الروح القدس عند البابا أثناسيوس – الأستاذ بيشوي فخري

كارت التعريف بالمقال


الروح القدس في تعاليم البابا أثناسيوس الرسولي

أكتسب البابا أثناسيوس شهرته من دفاعه ضد الآريوسيين في عقيدة ألوهية الأبن، إذ تُعد تعاليم البابا أثناسيوس الأساس الذي بنى عليه كل الآباء تعاليمهم، سواء المعاصرون له أو الذين أتوا بعده، لكنه في الوقت نفسه، دافع عن لاهوت الروح القدس بصورة لا تقل على مواجهته للأريوسيين الذين هاجموا الروح القدس مثلما هاجموا لاهوت الأبن:: [إن هذا التفكير ليس غريبًا على الآريوسيين لأنهم أنكروا كلمة الله فإنه من الطبيعى أن ينطقوا بنفس التجديف ضد روحه] (الرسالة الأولى لسرابيون: 2).

بالأضافة لجماعة التروبيكيون Τροπικοί (المتقلبين = التصوريون = المحرفون)، الذين يفسرون آيات بعيدًا عن سياقها وبغير معناها، وأحيانًا كثيرة يتعمدون تجاهل الجزء الآخر من نفس الآية التي يستندون إليها، بغية التأكيد على رؤيتهم الفاسدة، المتمثلة في رفض الإيمان بألوهية الروح القدس، فنسبوا للروح القدس أوصاف الروح البشرية، ونظروا لأقنوم الروح القدس على أنه من جوهر مختلف عن جوههر الآب والأبن.

هذه الجماعة التي ظهرت في مصر وأقلقت القديس الأنبا سيرابيون أسقف تمى الأمديد، فأرسل للبابا أثناسيوس يستغيث به للرد على هؤلاء المبتدعين. فجاء رد البابا أثناسيوس رائعًا وكافيًا وشافيًا في أربعة رسائل بحسب رأيه هى رسائل وجيزة ومختصرة، ومن شدة أتضاع هذا البطريرك الرسولي أنه طلب من الأنبا سيرابيون أكثر من مرة أن يكمل ما نقص فيها، الأدهش من ذلك وهو معيار الأرثوذكسية يطلب من أسقف أن يصحح له إذا ما وجد فيها شئ غير صحيح وهو البطريرك الرسولي!

"[لم أبال بأولئك الذين يرغبون أن يضحكوا على ضعف شرحي وفقره. ولكن إذ قد كتبت باختصار فإني أرسله إلى تقواك مع توسلات كثيرة أنك حينما تقرأه، فإنك من ناحية تصححه، ومن ناحية أخرى حينما تجد أن الكتابة ضعيفة فإنك تلتمس العذر] (اإلى سيرابيون 1: 33).

وسر إهتمام القديس أثناسيوس بشرحه العقيدة الصحيحة لألوهية الروح القدس أن إنكار ألوهية الابن أو إنكار ألوهية الروح القدس، هو في الواقع إنكار للثالوث، فمن يُجدف على الروح القدس هو يُجدف على الابن أيضًا. وأن التشكيك في ألوهية الروح القدس يقضي على الإيمان بالثالوث.

فدفاعه عن لاهوت الأبن أو لاهوت الروح القدس يقوم أساسًا على إثبات الوحدة القائمة بين أقانيم الآب والأبن والروح القدس أنهم إله واحد، جوهر واحد. وكل عمل هو من الثالوث: "من الآب بالأبن في الروح القدس".

وقد كتب أثناسيوس هذه الرسائل بين سنة 358 - 361م، وخصَّ كل رسالة بناحية هامة من لاهوت الروح القدس:

الرسالة الأولى: يهتم فيها بلاهوت الروح القدس عامة، مستشهدًا بآيات الكتاب المقدس ثم بالوحدة الكائنة بين الآب والابن والروح القدس.

فإن إن دفاع القديس أثناسيوس عن ألوهية الروح القدس هو دفاع عن ألوهية الثالوث كله باعتبار أن من ينكر ألوهية أحد أقانيم الثالوث ينكر الإيمان بعقيدة الثالوث القدوس، فيقول القديس أثناسيوس موجهًا كلامه لمن يدعون أن الروح القدس مخلوق أى ليس هو رب وإله فيقول: [... يكون من غير المعقول أن ندعو الروح مخلوقًا، لأنه لو كان مخلوقًا لما كان من الممكن أن يحسب مع الثالوث القدوس لأن كل الثالوث هو إله واحد. ويكفي لنا أن نعرف أن الروح ليس مخلوقًا ولا يحسب ضمن المخلوقات لأن الثالوث لا يختلط به أي شئ غريب، وهو غير قابل للتقسيم وهو متماثل مع ذاته. هذه الحقائق كافية للمؤمنين] (الرسالة 1: 17).

