الكَنِيسَةُ والثَّوْرَةُ – القمص أثناسيوس فهمي جورج

كارت التعريف بالمقال

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب القمص أثناسيوس فهمي جورج
التصنيفات الخدمة الكنسية - اللاهوت الرعوي, تعليقات على الأحداث, قضايا مسيحية عامة
آخر تحديث 12 مايو 2020

الكَنِيسَةُ والثَّوْرَةُ

فكر الكنيسة يؤسس بناء لاهوت وحياة مؤمنيها، وهو الذي يسلم سر الإيمان الكامل، القادر أن يرفع حياة الإنسان المسيحي، ليدخل في مجال النور والقوة مع كل مدعوّي المسيح يسوع، من غير عثرة أو سقوط في المخالفة. وهذا الفكر يكفل سعي الكنيسة لتقديس العالم وتشجيع كل مسيحي كي يحيا خلاصه؛ ويجتاز واقعه بأمانة مسيحية وشجاعة.

لقد وُهبت لنا النعمة كي نقيم فيها، ونلنا الرسالة لإطاعة الإيمان كي لا نضل، وكي تكون لنا حياة بإسمه، ويكون ربنا هو المكروز به، ويكون من مفاخر إيماننا أننا به نحيا ونوجد ونتحرك كسفراء فوق العادة لشخص المسيح كل حين من أجل المصالحة. ويؤكد الأفق المسيحي على ضرورة عدم الانغلاب للشر. فحتى في أزمنة الاضطهاد والاستشهاد والتعدّي، انطلقت الكنيسة من سلوك الصلاة والمحبة والبركة في اتجاه موازي مع الدفاعيات والاحتجاج ورفع المظالم؛ حيث أن السيد المسيح قال قولته الإلهية الخالدة (أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله) (مر ١٢: ١٧). وفي قولته هذه كل الوضوح أنه كان يكنّ للدولة احترامها ويُحِقّ لها حقوقها، إنها قولة قوية مدوّية حفرت حروفها على فكر كل من وقعت على أسماعه؛ وتداولها جميع الناس في العالم طُرًّا.

لذا لا بُد أن نؤكد على هذا التعليم الإلهي في كنيستنا القبطية العريقة؛ على اعتبار أنها كنيسة وطن وليست كنيسة نظام، إنها الأقدم من كل مؤسسات مصر جميعًا، هي الأقدم والأبقى، هي فوق الزمان والمكان؛ كائنة من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها.

الكنيسة فوق الثورات؛ وهي لا تقر الانقلابات والانتفاضات، هي خادمة للعالم؛ تصلي من أجل سلامته وحفظ خيراته، وتطلب من الله كل حين ليُفرِّح وجه الأرض وليدبر مناحي الحياة كما يليق؛ مُصليَّة من أجل خلاص العالم كله ومن أجل الذين في منصب... كذلك ترى الكنيسة أن السلطة القائمة (الكائنة) هي سلطة وضعية مُرتَّبة من الله، ما دام لها شرعيتها الشعبية والدستورية، لهذا توصي بالخضوع للسلطة التي اختارها الشعب وأتى بها إلى سُدة الحكم، معتبرة أن صوت الله من صوت جموع الشعب... الكنيسة تمتثل للحاكم ما دامت لا تتعارض أحكامه مع الأمانة المسيحية والأحكام الإلهية، وما دام حاكمًا شرعيًا قبِله الشعب ورضي به حاكمًا.

أيضًا الكنيسة مؤسسة إلهية وهي غير منوطة أو مسئولة عن الطريقة التي أتى بها هذا الحاكم، فهي ليست جهة اختصاص؛ وإن بقيت دومًا صوتًا للدفاع عن الحقوق المهدورة؛ وصوتًا حقوقيًا اجتماعيًا أخلاقيًا لا سياسيًا، وهي ليست طرفًا ولن تكون في البرستيج السياسي والمهرجانية المتقلبة التي للساسة الذين يتقلبون بين عشية وضحاها مع كل موجة بعيدًا عن كل ناموس أخلاقي.

فمن العبث أن نطالب الكنيسة بالهرولة دون فحص أو تمييز في آتون الأحداث عندما تقوم أية انقلابات أو تحولات تحت أي مسمَّى؛ خاصة وأن هذه الثورة لم تكن ضد استعمار أجنبي محتل... وقد رأينا أن جميع مؤسسات الدولة بما فيها أكبر الاستراتيجيين السياسيين كيف تفاجأوا بالأسباب والنتائج والتداعيات بعد أن أحاطت الضبابية بالأحداث، فلا عتب في ذلك على الكنيسة كمؤسسة سَلامية تشق طريقها بين المطرقة والسندان.

كذلك هناك فرق بين التغيير والاتجاه للإصلاح وطلب الحرية والعدالة، وبين الاتجاه نحو تديين السياسة وتسييس الدين والفوضى والتخريب والانتهازية، خاصة مع ارتفاع منسوب المَد الأصولي التكفيري في المنطقة؛ الأمر الذي دفعنا وندفع ثمنه كأقباط حتى اليوم.

وتبقى الكنيسة حريصة على الوطن والبشر والدماء من واقع إدراكها للمخاطر؛ محذرة من الاقتتال والمواجهات الدامية والاعتداء، هذا عن الوقف المؤسسي الكنسي. أما عن الأقباط فقد شاركوا في ثورة ٢٥ يناير ترتيبًا وإعدادًا وتواجدًا ضمن بقية الأطياف، وقد رأيناهم يحمون ظهور إخوتهم المسلمين أثناء صلواتهم؛ ورأيناهم وهم يصبون الماء للمتوضّئين وينقلون صوت الإمام للذين في الصفوف الخلفية من المصلين، ورأيناهم بين صفوف الشهداء، والآن كنيستنا فخورة بهم وبتفاعلهم مع الأحداث ضمن بني جنسهم من أجل غد أفضل على الدوام.