة مثلما رآه القديس إستفانوس (انظر أع7: 55)؟!! أَم أرى العرش الإلهى؟ “وَلِلْوَقْتِ صِرْتُ فِي الرُّوحِ، وَإِذَا عَرْشٌ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ، وَعَلَى الْعَرْشِ جَالِسٌ. وَكَانَ الْجَالِسُ فِي الْمَنْظَرِ شِبْهَ حَجَرِ الْيَشْبِ وَالْعَقِيقِ، وَقَوْسُ قُزَحَ حَوْلَ الْعَرْشِ فِي الْمَنْظَرِ شِبْهُ الزُّمُرُّدِ” (رؤ4: 2، 3)..

فعبارة “يعاينون الله” لا تقتصر على رؤية العرش الإلهى فى السماء؛ فسوف تراه فى الأبدية بنعمة الرب؛ أو ستراه مثلما رآه القديس إستفانوس فى لحظة استشهاده. إنما المقصود بها؛ يعاينونه الآن بأعين قلوبهم لأن حواسهم الروحية قد استنارت بالنعمة.

الذين يولدون من فوق (الماء والروح) بالميلاد الفوقانى؛ قال عنهم السيد المسيح إنهم يدخلون ملكوت السماوات ويعاينونه “إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ” (يو3: 3). فالميلاد الفوقانى هو الذى يجدد طبيعة الإنسان، ويمنحه نقاوة القلب حتى يؤهّل لمعاينة مجد الله وملكوته السماوى.. أى يؤهل لمعاينة السيد المسيح فى مجده عن يمين الآب.

كما قال السيد المسيح أيضًا: “اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي وَأَنَا أُحِبُّهُ وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي” (يو14: 21)، فبحفظ الوصية نعاين الله أيضًا.

معاينة الله: المقصود بها علاقتك مع ربنا وإحساسك به؛ رؤيتك لعمله الإلهى فى داخلك؛ ترى عمله متجسدًا وبصورة قوية وواضحة جدًا؛ مثلما تكون واقفًا للصلاة فتشعر بفرح وتعزية روحية وتشعر بحضور السيد المسيح معك وفى داخلك “الَّذِي وَإِنْ لَمْ تَرَوْهُ تُحِبُّونَهُ” (1بط1: 8)، “لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعَيَانِ” (2كو5: 7). تشعر بأنك تستطيع أن ترى عمله واضحًا فى حياتك. ثم تؤهّل لكى تراه هناك فى المجد. فإحساسك الداخلى وفرحك الروحى وإدراكك الكامل لعظمة السيد المسيح؛ هذه الحالة الروحية تتفق مع قول السيد المسيح: “أَنَا أُحِبُّهُ وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي” (يو14: 21).

إن تطويب السيد المسيح لأنقياء القلب، يدعونا للسعى نحو النقاوة التى تؤهلنا أن نراه بالإيمان. وأن نراه فى مجده. وأن نكون وارثين معه فى المجد.

فأنقياء القلب يعاينون الله؛ لأنهم سوف يعاينون السيد المسيح فى مجده ويتمتعون برؤيته إلى دهر الدهور.

معاينة محبة الله

فى أيام أسبوع الآلام، نتتبع السيد المسيح فى آلامه خطوة بخطوة. وإذا فعلت ذلك تبصر بعينيك الروحيتين ابن الله معلقًا فوق الإقرانيون؛ تبصر جراحاته “أَنْتُمُ الَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ قَدْ رُسِمَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوبًا” (غل3: 1).

فإذا كنت فى حالة توبة وانسحاق، تستطيع أن تقول إنك تعاين حب السيد المسيح وهو معلّق على الصليب بعيني قلبك الذى قد تنقى. وكلما ازدادت نقاوته؛ كلما استطعت أن ترى السيد المسيح بأكثر وضوح.

 معاينة نور المسيح

الذى يرى نور السيد المسيح؛ تتطهر وتتقدس حياته مثلما حدث مع القديس بولس الرسول وهو فى طريقه إلى دمشق عندما ظهر له السيد المسيح بنور باهر جدًا للدرجة التى بها فقد بصره وظل ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب “اقْتَرَبَ إِلَى دِمَشْقَ فَبَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلَهُ نُورٌ مِنَ السَّمَاءِ.. فَسَأَلَهُ: مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ فَقَالَ الرَّبُّ: أَنَا يَسُوعُ الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ.. فَنَهَضَ شَاوُلُ عَنِ الأَرْضِ وَكَانَ وَهُوَ مَفْتُوحُ الْعَيْنَيْنِ لاَ يُبْصِرُ أَحَدًا” (أع9: 3، 5، 8).

