أيقونة أثناسيوس السكندري – أثناسيانا – القمص أثناسيوس فهمي جورج

كارت التعريف بالمقال

أيقُونَةُ أثناسيوس السَكَنْدَرِي - أثناسيانا

نادىَ عليه البابا ألكسندروس البطرك ال (١٩) قبل رحيله وكرر النداء (أثناسيوس.. أثناسيوس)؛ ثم قال: ” وهل تظن أن بهروبك يمكنك أن تُفلِت؟.. لا يمكن!! “. بعد ذلك أُختير أثناسيوس الرسولي خلفًا له، بأغلبية عظمى على مرأىَ من جميع الشعب واستحسانه... وبأصوات الشعب كله وتشفعاته؛ وفي وقار رسولي روحاني؛ أُقيم على كرسي مارمرقس الرسول. وقد اعتبر البابا أثناسيوس أن مدينة الأسكندرية بالنسبة له بمثابة زوجته الطاهرة العفيفة التي اقتناها بالأسقفية من عند الرب؛ كي يخدم صاحبها ويرعى شعبه الذي اقتناه بالدم الكريم الذي لمسيحه.

كان وجهه ملائكيًا وجسمه نحيفًا؛ لكنه مرعبًا لكل المخادعين الخارجين عن الحق، جبهته عريضة وعيناه يقظتان... ذهنه حاد بنباهة متوقدة، تقطع على الهراطقة طرق اللف والدوران والخداع والمؤامرة... شجاعًا قويًا وجبارَ بأسٍ، غير مرتعش ولا هيّابًا. كان بفراسته يكشف نقاط خُبث الأريوسيين ويواجهها بالحُجة الكتابية... ولم يكن مجرد محاجج؛ بل في جراءته وبصيرته الروحية؛ جعل مباحثاته ومناظراته صِيَغًا إيمانية رصينة، واجبة القبول والنفاذ؛ تستمد قوتها من توضيح وتطبيق الآيات. وقد قيل عنه: بأن ردوده حاضرة؛ قويمة الرأي والإيمان؛ وسريعة بدرجة مذهلة؛ أسكتت الأباطرة والأعداء المخادعين.

كان تلميذًا وفيًا للبابا ألكسندروس ال (١٩) يعيش معه كإبن مع أبيه تحت سقف واحد، وكان محبوبًا عنده بسبب أمانته وتلمذته وحلاوة صفاته... تلقّىَ العلوم اللاهوتية وتمهّر في الأدب والفلسفة والبلاغة؛ التي أسفرت عن تحصيله لإمكانيات الدفاع ومنطقية المحاجاة ضد الفلاسفة... إلا أنه في كل هذا؛ لم يكن متعاظمًا بعلمه؛ ولا معتدًّا ببلاغة منطقه؛ لكنه كان دائمًا يتحدث عن نفسه بصيغة الغائب؛ لأن الرب الحاضر والمتكلم فيه؛ هو نوره وخلاصه ومعتمَده، وهو الذﻱ يصُون رِجْله من أن تؤخَذ... وكان توقيره للكتاب المقدس معيارًا لسلطته الواسعة في جميع كتاباته... يتقدم دائمًا للحديث عن المسيح كمحب للمسيح؛ استنادًا إلى عِشْرة المعرفة... رافضًا أﻱ إجراء أو مخالفة أو ممارسة غريبة عن تقاليد الآباء وأمانة نيقية، مواصلاً صراعه ضد مكائد الباطل؛ كغاية وهدف حياته؛ وأساس تعليمه واعترافه ضد كل الأرواح المخالفة والمضلة.

لُقب بالرسولي؛ لأنه كان امتدادًا للرسل بالقول والفعل... صائرًا مثلهم في النهج والسيرة واستقامة الحياة، وهو الوحيد الذي لُقب بثالث عشر الرسل؛ لإسهامه الثمين في حفظ تقدم البناء اللاهوتي؛ عبر مسيرة الكنيسة، وما وضعه من اصطلاحات وكتابات وتعاليم موضوعية مقنعة؛ حفظت أمانة الحق ودافعت عن الإيمان الصحيح... كذلك لسبب سيرة حياته التي استقامت استقامة التعليم نفسه، فكان مثالاً يصلح ليكون وسيلة إيضاح عملية؛ تبكِّت المنافقين وباعة الأفكار من سُرّاق اللاهوت. وهو علامة بارزة حتى الآن في مواجهة تيارات فكرية عديدة تُشغلنا وتُتعب خدمتنا في العصر الحالي. خاصة أن جمال سيرته وتنوعها؛ ومسكونيته وأسفاره قدمت لنا ثقافة عالمية؛ تتناسب مع أجواء العولمة العنيفة التي تحيط بنا.

