صرامة الآباء في مواجهة الهراطقة – الأستاذ بيشوي فخري

كارت التعريف بالمقال

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب الأستاذ بيشوي فخري
التصنيفات الآباء المدافعون, اللاهوت العقيدي, عقيدة
آخر تحديث 19 يونيو 2021


صرامة الآباء في مواجهة الهراطقة

أن الحياة المسيحية تقوم على شخص السيد المسيح من جهتين: الإيمان به كأله، وأتحادنا به، وكان الآباء يحيون بهذا الأتحاد فصاروا قديسين، وفي إستعداد لأن يموتوا من أجل هذا الإيمان فدافعوا وعلمّوا عن العقيدة التي تشرح هذا الإيمان.

ولابد أن تكون لأى أنسان قيمة ومبادئ يرتكن عليها، يصدقها ويثق فيها، ولايستطيع أحد أن ينكر عليه ثقته بما يؤمن به، حتى لو وصل الأمر للأضطهاد والأستشهاد!

فالشهداء الذين ماتوا في سبيل حفظهم على إيمانهم، لم يكونوا متعصبين ضد آخرين، بل مارسوا حقهم في التمسك بعقيدتهم حتى لو كلفهم الأمر حياتهم الأرضية.

والآباء تمسكوا بصرامة بحقهم في شرح العقيدة وتوبيخ كل من يحاول أن يعبث بالإيمان ويُحرف سلامته، وتحملوا في سبيل ذلك كل نقد وسخرية وظلم ورفض.

وكان من واقع مسؤلية أن يعاملوا الهراطقة بحزم وصرامة إذا أستمروا في تعاظمهم بعد محاولات النصح والحب، من أجل السيطرة على الأفكار الشريرة التي تتسلل إلى بسطاء الشعب.

فأن الشيطان هو المحرك لكل هرطقة في الكنيسة: "ولكن الروح يقول صريحًا أنه في الازمنة الأخيرة يرتد قوم عن الإيمان تابعين أرواحًا مضلة، وتعاليــم شيــاطيــن في رياء أقوال كاذبة موسومة ضمائرهم" (1تى4: 1 - 2)، فهل تقف الكنيسة ساكنة أما أفكار مدفوعة من الشيطان يلوث الإيمان السليم، أم تقف بصرامة أمام كل المحاولات التي لابد أن تأتي كما سبق وأخبرنا ربنا يسوع (مت18: 7).

ومواجهة الهرطقات أمر كتابي:

  • أن نتجنبه: "تَجنَّب مثلَ هؤلاءِ" (1تي6: 5)، "الرجل المُبتدِع بعد الإنذار مرَّةً ومرتين، أَعرِضْ عنه" (تي3: 10).
  • أن ننذره: "ونطلب إليكم أيها الإخوة: أَنذِروا الذين بلا ترتيبٍ" (1تس5: 14).
  • أن نوبخهم: "الذين يُخطئون وبِّخهُم أمام الجميع، لكي يكون عند الباقين خوف" (1تي5: 20).
  • أن نواجههم بصرامة: "فلهذا السبب وبِّخهُم بصرامةٍ لكي يكونوا أصحَّاء في الإيمان، لا يُصغون إلى خرافاتٍ يهوديةٍ، ووصايا أُناسٍ مُرتدِّين عن الحقِّ" (تي1: 13 - 14).
  • أن لا نقبله ولا نختلط به: "إن كان أحد يأتيكم، ولا يجيء بهذا التعليم، فلا تقبلوه في البيت، ولا تقولوا له سلام. لأن مَنْ يُسلِّم عليه يشترك في أعماله الشريرة" (2يو10 - 11).
  • أن نحرمه: "ولكن إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم، فليكن أناثيما (محرومًا)" (غل1: 6 - 8).

السيد المسيح نفسه واجه الكتبة والفريسيين وناقش أفكارهم ولم يتجاهل أخطائهم بل شرح وصحّح وأكمل التعليم، ولما عاندوا ولم يقبلوا التعليم، تعامل بكل صرامة وحكم عليهم السيد المسيح بالويلات (مت23).

والقديس يوحنا الأنجيلي، كتب في مواجهة الدوسيتيين، الغنوسيين، الأبيونيون، على الرغم من محبته الشديدة للخطاة، كان صارمًا مع الهراطقة.. لم تكن في كتاباته تعارُض بين التمسك بالعقيدة وروح المحبة، بل علّمنا أن المحبة الحقيقية هي التي تقود للتوبة والعودة إلى الإيمان المستقيم، كما أظهر حرصه على خلاص أنفسنا بعدم مخالطة المخالفين بالإيمان، فأوصانا: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِيكُمْ، وَلاَ يَجِيءُ بِهذَا التَّعْلِيمِ، فَلاَ تَقْبَلُوهُ فِي الْبَيْتِ، وَلاَ تَقُولُوا لَهُ سَلاَمٌ. لأَنَّ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ يَشْتَرِكُ فِي أَعْمَالِهِ الشِّرِّيرَةِ" (2يو10، 11).

