مارتن لوثر دراسة موضوعية مستقاة من المراجع البروتستانتية – المهندس مكرم زكي شنوده

كارت التعريف بالمقال

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب المهندس مكرم زكي شنوده
آخر تحديث 11 أكتوبر 2019

مستقاة من المراجع البروتستانتية :-

(1) تاريخ الإصلاح فى القرن السادس عشر إصدار رابطة الكنائس الإنجيلية ببيروت .

(2) مارتن لوثر – حياته وتعاليمه – للدكتور القس ( الإنجيلى ) حنا جرجس الخضرى – إصدار دار الثقافة .

(3) حياة لوثر زعيم الإصلاح – بقلم ا. موريسون ، ترجمة القس باقى صدقة – دار الثقافة

1 – نشأة مارتن لوثر  أولاً:- طفولته وعلاقته بعائلته :-

((  1  )) هو من مواليد عام 1483 ، فى ألمانيا ، التى كانت – حينذاك – جزءاً من الإمبراطورية التى تتسمى بالرومانية ، بالرغم من أن أباطرتها كانوا يـُتنخبون – بواسطة مجلس الأمة – ممن يصلح من أى جزء من أجزاء الإمبراطورية .

وكانت الإمبراطورية كلها تدين بالكاثوليكية ، بما فى ذلك والدا مارتن لوثر وكل عائلته ، وقد إستمر أهله على ذلك .

تعليق شخصى : عن الكنيسة الكاثوليكية ، تقول هذه المراجع البروتستانتية ، أنها كانت مملوءة بالخزعبلات والإنحرافات  . ومع أنهم يميلون للمبالغة فى وصف أخطاء الكاثوليك ، لتبرير ذاتهم ، إلاَّ أنهم أيضاً ، مع الأسف ، لم ينتبهوا – حتى الآن –  للفارق الضخم بين كل ما كانوا يهاجمونه فى بلادهم ، وبين الفكر المستقيم الراقى الذى للكنيسة الأرثوذكسية ، الخالية من الهرطقات والخزعبلات ، والتى لم تخلط أبداً بين الدين والسيف أو السلطة ، وهى الأمور الذى سقطوا فيها هم أنفسهم

كان مارتن لوثر هو الأكبر بين سبعة إخوة . وكان أبو مارتن لوثر مزارعاً ( فلاحاً ) يعمل بالأجر ، ولكنه كان طموحاً للتخلص من هذا الفقر المدقع ، وأن يصير غنياً ، لذلك  ترك القرية ونزح للمدينة ، وعمل حطـَّاباً وعامل مناجم  .

كما أنه كان طموحاً أيضاً فى أن يكون له إسم مرموق ، إذ لم يكن ذلك ممكناً له فى ذاته ، فقد سعى لذلك من خلال إبنه ، فدفع بإبنه مارتن للإلتحاق بالتعليم ، من أجل أن يصل إبنه لوظيفة محامى ، وهى التى كانت أعظم الوظائف حينذاك. + ولكن التعليم  لم يكن مجانياً فى تلك الأيام ، بل كان بمصاريف كبيرة ، كما أنه كان عاجزاً – بسبب فقره – عن سداد مصروفات دراسة إبنه وإقامته وطعامه معاً . + والشيئ المؤسف ، أنه ألقى بإبنه فى هذا الخضم ، ودفعه دفعاً شديداً له ، بدون أن يساهم فى تحمل تبعاته – حسبما يقولون – إلى درجة أن إبنه كان يضطر للتسول ليحصل على طعامه ، وهو الأمر الذى سنأتى إلى تفاصيله لاحقاً . ( تاريخ الإصلاح ص 37  مارتن لوثر ص 11و12و14و20 + حياة لوثر ص7و8 ) .

تعليق شخصى : ولكننا ننبـِّه ، إلى أنهم لم يقدموا لنا دفاع والد مارتن عن نفسه ، بل أخذوا كلامهم كله من طرف واحد ، هو الخصم ، أى مارتن ، الذى هو الخصم والمتهم دائماً لأبيه . ))

أمـّا مارتن لوثر ، فقد كان – منذ طفولته المبكرة جداً – مملوءاً بالمرارة نحو والديه معاً ، بدرجة غير عادية ، إلى درجة أنه ظل يتذكرهما بمرارة  حتى بعدما كبر ، وإلى درجة أنه تطوَّع بتصويرهما بصورة من القساوة التى تصل للوحشية .

إذ يقول عن أبيه أنه كان قاسياً قسوة فاقت الحدود ، إلى درجة أنه هرب من المنزل ( لم يذكروا أين قضى أيام هروبه من المنزل ) ، إذ يقول :- (( لقد عاقبنى أبى عقاباً شديداً – يوماً ما – لدرجة أنى هربت من أمامه وإختفيت ، ولم أستطيع أن آنس إليه ، إلاَّ بعد وقت طويل ))

( مارتن لوثرص 14 +حياة لوثر ص7و8 ) . كما إشتكى شكوى مريرة ، من قساوة والدته أيضاً ، إذ قال :- ((  فى يوم من الأيام ، ضربتنى إمى ، بالسياط ، حتى إنفجر الدم من جسدى ، بسبب حبة جوز حقيرة )) ( مارتن لوثر ص14 ) . (3 ) وقد أكـَّد مارتن لوثر على تلك القسوة ، مرة أخرى ، عندما أوضح  تأثيرها الهدَّام على نفسيته وعلى حياته كلها ، إذ قال :- ((  كان والدىَّ فى غاية القسوة معى ، الأمر الذى خلق منى إنساناً خجولاً ( أى إنطوائياً ) ، وقد كانت قسوتهما عاملاً دفعنى للإلتجاء للدير لأصير راهباً  )) ( مارتن لوثر ص14 ) . (((( تعقيب شخصى :  أى أنه لم يكن يقصد الرهبنة لذاتها ، بل سعياً وراء هدف آخر بعيد تماماً عن أهدافها ، وهو الهروب من رؤية والديه القساة – بحسب وجهة نظره هو – مما يدل على شدة نفوره منهما . كما أنه لم يشير أبداً – بحسب هذه المراجع – إلى أى محبة متبادلة بينه وبين إخوته الستة جميعاً، والتى كان من الممكن أن تهوِّن الأمر عليه . فكأن علاقته مع كل عائلته كانت سيئة جداً ، إلى درجة الهروب حينما كان طفلاً ، ثم الهروب للدير بعدما صار شاباً . + وممـّا يؤكد أنه كان لا يريد رؤيتهم نهائياً ، أنه ذهب للدير بعدما حصل على شهادة جامعية تتيح له فرص عمل كثيرة فى أى مكان ، فلو كان يريد الإبتعاد قليلاً ، مع إستمرار التواصل – من حين لآخر ، ولو من بعيد لبعيد –  لكان ذلك متاحاً له . ولكن إختياره للرهبنة كان وسيلة  مقنَّعة للهروب من أهله ، بالهروب من العالم كله ، مما يدل على رغبته فى عدم رؤيته لهم ولا رؤيتهم له ، نهائياً ، لشدة نفوره منهم …. ويبدو أنه قد إنقطع عنهما فعلاً ، طوال بقية عمره ، إذ لم تذكر تلك المراجع أنه زارهما – ولا حتى مرة واحدة – منذ آخر مرة قبل رهبته ، إلاَّ حين زاره والده بالدير أثناء سيامته كاهنا ، وفيها وبـَّخه والده بشدة ، حتى أنه ندم على دعوته له . كما أنه لم يدعو أحداً من أهله لحفل زواجه ،  وإستمر مقاطعاً لأبيه وأمه حتى وفاتهما – مثلما يتضح من هذه المراجع – كما أنه لم يحضر جنازة أبوه ، بحجة مشغولياته ، كما لم تذكر المراجع أنه حضر جنازة أمه — إنتهى التعقيب الشخصى )))) .

