مجيء السيد المسيح إلى أرض مصر – القمص أثناسيوس فهمي جورج

مَجِيءُ السَّيِّدِ المَسِيحِ إِلىَ أَرْضِ مِصْرَ

في عيد مجيء السيد المسيح إلى أرض مصر؛ يفرح كل أقباط مصر وكل بَنِيها وتخومها بالبركة الإلهية؛ بحضور محب البشر الكائن قبل الدهور إليها. إن اختيار مصر بالذات ليكون البلد الوحيد لقدوم المسيح إليها؛ لَأمر إلهي مملوء بالأسرار؛ سبق الله وأعده منذ الأزل وتنبأ عنه الأنبياء. لم يكن قدوم المسيح إلى مصر مصادفة؛ لكنه وفق تدبير الخلاص. إستضافته مصر وهو مُطارَد من رؤساء هذا العالم.. قَبِلتْه ضيفًا؛ فباركها وافتقدها بالمراحم الإلهية؛ حتى ذاب قلبها فيها. وأعد له فيها شعبًا مباركًا. محققًا نبوءة إشعياء التي تنبأ بها قبل ميلاد المسيح بما يزيد عن ٧٠٠ سنة.

”لَقَدْ كَانَ هِيرُودُسُ مُزْمِعًا أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ ليُهْلِكَهُ“ (مت ٢: ١٣) وحتى اليوم مازال كثيرون يَسْعَوْن سعي هيرودس الرديء؛ ولكن هيهات... فالذين كانوا يطلبون نفس الصبي قد ماتوا وفَنُوا!!! أمّا الذين يطلبونه ويسجدون له يستريح ويحل فيهم؛ فلن يذوقوا الموت.

لقد كان هروب المسيح إلى مصر حلقة من حلقات آلامه... فأتى إليها كي يخلصها. أتى إليها لا ليملك مُلكًا أرضيًا؛ لأن مملكته ليست من هذا العالم. ولم يكن أيضًا يطلب مجدًا من هذا العالم. جاء ليؤسس ملكوتًا لا ينقرض ولا يتزعزع. ملكوت محبته وخلاصه وفدائه.. ولازال الشيطان يقاوم كنيسته بكل عُنف وضراوة؛ لكنه يرتد خائبًا مهزومًا أمام الذين غلبوه بكلمة شهادتهم؛ وأمام الذين أذاقوه الهزائم مُحتمين بحماية الحمل؛ ولم يحبوا حياتهم حتى الموت.

إن طاعة العائلة المقدسة بالهروب إلى مصر كانت طاعة فورية. وهي دائمًا حاضرة؛ فلم يضعف يوسف النجار ولم يتشكك أو يتباطأ في حمل المسئولية؛ بل خضع لساعته متحملاً مشقة السفر ومخاطره مع الصبي وأمه.. احتمل بفرح كل المِحَن؛ و”قام ليلاً وأخذ الصبي وأمه“ (مت ٢: ١٤)؛ فالصبي وُلد ليكون أولاً وأول الكل. لذا ذُكر الصبي أولاً قبل أمه. إن الصبي يتقدم الجميع؛ ويأتي ذِكْرَهُ قبل أمه التي ولدته وانتسب إليها؛ لأن أباه هو الآب السماوﻱ.

