الرعـايـة الصحية عند الأنبـا باخوميـوس أب الشركة – الأستاذ بيشوي فخري

كارت التعريف بالمقال


الرعـايـة الصحية عند الأنبـا باخوميـوس أب الشركة

أن الوصية الأولى والعظمي في المسيحية هى المحبة، ذلك لأن الله محبة، وخلقه الإنسان تجديده إنما هو بدافع المحبة وتعطفات الله الجزيلة، وعلى مثال المسيح كرّست المسيحية نفسها لخدمة الإنسان والإنسانية وتسابق المسيحيين في بذل ذاتهم من أجل كل متألم ومجروح ومريض، وفي الكنيسة الاولى أوكلت رعاية المرضى لرتبة الشمامسة، وبجانب رتبة الشمامسة ظهرت قلوب نقية ضمدت جراح المجروحين، مثل المجموعة المسماة (الفيلوبوني ) (محبي التعب) الذين كانوا يخدمون المرضى في الشوارع والملاجئ الملحقة بالكنيسة، أو مجموعة (البارابلاني ) (المجازفون الذين اشتهروا في الإسكندرية في القرن الخامس وكانت خدمتهم الأساسية دفن الموتى وخدمة مرضى الأوبئة بخدمة فدائية رائعة وجاء خبر عنهم في منشور الإمبراطور ثيودسيوس (16، 42 لعام 416م؛ رقم 43 لعام 418م) وكان عددهم وصل إلى خمسمائة شخص!

أما الأنبا باخوميوس فقد قًّدم صورة بهية عن المسيحية التي تحترم كيان الإنسان كله، ونموذج متزن وناضج للفهم النسكي الذي يجاهد لا ضد الجسد أنما يقمع شهواته، وهو يحمل قلب عطوف على المريض والضعيف، وسيرته قدوة لكل مسؤل في عدم تمييز نفسه أو تفضيله على المرؤسيين.

فالرهبنة القبطية وأن كانت تحيا حياة التوحد إلا أنها لم تنسلخ أبدًا عن جسم الكنيسة بل وتحمل الأنسانية كلها في قلبها، وتشعر بكل فرد وتُعطي إهتمام للمتألم والمحتاج والمريض لا من دافع إجتماعي وواجب مفروض، أنما رعاية المريض وخدمته وزيارته هى جزء من العبادة الروحية وتلامس حقيقي مع المسيح ألهنا: "... مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي..." (مت 25: 36)، "بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ." (مت 25: 40).

فخدمة المرضى عند الآباء لا تقل عن خدمة المذبح في سر الأفخارستيا!

وهى جزء من معيار الدينونة الذي نُحاسب أو نُكافأ بمقتضاه في اليوم الأخير: "فَيَمْضِي هؤُلاَءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ" (مت 25: 46)!

ولذلك كان المرضى والذين يعانون من أعباء الحياة يذهبون للأديرة لنوال البركة وبفضل صلوات الرهبان انتشر السلام في قلوبهم في أوقات الحروب والأوبئة والمجاعات وأصبحت الأديرة مكان الأمن والطعام والدواء وقال هوثاك المؤرخ الألماني: "أن النساك المصريين كانوا يعتبرون في جميع العصور حتى في نظر الغرب آباء ونماذجًا للحياة المسيحية الحقيقية".

وأنبا باخوميوس صاحب نظام الشركة بدء حياته وثنيًا كجندي في الجيش الروماني ولما رأى طيبة ومحبة وخدمة المسيحيين نذر أنه إذا نجاه الله من المعركة يعود ويخدم رفقائه في البشرية بنفس الطريقة، وهو ما حدث فعلاً.

ووضع خلال حياته وقوانينه أسلوب حياة منظم للغاية ومن ضمنها الرعاية الصحية عن طريق ما يمكن أن نسميه الآن "العيادة الخارجية للمرضى" أى مستوصف لخدمة المرضى الغير مقيمين في الدير بالأضافة للرعاية الفردية في قلالي الرهبان المرضى.

وكان المستوصف شئ مبتكر في المجتمع، إذ كان يُقًّدم العلاج بداخله للمرضى من الرهبان تحت إشراف طبي بل وكان في رهبنة الشركة أطباء للرجال والنساء ما يدل على التخصص والتنظيم وأتباع جوهر الرهبنة بعدم الأختلاط، وطاقم التمريض الذي كان مُدربًا بأحترافيه ولأول مرة في التاريخ ظهرت مهنة التمريض كباقي المهن وكانوا يخدمون المرضى بالتبادل.

