فك قيد البطريرك – القمص أثناسيوس فهمي جورج

فَكُّ قَيْدِ البَطرِيَرك

يقول العلامة القس بن كبر عن طقس رسامة البطريرك: (فبعد أن يدخلوا بالراهب المختار أمام الهيكل؛ يفكون قيده)؛ ويؤكد التاريخ على أن الآباء إعتادوا الهروب من الكرسي؛ لذا يختبئون هاربين... حينما يقع عليهم الاختيار، مما يجعل الأساقفة والأراخنة يضطرون إلى تقييد المختار بالسلاسل، ويأتون به كمقبوض عليه؛ يضعونه تحت الحفظ حتى النطق بالرسامة ووضع الأيادي عليه... فهؤلاء الآباء استبدلوا حياة بحياة، وعاشوا منفتحين على ما هو إلهي وثمين وخالد، لذا صغُر العالم عندهم؛ وتفطنوا إلى جسامة الدعوة؛ فجازوا بحر الآلامات وحفظوا بدماهم الحق قويمًا... عابرين وسط الأتعاب والظروف الصعبة والغير مواتية، حتى أنجزوا أكثر من الكثير؛ مستوعبين دروس القدرة الإلهية عبر التاريخ؛ بأشواكها وأرضها المجدبة ومنحنياتها الوعرة، ملازمين كل إصلاح للشباك؛ من أجل بلوغ عمق الأعماق والصيد الكثير.