((  4  )) ويعود مارتن لوثر ويعلل قساوة والديه – التى يصفها بالمفرطة والتى فاقت الحدود –  بأنهما كانا يريدان الخير له ، إذ يقول : ((بالرغم من أن عقاب والدىَّ  كان قد تعدى الحدود ، إلاَّ أنهما لم يريدا إلاَّ خيرى )) كما أن مؤلفى هذه المراجع البروتستانتية ، يبررون هذه القسوة البالغة والمتعدية للحدود – التى تطوَّع مارتن لوثر بنفسه ليذكرها عن والديه – بأنها كانت الإسلوب المعتاد فى تربية الأبناء فى ذلك العصر .

(( تعقيب شخصى :– 1– هذه القسوة الفظيعة ، التى تصل بالأم إلى درجة التوحّش ، فتضرب طفلها الصغير بكرباج ، حتى : ” ينفجر الدم ” ، من جسمه – حسبما قال مارتن نفسه عن أمه – بسبب حبة جوز حقيرة ، إذ أنها من الثمار المنتشرة فى تلك البلاد ، مثلها مثل الفول السودانى عندنا . + فإن كانت الأم مزقت جسد طفلها بالكرباج  ، من أجل حبة جوز ، فماذا كانت تفعل به فى الأشياء الهامة !! — 2– ولو كانت هذه القسوة الشاذة ، هى صفة العصر – حسبما تقول مراجعهم – لوجدنا الكثيرين من جيله يشتكون من والديهم بنفس هذه الشكوى المُـرَّة التى تطوَّع بها مارتن لوثر ، ولكانت مراجعهم قد ذكرتها لتأكيد تبريراتهم ، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث . — 3 — كما أن هذه المراجع لم تشير مطلقاً لأى شكوى إشتكاها إخوته الستة من قساوة والديهم ، ولو كانت موجودة لذكروها بالتأكيد ليبرهنوا على تبريراتهم .

— 4 — لذلك ، فإننى أعتقد أن مارتن لوثر يبالغ فى وصفه لقساوة والديه ، ولعله مدفوع – فى شكواه – بدافع نفسى سيئ تجاههم ، كالحقد مثلاً ، أو كعلاقة : ” الحبالكراهية ” ، التى تمزق النفس . — 5 — ومن الطبيعى أن يؤدِّب الآباء أبناءهم ، فمن لم يؤدبه أبوه !!! ، كما أنه من الطبيعى أيضاً ، أن الأبناء لا يتذكرون بمرارة تأديب آبائهم – بعدما يكبرون – بل يتذكرون ذلك بكل الإمتنان ، ويذكرون والديهم بكل الخير ولا يذكرون مثل تلك الأشياء أبداً ، فلولا التأديب لصارت أحوالهم فى الحضيض . ذلك هو الأمر الطبيعى ، إلاَّ إذا كانت المرارة قد إستحكمت فى نفوسهم ، وتحولت لحقد دفين ، لا تمحوه السنين ، فالحاقد – وحده – هو الذى لا ينسى مرارة ألم التأديب . — 6 — وأغرب ما فى الأمر ، هو أن مارتن لوثر – بنفسه – هو الذى يتطوع بالتشهير بوالديه ، وكأنه ظل ينتقم منهم دوماً . — 7 — أما تبريره لهذه القساوة – التى يشِّـهر بهما بها – بأنها كانت بغرض الخير له ، فهذا التبرير المقرون بالإدانة والتشهير التطوعى ، تدل على أنه كان يعانى فعلاً من الشعور المزدوج : الحب  / الكراهية ( love  / hate relationship ) ، معاً وفى نفس الوقت ، مما يؤدى للحقد المرير ، ومما يؤدى لتمزيق النفس ، وهو ماعبـَّر عنه مارتن لوثر ، بأن هذه القسوة المفرطة خلقت منه شخصاً خجولاً ، أى إنطوائياً . — 8 — ونستطيع أن نستشف رأى أبوه فيه ، بأنه كان يعتقد ويقول بأن روحاً شريراً يعمل فى مارتن (إنظر تاريخ ص 44 ) :  — إنتهى التعقيب الشخصى . ))))

ثانياً :- دراسته وعلاقته بمعلميه :-

(( 1 )) إمتدت  مشاعره المليئة بالمرارة – نحو والديه – فإنتقلت للوسط الجديد ، فحلَّ المعلمون محل الوالدين .

فإن مشاعره – التى تطوَّع هو بالقول بها – نحو معلميه فى طفولته ، كانت أيضاً بنفس المقدار من المرارة والذم .

فقد وصف معلميه بأنهم كانوا فى منتهى القساوة ، إذ قال :- (( كنا نـُعذب ، ولم نتعلم شيئاً …. لقد ضـُربت خمسة عشر مرة فى يوم واحد )) . كما وصف المدرسة بأنها كانت :- ” جهنم ” .

( تاريخ الإصلاح ص 38 + مارتن لوثر ص 16 + حياة لوثر ص12 ) .

(( 2 )) وتبرر هذه المراجع ، كلمات مارتن لوثر المملوءة بالمرارة ، نحو المدرسة ونحو مدرسيه ، بنفس تبريرهم لمرارة مارتن لوثر من والديه ، وهى أن القساوة المفرطة كانت هى سمة وثقافة هذا العصر .

(( تعقيب شخصى :- –1– لو كانت هذه المشاعر الغاضبة المريرة من القسوة المفرطة ، هى نتيجة لثقافة القسوة فى هذا العصر كله – كما تقول مراجعهم – لوجدنا أن الكثيرين من جيله – وليس مارتن لوثر فقط – يتذمرون من مدرسيهم ، بنفس هذه المرارة البالغة ، ولكن ذلك لم يحدث ، ولو كان قد حدث لأسرعت هذه المراجع وذكرته ، لكى تؤكد تبريرهم  لمرارة مشاعر مارتن لوثر . –2– بل إن مراجعهم تذكر عكس ذلك ، بدليل ما قالوه عن صديقه ملنكثون ، بأن معاملة والديه ومدرسيه كانت فى منتهى الحب  — 3 — وعن عقاب المدرسين – فى كل العصور وحتى الآن – فإنه موجود بلا شك ، ولكن التلاميذ – بعدما يكبرون – لا يتذكرون العصا التى سببت لهم الألم ، بل يتذكرون الفضل الذى فاض به المدرس عليهم ، فلولا حساب المدرس لهم عن كل تقصير فى المذاكرة وعمل الواجب ، لتهاونوا وأضاعوا السنة لعباً ولهواً . فإننا نذكر مدرسينا ، الذين كانوا أشداء علينا ، بكل الحب والعرفان بالجميل ، فبفضل شدتهم وجديتهم إضطررنا للإجتهاد فى سنٍ يميل للعب ، فالتأديب عاد علينا بالخير فى العمر كله ، لذلك فإننا لا نذكر الألم بل نذكر النجاح . + لا يذكر – بمرارة –  ألم تأديب المعلم ، إلاَّ الحاقد ، إلى درجة المرض . إنتهى التعقيب الشخصى ) .