ووفر الأنبا باخوميوس الرعاية الصحية للمرضى بجانب التعزية الروحية مع تقديم الكثير من المحبة والرحمة والإهتمام بنوعية الغذاء حسب كل حالة وتنظيم مواعيد الدواء لكل فرد بمعرفة المسؤل.

ويعتبر أقدم "مستوصف رهباني" تم أكتشافه هو مستوصف دير أنبا أرميا بسقاره يعود لسنة 470م وهو دير باخومي، ويبلغ مساحته 540متر (18x 30متر) أى ثلث مساحة الكنيسة الرئيسية للدير، وهو مبنى منفصل من الطوب أبوابه مزينه، وهناك آثار دولاب لتخزين الأدوية له رفوف عديدة، ووجدت وصفات طبية من الأعشاب ونظام غذائي أقل تقشفًا من طعام الرهبان ليناسب أحتياج المريض.

وتشهد سيرة أب الشركة عن أهتمامه بتعيين أب مسؤل لبيت المرضى ومساعد له، وأحيانًا كثيرة كان ينزل أنبا باخوميوس بنفسه لمتابعة صحة المرضى خاصة في أوقات الطاعون ولم يخشَ العدوى ولم يتأفف من الجروح ويشرف على دفن من ينتقلون، حيث انتقل عدد ليس بقليل من رهبان الأديرة الباخومية بسبب هذا الوبأ..

وأخيرًا أُصيب الأنبا باخوميوس بنفس المرض، فمضى إلى نفس المكان الذي ينام فيه المرضى، وشدّد على عدم تمييزه في شيء.

حدث مرة أثناء مرضه أخذ تادرس تلميذه غطاء جيد من الصوف وألقاه عليه، فأنتهره الشيخ: "خذ هذه عني، وضع فوقي غطاءًا عاديًا مثل كل الأخوة حتى يمن علّى الله بالشفاء".

مرة أخرى قدم له تادرس بعض البلح ليأكله، فوبخه قائلا: "يا تادرس هل لأننا ندبر الأخوة، ونقودهم، يصير لنا الحق في أن نعطى أنفسنا هذه الملذات،؟ أين خوف الله؟ وهل أنت أتفقدت جميع الأخوة؟ وعرفت أحتياج المرضى؟ ألا تعرف مقدار الخطأ الذي ارتكبته، بتقديمك لى هذه الأشياء؟...".

وكثيرًا ما يرفض أن ينام على سرير وهو مريض بل يظل راقدًا على الأرض، وفي أصابته بالحمى أراد أحد الرهبان أن يستخدم مروحة للتهوية، فلما سمع أبونا باخوميوس أشار رافضًا أى تمييز أو معاملة خاصة وقال: "أليس كل هؤلاء مرضى؟ هل ستجد لكل منهم مروحة، حتى تجد لي أنا أيضًا واحدة؟"!

أما عطفه وشفقته على المرضى فكانت عظيمة جدًا، وإفرازه في معاملة العليل ظهر كثيرًا مع المرضى ومرة وبّخ المسؤلين عن خدمة المرضى لأنهم رفضوا أن يعطوا مريض أن يأكل لحمة في شدة مرضه وجوعه وعاملوه معاملة الرهبان الأصحاء فما كان من باخوميوس أن قال لهم: "أنتم يا من تهتمون بالمرضى، ألا تخشوا الله؟ ألم تسمعوا الوصية القائلة تحب قريبك كنفسك؟ ألا ترون أن هذا الأخ قد أصبح جثة هامدة؟ لماذا أذن لم تعطوه ما طلبه؟ الله يعلم أنه إن لم تنفذوا طلبه، فإني لن آكل ولن أشرب شيئًا. ألم تقدروا أن تميزوا بين المريض وغير المريض؟"... قم بكى وقال: "لو أن الرب يسوع كان يعيش بيننا في هذا الدير، لما رفض طلب هذا الأخ ولما تركه هكذا في محنة المرض؟!".

وفي إطار إعتداله وإفرازه أعطى نصيحة لراهب مريض لم يشأ أن يأكل شيئًا مطبوخًا قائلًا: "جيد لي أن أموت من أن أكل وأشرب في هذه الأيام المقدسة"... فمضى إليه الأب باخوميوس الذي قال له: [الأيام كلها لله، والذي أمر أن يعمل الناس البصخة هو الذي أمر بالمرض عليك. فالآن لا تخف ولا تحسب أنها خطية إذا أنت أكلت لحاجة المرض، لأنه مكتوب في سفر العدد "إن لم يتمكن أحد أن يحمل قربانه للرب ويعمل البصخة (الفصح) في الشهر الأول فليعمل بصخة الرب في الشهر الثاني (عد9: 10 - 11)". فالآن إذا لم تقدر أن تعمل البصخة بسبب المرض، فبعد أن تستريح إذا شاء الرب فأنت تقدر أن تعملها].