وهو الذﻱ جعل للإسكندرية ثقلاً لاهوتيًا وفكريًا؛ يوازن العالم كله... ذلك ما برهنت عليه حوادث التاريخ آنذاك، إذ أنه كان أسقفًا له مهابة وشهرة؛ بل والأشهر في المسكونة، ولا ينفصل اسمه عن العقيدة الجامعة للإيمان بالثالوث. فضلاً عن دوره المميز وسط حضور أساقفة العالم ال (٣١٨)؛ في تحديد نص قانون الإيمان الرسولي، بل واستمر دوره الريادﻱ على مدى أكثر من خمسين عامًا من مجمع نيقية... وقد أذهل كل مؤرخي الدنيا في إنجازه لحفظ سلامة الإيمان المُسَلَّم مرة للقديسين، بعد أن خذله كثيرون وقاومه الأباطرة؛ ووضعوا مكافأة لمن يأتي برأسه؛ لكنه انتصر بمعونة القدير لا بمنطق الكلام ولا بسيوف قوة بشرية؛ بل بالاعتراف الحسن وحفظ تقوى الإنجيل (عملاً وسلوكًا)، لذا جاءت حروماته قاطعة بسيف السماء لا بسلطان الناس، وعلى يديه انهزمت الشوكة الأريوسية وتم أفول نجمها الأسود.

اعتبر أثناسيوس أن إيمان الحُجة والمنطق فقط هو إيمان عاطل؛ لأن الإيمان المستقيم هو الإيمان المُعاش؛ الموصِّل لمعرفة التقوى والعشرة الإلهية... ذلك الإيمان لا يقوم على الفهم الذاتي؛ بل المبني على تسليم الكنيسة الجامعة. فقانون الإيمان هو التقليد؛ وهو الإنجيل؛ وهو محصِّلة النظرة الإيمانية التي تحتضن كل الإنجيل، بالالتصاق بالمخلص بمعرفة عبادة صحيحة؛ لا بنفخة العقل والجدل العقيم.

كانت كتاباته وتدابيره موافقة للصالح الكنسي العام إزاء كل الأمور التي وصفها بالمُقلقة؛ حتى لا تُمتهن الكنيسة ويُهان الكهنوت، وحتى لا يُرغَم أحدٌ على أن يعمل شيئًا لا يقره، فنُثير غضب الله علينا، ونصير أضحوكة أمام العالم... لأننا سنعطي حسابًا في الدينونة عن ما صنعناه. كذلك كان جائعًا دائمًا إلى تقدم شعبه الروحي وثباتهم في الأمانة، في تناسق بين اللاهوت والإنسانية؛ تلك التي كانت متبادَلة بينه وبين رعيته؛ التي ساندته في معاناته للظلم والجور والنفي... مؤكدًا على ضرورة أن نكون مستأسرين كل فكر لطاعة المسيح؛ حتى تحتفظ الكنيسة بمجدها الخاص؛ وتُسَرّ بالأكثر في المسيح يسوع ربنا... لذلك نجده ضم إليه تلاميذ كثيرين شهدوا لجانبه وتشرّبوا مفاهيمه وامتصّوا فكره، متأثرين بما سكبه في شعورهم ولا شعورهم، فتأثرت المسيحية في العالم بأرثوذكسية الإسكندرية.

قدَّمَ فكره اللاهوتي كقانون متكامل؛ بأفضل برهان روحي وعقلي... واضعًا نفسه في جهاد مظفَّر من أجل حفظه التعليم كاملاً نقيًا بلا شائبة، منصهرًا في الحق نفسه؛ لبنيان كرمة الملكوت. حافظًا التقليد وغيورًا على الطقس والقانون الكنسي، متشبعًا بروح التقوى والأدب والدعة؛ كسند لازم لكل من يعمل ويجتهد ويعرف ويواجه ويدافع عن الحق... حتى إلى النفي والتشهير والتشريد من مدينة لمدينة ومن بيت لبيت؛ بل وإلى الاختباء أحيانًا في المقابر. محتملاً أعاصير الاضطهاد بصبر وبأس؛ غير مكترث بتأمين حياته، متساميًا في أخلاقه وقدراته ومواهبه؛ التي أهَّلته ليكون على رأس كل اللاهوتيين في إدارة الصراع اللاهوتي؛ الذﻱ أكمله من بعده الآباء الكبادوك؛ وغيرهم من أمثال هيلاري أسقف بواتييه الملقب ب (أثناسيوس الغرب).. وجميعهم استلهموا إدارته للصراع بنزاهة ووقار وطهارة سيرة؛ إذ أنه محسوبٌ كنجم سمائي؛ وكقيثارة رسولية عزفت لحن اللاهوت الكامل؛ وسبَّحت تسبحة الرب الجديدة.