ثالثاً :- دراسته وعلاقته بأبيه :-

(( 1 )) دفعه والده بكل قسوة إلى التعليم ، ولكنه لم يتكفـَّل بتكاليف ونفقات التعليم – والتى كانت كلها بمصاريف ، للتعليم وللطعام والإقامة الداخلية – بل ألقى به فى المعترك وحيداً ، فى مدارس بعيدة عن بلدته ، بعدما طردته المدارس القريبة لعدم سداده ما عليه من مصروفات سابقة .+++ فلم يكن أبوه – بسبب فقره – يدفع المصاريف للمدرسة ، بل ولم يكن يقدم لإبنه مصاريف الطعام ، ومع ذلك فرض التعليم عليه  فرضاً ، حتى أنه كان يحمله إلى المدرسة حملاً ( حياة مارتن ص 14 ) .(( 2 ))  ولأن المدارس كانت بمصاريف ، فقد كان أبوه ينقله – لهذا السبب غالباً – من مدرسة لأخرى ، فأرسله إلى مدرسة فى مدينة بعيدة ، بدون توفير مصاريف الدراسة ، ولا حتى مصاريف طعام الصبى ، فكان يتسوَّل الطعام فى الشوارع  . + كان فى فقر وجوع وضيق شديدين جداً . +++ فعاد الصبى مريضاً ، بعد سبعة شهور فقط من الدراسة .( تاريخ الإصلاح ص38و39 + حياة مارتن ص 14 ).(( 3 ))  فأرسله أبوه لمدرسة أخرى ( غالباً بسبب المصاريف الواجبة السداد ) ، وكان عم الصبى يقيم فى هذه المدينة . والغالب أن والده أرسله لمدينة عمه ، متعشماً أن يتكفل ذلك العم ، بالصبى ونفقاته .

ولكن المراجع لم تذكر أن أبوه إتفق مع عمه على القيام بهذه الخدمة ، قبل إرسال إبنه إليه.

كما لم تذكر أنه سافر معه ، للإطمئنان على سلامته وأن الأمور تسير حسناً ، وأن عمه تطوَّع بالموافقة على تحمل النفقات . بل يبدو – بحسب الوقائع التى تقدمها هذه المراجع – أنه أرسله لعمه ، هكذا ، بنظام : ” التوريط ” . ولكن عمه لم يقبل ذلك التوريط ، ورفض إعالة الصبى . فضاق الأمر بالصبى جداً ، فكان يتسول الطعام ، مع بعض الصبية الفقراء ، مرددين بعض التراتيل ، لإستدرار العطف عليهم ( تاريخ ص 38-  40 + مارتن لوثر ص 18 – 21 + حياة لوثر ص 14- 17) .

تعقيب شخصى :-  وهكذا ، فإن الوالد القاسى – بحسب الصورة التى يقدمها مارتن لوثر عن أبيه – قد حمـَّل إبنه الصغير ، ثلاثة أحمال ثقيلة :- — 1 — إحتمال إهانات إدارة المدرسة التى تطالبه بسداد المصاريف . — 2 — والجوع الشديد إلى درجة تسوُّل كسرات الخبز لسد الرمق . — 3 — والمذاكرة فى ظروف شديدة الصعوبة ، لتحقيق طموحات أبيه فى المجد والشهرة  . وهكذا نشأ مارتن لوثر ، ونفسيته مشحونة بالغضب والنقمة والحقد ، على والديه ، وعلى المجتمع كله .– إنتهى التعقيب الشخصى

(( 4 )) وهذه المراجع ، تؤكد بشدة ، على أن مارتن لوثر لم يُصاب بأى مرض نفسى ، كنتيجة لهذه الظروف المأساوية . وهم يقدمون دليلاً واحداً – على عدم إصابته بأى مرض نفسى –  وهو أنه إستطاع أن يـُكمل دراسته بنجاح .

تعقيب شخصى :- — 1 — إكمال الدراسة ليس دليلاً على الصحة النفسية وسلامة الإنسان من الأمراض النفسية ، بدليل أن بعض الناجحين جداً فى الحياة – بحسب وجهة النظر الدنيوية – تسيطر عليهم ، وتحرِّكهم ، أمراضهم النفسية . – 2 — بل وقد تكون هذه العقد النفسية هى الدافع لكى يتكالبون على النجاح بأى ثمن ، ثم تظهر – فيما بعد – تأثيرات هذه الأمراض النفسية التى تتحكم فيهم وفى كل تصرفاتهم ، فتظهر فى الثمار المـُرَّة التى يثمرونها . — 3 —  وأبلغ مثال على ذلك ، هو ذلك الرئيس الراحل الشهير ، الذى أدخل بلاده فى حروب غير محسوبة ، وهزائم ، ومصائب كثيرة ، بدافع الحقد الذى كان يملأ قلبه تجاه والده أولاً ، ثم سيطر على علاقته بالحياة كلها . + بدليل أنه رفض أن يسير فى جنازة والده — إنتهى التعقيب الشخصى