ثم ظهر السيد المسيح لحنانيا وقال له: “قُمْ وَاذْهَبْ إِلَى الزُّقَاقِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمُسْتَقِيمُ وَاطْلُبْ فِي بَيْتِ يَهُوذَا رَجُلاً طَرْسُوسِيّاً اسْمُهُ شَاوُلُ لأَنَّهُ هُوَذَا يُصَلِّي. وَقَدْ رَأَى فِي رُؤْيَا رَجُلاً اسْمُهُ حَنَانِيَّا دَاخِلاً وَوَاضِعًا يَدَهُ عَلَيْهِ لِكَيْ يُبْصِرَ.. هَذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ لِيَحْمِلَ اسْمِي.. فَمَضَى حَنَانِيَّا وَدَخَلَ الْبَيْتَ وَوَضَعَ عَلَيْهِ يَدَيْهِ وَقَالَ: أَيُّهَا الأَخُ شَاوُلُ قَدْ أَرْسَلَنِي الرَّبُّ يَسُوعُ الَّذِي ظَهَرَ لَكَ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي جِئْتَ فِيهِ لِكَيْ تُبْصِرَ وَتَمْتَلِئَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَلِلْوَقْتِ وَقَعَ مِنْ عَيْنَيْهِ شَيْءٌ كَأَنَّهُ قُشُورٌ فَأَبْصَرَ فِي الْحَالِ وَقَامَ وَاعْتَمَدَ” (أع9: 11-18) بمعنى أن عينيه كانتا قد فقدتا البصر، ولكنه قام واستنار بنعمة السيد المسيح وتلاشت الظلمة من حياته لأنه رأى نور المسيح فصار كيانه كله مقدسًا.

ثانيًا : حاسة السمع الروحية

حاسة السمع الروحية يستطيع بها الإنسان الروحى أن يستمع بوضوح إلى صوت الله. مثلما قال السيد المسيح: “وَالْخِرَافُ تَسْمَعُ صَوْتَهُ” (يو10: 3). وقال أيضًا: “كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي” (يو18: 37).

إنى أسمع ما يتكلم به الرب الإله

وعن ذلك يقول المزمور “إنى أسمع ما يتكلم به الرب الإله لأنه يتكلم بالسلام لشعبه ولقديسيه وللذين رجعوا إليه من كل قلوبهم” (مز84: 8) . الإنسان الروحى يسمع صوت الرب الإله واضحًا فى حياته، يسمع وصايا السيد المسيح ويفهمها، يسمع صوت الروح وينقاد لهذا الصوت فى داخله لأن “كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ” (رو8: 14).. وكيف ينقاد الإنسان بروح الله إلا إذا سمع صوته.

كيف نميّز صوت الله ؟

يستطيع الإنسان أن يميّز صوت الله من أى صوتٍ آخر، إذ أن صوته مهما كانت الوصايا صعبة لكنها مفرحة؛ مثلما جاء صوت الله للشهيد مارمينا لكى يذهب ويشهد له ويصير شهيدًا.. أمرٌ صعبٌ؛ لكنه مفرح ويعطى للقلب سلامًا. أما صوت الشيطان فيبلبل ويوّلد سجس وتشويش. وحتى لو تكلم عن أمور روحية، لا يعطى الفرح والسلام.

الإنصات والاستجابة

إذا كانت أذنك مملوءة من كلام العالم، فكيف ستسمع صوت الله؟!. إن كنت تسمع هنا على الأرض صوت الأغانى، ستكون أصم (أطرش) فى الأبدية، لا تستطيع أن تسمع تسابيح الملائكة.

عندما تقف لتصلى وتقول: “إنى أسمع ما يتكلّم به الرب الإله” (مز84: 8) هل لديك الآذان الصاغية التى تسمع بها صوت ربنا؟ عندما تطلب الإرشاد، لابد أن يكلمك الله. فهل تسمع صوته؟ هل الحديث بينك وبينه من طرف واحد؟ أَم من طرفين؟ كثيرون يقفون ليصلوا، لكن هل يسمعون صوت ربنا فى الصلاة؟ هل يسمعون صوته يتكلم داخل قلوبهم؟

أنت تسأل والرب يُجيب؛ فإن لم تسمع صوته، تكون بذلك قد فقدت حاسة السمع الروحية. أو يكون العصب السمعى الروحى فى حالة شلل ويحتاج إلى تدريب على سماع صوت الله.

هناك أُناس لديهم بلادة فى الحس الروحى لا يستطيعون أن يسمعوا كلام الله بأذنيهم؛ يدخلون الكنيسة ويسمعون كلام الله ولكن لا يكون له موضع داخلهم؛ بل كما دخل هكذا يخرج.. لا يدخل إلى أعماق قلوبهم فى الداخل ولا يصنع أى تغيير جذرى فى حياتهم.

ربما يقول قائل إنه من غير المعقول أن يُكلِّمنى الله!! كلا.. بل كيف تكون ابن لربنا؛ ولا تقدر أن تسمع صوته فى حياتك؟!! يقول الكتاب “الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ” (رو8: 14)..

