قدوم ساويرس الأنطاكي إلى مصر – القمص أثناسيوس فهمي جورج

كارت التعريف بالمقال

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب القمص أثناسيوس فهمي جورج
الشخصيات القديس ساويرس الأنطاكي
التصنيفات أدب مسيحي, سير قديسين وشخصيات
آخر تحديث 12 مايو 2020

قُدُومُ سَاوِيرُسَ الأنْطَاكِيِّ إِلىَ مِصْرَ

الروح طالب ساويرس كما طالب قديمًا بولس وبرنابا للتبشير بالإنجيل نورًا للمسكونة وملحًا لا يفسد، فانتُخب ساويرس بطريركًا للكرسي الأنطاكي الرسولي في مجمع صور سنه ٥١٢ م حيث اقتبل رتبة البطريركية السامية، ليكون خليفة للقديس بطرس الرسول، عندما حدث عجبًا في رسامته، إذ كانت رائحة الطيب تفوح في كل مكان بحضور السمائيين لصلاة التكريس والرسامة، واستعاد هذا الكرسي التليد مكانته، بدحض آراء نسطور وأوطيخا والمجمع الخلقيدوني وطومس لاون الروماني.

كتب الأنبا ساويرس فور رسامته عهدًا لرؤساء الأديرة أكد فيه الأمانة الأرثوذكسية المستقيمة وقانون إيمان المجامع المسكونية (نيقية والقسطنطنية وأفسس)، مع حرمه للقائلين بالطبيعتين بعد الاتحاد... كذلك كتب الأشعار (المعانيث) والتراتيل المتضمنة للحقائق الإيمانية والمزامير والتفاسير.

اشتهر الأنبا ساويرس بموهبة إخراج الشياطين والأرواح الشريرة، كذلك تميز بإفتقاده للبلاد في زيارات رسولية تقليدية قانونية ضرورية، يبشر ويعظ ويصلي ويطهر من برص الهرطقات عقد مجمعي أنطاكية وصور سنة ٥١٣ - ٥١٤م بمؤازرة مار فيلكسنيوس المنبجي، كذلك عزز الأخوّة والشركة ما بين الكرسيين الأنطاكي والسكندرﻱ، وحرم الأساقفة المنغمسين في حمأة البدعة النسطورية، معتبرًا أنهم ذئاب ومشحونون بالمخالفة للأسفار المقدسة والقوانين الكنسية. اشتهر بعظاته على مدي سنوات بطريركيته، وبمديح الآباء أغناطيوس وأثناسيوس وباسيليوس واغريغوريوس وأنطونيوس الكبير في تذكارات أعيادهم، وقد اقتدى بهم وأخذ عنهم المعرفة والغيرة الرسولية والعيشة النسكية، وتمنى أن يموت شهيدًا كالذين سبقوه، وكان شغوفًا بالقديسين والشهداء حريصًا على تذكاراتهم، فمهما كانت انشغالاته إلا أنه كان يواظب على إلقاء الخطب في المناسبات الطقسية والتعييد للآباء القديسين، معتبرًا أن التأمل في حياتهم يُنزل علينا إشعاعات نورانية تجعل سيرتهم كعسل حلو في أفواهنا، وكأقراص العسل في نفوسنا.

تُسُمي أنبا ساويرس بفم الذهب، وسماه يعقوب السروجي بالطوباوﻱ وقويم الإيمان المتسلح بالحق، ووصفه بأنه غير مغرق بحب الرئاسة، وغير متشبث بشهوة السلطة.. لأنه وجد أن الحياة المسيحية تسلق لجبل الفلسفة الإلهية، وبلوغها يشبه قمة الجبل؛ لأن ناموسنا لا نقبله في ألواح حجرية بل ناموس الروح وألواح القلوب، لنلهج به كل حين ونطبقه بالعمل، وقد صرنا شريعة لمن يروننا، في شريعة السيرة التي تقود للحياة العتيدة، والتي نبدأها ونعيشها منذ الآن، متشبهين بالأجناد العقلية في التسبيح والسجود والهذيذ بالأسفار القدسية التي منها نجني ثمار الفردوس ونجمع الأزهار... ففيما نحن هنا على الأرض بالجسد، نسكن عقليًا في السماء؛ أغنياء بالفضيلة، نضبط الغضب والشر والشهوة؛ ونرفض حياكة المؤمرات والوشايات والفتن وعبادة الفضة، ونتحلى بالكلام الموزون لنعيش حياتنا الحاضرة والعتيدة في آن واحد.

