وضع خميرة الميرون المقدس – القمص أثناسيوس فهمي جورج

كارت التعريف بالمقال

وَضْعُ خَمِيرَةِ المَيْرُونِ المُقَدَّسِ

في عهد البابا تواضروس الثاني

هناك عِلمٌ يدرس في معاهد اللاهوت يسمَى "علم تطوير الطقوس"؛ ويختص هذا العلم بالبحث والدراسة المستمرة لبنية الطقوس ونشوئها وتاريخيتها ومدلولاتها وأوجه التشابه والتباين والممارسة والأسباب... في رحلة ديناميكية روحية على الطريق دومًا؛ وفقًا للاختبار والتذوق الحي. وهو ما تقوم به اللجنة المجمعية للطقوس في مجمع كنيستنا المقدس؛ على اعتبار أن الولاء للتقليد لا يقف فقط عند حفظ التخم القديم؛ بل بالحرﻱ قبول الجديد الدائم الجدة؛ لأن الروح القدس حاضر أيضًا معنا الآن وهنا؛ وعصر الآباء لم ينتهِ بعد.

فالشجرة العظيمة تتثبت جذورها بالارتواء لمزيد من التعميق والاكتشاف؛ إذ أن تقليدنا له صفة النمو؛ ككل شيء إلهي "ديناميكي" يتجدد مثل النسر شبابه؛ وسيبقى الله إلى الأبد يعلِّم ويحدِّث ويُكثر ويُنمي؛ أما نحن فنشترك في العمل معه طالبين منه أن يشترك في العمل مع عبيده في كل عمل صالح؛ لأن مجال الامتداد مفتوح أمام الكنيسة عبر جهاد الفهم الروحي والإفراز الذﻱ هو الغدة النخامية للحياة مع الله؛ والضامنة لحفظ الوديعة بلا إفراط ولا تفريط؛ بإعتبار أنه ليس عندنا ما يمنع من إلتقاط وتوظيف نتاجات التطور العلمي لخدمه أهداف الملكوت.

لذلك قام قداسة البابا تواضروس الثاني البطريرك ١١٨ (أطال الله حياته) بالتطوير عند عمل تكريز الميرون المقدس في المرة الأولى لحبريته المباركة... والتي فيها تم اتباع الجانب العلمي والفكرﻱ الملائم لازدهار العلم وتحديثاته؛ بحيث تستخدم الكنيسة استخلاصات لمستحضرات النباتات ومركّبات الأعشاب العطرية المنصوص عليها في طقس تحضير مكونات المسحة المقدسة؛ وفقًا لقياسات مدروسة وحديثة لأنواع النباتات المستخدمة؛ سواء الشجرية أو العشبية أو الزهرية أو العطرية والطحلبية - أليس ذلك هو "الحسن" (تك ١: ١٠) حيث نستخدم الشيء الذﻱ تتوافق طبيعته مع الغاية من خلقه؛ والذﻱ يتلاءم شكله مع تحقيق مضمونه؛ كي نرد نحن على حسن صنيع الله، بالحسن الذﻱ أعطانا إياه.

إن التطوير الذﻱ اتُّبع يتعلق فقط بالأخذ بأسباب العلم وما وصل إليه من نتائج؛ التي هي ثمرة وزنة العقل واجتهاد الباحثين في مجال الاختصاص، من العشّابين (العلماء المتخصصين في النباتات والدواء وكمياء العطور)؛ حيث تتطور أساليب الاستخلاص بتطور العلم؛ إذ أن نمونا وتجديدنا يبقى منبعثًا من جذورنا الماسكة بجوهرنا المرتبط بصخر الدهور، متبعين التسليم الذﻱ لا ينضب، والذﻱ كان بذرة إلهية أُلقيت في عقل الكنيسة وقلبها؛ واستمرت بالنمو كالفيضان في طريق مستقيم ورصين بمعونة الله.

وفي كل الأحوال؛ المنطق العقلي دائمًا يسند التقليد ويمنطقه في تكوين الكنيسة ويصير دائمًا موضع التصديق في ضوء الحساسية المرهفة للوعي الإيماني والأمانة الضميرية لحراسة التقليد على نهج ونمط وتسليم الأولين؛ فيما وضعوه من صلوات ليتورچية وطقوس واردة في كتب البيعة؛ بحضور الكنيسة مجتمعة برئاسة البابا البطريرك وشركائه في الخدمة الرسولية مع كل الطغمات.. وهذا هو المعنى الأصيل والخبرة التي فيها نذوق ونعاين بهاء التقديس لكل من يقبل ويعيش "يؤمن ويعترف ويمجد"؛ ليصل لمحطة الوصول السمائية بخبرة العبادة العقلية؛ حيث يتعبد فكر الإنسان وكل بقية الفكر لله؛ ناظرين إلى حضور الله للتقديس والبركة؛ كما بارك في ذلك الزمان وأظهرها قدسًا للقديسين؛ وأسرارًا معقولة له؛ وغير مرئية من المرئيين.

علّنا نستوعب أنّ تقدُّمنا الحقيقي هو في نمو الإيمان لا في تغيير الايمان، فلا نُنقص ولا نختزل ما هو جوهرﻱ؛ لكن في ذات الوقت لا بُد من دراسة وفحص الاستخدامات التي قد مسخت أو تطورت؛ حتى نحرص الوديعة ونحفظها بروح آبائي وقضائي، في زمن ازدادت فيه المعرفة وتفاضلت؛ الأمر الذﻱ يتعين معه ضرورة الفهم والشرح والتأصيل مع الإيضاح للأجيال المعاصرة، حتى يتقبلوا ما تقبَّله الأسلاف قديمًا وكرموه دون أن يفهموه، فيكون تقدمنا في انسجام وشركة من أجل الكشف والإعلان والتفسير.

لتبتهج الكنيسة كلها في هذا الزمان بهذا الحث الليتورچي المفرح وتجتمع خوارسها وقيثاراتها محتفلين بوضع خميرة الميرون (زيت التدشين والتكريس والتثبيت والتكميل)؛ الذﻱ فيه يتم تقديس مسحة الميرون التي بها نحيا ونسلك بالروح، ونُختم ونُختن لعُربون الميراث الأبدﻱ غير المصنوع بيدٍ؛ كمواطنين وخلائق سمائية؛ نائلين المواطنة والعطايا التي بها نتأيد ونتأصل في الله، كمسحاء وكائنات موهوبة بالمواهب الإلهية... مختومين كحُملان ضمن القطيع بالختم السرائرﻱ؛ ومطعَّمين في الزيتونة اللذيذة كنيسة الله المقدسة. وليحفظ الله بطريركنا الحبيب البابا تواضروس الثاني بسلام وعدل لسنين هادئة ومديدة.

13 أبريل 2014.