تَكَلَّمْ يَا رَبُّ لأَنَّ عَبْدَكَ سَامِعٌ

بينما كان صموئيل الطفل فى الهيكل مع عالى الكاهن سمع صوتًا ينادى قائلاً: “صَمُوئِيلُ صَمُوئِيلُ” (1صم3: 10)، فبالرغم من وجود عالى الكاهن فى الهيكل إلا أنه لم يسمع ما سمعه الطفل صموئيل.. فهكذا ينادى الله إنسانًا؛ فيسمع هذا الشخص صوت الرب بينما لا يسمعه من حوله!

فكان صموئيل يذهب إلى عالى الكاهن ويقول: “هَاأنَذَا لأَنَّكَ دَعَوْتَنِي. فَقَالَ: لَمْ أَدْعُ. ارْجِعِ اضْطَجِعْ. فَذَهَبَ وَاضْطَجَعَ” (1صم3: 5) ولما تكرر الأمر، فهِم عالى الكاهن أن الرب يدعو الصبى فقال لصموئيل: “اذْهَبِ اضْطَجِعْ، وَيَكُونُ إِذَا دَعَاكَ تَقُولُ: تَكَلَّمْ يَا رَبُّ لأَنَّ عَبْدَكَ سَامِعٌ. فَذَهَبَ صَمُوئِيلُ وَاضْطَجَعَ فِي مَكَانِهِ. فَجَاءَ الرَّبُّ وَوَقَفَ وَدَعَا كَالْمَرَّاتِ الأُوَلِ: صَمُوئِيلُ صَمُوئِيلُ. فَقَالَ صَمُوئِيلُ: تَكَلَّمْ لأَنَّ عَبْدَكَ سَامِعٌ. فَقَالَ الرَّبُّ لِصَمُوئِيلَ: هُوَذَا أَنَا فَاعِلٌ أَمْرًا فِي إِسْرَائِيلَ كُلُّ مَنْ سَمِعَ بِهِ تَطِنُّ أُذُنَاهُ. فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أُقِيمُ عَلَى عَالِي كُلَّ مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ عَلَى بَيْتِهِ. أَبْتَدِئُ وَأُكَمِّلُ. وَقَدْ أَخْبَرْتُهُ بِأَنِّي أَقْضِي عَلَى بَيْتِهِ إِلَى الأَبَدِ مِنْ أَجْلِ الشَّرِّ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ بَنِيهِ قَدْ أَوْجَبُوا بِهِ اللَّعْنَةَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَرْدَعْهُمْ. وَلِذَلِكَ أَقْسَمْتُ لِبَيْتِ عَالِي أَنَّهُ لاَ يُكَفَّرُ عَنْ شَرِّ بَيْتِ عَالِي بِذَبِيحَةٍ أَوْ بِتَقْدِمَةٍ إِلَى الأَبَدِ” (1صم3: 9-14).

فى الصباح خاف الطفل صموئيل أن يخبر عالى الكاهن بالرؤيا لصعوبة الرسالة. ولكنه ألّح عليه كثيرًا وسأله ما الكلام الذى كلّمك به الرب لا تُخفِ عنى، فأخبره. وللأسف بدلاً من أن يتّعظ عالى من هذه الرسالة تهاون ولم يفعل شيئًا (انظر 1صم 3).

لماذا لم يسمع عالى الكاهن صوت الرب عندما تكلم مع صموئيل؟ لأن عالى لا يريد أن يطيع صوت الله فى قلبه ولم يُرجِع أولاده عن أخطائهم وزناهم؛ لم يؤدبهم؛ لم يفصلهم عن الكهنوت. فكانت النتيجة، غضب الرب على عالى الكاهن، ولم يسمع عالى صوت ربنا كما سمعه صموئيل الذى كانت لديه الأذن الروحية المدربة لسماع صوت الله. وهذا كله لأن عالى الكاهن لم يطهّر الهيكل من خطية أولاده، لذلك كان لابد أن يزول المجد ويزول الكهنوت من بيت عالى “لاَ يُكَفَّرُ عَنْ شَرِّ بَيْتِ عَالِي بِذَبِيحَةٍ أَوْ بِتَقْدِمَةٍ إِلَى الأَبَدِ” (1صم3: 14).

كان صموئيل النبى يسمع صوت ربنا لأنه ذا قلب نقى؛ قلب طاهر. أما عالى الكاهن فقد كان قلبه مغلقًا، لذلك لم يقدر أن يسمع صوت ربنا. لم يصل إليه صوت ربنا مباشرةً، لكن وصل له عن طريق شاهد يشهد أن هذه الكلمات قد وصلت.

ليت شعارك يكون: “إنى أسمع ما يتكلم به الرب الإله لأنه يتكلم بالسلام لشعبه ولقديسيه وللذين رجعوا إليه بكل قلوبهم” (مز84: 8).

