الروح القدس عند القديس كيرلس الكبير – الأستاذ بيشوي فخري

كارت التعريف بالمقال

البيانات التفاصيل
إسم الكاتب الأستاذ بيشوي فخري
التصنيفات اللاهوت العقيدي, عقيدة, لاهوت الروح القدس
آخر تحديث 19 يونيو 2021


الروح القدس عند القديس كيرلس الكبير

عند القديس كيرلس الكبير الروح القدس هو عطية الله للإنسان يوم خلقه، فهو كيرلس يفسر نسمة الحياة  التى يتـكلم عنها سـفر التكوين (2: 27) إنها الروح القدس نفسه وليست مجرد حياة طبيعية (P. G. 73, 204D,P. G. 75, 584d.)، وهذا هو سر حياة الإنسان وخلوده، لكن الإنسان فقد هذا الروح وأنفصل عن الله فدب الموت والفساد فيه، فيقول: [لأنه إذ قد حاد جدنا آدم بالخديعة فسقط في العصيان والخطية. فلم يحفظ نعمة الروح، وهكذا فقدت فيه الطبيعة البشرية كلها الخير المعطى لها من الله].

وكان التجسد عند القديس كيرلس هو الحل الجذرى لاستعادة هذه الروح التي فُقدت، لذا يقول: [كان المسيح أول من قبل الروح كباكورة الطبيعة المتجددة، لأن يوحنا شهد قائلاً: "إنى قد رأيت الروح نازلاً من السماء فاستقر عليه" (يو1: 32)].

وبالروح القدس شُكلّنا على مثال الابن "في الروح القدس"، لأن الروح القدس هو صورة الابن، ولا توجد طريقة أخرى نستطيع أن نكتسب بها جمال الصورة الألهية ألا بالروح القدس: [ وطالما أننا نأخذ صورة المسيح وهو يرسم ذاته في داخلنا فنتغير عن طريق الروح الذي هو حسب الطبيعة شبيه به أذن الروح هو الله الذي يعطينا أن نكون على صورة الله] (حوار حول الثالوث: الحوار 7).

إلا أن محبة إلهنا غصبته وتجسد من العذراء مريم والروح القدس ليهب لطبيعتنا البشرية روحه القدوس الذي فارق الإنسان بسقوطه وينقل نعمة الولادة الروحية إلينا نحن أيضًا، أي نُولد من الله بحصولنا على الميلاد الجديد من الروح الذي تم في المسيح نفسه أولاً. (عظة 1، على إصحاح 2 من أنجيل لوقا).

ويجعل النعمة التى فارقت الإنسان تتأصل فيه من جديد (P. G. 73, 215D)، وهكذا قَبِلَ الروح القدس فى جسده من أجلنا حتى يتمكن من أن يمنحه لكل الطبيعة البشرية (P. G. 74, 549A).

يقول ق. كيرلس:

"لقد فارقنا الروح بسبب الخطيئة، لكن الذي لم يعرف خطيئة، صار كواحد منا لكيما يتعوّد الروح القدس على السكنى فينا، بدون سبب للمفارقة أو الأنسحاب. لذلك فهو يقبل الروح القدس لأجلنا من خلال نفسه. ويجدّد الصلاح الأول لطبيعتنا... قَبل الروح القدس لأجلنا، لكي ما يقُدّس طبيعتنا كلها" (شرح يوحنا 1: 32، 33).

وفي وقت العماد لم يكن السيد المسيح محتاجًا أن يحل عليه الروح القدس لأنه متحد به منذ الأزل، لكنه كباكورة لنا بدء بنفسه، ليعطينا خلال المعمودية نعمة التبني وشركة الطبيعة الألهية، ثم عاد من الأردن ممتلئًا من الروح القدس، فهو أول من حصل على الروح كباكورة لنا وأصل جنسنا وبدايته (أو مبدئه )، رغم أنه هو مُعطي الروح ـ لذلك بواسطته صرنا شركاء الطبيعة الإلهية بحصولنا على الروح القدس منه. (عظة 12 على إصحاح 4 لأنجيل لوقا).

ويقول ق. كيرلس في شرحه لأنجيل يوحنا:

"كذلك هو أيضًا الابن، الذي كان له روحه الخاص، يقال عنه أنه مُنح الروح القدس، وذلك لكى نقتنى نحن فيه أيضًا الروح. فالابن لم يقبل الروح لنفسه هو، لأن الروح له وفيه وبه، بل إذ صار إنسانًا كان يحمل في ذاته كل الطبيعة لكي يقَّوم الجميع ويردهم إلى أصلهم، فنحن نرة أن المسيح لم يقبل الروح لذاته هو، بل بالحري لنا نحن فيه، لأن جميع الخيرات إنما بواسطته تتدفق نحونا" (شرح يوحنا 7: 39).