ويدلل القديس أثناسيوس أن الروح القدس ليس ضمن المخلوقات، لأنه يًعطي الحياة، ويٌقدس الطبيعة البشرية، فكيف لمن يعطي الحياة أ، يصير ضمن المخلوقات وهو الذي فيه تنال المخلوقات الحياة بواسطة الكلمة؟!، وكيف يمكن أن يٌقال أن الروح الذي يمنح القداسة للمخلوقات أنه مخلوق مثلهم؟

(إلى سيرابيون 1: 23).

ثم أنتقل القديس أثناسيوس ليفسر لهم النصوص التي أساءوا استخدامها وتغيير معناها لتتماشى مع أفكارهم، مثل قولهم إن الروح القدس مخلوق، استنادًا إلى ما جاء بعاموس النبي "أنا هو منشئ الرعد وخالق روح" (عا4: 9س).

يقول ق. أثناسيوس بمجرد أن سمعتم كلمة "روح" اعتقدتم أنه يقول إن الروح القدس هو أحد المخلوقات. أما الآية التي في عاموس فإنها لا تتكلم عن الروح القدس، بل قيلت ببساطة عن "روح". ويتساءل موجهًا حديثه للهراطقة، أين وجدتم في الكتاب المقدس، أن الروح القدس يُدعى فقط "روح"، دون إضافة اسم الله إليه أو الآب أو أنه روحي أى روح المسيح نفسه أو روح الابن أو مني التي تعني من الله أو يُذكر مقترنًا بأداة التعريف، فلا يقال عنه "روح" بل الروح، ويُسمى "الروح القدس" أو "المعزي" أو "روح الحق" الذي يعني روح الابن، الذي يقول "أنا هو الحق" (يو14: 6).

إذًا بدون أداة التعريف وبدون احدى الإضافات المشار إليها، فإنه لا يمكن أن تدل كلمة "روح" على الروح القدس، وبرهان ذلك، ما كتبه ق. بولس إلى أهل غلاطية "أريد أن أتعلم منكم هذا فقط، أبأعمال الناموس أخذتم الروح أم بخبر الإيمان" (غل3: 2). فأى روح آخر أخذه هؤلاء غير الروح القدس الذي يُعطى للذين يؤمنون ويولدون ثانية بغسل الميلاد الثاني. ويكتب لأهل تسالونيكي "لا تطفئوا الروح" (1تس5: 19). يقول هذه حتى لا يطفئوا نعمة الروح المشتعل فيهم. أيضًا يقول ق. لوقا "أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئًا من الروح" (لو4: 1). وفي إنجيل معلّمنا متى "ثم أصعد يسوع إلى البرية من الروح" (مت4: 1). وقد استشهد القديس أثناسيوس بالكثير من الآيات التي تؤكد على أن كلمة "روح" لا تعني الروح القدس، ولا يوجد في الكتاب المقدس مجرد إشارة واحدة على أن كلمة "روح" تعني الروح القدس.

الرسالتان الثانية والثالثة: يشدد فيهما القديس أثناسيوس على لاهوت الروح القدس بنفس الطريقة التي يثبت فيها لاهوت الأبن. فهو يوضح أن التعليم الصحيح عن الروح القدس لا يقوم إلا على فهم صحيح عن الابن. ويستخدم نفس التشبيهات التي استخدمها في شرح لاهوت الابن (الشعاع والنور، الينبوع والنهر).

الرسالة الرابعة: تتركز على قول الرب عن التجديف على الروح القدس.

+ ويؤكد القديس أثناسيوس أن الروح القدس يمسحنا ليلدنا أبناء مخصصين لله، فكيف للذي يمسحنا ويختمنا أن يكون من نفس طبيعة الممسوح، فلابد أن يكون المسحة أو الختم هو من طبيعة الله:

"فالروح يدعى ـ وهو كذلك ـ مسحة وختم. إذ يكتب يوحنا" وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة بكم إلى أن يعلمكم أحد بل كما تعلمكم مسحته، روحه، عن كل شئ "(1يو2: 27). وقد كتب في إشعياء" روح الرب علىَّ لأنه مسحنى "(إش61: 1). وأيضًا بولس يكتب" الذي فيه أيضًا إذ آمنتم ختمتم "(أف1: 13). وأيضًا" لا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم ليوم الفداء "(أف4: 30). فالمخلوقات تُمسح وتُختم فيه. ولكن إن كانت المخلوقات تُمسح وتُختم فيه فلا يكون الروح مخلوقًا، لأن الذي يَمسح ليس مثل الذين يُمسَحون." (إلى سيرابيون 3: 3).