“موسى وهرون بين كهنته، وصموئيل بين الذين يدعون باسمه. كانوا يدعون الرب، فيستجيب لهم. بعمود الغمام، كان يكلمهم” (مز98: 5-8) كان الرب يكلِّم موسى النبى مثلما كان يكلِّم صموئيل النبى.. كانوا يدعون الرب وكان يستجيب لهم، وكان الرب يكلمهم وهم يستمعون لصوته.

الأذن الروحية وسماع الصوت الإلهى

فى قصة إرسال الرب صموئيل النبى إلى بيت لحم ليَمسح ملكًا على إسرائيل من أولاد يسىّ (انظر 1صم16) كان صموئيل النبى هو الوحيد الذى يستطيع أن يسمع صوت الرب فى وسط كل من كان حوله فى بيت يسىّ فى اختيار الرب للملك من أولاد يسىّ؛ حيث كانت له أذن روحية.

من الممكن أن يكون شخص فى وسط مجموعة، ويكون هو الوحيد الذى يسمع صوت الرب يكلمه؛ صوت فى الأذن؛ صوت داخل القلب يقول له : قم انهض اعمل العمل الفلانى..

عندما رأى صموئيل النبى أليآب شقيق داود الأكبر، قال: “إِنَّ أَمَامَ الرَّبِّ مَسِيحَهُ. فَقَالَ الرَّبُّ لِصَمُوئِيلَ: لاَ تَنْظُرْ إِلَى مَنْظَرِهِ وَطُولِ قَامَتِهِ لأَنِّي قَدْ رَفَضْتُهُ. لأَنَّهُ لَيْسَ كَمَا يَنْظُرُ الإنْسَانُ. لأَنَّ الإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ، وَأَمَّا الرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْقَلْبِ” (1صم16: 6، 7). وعندما جاء داود النبى وهو الصغير بين إخوته؛ قال الرب لصموئيل النبى: “قُمِ امْسَحْهُ لأَنَّ هَذَا هُوَ” (1صم16: 12). ففى كل مرة كان صموئيل النبى هو الوحيد الذى يسمع صوت الرب حينما يتكلم ولم يسمع معه أحد هذا الصوت.

“فَأَخَذَ صَمُوئِيلُ قَرْنَ الدُّهْنِ وَمَسَحَهُ فِي وَسَطِ إِخْوَتِهِ. وَحَلَّ رُوحُ الرَّبِّ عَلَى دَاوُدَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَصَاعِدًا” (1صم16: 13)، وصار هو رأس مملكة يهوذا؛ الذى جاء من نسله السيد المسيح وجلس على كرسيه. وحينما استقبلت الجموع السيد المسيح وهو داخل إلى أورشليم، كانت تصرخ وتقول: “مُبَارَكَةٌ مَمْلَكَةُ أَبِينَا دَاوُدَ الآتِيَةُ بِاسْمِ الرَّبِّ” (مر11: 10). وصار داود جد السيد المسيح.

داود الشاب الصغير هو الذى أنقذ شعب إسرائيل من رعب ورهبة جليات الوثنى الجبار “فَسَأَلَ دَاوُدُ الرِّجَالَ الْوَاقِفِينَ مَعَهُ: مَاذَا يُفْعَلُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَقْتُلُ ذَلِكَ الْفِلِسْطِينِيَّ وَيُزِيلُ الْعَارَ عَنْ إِسْرَائِيلَ؟ لأَنَّهُ مَنْ هُوَ هَذَا الْفِلِسْطِينِيُّ الأَغْلَفُ حَتَّى يُعَيِّرَ صُفُوفَ اللهِ الْحَيِّ؟” (1ص17: 26).

عندما سمعه أخوه الأكبر أليآب، غضب وقال لداود: “لِمَاذَا نَزَلْتَ، وَعَلَى مَنْ تَرَكْتَ تِلْكَ الْغُنَيْمَاتِ الْقَلِيلَةَ فِي الْبَرِّيَّةِ؟ أَنَا عَلِمْتُ كِبْرِيَاءَكَ وَشَرَّ قَلْبِكَ، لأَنَّكَ إِنَّمَا نَزَلْتَ لِتَرَى الْحَرْبَ. فَقَالَ دَاوُدُ: مَاذَا عَمِلْتُ الآنَ؟ أَمَا هُوَ كَلاَمٌ؟” (1ص17: 28، 29).. كان داود إنسانًا متواضعًا وبه روح ربنا وجبار بأس بالرغم من منظره البسيط.