رابعـــاً : فكيف أكمل دراسته ؟؟1

—- لقد ضاق الأمر بمارتن لوثر ، مابين التعليم وما بين التسوُّل لإستجداء القوت الضرورى لجسده ، إذ كان يمر على الأبواب متسولاً بالترانيم ، ولكنه كان يتعرض لإهانات شديدة ممن يستجديهم ، إذ كانوا يشتمونه ويهينونه جداً – حسبما ذكر هو – فيذوب قلبه حزناً وتسيل دموعه أسفاً . وذات يوم ، طـُرد من أمام ثلاثة أبواب ، فرجع جائعاً ، وفكر فى التخلى عن الدراسة والعودة ليعمل مع والده فى ظلام المناجم وسوادها ، حسبما يقولون .2 —- ولكن إمرأة رأته هكذا ، فتحننت عليه ، وأدخلته بيتها وأطعمته ، ووافق زوجها على إعالته فى بيتهما ، فعاش معهما أربعة سنوات ، تفرغ فيها لدروسه ، وهكذا أكمل التعليم بالمدرسة الثانوية .3 —- وقد إستفاد مارتن لوثر جداً من هذه الدراسة ، إذ أتقن العلوم الأدبية كالخطابة والشـِعر ، كما أتقن الفنون الموسيقية ، كالعزف على الألات الموسيقية والغناء . فنظـَّم أشعاراً ، ونظـَّم تراتيلاً ، ولحنها وأنشدها .4 —- وقد طابت له الحياة فى هذا البيت ، وكان سعيداً جداً ، وقال عن هذه الإمرأة كلمات مملوءة بالإعجاب – بالنقيض لما قاله عن أمه ، وكأنه إدانة لأمه – مثل قوله عن هذه الإمرأة :- (( لا شيئ على الأرض أحلى من قلب إمرأة تتحلـَّى بالتقوى )) .5 —- وفى منزل هذه العائلة ، كان يحضر زوار من مشارب مختلفة ، الآباء والفرنسيسكان ، وغيرهم ( لم تذكر مراجعهم إتجاهات هؤلاء الآخرين ) ، فكان مارتن لوثر يحضر محادثاتهم فى مواضيع لاهوتية ودينية وتاريخية . ((( تعليق شخصى : إنه – فى ذلك – يشبه سيرة أوريجانوس فى صباه أيضاً ، إذ أعالته إمرأة غنية – بعدما فارق أهله ومنزله فى ظروف غامضة – وهى كانت قد تبنت سابقاً شخصاً آخراً ، كان يقيم معها أيضاً ، وقد كان هرطوقياً شهيراً ، حتى كانت تتوافد عليه الجموع الكثيرة ، لبراعته فى الحوار ، وكان أوريجانوس يعيش معه ويخالطه – تاريخ الكنيسة – يوسابيوس – ك6 ف2 فقرات12- 14 )))

( مراجع هذه الفقرة : تاريخ الإصلاح ص 39 و 40 + حياة لوثر ص16 )

خامساً : حالات الفزع والغيبوبة ، الغير عادية  ، التى كانت تصيب مارتن لوثر :- (( 1 ))

منذ طفولته المبكرة ، كان يخاف بطريقة زائدة جداً ، فإذا سار فى الزوايا المظلمة أو فى الشوارع الضيقة ، كان يشعر كأن الشياطين تحيط به وتقف فى وجهه وتعرقل سبيله ( حياة لوثر ص 10 ) . وقد تعرض لعدة حوادث مخيفة ، زادت من حالة الفزع هذه :-

أ —- مثل حادثة إغتيال حدثت لصديق له .ب —- ومثل إنتشار وباء الطاعون ، الذى قضى على الكثيرين ونشر الموت فى كل مكان ، وقضى على صديق آخر له .ج —- كما حدثت له هو شخصياً  حادثة خطيرة جداً ، إذ تعرض لطعنة خنجر عميقة جداً ، إلى درجة أنه نزف كميات كبيرة من الدماء ، ووصل إلى أعتاب الموت ، فأصابه – وقتها – خوف ورعب شديدين

( مارتن لوثر ص 27 ) . وقد تراكمت هذه المشاعر المرعبة عليه .

(( 2 ))   حالة الرعب والإصفرار والقشعريرة ، عند ذكر إسم الله أمامه :-1 —- كان يصيبه رعب وفزع شديدين ، عندما يسمع إسم الله أو إسم المسيح ، فيشعر برعشة فى كل جسمه ، ويصفر وجهه ويشحب ، ويصبح فى حالة من الرعب الشديد إلى درجة الموت   ( تاريخ الإصلاح ص 38  مارتن لوثر ص 27 + حياة لوثر ص 9 ) . وقد إستمرت هذه الحالة حتى بعدما دخل الدير

(( 3 )) نظرته الغاضبة الثائرة ضد الله :- يفسرون حالة الفزع والشحوب والإصفرار – التى كانت تصيب مارتن لوثر – عند ذكر إسم الله  ، بأنه كان يتصور المسيح قاضياً غاضباً ، مغتاظاً منه ! ( تاريخ الإصلاح ص 38 + مارتن لوثر ص 27 + حياة لوثر ص 9 ) .

2 —- وقد إستمرت معه نظرته الغريبة نحو الله ، حتى بعدما ترهبن ، وقد نبهه رئيس الرهبان ، إلى خطئه ، قائلاً له :- (( ليس الله هو الغاضب عليك أو الثائر ضدك ، بل أنت هو الغاضب والتائر ضد الله )) ( مارتن لوثر ص 42) .(((( تعليق :- أعتقد أن سبب هذ النظرة الغاضبة نحو الله ، هو غضبه وغيظه وثورته على أبيه ، فسوء العلاقة مع الأب الأرضى ، تؤدى لسوء العلاقة مع الآب السماوى . كما أن التمرد على الأب الأرضى ورفض سلطته ، تؤدى للتمرد على الآب السماوى أيضاً . ))))

(( 4 )) —- ثم حدثت حادثة أخرى ، كانت أكثرهم فزعاً  ورعباً وتأثيراً عليه ، حتى أنها أثرت على مجرى حياته كلها . كما سيكون لها – فى المستقبل – تأثيرها على العالم كله ، وهى صاعقة هائلة نزلت على الغابة المظلمة ، أثناء سيره فيها وحيداً . إذ بينما كان مسافراً وحيداً – إلى الكلية – فى قلب غابة موحشة ، فى ليلة عاصفة ، حدثت عاصفة شديدة جداً ، مصحوبة ببرق ( مثل قذائف النار) ورعد ( مثل دوى الإنفجارات الشديدة ) شديدين ومخيفين ، ثم سقطت صاعقة

( كتلة من النار) هائلة ، بالقرب منه تماماً ، فأصابت شجرة أمامه مباشرة ، فإقتلعتها من مكانها! فأصيب بحالة من الفزع الهائل ، فصرخ ، ونذر أن يترهبن إن نجىَ وعاش ( تاريخ الإصلاح ص 42  مارتن لوثر ص 28 ) .

(( 5 ))   حالة الغيبوبة الغريبة ، التى لا يفيق منها ، إلاَّ بالترايل :-

1 — كان زميله بالدير ، لوكاس ، يعرف حالته ( لم يذكروا تفاصيل الحالة التى يعرفها لوكاس ، ولكن الواضح أنهم يقصدون حالة فقدان الوعى ) ، وحدث أنه تغيب لأكثر من يوم ، فإنشغل عليه لوكاس !! وطرق باب قلايته ، فلم يكن مجيب !!