ويشرح القديس كيرلس الفرق بين أنبياء العهد القديم ومؤمني العهد الجديد بأن [في الأنبياء القديسين بريقًا غنيًا خاصةً، يستمدونه من مصدر الاستنارة من الروح القدس، القادر أن يقودهم إلى إدراك أمور عتيدة ومعرفة أنباء مخفية]، أما عن مؤمنى العهد الجديد يقول: [ ولكننا نثق أن الذين يؤمنون بالمسيح، لا يكون لهم مجرد استنارة من الروح القدس، بل الروح نفسه يسكن ويجعل إقامته منهم].

ويبرهن القديس كعادته من الكتاب متسائلاً: [من هنا دُعينا بحق بهياكل الله أيضًا، رغم أن أحدًا من الأنبياء القديسين لم يدع أبدًا بالهيكل الإلهى]، لذا أيضًا يضيف بسؤال قائلاً: [ وماذا نقول حين نسمع مخلصنا المسيح يقول: "الحق الحق أقول لكم لم يقيم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان. ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه؟" (مت11: 11)].

ويفسر القديس معنى "ملكوت السموات" تفسيرًا رائعًا. إذ يقول: [إنه عطية الروح القدس التي قيل عنها "ملكوت السماء في داخلكم" (لو17: 21)].

وسر تفوق الأصغر في ملكوت السموات على يوحنا المعمدان في رأى القديس كيرلس أن يوحنا المعمدان من مواليد النساء أما الأصغر في ملكوت السموات أى المُعمَّد حديثًا فهو "مولود من الله" كما هو مكتوب، وقد أصبح "شريكًا للطبيعة البشرية" (2بط1: 4)، إذ قد سكن فيه الروح القدس ودُعى بالفعل هيكلاً لله. ويختم القديس كيرلس تفسيره لهذه الآية قائلاً: [حينما يقول الإنجيل لنا "لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطى بعد. لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد"، فلنفهم أنه يعنى سكنى الروح القدس في البشر سكنى كاملة وبالتمام].

أما عن لاهوت الروح القدس، فقد شرح القديس كيرلس ببراهين عديدة أن الروح القدس هو الله، من خلال أعماله الألهية وأنه مالئ المسكونة، وخالق الكل ومُعطي الحياة، لأن الروح هو بالحقيقة حياة، ويُحيي. إذًا فهو لم يُخلق، بل كان موجودًا قبل الدهور، لأنه من الله بالطبيعة، وهو إله. فذلك الذي له نفس القدرة مع الله الآب، هو على كل الأحوال واحد في الجوهر معه. إذًا مادام الله الآب مُحيي، فإن الروح القدس وبنفس القدر هو روح مُحيي. أو من الأفضل أن نقول إن الآب يُحييّ بواسطة الروح القدس.

والروح القدس هو الله لأنه هو قدوس بطبعه، وهو الذي يُقِّدس، فكيف للذي يُعطي القداسة ألا يكون هو مصدرها أى هو الله القدوس: "فإن أعلى وأسمى درجات البركة الإلهية هو التقديس بواسطة الروح. وبناء على ذلك فالروح لا يُقدس الخليقة كعبد، ولا كواهب غريب (عن طبيعة الله)، بل إن الله ذاته بروحه هو الذي يصنع هذا بطريقة ما". والروح القدس "القوة التقديسية التي تنبثق من عند الآب وتكمل الناقصين" ((P. G. 75, 597A.

صحيح أن التقديس هو عمل الثالوث كاملاً غير أن: "يقدسنا بواسطة الروح القدس الذي هو بطبعه الجوهر التقديسي في الثالوث" (P. G. 74, 292D.).

والروح القدس هو روح الشركة والذي من خلاله يسكن الله فينا: "لا يمكن أن تكون لنا شركة مع الله إلاّ بالروح القدس" (P. G. 75, 1092.).

ويقول أيضًا: "بواسطة الروح القدس نحن نقتني المسيح ساكنًا ومتداخلاً فينا" (تفسير 2كو 2: 15).

ويتساءل القديس كيرلس، هل يمكن لله يؤلهنا ويجعلنا شركاء الطبيعة الألهية أن يكون هو نفسه ليس إله؟؟:

"إذًا كيف يكون الروح مخلوقًا طالما صرنا بواسطته شركاء مع الآب والابن؟ لأنه لم يكن ممكنًا بواسطة مخلوق، أو واحد من الملائكة القديسين، أن نصير شركاء الطبيعة الإلهية. وهكذا فإن الله يوجد داخلنا عن طريق الروح الذي هو إله.".

ويضيف:

[لم يكن ممكنًا أن يصل أحد إلى الاتحاد بالله إلاّ بواسطة المشاركة فى الروح القدس، الذى يغرس فينا قداسته الخاصة، ويعيد تشكيل طبيعتنا الساقطة تحت الفساد إلى شكل حياته الخاصة].

وفي مقاله ضد نسطور يقول:

"فالكلمة الذي من الله الآب يرفعنا إلى هذه الإمتيازات، إذ يجعلنا شركاء طبيعته الإلهية، بواسطة الروح القدس، وبذلك صار له إخوة مشابهون له، ولابسون صورة طبيعته الإلهية".