“قَالَ دَاوُدُ لِشَاوُلَ: كَانَ عَبْدُكَ يَرْعَى لأَبِيهِ غَنَمًا، فَجَاءَ أَسَدٌ مَعَ دُبٍّ وَأَخَذَ شَاةً مِنَ الْقَطِيعِ. فَخَرَجْتُ وَرَاءَهُ وَقَتَلْتُهُ وَأَنْقَذْتُهَا مِنْ فَمِهِ. وَلَمَّا قَامَ عَلَيَّ أَمْسَكْتُهُ مِنْ ذَقْنِهِ وَضَرَبْتُهُ فَقَتَلْتُهُ” (1ص17: 34، 35). وانتصر داود الشاب الصغير على جليات الجبار، لأن داود كان ممتلئًا من الروح القدس وروح الرب كان قد حلّ عليه.

مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ

كثيرًا ما يتردد فى تعبيراتنا الدارجة اليومية فنقول “اسمع الكلام” ولا نقصد مجرد سماع الكلام بالأذن إنما المقصود هو طاعة القلب. فإذا سألت ابنك أن يسمع الكلام تقصد أن يطيع. لأن مجرد سماع الألفاظ؛ هو أمر تلقائى تستقبل فيه الأذن الموجات الصوتية دون أن يطلب منها أحد. لذلك يقول الكتاب المقدس: “مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ” (رؤ2: 7، 11، 17)، أى من يسمع ويدخل الكلام إلى قلبه ويؤثر على حياته. بينما يوجد من يقولون عنه ما ورد فى المثل القائل} وِدن من طين، ووِدن من عجين{ بمعنى؛ أذن لا تسمع..

القديس الأنبا أنطونيوس دخل إلى الكنيسة وكانت أذناه مائلتين للسمع وقلبه مستعدًا للطاعة، فسمع الإنجيل يقول له “إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَاذْهَبْ وَبِعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي” (مت19: 21) فذهب ووزع كل ماله على الفقراء، وخرج إلى البرية لكى يعيش حياة الزهد والفقر الاختيارى والصلاة الدائمة. وصار هو القديس أنطونيوس أب جميع الرهبان.. مجرد عبارة قرأها الشماس فى الإنجيل، وسمعها كل الشعب الحاضر فى الكنيسة، سمعها كل إنسان غنى وكل شاب فى مقتبل العمر. لكن مَن مِن هؤلاء أثّرت فيه هذه الآية؟! القديس أنبا أنطونيوس فقط هو الذى تأثَّر بها. ما أكثر الكلام الذى نقرأه  فى الكتب المقدسة، لكن من هو الذى يسمع؟..

فالذى يقصده الروح القدس بعبارة “مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ” (مت13 :9)؛ أى من له أذنٌ روحية تسمع كلام الله، وبها يستطيع أن يقول مع المرتل “إنى أسمع ما يتكلم به الرب الإله لأنه يتكلم بالسلام لشعبه ولقديسيه وللذين رجعوا إليه بكل قلوبهم” (مز84: 8). هؤلاء هم الخمس عذارى الحكيمات اللائى لهن حواس تستطيع أن تتعامل مع الله حيث مصابيحهن ممتلئة زيتًا..

الامتلاء من الروح

نأخذ التليفون اللاسلكى كمثال، لكل جهاز مدى للاستقبال لا يستطيع بعده أن يلتقط موجات الإرسال. فكلما قويت حاسة السمع الروحية فى الإنسان كلما ازداد صوت الله وضوحًا فى عقله وقلبه وحياته.

وجهاز التليفون اللاسلكى يحتاج إلى شحن للبطاريات لكى يكون قادرًا على استقبال الموجات، هكذا أيضًا يحتاج الإنسان الروحى إلى شُحنة روحية، ليمتلئ من الروح القدس ليكون له القدرة على استماع صوت الله.

والامتلاء من الروح القدس يكون بممارسة الوسائط الروحية مثل ممارسة سر التوبة والاعتراف والتناول من الأسرار المقدسة. وممارسة الجهادات الروحية بإتضاع مثل الصوم والصلاة واحتمال الضيق والمشقات والآلام، مثلما قال القديس بطرس الرسول: “بَلْ كَمَا اشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ الْمَسِيحِ افْرَحُوا لِكَيْ تَفْرَحُوا فِي اسْتِعْلاَنِ مَجْدِهِ أيضًا مُبْتَهِجِينَ. إِنْ عُيِّرْتُمْ بِاسْمِ الْمَسِيحِ فَطُوبَى لَكُمْ، لأَنَّ رُوحَ الْمَجْدِ وَاللهِ يَحِلُّ عَلَيْكُمْ” (1بط4: 13، 14). إن من يحتمل الآلام من أجل المسيح يصير أهلاً لأن يحل عليه روح المجد والله.

ممارسة الحياة الروحية والمواظبة على العبادة بحرارة والصلوات المتواصلة من قلب خاشع تؤهّل الإنسان للامتلاء من الروح القدس.