2 —- فلعلمه بحالته – حسبما تذكر هذه المراجع – كسر باب القلاية ، فوجده ملقاً على الأرض صريعاً ، بلا أى مظهر من مظاهر الحياة ، فحاول إفاقته وإعادته للوعى ، ولكنه فشل .3 —- فأخذ يرتل ، هو ومَنْ معه ، فحينئذ فقط  أفاق مارتن لوثر من الغيبوبة ، بتأثير الترتيل .( تاريخ الإصلاح ص 46 و47 + مارتن لوثر ص 39 ) .(((( تعليق : هذه الحالة من الغيبوبة – التى لا يفيق منها إلاّ بالترتيل – لها معانٍ خطيرة جداً ، والواضح أنها لم تحدث مرة واحدة ، إذ أنهم يقولون أن زميله لوكاس كان يعرف حالته – أى أنها كانت حالة مستديمة ومتكررة – وأنه كان يعرف كيف يعالجها ، وأن ذلك يكون بالترتيل !!! ألاَ تذكرنا تلك الحالة ، بحالة شاول الملك ، الذى كان يستفيق بترتيل داوود !! ))))

سادساً : حول قصة الكتاب المقدس المربوط بالسلاسل :-

– 1 —- توجد قصة رواها مارتن لوثر ، أنه – فى المدرسة الثانوية ، أو فى الجامعة بحسب رأى آخر عندهم – رأى الكتاب المقدس مربوطاً بسلاسل .2—- ويقول بعض البروتستانت – وليس كلهم – إن الكنيسة الكاثوليكية كانت تحرِّم على الشعب أن يقرأوا الكتاب المقدس ، حتى أنها ربطته بالسلاسل لكى لا يفتحه أحد ويقرأه .3 —- وهم يقولون ذلك بالرغم من أن هذه القصة ذاتها تذكر أن مارتن لوثر قرأ – حينذاك – الكتاب المقدس وأعجب به ، مما يعنى أن ربطه لم يمنعه من فتحه وقراءته . + فقد يكون مربوطاً – مثلما ذكرت بعض المراجع البروتستانتية – لمنع سرقته ، لغلو ثمن الكتب أيامها ( وقد يكون مربوطاً من كعبه فقط )  .4 —- والعقلاء من البروتستانت يعتبرون أن تلك الأقاويل – بخصوص تحريم قراءة الكتاب المقدس – هى مجرد مبالغات دخلت إلى التقليد البروستانتى ونالت ترحيباً بدون فحص ، مثلما يقول هذا المرجع :-  ((( لقد بالغ بعض المؤرخين ، وخاصة البروتستانت ، فى سرد قصة مقابلة مارتن لوثر مع الكتاب المقدس … وهنا أود أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى بعض المبالغات التى إستخدمت ومازالت تستخدم عن حسن نية ( !! ) فى الكنائس الإنجيلية ، عندما تتعرض لشرح هذه الفكرة الخاصة بإكتشاف لوثر للكتاب المقدس . فإن البعض يعتقد أن الكنيسة الكاثوليكية كانت تمنع وتحرِّم دراسة الكتاب المقدس للعامة ، كما رأى البعض فى نسختى الكتاب المقدس المربوطتين بسلاسل فى كل من جامعة أرفورت والدير الذى إلتحق فيه لوثر ، رأوا رمزاً على أن الكتاب المقدس كان مسلسلاً ومغلقاً ومقيداً أمام الجميع .  ومما لا شك فيه أن الكنيسة الكاثوليكية فى ذلك العصر … لم تحرِّم الذين يريدون الإطلاع عليه . والدليل على ذلك ، هو أن الكنيسة لم تصدر أى قرار ضد أول طبعة من الكتاب المقدس ، التى ظهرت باللغة الألمانية فى عام 1466 فى مدينة ستزاسبورج ، أى قبل أن يولد مارتن لوثر نفسه . أما فيما يخص الكتاب المقدس المربوط بالسلاسل ، فهذا لا يعنى أن الإطلاع عليه كان ممنوعاً ، بل لكى لا تمتد إليه الأيدى غير الأمينة ، خاصة وأن الكتب – فى ذلك الزمان – كانت تعتبر كنوزاً نادرة ، لقلتها . وقد كانت تلك العادة متبعة فى بعض المكتبات أيضاً ، خوفاً من ضياع الكتب ))) منقولة بالنص من المرجع : مارتن لوثر ص 26.5 —- ونحن هنا لا ندافع عن الإخوة الكاثوليك ، كما أننا لا نهاجم الإخوة البروتستانت ، بل نتقصـَّى الحقائق ، رغبة فى الحقيقة ذاتها .++ فلم تكن الكنيسة الكاثوليكية تحرِّم قراءة الكتاب المقدس ، بل كانت تمنع تفسيره من غير المتخصصين الدارسين المكلفين .(( وهذا النظام كان موجوداً فى الكنيسة منذ العصور الأولى ، إذ كان تعليم العقيدة من إختصاص الأسقف وحده ، ومن يكلفهم بذلك من الإكليروس ، لمنع إنتشار الهرطقات والأفكار الغريبة )) .6 —- وأما بخصوص إرتفاع ثمن الكتاب المقدس – فى ذلك الزمان – فقد كان ذلك بسبب :-

ندرة الكتب بوجه عام ، فقد كانت تُنسخ يدوياً – قبل إنتشار عصر الطباعة  – فكان الكتاب الواحد يستغرق أكثر من عام ، وبالتالى كان الإنتاج أقل جداً من الطلب ، مما يزيد سعره  * كما كان نسخ الكتاب الواحد ، بوجه عام ، يحتاج إلى دقة وتركيز شديدين ، إذ كان أقل خطأ فى الكتابة – وهو إحتمال وارد – يؤدى لإلقاء الورقة ( أى قطعة الجلد ) كلها ، وإعادة كتابتها كلها ، مما يجعل أجر الناسخ عالياً ، لأنه عن فترة عمل طويل وشاق ودقيق. .( أما بعد عصر الطباعة ، فقد صار ممكناً إنتاج ألاف الكتب دفعة واحدة ، مما جعل الإنتاج أكثر من الطلب ، وبالتالى صار الكتاب متاحاً وبوفرة زائدة عن الحاجة ، مما قلل سعره ).* كما كانت الكتب تُكتب – فى ذلك الزمان – على الرقوق ، أى الجلود الرقيقة . كما كانت الكتب الضخمة – مثل الكتاب المقدس – تكتب على رقوق رقيقة جداً ومتينة جداً – مثل جلد الغزال – لكى لا يزيد حجمها ووزنها عن الحدود المعقولة ، ولكى لا تتمزق مع الإستخدام . وهذه الرقوق غالية الثمن جداً  (( حتى أن بولس الرسول يوصى القديس تيموثاوس بأن يرسل له الرقوق ، من بلد أخرى — 2تى4: 13)).8 —- لكل هذه الأسباب ، كانت الكتب – بوجه عام – غالية ونادرة ، وبالتالى كانت مطمعاً دائماً للسرقة ، فسرقتها سهلة وبيعها أسهل ، لكثرة الطلب عليها  .+++ ولذلك كانت المكتبات العامة ، التى للكتب العادية – مثلما ذكر المرجع السابق – تربط الكتب الثمينة بالسلاسل ، لتمنع أو تعطِّل سرقتها . وأعتقد أن الربط كان يتم من كعب الكتاب ، فقد كان للكتب الضخمة كعب قوى جداً – ليتحمل كل هذا الوزن – فيمكن تثبيت حلقة حديدية بالكعب ، ومن خلالها يتم ربط الكتاب ، بحسب تصورى الشخصى . ( والشئ بالشيئ يُذكر ، فمن النوادر أن بعض البسطاء – فى عهد قريب – كانوا يربطون محفظة النقود بسلسلة ، لمنع سرقتها  ) .