وفي رسالتة الخامسة والخمسون وموضوعها "شرح قانون الإيمان" يُعلن القديس كيرلس أن الروح القدس هو روح الله وليس غريبًا عن جوهره، وأنه منبثق من الآب حسب تعليم الكتاب المقدس والآباء المجتمعين في نيقية والقسطنطينية:

"وبعد أن أنهى الآباء المثلثو الغبطة كلامهم عن المسيح، فإنهم ذكروا الروح القدس لأنهم قالوا إنهم يؤمنون به كما يؤمنون - بداهة - بالآب والابن. لأنه من نفس الجوهر معهما، وهو ينسكب أي أنه ينبثق من ينبوع الله الآب ويُمنح للخليقة بواسطة الابن. لهذا نفخ في الرسل القديسين قائلاً:" اقبلوا الروح القدس "(يو20: 22). لذلك فالله الروح هو من الله وليس غريباً عن الجوهر الذي هو أعلا من الكل، بل هو من ذلك الجوهر وهو كائن وهو خاص به.".

ويعتبر القديس كيرلس أن المتشككين في لاهوت الروح القدس جريمتهم غير محتملة وكل حججهم طفولية، وأنهم بتعاليمهم ضد الروح القدس "يخطئون ضد المسيح"، لأن من يعرف الابن سوف يكون له معرفة حقيقية عن الروح القدس، بل أن معرفة الله الحقيقية تتطلب الأعتراف بألوهية الروح القدس ووحدته في الجوهر مع الآب والإبن: "كيف نكون قد عرفنا الله والذي هو حسب جوهره إله حقيقي إن لم نعتبر روح الآب (الروح القدس) هو مع الآب إله واحد".

ودفاع القديس كيرلس عن ألوهية الروح القدس هو دفاع عن الثالوث، إذ بالتأكيد على لاهوت الروح القدس وعمله فينا يصبح الثالوث الذي نؤمن به عقيدة واقعية ملموسة في حياتنا. فإن كان يُسجَد لطبيعة واحدة للثالوث القدوس الواحد في الجوهر، فكيف يكون الروح القدس– كما يزعمون - مخلوقًا؟ لأنه لا يكون ثالوثًا بعد. وإن كان الروح القدس يُحصى مع المخلوقات فإن كمال الثالوث سيكون ناقصًا، فالمطوب بولس يُحصي الروح القدس مع الآب والابن بالضرورة. لأنه يكتب إلى أهل كورنثوس قائلاً: "نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم" (2كو13: 14). لأنه لا يُصلّي لأجل الذين آمنوا، لكى يصيروا شركاء لمخلوق، بل لكى بتقدسوا فيصيروا شركاء الطبيعة الإلهية.

يصل القديس كيرلس إلى كمال عمل الروح القدس فينا، إذ يأخذ مما للمسيح وينقله لنا، فنصير أبناء محبوبين من الآب، إذ يرانا متضمنين في ابنه، فيحبنا كما يحبه هو، وبهذا يتحقق ما طلبه لنا المسيح في صلاته الختامية: "وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي." (يو17: 23):

"إن الروح يُشكّل ويغير إلى صورة الابن، صفات الذين يحل فيهم بالمشاركة، حتى إذا ما رأى الله الآب معالم ابنه الخاص المولود منه واضحة فينا، يحبنا نحن أيضًا، كأبناء، ويمجدنا ويشرق علينا بالكرامات فائقة لهذا العالم" (عظة فصحية 10).

والقديس كيرلس مثل كل الآباء يُعلن أن كل عقيدة لها واقع عملي وروحي، فإن أقتناء الروح القدس داخلنا يؤثر في حياتنا وعلاقتنا ببعض، فالروح الواحد الذي يحل فينا، يوحدنا ببعض، فلا نصير غرباء عن بعضنا البعض، بل متحدين في الروح الواحد الغير منقسم، فلا يصير مجال لأنانية أو بغضة أو خصام، لأننا متحدين في الروح الواحد:

[إننا جميعًا قد قبلنا الروح الواحد بعينيه، أقصد الروح القدس الواحد بعينيه، ومن ثم فقد امتزجنا بعضنا ببعض بل ومع الله أيضًا. فإن المسيح يجعل روحه الخاص الذي هو روح الآب أيضًا يسكن في كل واحد منا على انفراد، لأن الـروح واحـد وغـير قـابل للانقسام لذلك فهو يجمع الأرواح المنفصلة بعضها عن بعض بسبب كيانها الذاتي، يجمعها إلى الاتحاد بواسطة نفسه، ويظهرها جميعًا وكأنها قد صارت فيه كيانًا واحدًا].

أخيرًا... يرى القديس كيرلس أن كمال جميع الخيرات = غاية الحياة الروحية هي إقتناء الروح القدس ": [إن كمال جميع الخيرات هو أن يسكن الله فينا بواسطة الروح القدس].