قراءة الأسفار المقدسة بروح الصلاة والتأمل والشوق الحار لمعرفة الله؛ تؤهّل الإنسان للامتلاء من الروح القدس. لهذا نقف بخشوع فى الكنيسة أثناء قراءة الإنجيل المقدس لكى نؤهّل لهذا الامتلاء. وتغتذى أرواحنا بكلمات الإنجيل وتتقوّى حاسة السمع الروحية فينا.

ثالثاً : حاسة الشم الروحية

حاسة الشم الروحية يستطيع بها الإنسان الروحى أن يستنشق ويشم رائحة المسيح الذكية، ورائحة حياة القداسة كقول سفر النشيد عن السيد المسيح “لِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ. اسْمُكَ دُهْنٌ مُهْرَاقٌ لِذَلِكَ أَحَبَّتْكَ الْعَذَارَى” (نش1: 3). وأيضًا “مَا دَامَ الْمَلِكُ فِي مَجْلِسِهِ أَفَاحَ نَارِدِينِي رَائِحَتَهُ” (نش1: 12). هذه الرائحة الذكية تملأ نفس الإنسان الروحى بالنشوة الروحية وتتزايد محبته للسيد المسيح بل تأسره هذه المحبة.

رائحة المسيح الذكية

ما أجمل تعبير رائحة الناردين الخالص الكثير الثمن كعلامة مميزة لرائحة موت السيد المسيح، التى هى رائحة الحياة إذ أن الطيب الذى سُكب على جسده قبل الصلب وقال إنه لتكفينه، هو ناردين خالص كثير الثمن (انظر يو12: 3، 7) هى رائحة الحياة لأنها رائحة الحب. وحيث يكون الحب فهناك الحياة لأن “الله محبة”. وقد صدق الفيلسوف الفرنسى الذى قال: ]أن نحب معناها أن نوجد، وأن نوجد معناها أن نحب[. بمعنى أنه لا معنى للوجود بدون المحبة.

كان قبول السيد المسيح للناردين من المرأة ساكبة الطيب قبل صلبه بأيام، هو قبول لموته بدافع الحب. لهذا قال: “إِنَّهَا لِيَوْمِ تَكْفِينِي قَدْ حَفِظَتْهُ” (يو12: 7). إنه قبول للموت من منطلق الحياة. أى هو موت محيي، ورائحة حياة لحياة فى الذين يخلصون “وَلأُولَئِكَ رَائِحَةُ حَيَاةٍ لِحَيَاةٍ” (2كو2: 16).

فالإنسان الذى له حاسة الشم الروحية، يستطيع أن يشم رائحة القداسة من خلال قراءته للكتاب المقدس، يشعر بطيب يفوح ويملأ كيانه كله. من خلال قراءته تعاليم السيد المسيح وسير القديسين، يتنسم رائحة بخور عطرة تسرى فى كيانه كله؛ يشتم رائحة السماء ورائحة القداسة.. وكأنه يسير فى فردوس وبستان روحى مملوء من الرياحين والورود والأزهار الجميلة.. هذا هو الفردوس الحقيقى الذى تحيا فيه النفس حينما تتنسم رائحة المسيح الذكية.

هناك من هم غير قادرين أن يتنسموا رائحة المسيح الذكية لأن لديهم حاسة تشم رائحة العالم. وحالتهم هى “الزكام الروحى”، أو التى تتسبب فى وجود بلادة فى حاسة الشم الروحية.

فى إحدى المرات جاء بعض الآباء إلى القديس الأنبا أرسانيوس ليزوروه، فوجدوا أن رائحة المياه فى قلايته قد فاحت منها رائحة النتانة وطلبوا إليه أن يغيرها. ولكنه تمسّك بهذه الرائحة فرحًا مسرورًا، وطلب إليهم أن يتركوه يحيا فى هذه الرائحة البعيدة عن تنعم العالم، عوضًا عن رائحة العطور التى كان يتنعم بها فى قصور الملوك قبل رهبنته. وبالرغم من هذه الرائحة الكريهة، كان يشم بداخل قلبه رائحة الأمور السمائية ويشم رائحة المسيح الذكية.. حاسة الشم الجسدية كانت معطلة، لكن الحاسة الروحية كانت نشطة إلى أقصى درجة..

يقول بعض الآباء: بقدر ما تُعطّل الحواس الجسدية؛ بقدر ما تنشط الحواس الروحية.

رابعًا : حاسة اللمس الروحية

بحاسة اللمس الروحية يستطيع الإنسان الروحى أن يتلامس مع عمل الله وحضوره فى حياته.

