نهاية المضطهدين – القمص أثناسيوس فهمي جورج

كارت التعريف بالمقال

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب القمص أثناسيوس فهمي جورج
التصنيفات الإضطهاد, قسم التاريخ, موضوعات تاريخية
آخر تحديث 12 مايو 2020

نِهَايَةُ المُضْطَهِدِينَ

كتبَ العلّامة "لاكتانتيوس" (٣٢٠م) كتابًا شهيرًا عن "موت المضطهِدين" وكيف كانت نهايتهم ومصيرهم... عرض الكاتب النتائج الرهيبة للغضب الإلهي في معاقبة المضطهِدين وما آلت إليه نهايتهم المروِّعة، ويأتي هذا الكتاب وكأنه شريط سينمائي يعرض أمام عيون المتفرجين عبر التاريخ واصفًا الاضطهادات وصفًا حيًا عبر الواقع من حيث بشاعتها ودمويتها، ثم ينتقل إلى عار الازدراء الأبدي والنهايات التي حلت على هؤلاء الطغاة المضطهِدين.

وقد أتى هذا الكتاب كمصدر لشاهد عيان استقىَ معلوماته ووثَّقها من مصادرها الأولية، كوثيقة تاريخية لعصور الاضطهاد التي صاحبت انتشار المسيحية في باكورات بداياتها وتصويرًا حيًا للَمَعان الإيمان وسط الشدة والألم. إضافة إلى توثيق العقاب الإلهي الذي لحق بالأباطرة الذين أمعنوا في شرهم، وقد أتى الكتاب في جملته تمجيدًا لإسم الله الذي وعد بالنقمة والمجازاة، فقد مات المضطهدون شَرّ مِيتة: -.

نيرون، انتحر في الثانية والثلاثين من عمره ولا يُعرف له قبر.

دومتيان، قُتل وهو على عرشه بعد أن سلمه الله لأيدي أعدائه وشُهّر به.

ديسيوس، ذُبح هو وابنه، ونهشت الوحوش جسده.

ڤاليريان، أُخذ في الأسر وقضى حياته مسجونًا أسيرًا.

أوريليان، ذُبح بيد حاشيته وجنوده.

دقلديانوس، أُصيب بلوسة عقلية، فعُزل بعد أن جُنّ.

مكسيميانوس، شنق نفسه منتحرًا.

جالزيوس، ضُرب بالقروح البشعة، وأخذ الدود يأكل جسمه.

يوليانوس، مات مقتولاً برمح في جنبه على أيدي جنوده.

لقد سجّل التاريخ على أيدي هؤلاء المضطهِدين صراعًا وهلاكًا وإبادة جماعية ضد المسيحية في صراع غير متكافئ، صراع بين السيف والصليب، بين الذئاب والحملان، حتى صارت الغلبة التي نغلب بها العالم "إيماننا" (١يو ٥: ٤) وتعمدت الكنيسة كلها في بحر من الدماء المقدسة وولدَت العالم المسيحي.

إن جريمة المسيحيين أمام هؤلاء المضطهدين الطغاة هي أنهم يؤمنون بما لا يؤمنون به، وفي أنهم رفضوا تقديم القرابين لآلهتهم مع رفضهم كل ممارسة تخالف إيمانهم وعقيدتهم. بالإضافة إلى حنق الرعاع عليهم وإشاعتهم للشكوك والوشايات والاتهامات ضدهم، والتي ظلت مجرد اتهامات مُرسَلة وافتراءات بلا دليل أو إثبات، مما صعَّد إجراءات القمع والاستئصال والإقصاء ضدهم بكل صوره، واستمرت العداوة ومحاولات اقتلاعهم ومَحْوهم، ماداموا لا يريدون السجود ولا يؤدون الفروض... كذلك وصف "لاكتانتيوس" أعمال الحنق والحقد التي ذاقوها وكتابات الازدراء وركوب موجة الحملات المسعورة ضد كل ما هو مسيحي، والتي كان لها تأثيرها المحرك لموجات الهمجية والضراوة التي عانوها، تارة من الحكام الظالمين وتارة من المَوْتورين والرعاع، وتارة من الجانبين معًا، فتلاحقت الهجمات لكن ازدادت معها المعرفة والتعزية والصبر والأمانة والتقوى العملية... أما عن كيفية ذلك فهو متروك لكل مؤمن في جهاده وقبوله للنعمة وسلوكه بحسب دعوة ونذور المعمودية، وها أيقونة السيد المسيح موضوعة حسب الطقس الكنسي جالسًا على عرش مجده في شرقية الهيكل بكل كنيسة، لأنه غلب وجلس وحَكَمَ، وسيأتي ليدين الجميع.

لا شيء أعظم من الاستشهاد لأن عظمته نابعة من الدم والنار والعذاب والنفي وصراع الحرب مع التنين، مقابل الإيمان الحي وأنصبة المجد والوعود الصادقة، وكيف أن المسيح نفسه هو في شهدائه يحمل الألم عنهم ويمنحهم قوة وثباتًا، فصاروا باسلين أمام التنكيل المفرط والتشويه والكدمات والأجساد المثخنة بالجراح... وكم من الأعاجيب والرؤىَ والأحلام والإلهامات صاحبت حلقات الاضطهاد في كنيسة القرون الأولى، فسِرّ الصليب لا بُد أن يكون متبوعًا بنصرة القيامة في كل هذه النفوس التي لا يُحصَى عددها من كل طبقات الشعب. والله المتعجَب منه كل حين متألم ومنتصر في قديسيه (٢تس ١٠: ١) وهو دائمًا هو، كما في الماضي هكذا في الحاضر، هو الذي يتحمل آلامنا ويحملنا وهو المُغطّىَ بالجروح لأجلنا، وهو الذي يتحمل فينا الآلام وكلمات الازدراء، وهو فينا مُبغَض بواسطة العالم.

لكن المضطهِدين جميعهم سقطوا أو خُلعوا وهلكوا وذهبوا كالعصافة التي تذريها الريح، وتمت فيهم الأقوال الإلهية: - قد رأيت الشرير عاتيًا وارفًا مثل شجرة شارقة ناضرة، لكنه عبر فإذا هو ليس بموجود (مز ٣٥: ٣٧) فقد ذرَّته العاصفة كالقش واقتلعته إلى الجحيم... وإن كانت حلقات التاريخ مستمرة فالكنيسة باقية ضد رئيس سلطان الظلمة وضد بابل أم الزواني التي سكرت من دم شهداء المسيح القديسين.

ويقول العلامة "لاكتانتيوس" لا يمكن فرض الدين بالقوة لأن الله لا يُعبد بالقهر والعنف، لكن بالقبول واقتناع الإرادة، فالتعذيب والإكراه على طرفي نقيض مع التقوى والإيمان، ومن المستحيل أن ينسجم الحق الإلهي مع العنف والمظالم... ولا يوجد شيء مرتبط بالإرادة الحُرة أكثر من العقيدة، لذلك صارت المسيحية مقنعة ببرهانها وبسيرتها، بعد أن كان لا يحِقّ للمسيحي أن يوجد!! بينما آخرة المضطهدين صارت إلى شَرّ نهاية.