ومن بين ما ذكر عن القديس يوحنا الحبيب أنه دخل ذات مرة حمامًا ليستحم وإذا به يعلم بوجود كيرنيثوس المبتدع فيه، فخرج مسرعًا إلى خارج لأنه لم يطق البقاء معه تحت سقف واحد، ونصح مرافقيه أن يقتدوا به قائلا لهم (لنهرب لئلا يسقط الحمام، لأن كيرنيثوس عدو الحق موجود داخله).

ونرى الآباء يتعاملون مع الهراطقة بصرامة شديدة، القديس أغناطيوس الأنطاكي شبه الهراطقة بحيوانات شريرة.

قال إيريناؤس عن القديس بوليكاربوس أنه قابل مرقيون الغنوسى يومًا فلما سأله مرقيون: "أتعرفني؟" أجابه بوليكاربوس "طبعًا إني أعرف بكر الشيطان" (ضد الهرطقات 3: 3، 4).

ق. إيريناؤس نفسه يوصى بمقاومة الهراطقة لأنهم كالحيات الناعمة يحاولون أن يفلتوا من أيدينا، وعلينا أن نحاصره من كل جهة حتى إذا قطعنا عليهم منافذ الهروب نستطيع أن نجتذبهم إلى الحق مرة أخرى..

والبابا أثناسيوس عندما "قال أنا ضد العالم" هل كان معاندًا متكبرًا، أم محافظًا على وديعة الإيمان ولولاه لكان الإيمان الذي وصلنا عكس الإيمان الذي وصل إليه!

والبابا كيرلس الكبير بعد رسائل عديدة ممتلئة بالحب نحو نسطور، كتب بكل صرامة حرومات لكل من يعتنق أفكار ضد الإيمان السليم، فهل نعتقد بإن صرامته عنف يُلام بسببه!

أما القديس أبيفانيوس أسقف سلاميس والمشهور بــ "صائد الهرطقات"، فقد حصر وهاجم أكثر من 80 هرطقة في كتاباته، حتى الأفكار الفلسفية التي سبقت التجسد. وهو يرى أن الهرطقة أسوأ من الكُفر، إذ أن الكفر قد يقبل الإيمان، ويُصحَّح، أما العقيدة الشريرة فيتعذر علاجها، لأنها تنُقذَ بصعوبة شديدة، وبمعونة إلهية (أنكوراتوس 9: 1). ويرى أن الهرطقات هى "أبواب الجحيم" التي تهاجم الكنيسة ولكن لا تقوى عليها (بناريون 74. 14. 4).

ولم تكن صرامة الآباء قاصرة على البطاركة والاساقفة، فقد كان للآباء الرهبان دور حاسم في الصراعات ضد الهراطقة، فقد كان أنبا شنودة رئيس المتوحدين سراج يضئ بعظاته في صعيد مصر بلغته القبطية القوية، مؤكدًا باستمرار أن أولئك الهراطقة بأفكارهم غير المستقيمة أشر من أولئك الذين يجهلون الله. كما كتب عن ضد نسطور عن دقة مصطلح والدة الإله، وعن حقيقة تحول الخبز والخمر ضد الأوريجانيون، لئلا يظن الهراطقة انهم يعلمون تعليم مستقيم ولايوج من يردهم عن ضلالتهم. وشارك في مجمع أفسس 431م مع البابا كيرلس عمود الدين.

ولم تكن المرة الأولى التي يظهر فيها آباء الرهبنة كجيش روحي ضد الهراطقة، فقد سبق ونزل أنبا أنطونيوس قاطعًا خلوته من أجل استقرار الإيمان المستقيم في مواجهة آريوس.

وعند القديس إيسيذوروس الفرمي أفكار الهراطقة مثل القصب في مهب الريح الذي بسهولة يُقتلع من مكانه بسبب هزالته، مقابل الإيمان السليم الذي يشبهه إيسيذوروس بخشب الأرز الراسخ في تربته ولا يمكن إزالته. (Epstil I. 419). فقد كان صارمًا جدًا في تقييمه للهراطقة، فقد وصف في أحدى رسائله أتباع "ماني" بحاملي الشرور، الأكثر رداءة من الشيطان (Epstil I. 413). كما وصف تعليم مقدونيوس بأنه هرطقة عبثية (Epstil I. 499)، وأكد أن أفكار مونتانوس الذي أتبع تعاليم مقدونيوس هى كذب وأفتراء (Epstil I. 50). ويرى القديس إيسيذوروس في المونتانية جماعة تُضر قُراء أفكارها بسبب تعاليهم المتطرفة وما أحدثته من شِقاق:

"بالرغم من أنك لم تسمع حتى اليوم، كما كتبت، عن تجديف المونتانية، إلا أنها قديمة جدًا وسادت وقتًا كثيرًا، مسببة عفونة شديدة وجراحًا ودمارًا. يجب أن تتجنبها وتبتعد عنها دون أن ترى أبدًا ما هو خلفها، لأنها يمكن أن تسبب ضررًا شديدًا للنفس.." (Epstil I. 242).