وفي مقالاته ضد الأريوسيين يشرح أثناسيوس الرسولي أن الروح القدس حل على السيد المسيح من أجل تقديس طبيعتنا نحن التي لبسها الكلمة:

"إذن فإن كان يُقدِّس ذاته من أجلنا، وهو يفعل هذا لأنه قد صار إنسانًا، فمن الواضح جدًا أن نزول الروح عليه في الأردن، إنما كان نزولاً علينا نحن بسبب لبسه جسدنا. وهذا لم يصر من أجل ترقيه اللوغوس، بل من أجل تقديسنا من جديد، ولكي نشترك في مسحته، ولكي يُقال عنا" ألستم تعلمون إنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم "(1كو3: 16) فحينما اغتسل الرب في الأردن كإنسان، كنا نحن الذين نغتسل فيه وبواسطته.

وحينما اقتبل الروح، كنا نحن الذين صرنا مقتبلين للروح بواسطته... إذن فمن ذلك (الجسد) قد بدأنا نحن الحصول على المسحة والختم، مثلما يقول يوحنا "أنتم لكم مسحة من القدوس" (1يو2: 20). والرسول يقول "ختمتم بروح الموعد القدوس" (أف1: 13). ومن ثمَّ فهذه الأقوال هي بسببنا ومن أجلنا "(ضد الأريوسيين 1: 12).

+ والروح القدس هو الذي به نصير شركاء المسيح وبالتالى شركاء الله، ولو كان الروح القدس ليس هو من الله لما أتحادنا مع الله بواسطته:

فلو كان الروح القدس مخلوقًا، لما كان لنا اشتراك فى الله بواسطته. فإن كنا قد اتحدنا بمخلوق فإننا نكون غرباء عن الطبيعة الإلهية حيث إننا لم نشترك فيها. أمّا الآن فلكوننا نُدعى شركاء المسيح وشركاء الله، فهذا يوضّح أن المسحة والختم الذى فينا، ليس من طبيعة المخلوقات بل من طبيعة الابن، الذى يوحّدنا بالآب بواسطة الروح الذى فيه. هذا ما علّمنا إياه يوحنا ـ كما قيل سابقًا ـ عندما كتب: "بهذا نعرف أننا نثبت فى الله وهو فينا أنه قد أعطانا من روحه" (1يو4: 13). ولكن إن كنا بالاشتراك في الروح نصير "شركاء الطبيعة الإلهية" (2بط 1: 4)، فإنه يكون من الجنون أن نقول إن الروح من طبيعة المخلوقات وليس من طبيعة الله. وعلى هذا الأساس فإن الذين هم فيه، يتألهون. وإن كان هو يؤله البشر، فلا ينبغي أن يُشَك في أن طبيعته هي طبيعة إلهية. ".

وهى نفس الطريقة التي برهن بها على لاهوت الكلمة في مقالاته ضدد الأريوسيين (2: 70): "لأنه ما كان للإنسان أن يتأله لو أنه أتحد بمخلوق أو لو أن الابن لم يكن إلهاً حقيقياً.. هكذا لم يكن للإنسان أن يؤله لو لم يكن الكلمة الذي صار جسداً هو ابن طبيعي حقيقي وذاتي من الآب. لهذا إذن صار الاتحاد هكذا، أن يتحد ما هو بشرى بالطبيعة بالذي له طبيعة الألوهية ويصير خلاص الإنسان وتأليهه مؤكداً".

وكان يقصد الارتفاع بالطبيعة البشرية إلى حالة عدم الفساد الخاصة بالله، حتى أنها توهب القدرة على الاشتراك في غبطة الله بقدر ما تسمح مخلوقيتها.

+ ثم بعد أن يؤكد على لاهوت الكلمة، يبرهن على أن روحه من نفس جوهره: "فالروح القدس لا يمكن أن يكون ملاكًا ولا مخلوقًا على الإطلاق، بل هو خاص بالكلمة، الذي به يُعطَي، من أجل أن تشترك المخلوقات في الروح." (إلى سيرابيون 1: 25)، ليثبت أن الروح القدس ليس غريبًا على جوهر الثالوث ويثبت وحدة الروح القدس مع الآب والابن: "حيث إنه توجد مثل هذه المماثلة وهذه الوحدة في الثالوث القدوس فمن يمكنه أن يفصل الابن عن الآب أو يفصل الروح عن الابن أو عن الآب نفسه؟ ومن تصل به الجرأة حتى يقول أن أقانيم الثالوث غير متماثلة فيما بينهما، ومختلفة في الطبيعة، أو أن الابن جوهر غريب عن الآب، أو أن الروح غريب عن الابن" (إلى سيرابيون 1: 20).

