عظة القداس الإلهي – القمص أثناسيوس فهمي جورج

كارت التعريف بالمقال

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب القمص أثناسيوس فهمي جورج
التصنيفات الخدمة الكنسية - اللاهوت الرعوي, تعاليم وإرشادات للكهنة, خدمة الكهنوت
آخر تحديث 12 مايو 2020

عِظَةُ القُدَّاسِ الإِلَهِيِّ

كانت عظة الرب يسوع المسيح؛ التي وردت في إنجيل لوقا (٦؛ ٢٠) هي التي أعطت المفتاح لما كان آباؤنا في القرون الأولى يفعلونه في كنائسهم، أثناء الليتورچية الإلهية؛ تلك التي تطورت حتى ازدهرت في أيام العلّامة أوريجين وديديموس الضرير.

والعظة تأتي ضمن قداس الموعوظين (قداس الكلمة) لتكون توزيعًا له، وخطبة للعريس الحمل؛ الذﻱ نتحد به اتحادًا وثبوتًا متبادلاً في (قداس المؤمنين)؛ عند تناولنا من أسراره الإلهية وقت التوزيع؛ إذ لا يوجد فصل بين الكلمة المقروءة على المنجلية والكلمة المذبوحة على المذبح، ولهما وحدتهما الجوهرية التي لا تنفصل.

وعظة القداس لو أُلقيت على أصولها، تكون موضوعة للتأكيد على ارتباط قراءات قطماروس القداس بالافخارستيا، ولتبرز الوحدانية بين الليتورچيتين.. فهي توزيع للكلمة التي تؤهلنا لنكون أنقياء من أجل الكلام الذﻱ كلمنا به مسيحنا؛ حتى يتسنَى لنا الارتباط وشركة أسراره الذكية السمائية.. لذا العظة هي جزء حيوﻱ من القداس؛ يأتي في سياق ليتورچي للخدمة السرائرية، موضوعة بين قسمَي القداس لتربط كرازة الإنجيل بالافخارستيا؛ حيث مركزنا الواحد شخص ربنا يسوع المسيح محور اجتماعنا (كموعوظين ومؤمنين).

نستمع إلى تفسير فصول الكلمة في عظة تتبعها شركة افخارستيا، فنأخذها بجدية وإلتزام ووقار، واقفين بخوف أمام الله؛ سامعين كلمة الإنجيل المقدسة؛ التي وضعها الطقس الليتورچي لتجعل مسيح الإنجيل حاضرًا معنا في العلية، فتنفتح أعيننا ويمكث معنا، عندما نصنع ذكر آلامه المقدسة؛ ونقرِّب له قرابينه من الذﻱ له؛ على كل حال ومن أجل كل حال وفي كل حال، لا بإعتباره فعلاً ماضيًا؛ لكن كفعل حاضر ومضارع ومستمر، حتى مجيئه الثاني الآتي من السموات؛ المخوف المملوء مجدًا... وهنا يكون القداس كرازة بالإنجيل في كل ملئه، وتُستعلن الكلمة مسموعة ومقروءة ومرنمة ومأكولة ومشروبة معًا... حيث يكون الإنجيل (ليتورچية) والليتورچية (إنجيلاً) في بنية عبادة مُحْكَمة الارتباط والتكوين البنيوﻱ... كلمة منطوقة افخارستيًا، ترتبط ببعضها ارتباطًا لاهوتيًا وروحانيًا مع كل ما تحمله من خبرة تقوًى روحانية؛ فلا نعود نميز بين مَنْ (يفسر) مَنْ... الإنجيل يفسر الافخارستيا؛ وهي بدورها أيضًا تفسره.

إن عظة القداس فعل ليتورچي كامل؛ تأتي بعد القراءات؛ شاهدة لكلمة الله الحية؛ لا في حبر وورق؛ ولكن معطاة على المذبح خلاصًا وغفرانًا للخطايا؛ وحياة أبدية لكل من يتناول منه... نستمع إلى القراءات الموضوعة في القطماروس حسب ترتيب السنة الطقسية الليتورچية، ثم تأتي العظة لتعد المؤمنين وتذكِّرهم بأنهم قد صاروا هكذا؛ وأنهم لم يعودوا موعوظين فيما بعد؛ لكن عليهم أن يستعدوا مميزين مستحقين للاتحاد بالثالوث القدوس (واحد هو الآب القدوس؛ واحد هو الابن القدوس؛ واحد هو الروح القدس القدوس).