2– تكملة التعليم ثم الرهبنة :-أولاً : التعليم الجامعى فى كلية الحقوق : –

حصل على بكالوريوس فى العلوم والتاريخ وقواعد اللغة والفلسفة والفنون والموسيقى ، وأصبح “معلم فنون ” ( تاريخ 44 ) . وقد أتقن آداب اللغة والبلاغة والخطابة ونظم الشعر . كما أتقن الموسيقى والعزف على ألات الطرب ، وأحب الموسيقى  جداً ، وأتقن عزف بعض الألات الموسيقية ، ونظَّم أشعاراً ، ولحنها .( تاريخ ص 39 – 41 + مارتن ص 26 )

وكان لإجادته فنون اللغة والخطابة والبلاغة والشعر والموسيقى ، تأثير بالغ على الناس ، فيما بعد  ،  إذ بقدرته على التناسق مابين حركاته وكلماته ( أى القدرة المسرحية ) كان يسحر السامعين ، ويذهب بهم حيثما شاء . ( تاريخ ص 54 ) (( تعليق شخصى :  وقد إستمرت طريقته المسرحية ، للتأثير النفسى ، حتى الآن ، إذ يسمون مكان الوعظ : ” مسرحاً ” ، ويسمون العمل نفسه : ” إستعراضاً  SHOW  ”  ، الذى فيه يكون الإعتماد على تغيير وتقليب درجات الصوت ونغماته ، مع إستخدام حركات الجسم ، لسبى عقل المشاهد ومنعه عن التفكير الحر . وهذا الإعتماد على التأثير النفسى لكسب إعجاب الناس وإبهارهم – بدلاً من مخاطبة عقولهم وضمائرهم – هو السمة المشتركة لكل الهراطقة والأنبياء الكذبة فى كل العصور ، لأنه هو أداة الشيطان الرئيسية ، مثلما نرى فى الأمثلة الكثيرة فى العهدين القديم والجديد ، وكذلك فى النبى الكذّاب ، وعن أولئك يقول الإنجيل أنهم [ نفسانيون لا روح لهم ] يه19 ، وعن حكمتهم يقول :- [ هذه الحكمة .. نفسانية شيطانية ] يع3: 15 . )) ويبدو أن الشهادة التى حصل عليها ، كانت شهادة وسيطة للتأهيل للكليات العليا ، مما فتح أمامه فرصة الإلتحاق بكلية الحقوق . والذى صمم على أن يلتحق بكلية الحقوق ، هو والد مارتن ، لرغبته فى تحقيق طموحاته الشخصية بالشهرة من خلال إبنه ولكن مارتن كان رافضاً لتكملة الدراسة فى هذه الكلية (حياة 23 ) ، فقام والده بالضغط عليه بشدة ، حتى رضخ له  فسافر للدراسة بكلية الحقوق ، وأثناء هذه السفرية حدثت له حادثة الصاعقة الهائلة ، فى ليلة الغابة المرعبة  ولكنه لم يستمر فى هذه الكلية سوى إسبوعين فقط ، ثم تركها ، ولم يعد للمنزل مرة أخرى ، بل ذهب لبعض أصدقائه ، وسهر معهم سهرة صاخبة ، فى الأكل والشرب والعزف والغناء . وفى نهاية السهرة قال لهم أنه قرر أن يذهب للدير ويترهبن .فلم يصدقه أصدقاؤه وظنوه يمزح ( ربما لعدم ظهور أى ميول دينية عنده ، مثلما قالت مراجعهم : تاريخ 38 ) ، ولكنه أكَّد ذلك ، فعارضوه وحاولوا نصحه ، فرفض ، وذهب للدير ، وترهبن . كما حاول أباه – عندما سمع بذهابه للدير – أن يرجعه عن هذا الطريق الغير ملائم له ، فأرسل إليه خطاباً يحذره فيه من أنه ينقاد لخداع الشيطان ويظنه علامة سماوية ، وأنه عندما يزول تأثير الوسواس الذى يسيطر عليه فإنه سيسقط من قوانين الدير ، ويسقط فى اليأس أو فى إثم فظيع . ولكن مارتن رفض هذا التحذير أيضاً . (( والغريب أنه سقط فعلاً فيما حذره أبوه منه ، إذ سقط من الرهبنة ، بل وأسقطها معه ، مما يعنى أن أباه كان يفهم شخصيته جيداً جداً ، ويعتقد بوقوعه تحت سيطرة روح شرير . وذلك الفهم من والده ، قد يفسر هجوم مارتن المرير عليه ، كنوع من الهجوم من أجل الدفاع ، كمن يتستر على سرٍّ يخاف من إفشائه ))