كذلك رعى رعيته الناطقة بالمعرفة العقلية والروحية والرعوية بكل ما فيها من معانٍ... وقادها إلى المرعى الصالح، يوردها إلى مياة الراحة الصافية، وهو لم يكرز لهم بيسوع آخر ولم ينادِ ببشارة أخري، ولم يضع أساسًا غير الموضوع، لكنه بنى كمهندس وبنّاء حكيم... وشرح الاعتقاد بتجسد الكلمة من العذراء القديسة مريم ومن الروح القدس، متخذًا ناسوتًا مساويًا لنا في الجوهر، بنفس عاقلة وبدون امتزاج ولا اختلاط ولا تغيير، فهو واحد من طبيعتين؛ مسيح واحد ورب واحد وطبيعة متجسدة. وقد كتب اعتراف الإيمان على أبواب الأديرة مع حرم للمجمع الخلقيدوني.

كان أنبا ساويرس ينصت أولاً للهمسات الإلهية كي يقتني خبرة الروح لا ليُرضي الناس بخدمة العين، بل لينبّه وينذر ويكرز، معتبرًا أن واجبات الإكليروس ورسالتهم، بأن يوكَل إليهم أن يكونوا رعاة من أجل العمل والسهر والتفتيش كل حين، كقدوة وكمثل وكرامة وسيرة معاشة أمثلة للرعية باستقامه الحياة... لأن الكاهن كرقيب للرعية هو أول من يراقب حياته ويلاحظها كعلامة للحياة المستقيمة، كذلك السهام تصوَّب للرعاة من بعض الرُماة الذين يصوبون سهامهم ويعتبرونهم مرمىً، فينصبون قوسهم ويثبتونه نحوهم كهدف وعلامة يرسلون عليها السهام. فالشعب ناظر نحو الكاهن كما نحو هدف أو علامة (سلوكه، أعماله، سيرته)، لذلك الكلمات التي ترسم وجه الكاهن هي كونه رقيبًا ينظر ويشرف ويتطلع ويرصد قدوم العدو، ثم يفتقد ويفتش ويبحث وينقب ويلاحظ ويمتحن ويفحص ويُبحر كالغاطس إلى الأعماق.. (كُلُّهُ عينٌ) يبقى واقفًا لا يجلس ولا ينام كراعٍ ماهر صالح، لا يميل يُمنة ولا يُسرة، يسير في مقدمة القطيع كراية وعلامة وحامل للعلم، يراه القطيع من بعد ليوجه مسيرة الرعية (كعلامة مميزة)، وصوت صارخ ينفخ بالبوق ولا يسكت... وهو في كل دورة (سنة ليتورچية) يأتي إلى نفس الموضوعات حسب القطمارس، غير حاسب أنه تكرار؛ وأن التعليم مزمع أن يكون الشيء عينه، لكنه اعتبر ذلك بإرشاد وهدير ودنين لا يتوقف عن قول الشيء عينه مرات ومرات من أجل التكميل. وعندما أتى الأنبا ساويرس إلى مصر سنه ٥١٨م، عاش بها عشرين عامًا؛ بعيدًا عن كرسيه بالجسد؛ لكنه لم يكن بعيدأ عنه روحيًا، وكان يضع على رأسه غطاء الفلسفة (القلنسوة)، وقد نظم أحد فلاسفة السريان أنشودة تقول (يا مصر يا مصر قُومِ رحِّبِ بساويرس الآتي إليكِ وافتحي له أبوابكِ وزيِّنِ شوارعكِ ليدخل إليكِ ويطرد منكِ كل تعليم نسطورﻱ وقح)، لكنه بشدة اتضاعه كان يجول متنكرًا من مكان إلى مكان ومن دير إلى دير، وقد أجرى الله على يديه آياتٍ وعجائبَ كثيرةً؛ ولأنه أحب حياة الوحدة كما عاشها بالدير الذﻱ شيده في غزة، كذلك عندما أتى إلى مصر سكن في دير الزجاج (غرب الأسكندرية)، وكتب مصنفاته في شكل مدارش منظومة تنشد، أو في شكل ميامر منظومة تقرأ ولا تنشد - كتابات جدلية ودفاعية وطقسية وتفسيرية وخطب منابر - وعظات ورسائل يعسر إحصاؤها، وقصائد وأشعارًا وسِيَرًا في التزهيد والوصف والأبحاث والشرح والمديح، كذلك كتب نوافير عديدة (أنافورا) اتسمت بنصاعة الألفاظ ودقة المعاني وحلاوة البلاغة والخشوع، وقد جمع بين الفكر اللاهوتي الأنطاكي والسكندرﻱ في كل كتاباته وفي دفاعه الكريستولوچي اللاخلقيدوني.. إن سيرته الطاهرة وسيفه القاطع للهرطقات كان كالأسد، عجيبًا في قوة محبته وحفظه للأمانة الأرثوذكسية، باسطًا يديه كموسي فأهلك أصحاب البدع، وصعد على الجبل كارزًا بالإنجيل صبورًا محتملاً كخلية العسل والرحيق والعصارة الروحية، فليكن ذكراه مؤبدًا.

13 أكتوبر 2013.