فكما نتقابل مع ربنا ومخلصنا في جسده ودمه عند (التوزيع)، نتقابل معه لنتأهل بالفهم والإدراك الروحي للالتقاء معه هو ذاته في كلمات الوعظ، التي هي (توزيع قداس الكلمة). فلا نكون مجرمين في جسد الرب ودمه؛ لأن من لا يبالي بكلمة الله لا يمكنه أن يميز جسد الرب عندما يتقدم إلى مائدته السرية... نتزود في العظة ببذار الإنجيل إلى أن نقترب من العلامة المحسوسة لكلمة الله (جسده ودمه الكريميْن)، نتعرف ونتحد به معرفة الثبوت، ونقول "ألم يكُنْ قلبُنا ملتهبًا فينا؟! إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب" (لو ٢٤: ٣٠)؛ وكلمته المشروحة التي توزع في العظة تعلن الافخارستيا في معناها وقوتها؛ لأن رسالة الإنجيل المعاش هي وحدها القادرة على السماح لنا بالاشتراك في صبغة ذبيحة كأس مسيحنا الأبدية.

لكي وبهذا تقدم العظة الخلاص المفرح لمن يأخذ كأس البركة ويتناول ويدعو بإسم الرب؛ ويوفي له نذوره ويرد له إحساناته. عظة مبنيّة على ما تتضمنه قراءات الإنجيل الخاص المختار لقداس اليوم، مشروحًا بالآباء ومعاشًا في القديسين؛ ومختبرًا في الليتورچيا؛ ومترجمًا عمليًا في الحياة والسلوك. وبذلك يكون مضمون عظة القداس متمحورًا حول القراءات، وهي بمثابة برقع أو مرآة لصعيدة الكلمة بنورها المحيي، مربوطة بخدمة الليتورچية وبرسالة الدخول في الاتحاد مع الله والبقاء في علم معرفته الإلهية؛ عندما تتحد بالأذهان لتدرك التعاليم الإنجيلية، فنسمع ونعمل بها بطلبات القديسين.. معتقدين وعاملين ما يرضيه. وقد قيل عن الكنيسة نفسها "أما كلمة الله فكانت تنمو وتزداد" (أع ١٢: ٢٤) وبالافخارستيا نتحد بذاك الذﻱ أتى وسكن بيننا في أقواله وكلامه.

على الواعظ أن يربط بين كلمة البشارة وسر الافخارستيا؛ لتكتمل كلمة الإنجيل في الأسرار وتصير معقولة؛ حتى وإن كانت - غير مرئية - من المرئيين؛ وكأن الواعظ يمثل الكاهن الأعظم؛ موزعًا الروح والحياة من على منبر الكنيسة، ومُبْقِيًا على بقاء الخيوط التي تربط كلمة الله بالسر المقدس؛ منسوجة بإحكام، تأكيدًا على أن الكنيسة وحدها هي الحارسة والحافظة للمعنى الحقيقي للكتاب المقدس؛ لأننا بعد العظة تنكشف لنا الأسرار الإلهية غير المائتة، وما تَمَّ الإنباء عنه بخصوص حضور الملك المسيح وسر تجسد الكلمة، الذﻱ نخدمه بالأنافورا وتقدمة الكلمة؛ ونشترك في لاهوت الكلمة وعمل محبته الإلهية. نسمعه ونعيش ونشترك ونقتني حياته وحضوره، وما كنا ننتظره ونتهيئا له قد أتى إلينا وجذبنا؛ لا كتعليم لكن كحدث وفعل شركة، وقد اكتملت الكلمة الممنوحة، وصارت منظورة كل يوم على المذبح.

وبحسب تقليد وقوانين الكنيسة الأصلية؛ يجب أن يكون الواعظ أحد الرتب الكهنوتية الثلاثة: الأسقفية أو القسيسية أو الشماسية؛ ومن المشهود لهم. فكان من أشهر الآباء الوعاظ في الكنيسة الأولى أثناسيوس الرسولي وكيرلس الأول عمود الدين وأوغسطينوس وكبريانوس القرطاجي؛ وأمبروسيوس؛ وذهبي الفم؛ وكيرلس الأورشليمي. هذا وقد رتبت الكنيسة أوشية خاصة من أجل عظة الموعوظين.