ثانياً : دوافعه للرهبنة : –

تعترف مراجعهم بأنه لم تكن له أى ميول دينية :- (( كان موقفه من الدين غريباً مزدوجاً ( أى ذى مشاعر متناقضة ، مثلما فى علاقة : الحب/ الكراهية ، التى كانت عنده نحو والده ) ، فبالرغم من أنه كان مشدوداً للدين بقوة غريبة .. إلاَّ أنه كان يخاف ويرتعب – كما من الموت – ويصفر وجهه ذعراً ، كلما ذُكر إسم الله أو يسوع ، إذ كان يتذكر غضب الله ودينونته ، فيستولى عليه خوف رهيب إلى درجة الموت ، فلذلك لم يكن يجرؤ على الإقتراب من هذا الإله المخيف )) ( مارتن27 + حياة 9 ) كما قالوا عنه أيضاً : (( لم يظهر أن أفكاره تتجه إلى الله ، ولم يظهر عليه شيئ من علامات الدين ، سوى الخوف ، لأنه كان يرى المسيح قاضياً مغتاظاً )) (تاريخ 38) كما قال هو عن نفسه :- (( كنت فى طفولتى أقشعر وأرتعب  وأشعر برعشة غريبة تسرى فى جسدى ، ويصفر وجهى خوفاً ، فى كل مرة يُذكر فيها يسوع المسيح )) (حياة لوثر 9) ، وأيضاً : (( لم أستطع أن أحب ذلك الإله البار المنتقم ، بل : كرهته ))  (مارتن 54 ) . وهم يبررون حالته الغريبة هذه ، بأنها ناتجة عن أن الكنيسة الكاثوليكية كانت تصوِّر المسيح بهذه الصورة البشعة المخيفة المرعبة .((( تعليق شخصى : لو كان ذلك التبرير صحيحاً ، لكان الكثيرون من أهل زمانه يشتكون بذات الشكوى البشعة من المسيح ، بنفس مشاعر الغضب والثورة نحو الله ، والفزع حتى الموت عندما يسمعون إسمه !!! ، ولكن الواقع كان عكس ذلك تماماً ، بشهادة مراجعهم نفسها ، فكل الذين تعاملوا مع مارتن لوثر عابوا عليه طريقة تفكيره هذه : + مثل ذلك الراهب الشيخ الذى إعترض على تصوير مارتن لوثر للمسيح بالديان القاسى الغاضب ، وقال له : إننا نقول فى قانون الإيمان :نؤمن بغفران الخطايا ، فإننا نؤمن بأن الله هو الغافر للخطايا أيضاً ، وليس مجرد الديان فقط ( تاريخ50). ++ كما قال له رئيس الرهبان : أنت هو الغاضب والثائر ضد الله ، وليس أن الله غاضب وثائر عليك (تاريخ48و49) ، كما قال له : يسوع لا يُخيف ، بل يُعزى ،( تاريخ52) . إنتهى التعقيب الشخصى ))). وتنفى مراجعهم هذه – بدون تقديم برهان – إحتمالية أن يكون مارتن لوثر مصاباً بمرض نفسى ، أو أن يكون قد دخل الدير تحت تأثير ضغط نفسى قهرى غير طبيعى ، بل يؤكدون أنه دخل الرهبنة بكامل وعيه ، عن حب لها وإقتناع بها .(( ولكنهم لم يقدموا أمثلة عن مظاهر هذا الحب والإقتناع بالحياة الرهبانية ، من تصرفات مارتن العملية – وليس من الخيالات أو الأشواق الخيالية – تظهر شوقه وإنجذابه للعيش فى هذه الحياة ، ذات الفقر الإختيارى والصوم الطويل والصلاة المستمرة وقمع الجسد والبتولية .. إلخ . فلم يذكروا مثلاً أنه كان يحب التردد على الأديرة لقضاء فترات خلوة طويلة بها ، مثلما نرى فى المشتاقين حقاً لهذه الحياة ، مما يجعل الشخص يعيشها مسبقاً ، ويختارها عن إقتناع . بل بالعكس ، نجد مارتن لوثر – من مراجعهم – شخصاً بلا علاقة حميمة مع الله ، بلا صلاة وصوم ، بل نجده متضجراً من الفقر والجوع الذى صادفه فى صباه ، وأنه كان يشتاق لحياة السعة ، بدليل أنه ودَّع حياته قبل الرهبنة بحفلة صاخبة ، بالأكل والشرب والعزف والغناء ، مع أصدقائه ، حتى أنهم لم يصدقوه عندما قال بأنه سيذهب غداً ويترهبن ، بل ظنوه يمزح.( مارتن33 تاريخ43) ، لمعرفتهم بعدم وجود ميول دينية لديه ، وأن هذه ليست طريقته فى الحياة . ولذلك فإنه لم يحتمل هذه الحياة عندما مارسها عملياً . ++ ومن دلائل محبته للسعة وليس للتقشف والزهد ، أنه بعدما ألغى الرهبنة ، تزوّج فى الدير – بعد إخلائه من الرهبان – وحوَّله إلى  بيت خصوصى له ، مع زوجته الراهبة السابقة أيضاً ، وأنه كان يعيش فيه حياة اليُسر والسعة البالغة والولائم الواسعة ، إذ كان يقيم وليمة يومية لحوالى خمسة وعشرين من مؤيديه وأصحاب العزوة ( مارتن 141 + تاريخ476 + حياة108 ) ، فلعله يعوِّض نفسه عمَّا قاساه من الفقر فى حياته السابقة . كما أننا لم نجد – فى مراجعهم – أى إشارة لحياة روحية ملحوظة ، قبل رهبنته ، فلا شركة كنسية مستقرة ولا إعتراف وتناول ، بل بالعكس نجدهم يؤكدون على إبتعاده عن الله والدين ، مثلما ذكرنا سابقاً ++ كما أننا لم نجد أى إشارة لخضوعه لحياة الإرشاد الروحى ، لا قبل ولا أثناء إتخاذه لقرار الرهبنة ، بل كان يرفض المشورة حتى من أصدقائه المقربين ، مثلما حدث فى ليلة وداعه لهم ، عندما عارضوه عن فكرة الرهبنة فى ليلة ذهابه المفاجئ إلى الدير    ))

ثالثاً : تبرير مارتن لوثر – نفسه – لذهابه المفاجئ للرهبنة ، كان كالتالى :-

++ السبب الأول :- للإبتعاد عن والديه ، إذ قال :- ( كانت قسوتهما عاملاً دفعنى للإلتجاء للدير لأصبح راهباً ))  ( مارتن14) . وقد ظهر ذلك أيضاً ، عندما وبَّخه والده والده – بعدما ترهبن وفى حفلة سيامته كاهناً بالدير – أذ قالت مراجعهم أن هذه التوبيخات :- (( ذكَّرته بما حمله على المجئ للدير )) مما جعله يندم على دعوته لوالده لهذه الحفلة ( تاريخ51) أى أنه ذهب للدير هرباً من تعنيف أبيه الشديد له ولرغبته فى عدم رؤيته . ولعل لذلك هو السبب ، فى أن مراجعهم لم تذكر أن مارتن لوثر سعى لرؤية والديه طوال السنين الباقية كلها ، بل ولم يذكروا أنه دعاهم لحفلة زواجه ، التى أقامها بعد زواجه الفعلى بإسبوعين كاملين ، فكانت الفرصة ممكنة لدعوتهما (مارتن141 +تاريخ476و477) ، بل ولم يذكروا أنه إفتقدهما فى شيخوختهما . بل إنهم ذكروا أنه لم يحضر ولا حتى جنازة أبيه ، بحجة مشغوليته !! كما لم يذكروا شيئاً عن حضوره جنازة أمه ! السبب الثانى – الذى ذكره مارتن لوثر بنفسه – هو خوفه من الموت ، وهو الخوف الذى أصابه فى ليلة الصاعقة فى الغابة ، إذ قال :- (( البرق هو الذى قرر مستقبلى ))

( مارتن36) وبالإجمال ، فإنه نفى أن يكون قد إتجه للرهبنة حباً فيها أو إقتناعاً بها ، بل قال بصراحة أن ذلك حدث له بدافع قهرى لا يمكن مقاومته ،  إذ قال :-  (( إن دعوة مخيفة ، من السماء (!!!) قد وجهت إلىَّ ، فلم أصر راهباً رغبة منى ، ولا محبة فى الرهبنة ، بل دُفعت بطريقة لا تُقاوم للنطق بذلك النذر )) (مارتن35و36) . ولعل عدم إقتناعه بالرهبنة ، وإختلافها الكامل عن إسلوب حياته ، كان هو السبب فى أن أصدقاءه لم يصدقوه عندما أعلن لهم عن قراره بالرهبنة ، بل ظنوه يمزح ( مارتن33) ، فليس هذا هو إتجاهه أبداً .

رابعاً : أسباب أخرى تسوقها هذه المراجع :

تقول هذه المراجع أن نذر الرهبنة ليس إلزامياً بالدرجة التى يصورها مارتن لوثر ، إذ كان بمقدوره – بحسب نظام الكنيسة الكاثوليكية التى كان يتبعها – أن يصرف النظر تماماً عنه ، طالما أنه لم يعلنه جهاراً أمام الكنيسة ، بل وحتى بعد الإعلان عنه ، كان يمكنه التراجع عنه فى فترة الإختبار . وإذ لا يجدون مبرراً منطقياً لما فعله مارتن لوثر – عندما إتجه للرهبنة التى يكرهها – فإنه يحاولون تبريره بأنه فعل ذلك بدافع السعى لخلاص نفسه ( مارتن36) .