وكان من قوانينه: "أنه من حق الرئيس أن يصرف غطاء أو أكل إضافي لأى مريض يرى أنه محتاج إليه".

وكان لا يسمح بزيارة المريض إلا في مواعيد محددة وبشروط معينة حفاظًا على صحة وهدوء المرضي.

ووضع تأديب لمن يهمل في خدمة المرضى، وعين لكل مجموعة تعمل في عمل معين خارج الدير طبيب ومسؤل لرعاية المرضي يرافقهم لئلا يُفاجئ المرض احد في الطريق.

وكان للانبا باخوميوس موهبة شفاء بعض الامراض، لكنه في مرة لم يستطع ان يشفي إنسان جاء ليترهب وكان عليه روح شرير، ولما استمر أنبا باخوميوس في الصلاة من اجله ظهر ملاك الرب لأبونا باخوميوس وقال له:

"يا باخوميوس كفى صلاة من أجل هذا الإنسان، فإن الرب قد سمح له بهذا الداء لأجل خلاصه. لأنه لو نال البرء والشفاء فإنه سيرتد ويرجع إلى الوراء".

عندئذ قال باخوميوس لذلك الإنسان:

"لا تحزن من أجل ذلك المرض، لأن الرب قد أرسله لك من أجل خلاص نفسك. والآن أشكره على كل شئ...".

ومن ذلك الوقت كان أنبا باخوميوس أن بعض الامراض نافعة لأجل خلاص الإنسان لأن كل الأجساد إلى زوال وأن الله يعمل لخلاصنا وينشغل بأبديتنا أكثر من حياتنا المؤقتة ولذلك كان يقول الأنبا باخوميوس لكل من لم يسمح له الله بالشفاء: "إن ذلك من أجل خلاصكم فقدموا الشكر لله حتى تنالوا الحياة الأبدية..".

مرة أخري جاء له أخ من دير فابو يتوسل بدموع: "إنك تشفي كثيرين، يأتون إليك من العالم ولكنك لم تصلي من أجلي قط لكى أشُفى من هذا الداء العسير".

فأجابه: "إن اولئك الناس تُشفى أجسادهم من أجل إيمانهم. ولكنهم يرجعون للخطية لأنهم قد نالوا راحة من أمراضهم. أما خدام الله فإنهم ينالون الراحة الأبدية في الدهر الآتي، الراحة التي بلا مرض أو حزن. لأنهم ساروا بإرادتهم بكل شجاعة في طريق الصليب، متممين قول الإنجيل:" من اراد ان يخلص نفسه يهلكها ومن يهلك نفسه من أجلي يُخلصها "(لو9: 24)...

ولما حاول بعض الشيوخ أن يصلي له سمع صوت من السماء: "لا تطلبوا من أجل شفاء الاخ المريض. فإن الرب أرسل له هذه التجربة لكى يُخلصه من الشهوات الشبابية التي يحاول الشيطان أن يُسقطه فيها"... وكشف الله لهذا الأخ المريض عن نصيبه الأبدي والنعيم الذي ينتظره في السماء فتعزي وأحتمل بشكر،،،.

هكذا.. أن المرض يصيب الأبرار – مثل الانبا باخوميوس - مثل سائر الناس، فهو ليس عقاب على شر ولا رجال الله محصنين ضد الطبيعة، ولا المرض غضب إلهي!

وفي المقابل يستخدم الله المرض لخير الإنسان ويعوضه بنعيم أبدي، ويعتبر الانبا باخوميوس أن المريض سائر في طريق الصليب ليُخلّص نفسه.

ووضع الانبا باخوميوس نفسه نموذج لتكريم المريض وتسديد أحتياجاته لا من باب الشفقة، أنما بدافع الحب النابع من عقيدة الجسد الواحد، واضعًا أمامه ربنا يسوع نموذج لمحبة الإنسان وكل إنسان.

مراجع:

  • القمص أشعياء ميخائيل، حياة الشركة الباخومية، ط3، 2011م.
  • م. بطرس كرم صادق، المستشفي إبتكار مسيحي، دورية المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، يناير 2020م.
  • د. يوحنا نسيم يوسف، أضواء على الرهبنة القبطية، 2019م.