+ يصل القديس أثناسيوس إلى أن الذي ينكر إيمانه بلاهوت الروح القدس هو شئ آخر غير كونه مسيحي، لأنه لا يؤمن بالثالوث القدوس الواحد:

"الذى يفصل الابن عن الآب أو يُنزِل الروح القدس إلى مستوى المخلوقات، فهذا لن يكون له الآب ولا الابن بل هو بدون إله، وهو أشر من غير المؤمن. ويمكن أن يكون أي شئ إلا أن يكون مسيحيًا، وهذا أمر عادل. لأنه كما أن المعمودية التي تُعطَى بالآب والابن والروح، هي واحدة، وكما أن هناك إيمان واحد بالثالوث، هكذا الثالوث القدوس إذ هو واحد مع نفسه، ومتحد في نفسه، وليس له في نفسه ما هو من المخلوقات. وهذه هى وحدة الثالوث غير المنقسمة، ولذلك فالإيمان به هو واحد." (إلى سيرابيون 1: 30).

+ والقديس أثناسيوس الرسولى يرفض القول بأن الروح القدس ينبثق من الابن. ولذلك فهو حينما يتحدث عن انبثاق الروح القدس من الاب، يستعمل الحرف ek، أما عندما يتحدث عن إرسالية الروح القدس من الابن فى الزمن، من أجل التدبير، فهو يستعمل الحرف para أو dia، وهو نفس التعليم التي أتبعته الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.

+ أخيرًا... في تعليق القديس أثناسيوس على قضية التجديف على الروح القدس والتي أعطى أهمية خاصة لشرحها، يؤكد على أن الأمر ليس فيه تفضيل أقنوم عن أقنوم آخر في الثالوث، فالتجديف على الروح القدس هو تجديف على الأبن والأب أيضًا. يقول البابا أثناسيوس: "ولم يكن الرب يقصد بما قاله في الإنجيل أن يقارن بين التجديف الموجه ضده والتجديف الموجه للروح القدس ولا أشار ولو من بعيد أو بطريق غير مباشر إلى أن الروح القدس أسمى منه. ولا لأن التجديف على الروح أخطر، نطق الرب بهذه الكلمات ـ حاشا ـ لأنه علم من قبل أن كل ما هو للآب فهو للابن، وأن الروح يأخذ من الابن وبذلك يمجد الابن (يو16: 14ـ15). والروح لا يعطي الابن بل الابن هو الذي يعطي الروح وقد أعطاه لتلاميذه وبهم يعطيه لمن يؤمنون به بواسطتهم. ولم يكن الرب يقارن نفسه بالروح عندما قال هذه الكلمات، كما أنها لا تعني أن الروح أسمى من الرب، فهذا سوء فهم لكلمات المخلص.".

أيضًا يؤكد على أن خطية تُغفر بالتوبة ولا توجد خطية بلا مغفرة إلا التي بلا توبة (للذين نالوا سر المعمودية).

أما القضية هنا فهى خطية الذين يرفضون عمل الأبن كإله، وينسبون أعماله للشيطان، وهذا هو التجديف على الروح القدس (روح الله)، لأن المسيح كان يعمل كل الأعمال بروح الله. فيقول البابا أثناسيوس: "وفي الحقيقة لقد سكن بعلزبول في الفريسيين. وكان بعلزبول هو الذي يتكلم فيهم. ولذلك قالوا عن المسيح أنه مجرد إنسان، بسبب ناسوته، دون الاعتراف به إلهًا بسبب أعماله التي هي أعمال الله. ولكن بهذه السقطة ألّهوا بعلزبول الذي سكن فيهم، والذي في النهاية سوف يعاقبون معه في النار إلى الأبد.".

فالتجديف الذي يقصده هنا هو رفض لاهوت السيد المسيح وأعماله الألهية وأعتباره أعماله شيطانية لأنهم يرفضوه ألوهيته، ولا يؤمنون به لذلك يبقوا في خطيتهم ولا يتوبوا ولا يؤمنوا فلا تُغفر لهم.

يقول البابا أثناسيوس: "أن التجديف الذي لا يمكن مغفرته هو التجديف على" الروح "أي على الطبيعة الإلهية".