((( تعليق : هذا التعليل يخرج عن الأسباب التى ذكرها مارتن لوثر نفسه ، والتى إعتبرها دافع قهرى لم يمكنه مقاومته جعله ينطق بهذا النذر . ولكن ذلك لا يمنع من أن الأسباب التى ذكرها مارتن لوثر غير كافية وغير مقنعة ، لأنه كان يمكنه فعلاً التراجع عن نذره .

فإن الأمر لم يكن مجرد صاعقة مرعبة وخوف هستيرى من الموت ، بدليل أنه لم ينطلق فوراً للدير ، بل ذهب للجامعة وقضى فيها إسبوعان كاملان ، وسط جو عقلانى جامعى ، فكان قد تخلص تماماً من نوبة الخوف الهستيرى وأصبح قادراً على التفكير المتزن ومراجعة الأمر بهدوء . ومما يؤكد أيضاً أنه كان قد تخلص من نوبة الخوف الهستيرى ، أنه قضى سهرة وداعية صاخبة مع أصدقائه ، ليلة ذهابه للدير (تاريخ43 +مارتن33) . بل إن تلك الحفلة الصاخبة تدل على أن هذه الصاعقة لم تؤثر كثيراً على إسلوب تفكيره وإسلوب حياته . وبالإضافة لذلك ، فإن مارتن لوثر لم يكن شخصاً ساذجاً ولا جاهلاً ، بل كان يملك إختبارات كثيرة فى الحياة ، كما كان يملك العلم الذى يتيح له الوسائل الكافية لأن يبحث ويدقق ويقارن إتجاهاته الشخصية فى الحياة مع إتجاه الحياةالرهبنية ، التى تقوم على الصوم الكثير والصلاة الدائمة وإنكار الذات والهدوء والسكون ، وقمع الشهوات ، والبتولية . كان يمكنه أن يفعل ذلك ، لكى يختار ما يناسبه هو كإسلوب حياة لعمره كله ، وليس كمجرد خضوع لهيجان مؤقت ، أو هوجة من الفوران الهائل الغير طبيعى ، يعقبه إنطفاء سريع ، مثلما حدث معه فعلاً بعد رهبنته الغريبة هذه . وهو الأمر الذى توقعه والده وحذره منه ( تاريخ43و44) . حتى أنه إنقلب إلى النقيض تماماً ، فى كل ما يخص الحياة الرهبانية ، وليس البتولية فقط ، فقد صب جام غضبه ، فى هجوم قاسٍ ، ليس على البتولية وحدها فقط ، بل على كل ما فى الرهبنة ، لاصقاً بها كل عيب ونقيصة وبالإضافة لما سبق ، فإن مارتن لوثر كان قادراً – بالدرس والإستفسار – على معرفة أن الخلاص ليس محصوراً فى إتجاه معين فى الحياة ، بل إنه يوجد آباء وأمهات قديسون ، مثلما يوجد رهبان قديسون ، فالخلاص متاح للجميع بنفس الدرجة ، متاح لبطرس المتزوج مثلما هو متاح لبولس البتول . كما أنه كان قادراً على معرفة الطريق الأنسب له هو ، بحسب طبيعته الخاصة ، مثلما يقول الإنجيل : [ كل واحد له موهبته الخاصة من الله ، الواحد هكذا والآخر هكذا  … لأن التزوج أصلح من التحرق ] 1كو7: 7-9 ، وهو ما يعتبر شرحاً لما قاله الرب : [ ليس الجميع يقبلون هذا الكلام (عن البتولية) بل الذين أعطى لهم … من إستطاع أن يقبل فليقبل ] مت19: 11و12 . علماً بأنهم يقولون أن مارتن لوثر قرأ الإنجيل كله قبل الرهبنة (تاريخ41) . إذن ، فلم يكن مرغماً على الرهبنة بحجة الخلاص ، مثلما أنه لم يكن مرغما بحجة القوة القهرية فى لحظة الصاعقة المرعبة . لذلك ، فإن تبريرهم لدخوله الدير بأنه كان بهدف البحث عن خلاص نفسه ، هو تبرير ساقط ، إذ تسقطه إعترافات مارتن لوثر نفسه عن نفسه ، وهى الإعترافات التى أوردوها هم أنفسهم ، فهى إعترافات صحيحة وسليمة وغير مطعون فيها ، والإعتراف سيد الأدلة . وإن الدراسة الدقيقة لما جاء بمراجعهم ، توضح بجلاء أن السبب الحقيقى لذهابه للدير ، مرتبط فقط بعلاقته السيئة مع والده . وأنا أعتقد أن الدافع الحقيقى كان هو حقده الدفين على والده ، ورغبته فى الإنتقام منه ، بحرمانه من جنى ثمار تعبه هو . فإنه برهبته قد تغير إسمه وتغير لقبه ومات عن العالم ، فبذلك حرمه من يحمل لقب ” أبو الدكتور ” ، و” أبو المحامى ” ، الذى عاش طوال عمره يطمح إليه ويشتهيه ( إنظر: مارتن25 + تاريخ44) ، إذ إنه كان يجاهد طوال عمره للحصول على ذلك المجد وتلك الشهرة ، مجاناً ، من خلال تعب إبنه ، فقد كان يدفعه بكل قوته فى إتجاه التعليم ، بدون أن يتحمل مسولياته تجاهه . فأعتقد أن مارتن لوثر كان يشعر بأن أباه يستغله كمطية لتحقيق أحلامه مجاناً ، وأنه ظل صامتاً ، يملأ الغل قلبه ، إلى أن فجرته الصاعقة . كما أعتقد ، أن الشيطان الذى كان يسيطر عليه منذ طفولته ، قد إستغل نفسيته الحاقدة ، فأثار فيه الرعب لحظة الصاعقة ، ودفعه قهرياً للنطق بالنذر ، وللذهاب للدير ، لينتقم هو من والده ، وليدمر الشيطان من خلاله الرهبنة كلها ، فكأنه دفع عدواً للرهبنة لكى يدخلها ويدمرها من داخلها . وأيضاً ليوظفه فى عمل المزيد من الإنقسامات فى الكنيسة ، لكى يقضى عليها . والشيئ المثير للإنتباه ، أن نشر الحقد كان وسيلته فى تحقيق النجاح ، فقد كانت رسائله للشعب الألمانى ، تنفث فيه الحقد وتدعوه للثورة ، وقد نجحت دعوته ، فكانت الثورة التى يسمونها بثورة الفلاحين ، وهى ثورة شعبية خلقها مارتن لوثر ، وحصدت مئات الألاف من القتلى . وإلى الآن ، يستغلون قوة الحقد ، وبخاصة فى الذين يجدون لديهم ميولاً للحقد ، فيبثونه فى قلوبهم ، خصوصاً ضد الكنيسة الأرثوذكسية ، وينجحون جداً ! ، فإنه قوة شيطانية خطيرة جداً . )))