هرب المسيح إلى مصر بينما هو مُخلِّص الجميع ومخلص كل أحد؛ وهو الذﻱ يحمل الرئاسة على كتفيه (صليبه)؛ فهروبه إلى مصر أكَّد حقيقة تجسده. وقد تم به ما قيل في النبوات (مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي) (مباركٌ شَعْبِي مِصْرُ).. هروبه كان في تدبيره قبل الأزمنة... لم يقاوم الشر بالشر؛ بل أتى إلى مصر ليعلن خلاصه لنا ولجميع الأمم؛ وليكشف لنا عظمة محبته ومسرته... قدَّس أرض مصر في طول البلاد وعرضها؛ وأقام في مصر؛ وبقدومه إليها ارتجفت الأوثان؛ وأسس مذبحَهُ في وسط أرضها؛ وعامودًا عند تخومها؛ لن يتزعزع ولن تقْوَى عليه كل بوابات الجحيم مجتمعة... وقد عُرف الرب في مصر؛ وعَرَف المصريون الربَ؛ يقدمون له ذبائحهم ونذورهم وحياتهم بالكلية إلى نهاية الأزمنة (إش ١: ١٩)؛ فمهما طال الزمان واشتدت ساعات الظلمة؛ نثق أنّ أحْلَكَ الساعات تأتي بعدها إشراقةُ الفجر؛ حيث أن بداية الرحلة الإلهية إلينا كانت - - هيرودس يطلب الصبي ليهلكه - - أما نهايتها - - مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي - - .. هكذا الله محب البشر دائمًا يمزج الأتعاب الشاقة في حياتنا بحلاوة التعزية والرجاء. لا يشاء أن نَشْقَى؛ ولا أن نكون في استرخاء دائم؛ حتى نتزكَّىَ ونَعبُر بسلام. اضطربت المدينة وغضب الملك وذَبَحَ أطفال بيت لحم؛ ونُفِي يسوع وأمه والنجار البار... هذا هو المشهد - - مخاض وولادة؛ هروبٌ وصليبٌ يقترن بالفرح والتسبيح والسجود وأصوات الملائكة والقيامة... اختبارات وتزكية للبُنيان.

هرب مسيحُنا من وجه الشر. لم يُشهِّر بأحد؛ ولم يخاصم أحدًا؛ ولم يظلم أحدًا؛ ولم يَنْفِ أحدًا؛ ولم يذبح أحدًا البتة. هروبه ورجوعه كانا بأمر إلهي. وها الشيطان يحاول أن يعطل ويعرقل تكميل أمر خلاصنا. لكن يعظُم انتصارُنا بالله مخلصنا الذﻱ قدم لنا نفسه مثالاً؛ وكرَّس لنا طريق الغلبة على الشرير؛ فصار دخوله إلى مصر هو دخول ملاك العهد الحقيقي؛ منقذنا من العبادات الشريرة ومن السِّحْر والصنمية... أتى إلينا محمولاً على السحابة الخفيفة؛ أمه الطاهرة العذراء كل حين.

ليتنا نُدرِك إشراقة قدومه الخلاصية إلينا لننال نجاتنا؛ فتنهدم أصنامنا وتذوب قلوبنا. فنبني أسوار أورشليم (مذبحَهُ هذا الذﻱ صار)؛ ونعرفه معرفة الخبرة والمعايشة والتذوق والإتحاد؛ مُدرِكين ما أدرَكَنا هو لأجله. محققين مقاصد قدومه إلى أرضنا الطيبة في كنيستنا صاحبة الكنوز والثروات الروحية التي لا تُقاس. فنعرفه وندعوه لأنه قريب؛ وقد أتى إلينا كي نأتي إليه بلا مانع ولا عائق.. لقد بارك مصر بنزوله إليها كما نزل يوسف ابن يعقوب واختزن القمح لإحياء العالم الجائع. هكذا نزل مخلصنا؛ الخبز الحي النازل من السماء ليحفظ حياته من يد الناقمين؛ حتى يضمن الحياة للعالم. فصيَّر كنيسة مصر وبراريها كالجنات وكالمنارة التي تضم قطيع ملوكي من الأمناء الأتقياء الحافظين العهد والأمانة. خوارس الشهداء والمعترفين والنساك والأبرار واللاهوتيين والبسطاء والعذارى والشهود لآلامه؛ جنود المسيح طغمات الكنيسة المقدسة الحية؛ كل هذا الزمان وإلى يوم المجيء.

ليتَ المسيح إلهنا صاحب العيد يمنحنا عيدية هذا العيد؛ بأن يُنعم علينا فيجد قلوبنا ليستريح فيها. وأن يجعل كنيسة مصر حنطة للعالم الجائع. وأن يُديم عمار مذابح مصر؛ علامةً وشهادةً له؛ وأن يَجِدَ له مسرةً في أهلها؛ كما وجد فيها ملجأً عند هروبه.