إِنْ مَسَسْتُ وَلَوْ ثِيَابَهُ شُفِيتُ

قالت المرأة نازفة الدم فى نفسها: “إِنْ مَسَسْتُ وَلَوْ ثِيَابَهُ شُفِيتُ” (مر5: 28) كانت لمسة من نوع خاص، لمسة بروح الإيمان والثقة. شعر فيها السيد المسيح بالقوة التى خرجت منه “شَاعِرًا فِي نَفْسِهِ بِالْقُوَّةِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ” (مر5: 30) لذلك أراد السيد المسيح أن يكشف للجموع ما حدث مع هذه المرأة التى بإيمانها قالت: “إِنْ مَسَسْتُ وَلَوْ ثِيَابَهُ شُفِيتُ”. وللوقت حين مست هُدب ثوبه، برئت فى الحال “فَلِلْوَقْتِ جَفَّ يَنْبُوعُ دَمِهَا” (مر5: 29).

فالجموع التى كانت تزاحم السيد المسيح أثناء سيره فى الطريق، لم يشعر أحد منهم أنه تلامس مع قوة الله وقداسته ومحبته، إذ ليس لهم التلامس الروحى الذى كان للمرأة نازفة الدم التى تلامست إيمانيًا مع قوة السيد المسيح فعملت فيها وأبرأتها.

لذلك فالإنسان الذى يتلامس مع الحق الذى فى المسيح ويدرك الحد الفاصل بين النور والظلمة، يكون كمن لمس هُدب ثوبه، وبذلك ينال الشفاء.

إن لمسة بسيطة من يد السيد المسيح الشافية تستطيع أن تنزع الخطية مثلما طهر الأبرص الذى قال للرب يسوع: “يَا سَيِّدُ إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي” (مت8: 2)، فمد السيد يده ولمسه وقال: “أُرِيدُ فَاطْهُرْ” (مت8: 3) فللوقت طهر برصه وشفى.

هناك لمسات كثيرة يعملها الله فى حياة الإنسان يحس بها الشخص الروحى، ويقول مع عروس النشيد “شِمَالُهُ تَحْتَ رَأْسِي وَيَمِينُهُ تُعَانِقُنِي” (نش2: 6). إن من يتلامس مع الله يصير الرب له سندًا قويًا فى حياته كما قيل عن هذه العروس “مَنْ هَذِهِ الطَّالِعَةُ مِنَ الْبَرِّيَّةِ مُسْتَنِدَةً عَلَى حَبِيبِهَا؟” (نش8: 5).

التلامس مع محبة الله وقداسته

هناك من يتلامس مع محبة الله.. مع قداسته.. يتلامس مع السيد المسيح باستمرار.. يشعر ويحس بوجوده.. يلمس عمل الله فى حياته.. يلمس قوة الرب العظيمة؛ ذراعه الرفيعة؛ يمينه الممدودة “أَمْسَكْتَ بِيَدِي الْيُمْنَى. بِرَأْيِكَ تَهْدِينِي وَبَعْدُ إِلَى مَجْدٍ تَأْخُذُنِي. مَنْ لِي فِي السَّمَاءِ؟ وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئًا فِي الأَرْضِ.. أَمَّا أَنَا فَالاِقْتِرَابُ إِلَى اللهِ حَسَنٌ لِي. جَعَلْتُ بِالسَّيِّدِ الرَّبِّ مَلْجَإِي لأُخْبِرَ بِكُلِّ صَنَائِعِكَ” (مز73: 23-28).

يشعر ويحس باستمرار أن الله يمسك بيده ويتلامس مع محبة الرب وقوته وأفعاله.

خامسًا: حاسة التذوق الروحية

يستطيع بها الإنسان الروحى أن يتذوق حلاوة الحياة مع الله؛ يتذوق كل الأمور الروحية.

فى أسبوع الآلام يتوقف الناس عن أكل السكريات لكى تتغذى حاسة تذوقهم بحلاوة السيد المسيح فى آلامه وحبه لنا.

يقول الكتاب “ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب” (مز33: 8).

تذوق العشرة الإلهية

حينما تتذوق النفس محبة ربنا؛ تتذوق حلاوة العشرة معه، وتمتلئ من محبته؛ تَسْكَر بهذا الحب وتقول مع عروس النشيد “أَدْخَلَنِي إِلَى بَيْتِ الْخَمْرِ وَعَلَمُهُ فَوْقِي مَحَبَّةٌ. أَسْنِدُونِي بِأَقْرَاصِ الزَّبِيبِ. أَنْعِشُونِي بِالتُّفَّاحِ فَإِنِّي مَرِيضَةٌ حُبّاً” (نش2: 4، 5).. “هَذَا حَبِيبِي وَهَذَا خَلِيلِي يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ”، “حَلْقُهُ حَلاَوَةٌ وَكُلُّهُ مُشْتَهَيَاتٌ” (نش5: 16)..

وتقول عروس النشيد: “كَالتُّفَّاحِ بَيْنَ شَجَرِ الْوَعْرِ كَذَلِكَ حَبِيبِي بَيْنَ الْبَنِينَ. تَحْتَ ظِلِّهِ اشْتَهَيْتُ أَنْ أَجْلِسَ وَثَمَرَتُهُ حُلْوَةٌ لِحَلْقِي” (نش2: 3).