وقد طبّق قداسه البابا شنودة مبدأ الصرامة المملوء محبة في رسالته إلى ماكس ميشيل الذي أنشق عن الكنيسة في يوليو2006 رسالة بعنوان: "أنــا حـزيـن عليـك يا ابـنـي".

إذن الصرامة هى أحتياج رعوي وتعليم كتابي وآبائي من أجل نقاوة التعليم، وهى حق للحفاظ على وديعة الإيمان، وهى واجب تُحتمه المسؤلية لنرضي الله مهما كان رفض الناس وعدم قبولهم.

والفضائل دائمًا ما تتكامل وتتضافر حتى تثمر حياة روحية ناضجة، لذلك مع الصرامة هناك لطف ومحبة نحو كل إنسان بدون استثناء حتى لأشد المقاومين والمعاندين، فمواجهة الهراطقة لم تكن صراع فكري على الأقدر ذهنيًا أن يغلب، بل هى محاولات أجتذاب الهراطقة في طريق الخلاص. والمعاند هو الذي يجلب على نفسه الحكم: "عالمًا أن مثل هذا قد انحرف، وهو يخطئ محكومًا عليه من نفسه" (تي3: 11).

أما أنصاف المتعلمين الذين يّدعون معرفة العقيدة، فهم الذين يستخدمون أسلوب التجريح والهجوم الشخصي وتوزيع الأتهامات وتصنيف الناس حسب رؤيتهم الخاصة. أنهم لم يعرفوا العقيدة السليمة ولم يعرفوا المحبة الحقيقية.

والذين موهبة الحق مشوشة عندهم تختل عندهم الموازيين، فينعتون الصرامة بالقسوة، والتمسك بالتعصب، واستلهام روح الآباء بالرجعية. وينكرون على المؤمن تمسكه ودفاعه، بينما يتعاطفون على الخارج عن الكنيسة مع هجومهم وأنحرافهم!

البعض يكيل للأباء تهم باطلة ويطعنون في سمعتهم لأنهم يتمسكون بالعقيدة، ويستخفون بالأمر لأن العقيدة في نظرهم مجموعة مصطلحات وكلمات ونصوص، بينما كانت صرامة الأباء في الدفاع الإيمان، هى دفاع عن الأبدية التي نترجاها والتي نحياها من الآن في ظل العقيدة التي تؤثر في كياننا وحياتنا ومصيرنا الأبدي، ولم يكن أبدًا الخلاف حول معاني أو حروف أو تاريخ منفصل عن الواقع، بل تمسك بالحق الذي يُخلصنا!

"هُمْ مِنَ الْعَالَمِ. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ يَتَكَلَّمُونَ مِنَ الْعَالَمِ، وَالْعَالَمُ يَسْمَعُ لَهُمْ. نَحْنُ مِنَ اللهِ. فَمَنْ يَعْرِفُ اللهَ يَسْمَعُ لَنَا، وَمَنْ لَيْسَ مِنَ اللهِ لاَ يَسْمَعُ لَنَا. مِنْ هذَا نَعْرِفُ رُوحَ الْحَقِّ وَرُوحَ الضَّلاَلِ" (1يو4: 5 - 6).

أخيرًا... مع صرامة الأباء، نؤمن بعدم وجود عصمة لهم وأن حياتهم الشخصية تحت الضعف، وقد علمنّا الكتاب المقدس الموضوعية في سرد سير رجال الله وأن "الجميع" خطاة... وأن أحكام الكنيسة هى لتنظيم حياتها وحدودها والتعريف بإيمانها وليس أحكام سماوية للهلاك الأبدي، وقرارات الحرمان هى حرمان من شركة الكنيسة الصادر منها يتناول حكم الكنيسة على الأرض، ولا يمتد للحرمان من السماء إلا إذا أيده الرب من فوق، لذلك فهو في انتظار الحكم النهائي بالنقض أو بالتأييد في يوم الدينونة.

ونحتاج أن نصل إلى النضج الذي يجعلنا قبول وجود ضعفات في كل البشر، وأن نتبع تعاليم الكنيسة الجامعة ولا ننحاز لشخص، وأن إيمان الكنيسة في "الإجماع الكنسي" وليس في رأى فردي.

وليحفظ الله كنيسته من كل شر،،.