لأجل ذلك يتعيّن علينا في هذه الآونة أن ندخل مخادعنا لنصلي بلجاجة كي يرزقنا الله هذا الزاهد المختار من عنده... فيؤتَى به من عند الله ليكون مختاره الذي يخدم احتياجات شعبه الرعوية في زمن صعب. وليحفظ وحدة الكنيسة وأمجاد تقليدنا العريق والعميق وذات الدلالات الروحانية والكثافة اللاهوتية التي لا يُعبّر عنها. فهذا المختار لكرسي البطريركية سيكون خليفة للكاروز مرقس البطريرك الأول مبدد الأوثان؛ الشهيد والشاهد لآلام الرب يسوع؛ وسيكون خليفة للعظماء من أسلافه: بطرس خاتم الشهداء؛ وأثناسيوس حامي الإيمان؛ وديسقوروس بطل الأرثوذكسية؛ وكيرلس عامود الدين... لذا عيوننا نحو سيدنا العارف قلب كل أحد لكي يقود ويرشد ويختار ويعيّن من يحفظ الملامح التقوية الفائقة الروعة التي لكنيستنا أم الشهداء، حتى نرى حكمة الألفا فيتا التي في فردوس الآباء وفي البستان وفي تاريخنا العريض؛ مُعاشة ومختبرة في ديمومة مستمرة؛ لا في مدونات التراث فقط؛ ولا كحكايا مضى عليها الزمن؛ لكن كحاضر يشهد لعمل روح الله في كنيسته، لأنه هو صاحب السلطة الوحيدة؛ وله كل الطاعة والخضوع والالتزام من دون تمرد أو تحايل أو انتقاص. تمييزنا لمشيئة الله؛ هي الضمانة الوحيدة للحق وللأمانة الكاملة المقولة والمكتوبة، بعيدًا عن الفردية والعاطفية وحُكم الأشخاص؛ ليأتي اختيارنا حرًا مستريحًا متوافقًا مع الضمير الكنسي العام، لأن سلطة الكنيسة لا تكبت الحرية ولا تلغيها؛ بل تلجأ إليها لحضور وإعلان الله على الدوام، وذلك بمشاركتنا المسئولة التي تجعل الكنيسة حقًا ليست سلطة أو جُزُرًا وقطاعات معزولة؛ لكن بناءًا حيًا كاملاً مستمر الارتفاع للكنيسة التي هي سماء أرضية، فنحظى كلنا بالحفظ والزيادة والوفرة والإثمار؛ حيث المواهب والطاقات المرموقة التي تكوِّن الكنيسة في مجملها. هذا التمييز هو مسئوليتنا جميعًا نحو سلامة وهدوء البيعة، بفرح ونشاط؛ لا بأنين وتحزُّب، حريصين كل الحرص في التمييز بين الجيد والرديء؛ وبين الصحيح والخطأ؛ وبين ما هو حق وباطل عن طريق الفحص وامتحان الأرواح. لقد ربط النظام الكنسي القبطي بين اختيار البطريرك وقانون التجرد الرهباني؛ من أجل تأكيد معنى النسك الذي ينبغي أن يلتزم به بابا الأسكندرية؛ كرئيس للكنيسة التي أسست الرهبنة في العالم كله؛ وحفظت هذا الملمح في قديسيها المشاهير ونقلته للعالم أجمع؛ عبر سيرة القديس أنطونيوس بقلم البابا أثناسيوس؛ وعبر كتابات يوحنا كاسيان وروفينوس وجيروم وبيلاديوس وغيرهم من الآباء النساك... لذا عُرف مقر سكن البطريرك في الأدبيات القبطية (بدار القلاية البطريركية)؛ ليستمر هذا الفكر ولينطبق مع الواقع، ويعكس طبيعة الرئاسة الكنسية المنسجمة مع الترك والتجرد كطبيعة تدبيرية... علاماتها حمل الصليب على الأكتاف والمناكب؛ وتاجها إكليل الشوك؛ وذخيرتها الرعاية الأمينة؛ ونذرها التعفف وصورة التقوى وحقيقة قوتها... وأي استثناء هنا لا يُقاس عليه؛ لأن البهاء (بهاء الإكليروس) هو للمعرفة وغسل الأرجل والحكمة وشهادة الحق وعمل النعمة الذي يهب كل روح رئاسي معضد؛ ويمنح كمال المشروعية واللياقة. تلك المشروعية مرتكزة على قوانين الرسل والمجامع المسكونية؛ وهذه اللياقة تعتمد على خلو المرشح للبطريركية من موانع الترشيح لهذه الدرجة السامية؛ حتى ينال نِعَم وبركات وثمار صلوات وطقوس وضع أيادي الآباء الأساقفة عليه، ويكون قد نال رضى ربنا القدوس عبر التسلسل الرسولي... بعيدًا عن الزج بروح العالم في عملية (اصطفاء) البطريرك الجديد... مع تسليم المشيئة الكاملة لله؛ حتى يعلن قصده وتدبيره؛ ويوحد القلوب ويرفع غضبه عن شعبه، وتكف عنا الويلات والتجارب؛ نحن أعضاء جسده؛ المقدسين بآلام رأسنا؛ والنامين به وفيه ومعه كل حين. فلننتبه لكي يأتي بطريركنا (ال ١١٨) بروح الصلاة والوحدانية؛ وفقًا للقوانين الحاكمة وعبر القنوات واللجان المجمعية الفاحصة والمدققة؛ التي عليها الاتصال الفعلي والواسع بالشعب؛ لتتحسس نبضه وضميره العام، حتى لا يكون المنتخب مُجرحًا أو مُهانًا، مُستخفًا به... بل بكل تكريم وإجلال قدسي وعقائدي لائق بكنيستنا وشعبنا الغيور؛ لأن التحمس والتشدد للأشخاص أمر مرفوض كنسيًا. فمصلحة الكنيسة فوق كل الاعتبارات والأشخاص... التشهير أو الانبهار دائمًا لا يستندا إلى قيم التقدير الصحيح والحقيقي... كأن يتجه البعض إلى التجريح والفضائح؛ أو يتجه آخرون إلى الانجذاب والمزايدة والحِيَل؛ هذه كلها تعطل عمل روح الله؛ الذي يعمل ويثمر في بيئة سلامية (ثمر البر يُزرع في السلام)؛ على اعتبار أن الأسقف هو النموذج الحي لأعضاء كنيسته (ينطق بفم الشعب / وبإلهام الله).