هذه المذاقة الروحية جعلت الكثير من القديسين ينسون كل مسرات العالم ومشتهياته، لأن مذاقة حب السيد المسيح كانت أشهى من كل أطياب العالم.

فى هذه العشرة العجيبة دخلت عروس النشيد، واستغرقت فى مشاعر الحب حتى نسيت كل ماعداه وأنشدت قائلة: “لِيُقَبِّلْنِي بِقُبْلاَتِ فَمِهِ لأَنَّ حُبَّكَ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ” (نش1: 2). لقد استعملت عروس النشيد هذا التشبيه بالذات حيث كان الخمر الجيد وقتئذ هو أحلى مشروب، إذ أنه فى البلاد الباردة مثل بلاد الشام ودول أوربا، كانوا يشربون النبيذ الجيد الذى يُسمّى بالخمر خاصة لتدفئة الجسم. أما عن الخمر الآخر الذى يكثر فيه نسبة الكحول الذى يُسمّونه “المسكر” فقد حذّر الكتاب منه وقال “لاَ تَسْكَرُوا بِالْخَمْرِ الَّذِي فِيهِ الْخَلاَعَةُ، بَلِ امْتَلِئُوا بِالرُّوحِ” (أف5: 18). لذلك قالت عروس النشيد: “لأَنَّ حُبَّكَ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ” (نش1: 2). محبة ربنا يسوع المسيح له المجد أحلى من طعم الخمر الجيد. لدرجة إنه إذا ذاقها الإنسان؛ تصير الخمر بالنسبة له ليس لها أى طعم أو لذة بجانب محبة ربنا.

وكلما كانت للإنسان الفرصة أن يتذوق حلاوة السيد المسيح، كلما زادت أشواقه للحياة معه.

الحواس والمصابيح

ترمز الحواس الخمسة الروحية المنيرة إلى مصابيح الخمس عذارى الحكيمات. والآنية الممتلئة من الزيت ترمز إلى امتلاء قلب الإنسان من الروح القدس؛ فالقلب هو الإناء الذى يمتلئ بالنعمة الإلهية حيث ينير الروح القدس الحواس لأنها هى السراج الذى يستنير بهذه النعمة الإلهية. فالحواس التى يعمل فيها الروح القدس تجعل الجسد مقدسًا منيرًا خاليًا من شوائب الخطية وظلمتها.

لذلك قيل عن الأبرار “حِينَئِذٍ يُضِيءُ الأَبْرَارُ كَالشَّمْسِ فِي مَلَكُوتِ أَبِيهِمْ” (مت13: 43).

فهناك ارتباط بين الجسد المضيء المنير والحواس المضيئة، ويتضح هذا من مثل العذارى الذى قاله السيد المسيح عندما تكلّم عن إضاءة المصابيح والآنية المملوءة زيتًا..

حاسب نفسك

اسأل نفسك هل آنيتك مملوءة زيتًا أم لا؟ وإن كان فيها الزيت فهل تستهلكه حتى يُستنفَذ؟ أم تستمر فى ملئه؟ بذلك يعرف الإنسان قيمة كل دقيقة فى حياته..

لذلك نرتل فى مديحة الصوم الكبير ونقول: {ضيعت زمانك وأفنيته..كنزك فى التراب أخفيته.. ومصباحك من عدم زيته.. طِفى وبقيت فى ظلمات}.

العذارى اللائى ملأن مصابيحهن زيتًا واستمرت المصابيح منيرة، هن اللائى استحققن أن يدخلن الملكوت. والخمس عذارى يرمزن إلى الخمس حواس الممسوحة بزيت النعمة، وبالروح القدس.

ليتنا فى الصوم نجتهد لكى تتقوى الحواس الروحية، ولا يكون الصوم هو مجرد رياضة وممارسة للنسك، كنوعٍ من التصوف أو كنوعٍ من المجد الباطل ومدح الذات.. إنما يكون فرصة للوجود مع الله، لتقوية وتدريب الحواس الروحية ولسماع صوت الله الذى يُفرح القلب ويعطيه سلامًا، وفيه يشتم رائحة المسيح الذكية.. ويتذوق حلاوة العشرة مع الله، والوجود فى الخلوة معه..كما يتلامس مع الله، وتكون حاسة اللمس الروحية أيضًا قوية. وهكذا الإنسان حينما يتلامس مع الله يشعر بقوة عظيمة تسرى فى حياته، وتغيِّر ضعفه إلى قوة..

لنقدّس حواسًا روحية ننمو فيها لنُفرِح قلب الله.

المجيء الثانى للرب من منظور روحى - الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري

الاتضاع سلاح الغلبة - الأنبا بيشوي مطران دمياط و البراري

سلسلة روحيات – الأنبا بيشوي مطران مدياط و البراري
سلسلة روحيات – الأنبا بيشوي مطران مدياط و البراري